الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إصدار جديد: محاكمة ماركس ورفاقه في -عصبة الشيوعيين- محاكمة كولونيا 1852

موقع 30 عشت

2022 / 5 / 21
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


في إطار افتتاحه لملف جديد (خانة جديدة) تحت عنوان: "ما يجب أن يعرفه كل مناضل عن النضال الثوري"، والذي يتضمن أربعة محاور: 1ـــ المحاكمات / الاعتقالات / شهادات حول القمع 2 ــ في مواجهة الجلادين 3 ــ مكتبة الصمود والمواجهة 4 ـــ بيانات ومواثيق النماذج الثورية الأساسية، يقدم موقع 30 غشت أولى منشوراته ضمن المحور الأول لهذا الملف، وهي كراسة أعدها وقدم لها الرفيق وليد الزرقطوني، وتضم:
مقدمة من توقيع وليد الزرقطوني
محاكمة الشيوعيين في كولونيا (1852) ـــ فريدريك انجلز
مرافعة كارل ماركس
ـــ ـــ ـــ
النصوص الثلاثة للكراسة منشورة بصيغة ب.د.ف. على موقع 30 غشت.
ـــ ـــ ـــ
محاكمة ماركس ورفاقه في "عصبة الشيوعيين" ــ محاكمة كولونيا 1852 ــ
وليد الزرقطوني

مقدمة
منذ انقسام المجتمع البشري إلى مجتمعات طبقية، بعد سيرورة طويلة أدت إلى تفكك المشاعة البدائية، ونشوء مجتمعات يحركها الصراع الطبقي، وتقوم على استغلال واضطهاد الطبقات السائدة للطبقات المسودة، عرف المجتمع الإنساني صراعات داخلية وخارجية، تحولت إلى ثورات ضد الأنظمة السائدة، وانبرى لقيادة تلك الثورات العديد من الثوريين، اللذين سجل التاريخ أسماءهم كأبطال للحرية والانعتاق من العبودية والاضطهاد، سقط العديد منهم شهداء، سواء بعد معارك طاحنة مع أعدائهم (مثال سبارتاكوس الذي قاد العبيد ضد النظام الامبراطوري الروماني) أو تم التنكيل بهم وقتلهم بعد تعذيبهم، وفي بعض الأحيان تتم محاكمتهم، كما عرفت المجتمعات الطبقية ثورات اجتماعية أو سياسية، نشأت داخلها صراعات حادة بين الأفكار الجديدة والأفكار القديمة، وبين العلم واللاهوت والخرافة، قتل خلالها الكثير من أبطال الحرية والفكر والعلم، فأقيمت لهم المشانق بعد التنكيل بهم وتعذيبهم والإلقاء بهم في غياهب السجون والدهاليز المظلمة أو تجرعوا مرارة المنافي والإبعاد عن الأوطان.
منذ انقسام المجتمع إلى طبقات، وظهور الحاجة إلى دولة طبقية، تدافع عن مصالح الطبقات السائدة والمستغلة، ومن أجل الدفاع عن مصالحها أنشأت هذه الطبقات أجهزة قمعية مادية وإيديولوجية تدعمها قوانين طبقية، نشأت في سياق السيطرة الإيديولوجية والسياسية للطبقات السائدة. ومنذ أن ظهر هذا الانقسام الطبقي أصبح صراع الطبقات هو محرك التاريخ، تدور في رحاه صراعات طاحنة بين طبقات سائدة ومستغلة ومضطهدة وقمعية وطبقات مسودة ومستغلة ومضطهدة، وكانعكاس لهذا الصراع المادي انتقلت المواجهة للحيز الإيديولوجي والسياسي، فأصبحت الإيديولوجيا والمواقف السياسية أسلحة في يد المعسكرين الرجعي والتقدمي لتصبح المواجهة شاملة، فانحاز الفلاسفة ورجال الدين والمثقفون والسياسيون إلى أحد المعسكرين، يدافعون عن هذا الفريق أو ذاك.
أمام الاستغلال والاضطهاد، أنتجت الجماهير المستغلة والمنتجة قادتها الثوريين، اللذين انتفضوا في وجه القمع والاستغلال وانعدام العدالة ضد العبودية والقنانة، مدافعين عن الجماهير الكادحة يقودونها في ثوراتها ضد أعدائها الطبقيين. وللدفاع عن مصالحها قامت الطبقات السائدة بتصفية هذه الثورات عن طريق المجازر والاعتقالات وإقامة المقاصل والمشانق والمحاكمات.
في هذا السياق، نشأت المحاكم وأقيمت المحاكمات، التي لم تكن سوى امتداد للصراع بين المعسكرين داخل فضاء تؤطره قوانين طبقية، وقضاة يخدمون الطبقات السائدة ويفرضون قوانينها على الشعوب ومناضليها، ولم يكن هؤلاء القضاة نزهاء ولا فوق الطبقات بل استمرارا للجلادين في أقبية التعذيب والقمع وبلباس خاص، في محاولة لصبغهم بالهالة والقداسة والنزاهة وهم أبعد عن أن يكونوا كذلك.
عرفت البشرية تطورا في تاريخها، فجاء عصر النهضة والتنوير في أوروبا، وكان من نتائجها قيام الثورات البورجوازية في بريطانيا و فرنسا، وظهرت مبادئ حقوق الإنسان، وجاء عصر الديموقراطية البورجوازية، ونشأت البروليتاريا كطبقة جديدة في المجتمع تحمل مشروعا تاريخيا مناهضا للنظام الرأسمالي، فترعرعت داخلها الأفكار الاشتراكية، ونشأت الماركسية كإيديولوجيا و نظرية للطبقة العاملة، وعرف الصراع الطبقي نقلة نوعية دفعت إلى تقاطب الصراع بين البورجوازية و البروليتاريا، وبدأت معركة تحرير المجتمع البشري من كل أشكال الاستغلال و الاضطهاد والقمع، فكان البيان الشيوعي هو الذي أعلن بداية هذه المعركة التاريخية تحت شعار: "يا عمال العالم اتحدوا" ومنذ ذلك الحين، والمعركة مستمرة إلى الآن، تتخللها ثورات و انتفاضات تتبعها محاكمات لأشهر القادة الثوريين، محاكمات دخلت التاريخ من بابه الواسع، ورسخت ثقافة التمرد والثورة، واعتبار الحق في الثورة أسمى الحقوق، وتميز المناضلون بممارسات ومواقف تاريخية حاكموا فيها الأعداء الطبقيين وأعداء الشعوب دفاعا عن الديموقراطية والتحرر والاشتراكية، فنشأت ثقافة جديدة تدعو إلى محاكمة الأعداء الطبقيين للشعوب من خلال منبر المحاكمة، فتأسست الفكرة التي تحكم المناضلين أمام المحاكم، و التي تقول أن المناضل الشيوعي لا يحاكم بل هو الذي يحاكم أعداءه، مما ساعد عل تطور ثقافة الصمود والمقاومة الرافعة لمعنويات الشعوب والطبقات الثورية.
إن نقل هذه الثقافة، التي تشكل جزءا هاما من التراث الثوري للحركة الشيوعية والعمالية العالمية، الثقافة التي تؤطر تصرف المناضل الشيوعي أمام جلاديه في أقبية التعذيب وأثناء المحاكمات، لهي اليوم ضرورة ماسة من أجل الرفع من معنويات النضال الثوري، وإعطاء التفوق المعنوي والأخلاقي للمناضلين أمام خصومهم وأعدائهم الطبقيين. وتزداد هذه الأهمية في ظل سياق عام انتشرت فيه أنواع ومسميات مختلفة حول ما يسمى ب "المناضلين"، أنواع تتعايش فيما بينها أو تتواجد جنبا إلى جنب حتى أضحى من الصعوبة تحديد من هو المناضل ومن ليس كذلك، فأحزاب المخزن تعتبر أعضاءها مناضلين (يناضلون من أجل النهب والاستغلال والدفاع عن القمع و الاضطهاد) وأحزاب الظلام تعتبر أعضاءها مناضلين كذلك (يناضلون من أجل نشر الجهل والفكر الظلامي والتغطية على الاستغلال والاضطهاد وتقديم الخدمات والدعم للنظام المخزني والارتزاق في أسواق النخاسة الامبريالية) وما يسمى بالمجتمع المدني بالنسبة للأغلبية منه يعتبر هو أيضا قواعده مناضلة (أغلب منظماته تتغذى من دعم المؤسسات المخزنية والامبريالية وذلك تحت شعارات مختلفة).
إن نشر الثقافة العمالية والشيوعية فيما يخص المحاكمات السياسية لهو مساهمة من بين مساهمات أخرى في وضع الخطوط الفاصلة بين المناضل الشيوعي الثوري وأشباه المناضلين والمناضلين المزيفين اللذين تغص بهم الساحة في بلادنا، وهو كذلك معركة ضد الفكر الانهزامي، الذي تبثه قنوات الإعلام والدعاية الامبريالية ومثقفوها المرتزقة، لقد أصبح المشهد النضالي من خلال هذه النظريات والتصورات موبوء بل يعيش في بيئة مسمومة تغذيها النظريات الامبريالية بما يسمى بالثورات الملونة والفوضى الخلاقة، التي لا تشكل سوى حملة شعواء لنزع سلاح البروليتاريا والشعوب ضد الرأسمالية وضد الامبريالية، فتم لها ذلك عن طريق إفراغ و تقزيم و تجزيء حقول النضال النقابي والسياسي لصالح حركات لا تعيد النظر في الأنظمة القائمة ولا ترنو إلى التغيير الجذري للنظام العالمي القائم. هكذا، أصبحت العديد من مجموعات المجتمع المدني تقوم بأدوار رجال المطافئ، بل أكثر من هذا تقوم بأدوار التهييء للحروب الامبريالية و تهييء التربة لتقسيم بلدانها (انظر في هذا الصدد الدور الذي تقوم به مجموعة "أوبن سوسيتي" التي يمولها الملياردير سوروس) ويدخل كل هذا في سياق ملاءمة الدول خاصة التابعة مع سياسات ما يسمى بالحكومة الشاملة، و ذلك على حساب مصالح الكادحين والشعوب والقوميات الأخرى خارج الغرب الامبريالي.
دون الإطالة في الموضوع الذي يستحق تحليلا معمقا ومستفيضا، تنبغي الإشارة إلى الوهم الذي بثته وكرسته مواقع التواصل الاجتماعي حول ما يسمى بالمناضل الافتراضي القابع وراء حاسوبه و هاتفه يحاول تغيير العالم من منظوره الفرداني خارج الأداة التنظيمية الراسخة في الأرض، وذلك عبر النقر على حاسوبه معتبرا نفسه قد أزال العتب وقام بالمهمة، والحال أن المعارك الطبقية الحقيقية تجري على أرض الواقع الملموس، وهي التي تزود المناضل بالصلابة النضالية والسياسية والإيديولوجية، حيث يتغير ويساهم في تغيير مجتمعه ضمن جدلية البراكسيس الثوري الذي أسس له كارل ماركس و فردريك انجلز ...
في سياق إنجاز هذا الملف اخترنا محاكمة كارل ماركس ورفاقه في مدينة كولونيا بألمانيا وذلك لسبقها التاريخي، ولكونها نموذجا للمواقف التي يتخذها المناضل الشيوعي أمام المحكمة الطبقية.
تعتبر محاكمة كولونيا إحدى المحاكمات التاريخية التي يزخر بها تاريخ الحركة الشيوعية والعمالية العالمية، وتستمد قيمتها من كون المحاكمة قد أقيمت من طرف الدولة البروسية لمؤسس الفكر الشيوعي العلمي كارل ماركس، وللمنظمة الشيوعية التي أسسها بجانب رفيقه فردريك انجلز، والحال أن "البيان الشيوعي" الذي صاغه كلاهما شكل أول برنامج ماركسي ثوري لحزب شيوعي هو "عصبة الشيوعيين" (للمزيد من الاطلاع انظر "مقدمات لدراسة البيان الشيوعي" منشورات موقع "30 غشت").
للغوص في خفايا و أسرار هذه المحاكمة، التي نظمتها القوى الرجعية في ألمانيا بعد هزيمة الثورة الألمانية سنة 1848، نعتمد في هذا التقديم على كتاب "ما كشفت عنه محاكمة كولونيا" و هو كتاب لكارل ماركس، عرف فيه بخيوط تلك المؤامرة الرجعية ضد الحركة الشيوعية في ألمانيا، و قد تمت صياغة الكتاب في الفترة الممتدة بين نهاية أكتوبر و بداية دجنبر 1852، و نشر بدون اسم الكاتب في بال بسويسرا في يونيو 1853، و قد قام انجلز بإعادة نشره تحت إشرافه سنة 1885 مع مقدمة حملت عنوان "بعض الكلمات حول تاريخ عصبة الشيوعيين"، و نشرت المقدمة كذلك في جريدة "الاشتراكي الديموقراطي" عدد 46، 48، 26 نونبر 1885. ويسمح لنا هذا الكتاب بمتابعة أطوار هذه القضية منذ بداية الاعتقالات وتسلسلها وأهم لحظاتها، والحكم الصادر في نهايتها على المعتقلين الشيوعيين، وموقف ماركس منها.
هكذا، نعلم أن اعتقال أحد أعضاء العصبة الشيوعية ويدعى نوتجونغ في 10 ماي في 1851 في مدينة ليبزيغ، وكان أول اعتقال تبعه اعتقال بورغرس، روزير، دانييلس، بيكر... وفي 4 أكتوبر 1852 قدم المعتقلون أمام محكمة كولونيا بتهمة "التآمر من درجة الخيانة العظمى ضد الدولة البروسية " بعد سنة ونصف من الاعتقال الاحتياطي.
عندما اعتقل نوتجونغ و بورغرس وجد لديهما نسخة من "البيان الشيوعي" و قوانين "عصبة الشيوعيين" و دوريتان للجنة المركزية للعصبة، و بعض العناوين و المطبوعات. وقد كان اعتقال نوتجونغ قد أصبح معروفا منذ ثمانية أيام عندما انطلق التفتيش والاعتقالات في كولونيا، هكذا سقطت بعض الرسائل ليست ذات أهمية. وعندما قدم المتهمون سنة ونصف بعد ذلك إلى المحكمة لم تنضف إلى الملف ولو وثيقة واحدة، لكن خلال هذه الفترة، قامت سلطات بروسيا كما النيابة العامة بنشاط دقيق ومتنوع للبحث عن المزيد من المعلومات والوثائق، كما تم تبرير طول مدة السجن الاحتياطي بكون حكومة ساكسون لم ترد تسليم بورغرس و نوتجونغ إلى بروسيا، و قد طالبت محكمة كولونيا من الوزارة المعنية في برلين بالتدخل فلم تستطع الوصول إلى حل مع سلطات ساكس، لكن و بعد مدة تغير موقف دولة الساكسون، فقامت بتسليم بورغرس و نوتجونغ. وفي أكتوبر 1851، حصل تقدم في القضية سمح بتهييء صك الاتهام.
بعد الاطلاع على الملف، قررت غرفة الاتهام أنه ليست هناك أية واقعة حقيقية تدعم الاتهام، وبالتالي يجب إعادة التحقيق. ثلاثة أشهر بعد ذلك، تم تقديم صك الاتهام إلى المتهمين وافتتاح المحاكمة في 28 يوليوز، لكن الرجل الأساسي الذي تعتمد عليه المحكمة، ويتعلق الأمر بمدير الشرطة شولتز سقط مريضا مما تسبب في تأجيل المحاكمة بثلاثة أشهر أخرى، ومن حسن حظ المعتقلين أن السيد شولتز توفي، وكان الجمهور متلهفا عل المحاكمة، فاضطرت الحكومة إلى رفع التوقف.
خلال هذه الفترة كانت مديرية الشرطة في كولونيا و رئاسة الشرطة في برلين و وزارتي العدل و الداخلية تتدخل في سير التحقيق، و استطاعت الحكومة في الأخير أن تشكل هيئة قضاة غير مسبوقة في تاريخ رينانيا، و قد ضمت هذه الهيئة بالإضافة إلى أعضاء من البورجوازية الكبيرة (هزتستاد و ليدن و جويست) أعضاء من نبالة المدينة (فون بيانكا و فون راث) و أعضاء من الإقطاعيين (هايلينغ فون لانزناور و بارون فورستنبرغ) و مستشارين من الحكومة البروسة ، كان أحدهما حاجبا للملك (فون مانش – بيلانغوسن) و أخيرا أستاذ بروسي اسمه كروزلير. هكذا تمثلت في هذه الهيئة كل الطبقات السائدة في ألمانيا، إنها بالفعل هيئة طبقية تعكس الوضع القائم في ألمانيا آنذاك، وبمجرد النظر إلى تشكيل هيئة المحكمة، يظهر الاتجاه الذي أخذته الحكومة فيما يخص المحاكمة.
إن الوثائق التي تم حجزها لدى نوتجونغ و بورغرس و غيرهما، و التي اعترفوا بها لا تشهد بأية مؤامرة، و لا يوجد في القانون الجنائي أي فعل يؤكد الاتهام، لكن الوثائق تظهر بما لا يدع مجالا للشك عداء المتهمين للحكومة القائمة و للمجتمع القائم. إن غباء الحكومة البروسية والتأخر غير المعتاد في المحاكمة وتدخل الوزارة في التحقيق والمبالغات في كون المؤامرة تمس أوروبا كاملة، واستعمال الأساليب العنيفة ضد المعتقلين، كل هذا نفخ في المحاكمة، مما أثار اهتمام الصحافة الأوروبية وزاد من فضول الجمهور.
لقد ضغط هذا الأمر عل الحكومة البروسية في اتجاه المحاولة من طرف الاتهام لتقديم حجج محترمة، ومن هيئة القضاة أن تطالب بالحجج المقبولة، وقد وضعت هيئة القضاة نفسها أمام هيئة أخرى وهي هيئة الرأي العام.
حسب الأوراق التي تم حجزها عند المتهمين، وحسب اعترافاتهم يظهر أن منظمة شيوعية ألمانية كانت موجودة ولها لجنة مركزية مقيمة في لندن. وفي 15 شتنبر 1850، انقسمت هذه اللجنة المركزية، فقامت الأغلبية (يسميها صك الاتهام بحزب ماركس) بنقل مقر اللجنة إلى كولونيا، أما الأقلية التي تم طردها من العصبة من طرف جماعة كولونيا (جماعة ماركس) فقد أقامت في لندن كلجنة مركزية مستقلة، وقامت بتأسيس عصبة انفصالية، فقد سم صك الاتهام هذه اللجنة بحزب وليش – شابير. وقد أشاعت هيئة الاتهام أن سبب هذه الخلافات يعود لأسباب شخصية، وقد اعتمد المنشقون على تشويه طبيعة الصراع والخلافات اعتقادا منهم أن كارل ماركس لا يستطيع الكشف عن طبيعتها دون أن يخون منظمة سرية، ودون أن يقدم اللجنة المركزية في أوكرانيا إل البوليس البروسي، ويقول انجلز إن مثل هذه الظروف لم تعد موجودة، وأصبح بالإمكان الإشارة إلى بعض المقتطفات المأخوذة من محضر اللجنة المركزية بلندن بتاريخ 15 شتنبر 1850.
هكذا نجد في المحضر، وعند سرده لمقترح الانفصال يقول ماركس في سياق عرضه للخلاف بين وهتي النظر داخل اللجنة المركزية ما يلي:
"بدل المفهوم النقدي، وضعت الأقلية دوغمائية مكان التأويل المادي، التأويل المثالي. بدل أن تكون العلاقات الفعلية، أصبحت الإرادة البسيطة محرك الثورة، و بينما نقول نحن للعمال : "يجب أن تمروا من 15، 20 و 50 سنة من الحروب الأهلية بين الشعوب، ليس فقط من أجل تغيير العلاقات الموجودة، بل كذلك لكي تتغيروا أنتم أنفسكم، و تصبحون قادرين على السلطة السياسية"، تقولون على العكس : "يجب أن نصل مباشرة إلى السلطة أو الذهاب إلى النوم "، بينما نثير نحن انتباه العمال الألمان إلى الحالة البدائية للبروليتاريا الألمانية، تقومون بمدح بالطريقة الأكثر ثقلا ، للعاطفة القومية و الحكم المسبق التعاضدي للحرفيين الألمان، الشيء الذي، بدون شك، هو الأكثر شعبية. كذلك، كما فعل الديموقراطيون بكلمة شعب، التي أصبحت مقدسة، فعلتم نفس الشيء بكلمة بروليتاريا، وكما الديموقراطيين، استبدلتم التطور الثوري بالجملة الثورية".
يقول السيد سابير نصيا في جوابه:
"لقد عبرت عن رأي مفاده أنني هنا أحارب لأنه في هذا الموضوع أنا متحمس، يجب أن نعرف إذا كان في البداية نفسها سنقطع الرؤوس أو سيتم قطع رؤوسنا (وعد شابير أن رأسه سيقطع خلال سنة، أي في 15 شتنبر 1851).
في فرنسا استطاع العمال، وبفضل هذا، سنستطيع نحن كذلك في ألمانيا، وإذا لم يكن الأمر كذلك، سأبقى هادئا، وسيكون لي موقف مادي آخر، وإذا توصلنا، فبإمكاننا استعمال إجراءات نستطيع بها ضمان سيطرة البروليتاريا. أنا متعصب لهذا الرأي، لكن اللجنة المركزية أرادت العكس ...".
كما نرى، لم تكن الأسباب الشخصية هي التي قسمت اللجنة المركزية، كما أنه سيكون من الخطأ الحديث عن خلافات مبدئية، فحزب شابير – ويليش لم يزعم يوما امتلاكا لأفكار خاصة، وكل ما يملكه هو عدم فهم خاص لأفكار أجنبية يعتقد أنه تبناها على شكل كاتشيزم تم تملكه بجمل، كما لا يمكن، بل إنه من غير الدقيق أن نتهم حزب شابير بأنه حزب عمل، إلا إذا اعتبرنا كلمة عمل تعني كسل، يختبئ وراء تركيبات عبثية.
أرشيق دييتز:
يقوم انجلز هنا بتحليل الأرشيف الذي سقط في أيدي النظام الألماني، ويقول فيما يخص البيان الشيوعي":
"لقد عثر عليه لدى المتهمين، وتم طبعه قبل فبراير، والذي خلال فترات كان موجودا في المكتبات، و "البان الشيوعي" سواء من حيث شكله، أو من حيث من هم الموجه إليهم، ليس بإمكانه أن يشكل برنامج مؤامرة.
فيما يخص دوريات اللجنة المركزية، فإنها كانت تهتم فقط بموقف الشيوعيين من الحكومة المقبلة للديموقراطية وليست بحكومة فردريك الرابع، أما فيما يخص القانون الأساسي للجمعية فهو قانون جمعية دعاية سرية، والقانون الجنائي ليس لديه عقوبات فيما يخص الجمعيات السرية. إن الهدف المعلن لهذه الدعاية هو قلب المجتمع والدولة البروسية قد اختفت مرة ويمكنها أن تختفي عشر مرات، بل اختفاء نهائيا بدون أن يفقد المجتمع القائم شعرة واحدة.
بإمكان الشيوعيين أن يساهموا في تسريع حل المجتمع البورجوازي، ومع ذلك يتركون للمجتمع البورجوازي مسؤولية حل الدولة البروسية، فمن يطرح كهدف مباشر قلب الدولة البروسية، ويطرح كوسيلة للوصول إل ذلك، القيام بقلب المجتمع، يشبه ذلك المهندس الأحمق الذي يريد أن يفجر الأرض لإيجاد طريق لحفنة من السماد الطبيعي، وإذا كان الهدف النهائي للعصبة هو قلب المجتمع، فإن وسيلته بالضرورة هي الثورة السياسية، وهذه الوسيلة تعني قلب الدولة البروسية، كما يقوم الزلزال بقلب خم الدجاج. إن المتهمين ينطلقون من فكرة لا تمت بصلة بموضوع الاتهام، ومفادها أن الحكومة البروسية الحالية ستسقط بدونهم، وبالتالي لم يشكلوا أي عصبة تهدف إلى قلب الحكومة البروسية الحالية، ومن ثمة لا يمكن أن يكونوا متهمين بأية مؤامرة من نوع الخيانة العظمى.
اشتغل فلاسفة الدولة في بروسيا، من ليبنز إلى هيجل على إسقاط الإله، وإذا أسقطت الإله، أسقط في نفس الوقت الملك الذي يحكم باسمه، فهل تمت متابعتهم بمحاولة إسقاط الأسرة المالكة؟
لقد اشتغلت غرفة الاتهام لمدة سنة ونصف، فلم تجد واقعة مادية تدعم بها اتهامها، وكان عليها أن تقوم بإصلاح هذا الأمر، وسيساهم حزب وليتش – شابير في ذلك.
كيف تم ذلك؟
في ربيع 1851، كان السيد ستيبر موجودا في لندن، فأرسلت إليه رئاسة الشرطة من برلين نسخة كمن الأوراق التي تم العثور عليها عند نوتجينغ، ويقول ستيبر:
"لقد تمت دعوتي بشكل خاص (تصريح تحت القسم) إلى توجيه انتباهي إلى أرشيف المؤامرة الذي حسب الأوراق، التي تم العثور عليها عند نوتجينغ، والتي يمكن أن تكون موجودة في لندن عند شخص يدعى أوزفالديتز، التي تضم كل مراسلات أعضاء العصبة".
أرشيف المؤامرة؟ كل مراسلات أعضاء العصبة؟ لكن السيد دييتز كان سكرتيرا للجنة المركزية، وإذا كان لوليتش – شابير أرشييف المؤامرة، فمعنى هذا أنه يتعلق بمؤامرة وليتش – شابير، وإذا وجدت لدى دييتز مراسلات العصبة فلا يمكن أن تكون سوى مراسلات العصبة الانفصالية خصم المتهمين في محاكمة كولونيا، ومن البحث في الوثائق الموجودة لدى نوتينغ ليس هناك ما يشير إلى أوزفالد دييتز كمسؤول عن الأرشيف، فكيف لنويتنغ أن يعرف، وهو في لبزيغ ما يجهله حزب ماركس في برلين؟ لا يستطيع السيد ستيبر أن يقول مباشرة وفي الحال، انتبهوا أيها السادة القضاة، لقد قمت باكتشافات هامة في لندن، ومع الأسف تتعلق بمؤامرة لا علاقة للمتهمين بها، وليس للقضاة أن يتدخلوا فيها، أولئك المتهمين اللذين بقوا في الزنازن لمدة سنة ونصف، وبطبيعة الحال لا يستطيع السيد ستيبر أن يتكلم هكذا، وجاء تدخل نوتجينغ كضرورة لإظهار رابط بين الاكتشافات المحققة ومحاكمة كولونيا.
لقد كان السيد رويتر مخبرا بروسيا لا ينتمي إلى المجموعة الشيوعية، يسكن في نفس المنزل الذي يسكنه دييتز، فدخل إليه وسرق الأوراق، وقد تسلم السيد ستيبر تلك الأوراق في 5 غشت 1851، وهي عبارة عن 60 قطعة معزولة.
وقد أقسم السيد ستيبر أن العلبة التي توصل بها تضمنت كذلك رسائل للدائرة القيادية في برلين مؤرخة ب 20 غشت 1851، وتظهر العلبة وتاريخها أن هذا الحزب، رغم اطلاعه على الهجوم الذي تعرض له المنزل من طرف رويتر، وجد دائما وسيلة لأن يسرق باستمرار، وتزويد الشرطة البروسية بالوثائق.
لقد كان السيد ستيبر مزهوا باكتشافه أمام المحكمة، فماذا كان يخفي هذا الكنز من أمر ذي علاقة بحزب ماركس وبمتهمي كولونيا؟ فحسب جواب ستيبر، لاشيء. ما عدا تصريح أصلي لمجموعة من أعضاء اللجنة المركزية، اللذين يشكلون نواة حزب ماركس (لندن 17 شتنبر 1850) يتعلق بمغادرتهم للجمعية الشيوعية عل ضوء القطيعة في 15 شتنبر 1850. ولكن السيد ستيبر، حتى في مثل هذا الأمر، لم يصمم على القول بهذا الأمر، فحاول التضخيم منه إلى مستو درجة عليا لإعطائه أهمية بوليسية. والحال أن هذه الوثيقة الأصلية لم تكن تتضمن سوى تصريح من ثلاثة أسطر لأعضاء أغلبية اللجنة المركزية السابقة وأصدقاؤها، يعلنون فيه أنهم انسحبوا من المجموعة العمالية العلنية الموجودة في غريت ويندميل ستريت وليس من الجمعية الشيوعية.
كان على السيد ستيبر أن يوفر على مرؤوسيه مصاريف النقل ولو قام بتصفح الجرائد الألمانية في شتنبر 1850، لكان سيجد تصريحا لنواة حزب ماركس، الذي يصرح بالانسحاب من لجنة اللاجئين، ومن المجموعة العمالية لغريت وندميل ستريت.
هكذا، فكل عناصر المؤامرة في كولونيا قد تم، في نظره، الكشف عنها بوضوح، لكن الجمهور ليست له ثقة في كل هذا.
مؤامرة شيفرال
توصل ستيبر بالأوراق المستولى عليها في 5 غشت 1851، الشيء الذي سهل عليه اكتشاف ما سمي بالمؤامرة الفرنسية – الألمانية في باريس، فانتقل إلى باريس لمتابعة الملف، وبمساعدة البوليس الفرنسي تم التعرف على مساكن مختلف العناصر اللذين وضعوا تحت المراقبة، وخاصة اجتماعاتهم ومراسلاتهم، واستطاع البوليس الفرنسي أن يتسرب إلى اجتماعاتهم وخططهم حول ما يسمى بالثورة.
إن القراءة في تقارير ستيبر وتصرفاته في باريس مليئة بالعديد من التناقضات:
- تقرير 18 أكتوبر:
يتحدث ستيبر عن اعتقاله بصحبة كوميسير فرنسي للمسمى شفرال، القائد الرئيسي للشيوعيين الفرنسيين، وقال أن شفرال قاوم بقوة، و كان هناك صراع حاد.
- تقرير 27 أكتوبر:
يقول ستيبر في هذا التقرير أن شفرال قام بمحاولة اغتياله في باريس في مقر سكناه، الذي تسرب إليه ليلا، وقد قامت زوجته بمساعدته خلال المواجه التي قام بها وجرحت بسبب ذلك.
نجد كذلك أنه في ليلة 4 – 5 دخل ستيبر عند شفرال فحصل صراع قوي، نتيجة مقاومة شفرال، بينما نجد أنه في ليلة من 3 إلى 4 دخل شفرال عند ستيبر فحصلت مواجهة بينهما وقاوم ستيبر الهجوم، نجد إذن، أنه في يوم 3 شتنبر كان ستيبر وراء المتآمرين، وفي نفس الوقت، بينما بوليسيو كاريي اكتشفوا سكنى المتآمرين، نجد أن المتآمرين هم كذلك اكتشفوا سكنى ستيبر، إذن، وبينما كان هو يراقبهم كانوا هم كذلك يراقبونه استعدادا لتصفيته، بينما كان هو يخلم بمؤامرتهم ضد الحكومة، كانوا هم يحلمون بمؤامرة اغتياله.
يحكي ستيبر في تقريره ليوم 18 أكتوبر، بينما كان هو يحاول اعتقا شرفال، حاول هذا الأخير ابتلاع ورقة لم يستطع شفرال انتشال إلا نصفها، و بطبيعة الحال، فالوسيلة الوحيدة لدى شفرال لابتلاع الورقة هي العض، و قد تحدثت جرائد باريس قائلة أن شفرال قد عض مدام ستيبر، و الحال أن ستسبر كان يساعده كوميسير فرنسي و ليست زوجته، و صرح ستيبر في مكان آخر أن زوجته تعرضت للجروح في سكناهما في محاولتها لإنقاذه من محاولة الاغتيال، و إذا قمنا بمقارنة شهادات الجرائد الباريسية و شهادة ستيبر، سيظهر أن شفرال في ليلة 3 إلى 4 قد عض السيدة ستيبر لإنقاذ أوراقه، التي كان السيد ستيبر قد انتزعها من بين أسنانه في ليلة 4 إلى 5. هكذا إذن، جمع السيد ستيبر سلسلة من الأعمال في يوم واحد هو 3 شتنبر، وهي أعمال تنتمي إلى أوقات مختلفة وأماكن مختلفة، إنها بالفعل حكايات ألف ليلة وليلة.
ملحق "الكاتشيزم" الأحمر
لاتهام ماركس، لجأ البوليس إلى اتهام ماركس بكونه كان وراء الدورية، التي وجدت داخل علبة تضم نسخا من "الكاتشيزم: الأحمر لغرض توزيعها، وقد قام البوليس بتزوير خط ماركس لدعم اتهامه له، وقامت جريدة الكولينش زيتون بنشر ذلك الخبر المزعوم مع تقارير 27 و28 أكتوبر، وما أن نشرت حتى ذهب ماركس إلى مقابلة قاضي مارلبوروخستريت، حيث كان مقيما، وقد قام بنسخ نص الدورية، والقيام بالتصديق عليها، وأعطى التصريح العلني التالي:
1- أنه لم يكتب هذه الدورية
2 – لم يعرف بوجودها إلا عن طريق "الكولنش زيتون"
3 – لم يسبق له أن رأى هذا "الكاتشزيم" الأحمر المزعوم
4 – أنه لم يسبق له بأية طريقة كانت المساهمة في توزيعه
لقد افتضحت المؤامرة إلى حد أن النيابة العامة لم تجرؤ على تقيم الوثيقة كحجة، فعلامة التزوير كانت واضحة بشكل كبير.
قام انجلز بتوضيح كيفية ظهور العديد من الجمعيات و المنظمات السرية بعد هزيمة ثورة 1848، حيث فقد الحزب البروليتاري كل إمكانيات استعمال أدوات العمل العلني، من جمعية و جريدة و مقر و حرية تعبير ... و في الوقت الذي كان فيه أغلب هذه الجمعيات و المنظمات، بما فيهم المنشقين عن العصبة الشيوعية، يظهرون أنفسهم كثوريين يستعدون ليوم الثورة كيوم واحد، و ذلك بالتفكير في حبك المؤامرات للإطاحة بالحكومات، كان أنصار ماركس و انجلز في العصبة يعملون في سرية لبناء حزب البروليتاريا، عمل شاق و يومي من أجل تزويد البروليتاريا بحزبها الثوري، معتبرين أن الثورة القادمة هي ثورة بورجوازية ستقوم بها القوى الديموقراطية و البورجوازية الصغيرة، و هي من عليها القيام بذلك، بينما يقوم ثوريو العصبة بعمل في العمق من أجل بناء حزب البروليتاريا و الاستعداد لما بعد الثورة البورجوازية و بناء الاشتراكية.
صدور الأحكام
لقد أدى افتضاح التناقضات وغموض التقارير إلى تحول الرأي العام لصالح المتهمين، وحتى جريدة "كولنش زيتون" سايرت الموجة وتحولت ضد الحكومة، فبدأت بنشر ملاحظات من هنا وفقرات من هناك تدخل الشك في تقارير ستيبر بعدما كانت تنشر كل ما يقوم به البوليس، وحتى الحكومة البروسية نفسها تخلت عن المسألة، فمراسلوها في "التايمز" و "مورنينغ كرونكل" بدأوا بتهييء الرأي العام في الخارج للفشل. وبافتضاح المحاضر الأصلية دخلت المحكمة مرحلة جديدة، فأصبح القضاة غير أحرار في تأكيد الاتهام أو براءة المتهمين، فأصبح عليهم أن يعلنوا كمتهمين إما المتهمين أو الحكومة، فتبرئة المتهمين أصبحت تعني إدانة الحكومة، هكذا، في رده على مرافعة المحامين، قرر المدعي العام سايدت إلى التخلي عن المصادر الأصلية، التي أصبح الجميع يشك قيها باعتبارها غير حقيقية، و وصل الأمر بالنيابة العامة إلى التأسف عن عدم تقديم الحجج. و مما زاد الطين بلة، أن النص الذي بين يدي سايدت و اسمه "البيان الشيوعي"، و الذي اعترف به المتهمون باعتباره بيانا لحزبهم، و الحقيقة أن هذا "البيان الشيوعي" تضمن فصلا فيه نقد لكل الأدب الشيوعي و الاشتراكي السابق، أي كل ما سجله السيد شتاين، ذلك أن هذا الفصل يبين الفرق بين الاتجاه الشيوعي المتهم، و كل الاتجاهات الأخرى في الشيوعية، و عندما حاول السيد سليدت الحديث عن البيان الشيوعي قال أن البيان الشيوعي يضم ثلاثة فصول، و الحال أنه قد نسي الفصل الرابع، و الفصل الرابع هو الفصل الذي يتكلم عن نقد الشيوعية المتحدث عنها من طرف شتاين، و في هذا السياق قال انجلز : "كان ينقصه الواقع، و الآن ينقصه الاتجاه".
"إن النبلاء والبورجوازية الرينانية، بإعلانهما أن المتهمين مذنبون، كانوا يتحدثون مثل البورجوازية الفرنسية بعد 2 دجنبر (2 دجنبر 1851، انقلاب لويس نابليون بونابارت) "وحدها السرقة هي التي يمكنها أن تنقد الممتلكات، حنث اليمين – الدين، النذالة – الأسرة، الفوضى – النظام" ".
لقد مارست الدولة بأكملها الدعارة في فرنسا، ومع ذلك لم تقم أية مؤسسة بالتعهر تماما مثل المحاكم وهيئات المحلفين الفرنسية.
لنتجاوز هيئة المحلفين والقضاة، صرخت هيئة المحلفين ومحكمة كولونيا. في محاكمة شرفال، مباشرة بعد الانقلاب برأت هيئة المحلفين في باريس نيت، الذي قدمت ضده تهم أكثر من أي شخص من المتهمين، فدعونا نتجاوز هيئة محلفي 2 دجنبر، وندين نيت عقب ذلك مباشرة في شخص روزر، بورغر...
إن الثقة في هيئة المحلفين التي كانت لا تزال سائدة في مقاطعات رينانيا، قد دمرت إلى الأبد، وكان من المفهوم أن هيئة المحلفين هي محكمة طبقية للطبقات المحظوظة، أنشئت لسد الثغرات في القانون من خلال الوعي الواسع للبورجوازية.
إيينا! ... إنها الكلمة الأخيرة للحكومة التي تستعمل وسائل مماثلة لتستمر، ولأجل المجتمع الذي هو بحاجة لمثل هذه الحكومة لكي يحمي نفسه. إنها الكلمة الأخير في محاكمة شيوعيي كولونيا ... إيينا! (إيينا: هي الهزيمة التي منيت بها بروسيا في 14 أكتوبر في 1806 في إيينا، والتي أدت إلى استسلام بروسيا أمام فرنسا نابليون، والتي كشفت الطابع المنحل للنظام الاجتماعي والسياسي للملكية الفيودالية لآل هوهنزولم).
ـــ ـــ

محاكمة الشيوعيين في كولونيا (1852)
فرديريك انجلز

إن نص "محاكمة الشيوعيين في كولونيا" قام بكتابته انجلز في 29 نونبر 1852، وتم نشره في جريدة " نيويورك ديلي تريبيون" عدد 3645، في 22 دجنبر1852. وقد كان من توقيع " كارل ماركس".
لندن، الأربعاء، الأول من دجنبر 1852
بالنسبة للصحف الأوروبية، ربما كنت قد تلقيت العديد من التقارير حول المحاكمة الشنيعة للشيوعيين في كولونيا وبروسيا ونتائجها، ولكن بما أن أيا من التقارير لا يدلي بأي بيان صادق عن الوقائع، وبما أن هذه الوقائع تلقي ضوءا قاسيا على الأساليب السياسية التي تبقى بها القارة الأوروبية تحت النير، أرى أنه من الضروري العودة إلى هذه المحاكمة.
إن الحزب الشيوعي أو البروليتاري، وكما هو الحال بالنسبة للأحزاب الأخرى، فقد، نتيجة إلغاء حقوق تكوين الجمعيات والتجمع، الوسائل لمنح نفسه منظمة قانونية في القارة، علاوة على ذلك، فقد نفي قادته من بلدانهم، لكن لا يمكن لأي حزب سياسي أن يتواجد بدون تنظيم. وإذا كان بوسع البورجوازية اللبرالية وأصحاب الدكاكين الديموقراطية، بفضل موقعهم الاجتماعي ووضعهم الاقتصادي المواتي، وللعلاقات اليومية التي أقيمت لفترة طويلة بين أعضائهم، أن تعوض إلى حد ما غياب هذه المنظمة، فإن الطبقة البروليتارية، التي تفتقر إلى مثل هذا الوضع الاجتماعي والوسائل المالية المماثلة، كانت بالضرورة مكرهة على البحث عنها في الجمعية السرية. نتيجة لذلك، نشأت في فرنسا وألمانيا هذه الجمعيات السرية العديدة، التي في وقت مبكر، من سنة 1849، كانت كلها قد اكتشفتها الشرطة واحدة تلو الأخرى، وحوكمت باعتبارها متآمرة.
لكن، إذا كان العديد منها بالفعل يشكل مؤامرات منظمة بنية معلنة للإطاحة بالحكومة القائمة – وإنه سيكون جبانا ذلك الذي لن يستعمل في بعض الظروف طرقا تآمرية، كما سيكون بليدا ذلك الذي يتشبث بوسائل أخرى – يوجد هناك كذلك العديد من الجمعيات تشكلت لهدف واسع وأعلى. لكن هذه الأخيرة تعرف أن قلب الحكومة القائمة لن تكون سوى مرحلة عابرة في الصراع الكبير الوشيك، وكانت لديها النية في تنظيم وإعداد الحزب الذي شكلت نواته للنضال الأخير الحاسم، الذي سيسحق يوما ما، وإلى الأبد، هيمنة، ليس فقط "الطغاة" و"المغتصبين"، ولكن سلطة أقوى بكثير، أفظع بكثير من هيمنتهم، إنها سلطة الرأسمال على العمل.
كان هذا هو تنظيم الحزب الشيوعي الذي كان في الخط الأول في ألمانيا ، هذا الحزب باتفاقه مع مبادئ البيان (المنشور في سنة 1848) وتلك الواردة في سلسلة من المقالات حول الثورة والثورة المضادة في ألمانيا، التي نشرت في صحيفة نيويورك دايلي تريبيون، لم يتصور أبدا أنه سيكون قادرا على إثارة، بإرادته، في أي وقت، هذه الثورة التي كان عليها تحقيق أفكاره. لقد كانوا يدرسون الأسباب التي أنتجت الحركات الثورية في سنة 1848، والأسباب التي أدت إلى فشلها، وباعترافهم أن التناقض العدائي الاجتماعي للطبقات هو أساس جميع الصراعات السياسية، فقد باشروا دراسة الظروف التي يمكن، ويجب في ظلها دعوة طبقة من مجتمع لتمثيل جميع مصالح الأمة، والنجاح في حكمها سياسيا. لقد أظهر التاريخ للحزب الشيوعي كيف، بعد الأرستقراطية العقارية في القرون الوسطى، نمت القوة المالية للرأسماليين الأوائل، واستولت عل مقاليد الحكم، كيف أن التأثير الاجتماعي والسيطرة السياسية لهذا الجزء من الرأسماليين، الأرستقراطية المالية، تم استبداله بالقوة المتزايدة - منذ إدخال البخار- بالرأسماليين الصناعيين، وكيف أنه في الوقت الحاضر ما زالت هناك طبقتان أخريان تطالبان بالسلطة السياسية، طبقة البورجوازية الصغيرة، وطبقة العمال الصناعيين.
لقد أكدت التجربة الثورية العملية لسنتي 1848 – 1849 التأملات النظرية، التي أدت إلى استنتاج، أن ديموقراطية البورجوازية الصغيرة يجب أن يكون لها دورها في الحكومة أولا، قبل أن تأمل الطبقة العاملة الشيوعية في ترسيخ نفسها في السلطة بشكل دائم، وتدمير العبودية المأجورة التي تبقيها تحت نير البورجوازية.
إن التنظيم السري للشيوعيين لا يمكن إذن أن يكون له كهدف مباشر، الإطاحة بالحكومات القائمة في ألمانيا، باعتباره أنشئ للإطاحة ليس بهؤلاء، بل بالحكومة التمردية عاجلا أو آجلا، يمكن لأعضائه بشكل فردي، أو يريدون بالتأكيد مد يد العون لحركة ثورية ضد الوضع القائم، لكن إعداد مثل هذه الحركة، ما عدا الدعاية السرية للآراء الشيوعية وسط الجماهير، لا يمكن أن يكون هدف الجمعية. وقد فهم غالبية أعضائها مبادئ الجمعية هذه فهما جيدا، لدرجة أنه عندما حاول بعض الطموحين الوصوليين تحويلها إلى مؤامرة مفاجئة وبدون إعداد، تم التخلص منهم على الفور.
مع ذلك، فمثل هذه الجمعية، لا يمكن وفقا لأي قانون يوجد فوق سطح الأرض أن تسمى مؤامرة، تآمرا لأغراض الخيانة العظمى. إذا كانت مؤامرة، فهي كذلك بالفعل، لكن ليس ضد الحكومة القائمة، بل ضد خلفائها المحتملين. وقد أدركت الحكومة البروسية ذلك، وهذا هو السبب في أن المتهمين 11 يحتجزون في السجن الانفرادي لمدة 18 شهرا، استخدمتهم السلطات للقيام بأغرب الجولات القضائية. تخيلوا أن المتهمين بعد 8 أشهر من الاحتجاز، استمر احتجازهم لعدة أشهر أخرى "لعدم وجود أدلة ضدهم على أية جريمة"! وعندما مثلوا أخيرا أمام محكمة الجنايات، لم يثبت أي فعل واضح يحمل طابع الخيانة العظمى ضدهم، ومع ذلك فقد أدينوا، وسترون كيف.
اعتقل أحد مبعوثي العصبة (عصبة الشيوعيين) في ماي 1851، وعلى أساس الوثائق التي عثر عليها لديه، تمت اعتقالات أخرى، وعلى الفور تم إرسال ضابط شرطة بروسي يدعى ستيبر إلى لندن للعثور على آثار لتفرعات المؤامرة المزعومة، وتمكن من الاستيلاء على بعض الأوراق المتعلقة بالمنشقين المذكورين أعلاه من العصبة، اللذين نظموا بعد طردهم، مؤامرة حقيقية في باريس ولندن. وقد تم الحصول على هذه الأوراق عن طريق جريمة مزدوجة، فقد تلقى شخص يدعى رويتر رشوة لاقتحام مكتب سكرتير الجمعية وسرقة الأوراق، ولم يكن هذا كل شيء، فقد أدت هذه السرقة إلى اكتشاف وإدانة المؤامرة الفرنسية الألمانية المزعومة في باريس ، ولكنها لم تعط أية مؤشرات عن الجمعية الشيوعية الكبيرة. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن مؤامرة باريس كانت تحت إشراف بعض المغفلين الطموحين وفرسان الصناعة السياسية في لندن، ومزور سبق وأن تمت إدانته، ويعمل حاليا كمخبر للشرطة في باريس، فهؤلاء المغفلين، عوضوا التفاهة المثالية لوجودهم السياسي بالثرثرة العدوانية وصرخات المتعصبين المتعطشين للدماء.
إذن، كان الأمر متروكا للشرطة البروسية للبحث عن اكتشافات جديدة، لقد أنشأت مكتب شرطة سري حقيقي في السفارة البروسية في لندن. كان ضابط شرطة يدعى غريف يقوم بمهنته الشنيعة تحت عنوان ملحق بالسفارة، وهو إجراء ينبغي أن يكون كافيا لإخراج جميع السفارات البروسية من القانون الدولي، وحتى النمساويين لم يجرؤوا بعد على اللجوء إليه، وتحت أوامره عمل أحدهم يسمى فلوري، وهو تاجر في لندن، يملك بعض الثروة، كانت له علاقات محترمة نوعا ما، واحد من تلك المخلوقات، التي ترتكب الأعمال الأكثر خسة عن طريق ميل فطري إلى ذلك، وكان هناك عميل آخر موظفا تجاريا يدعى هيرش، ولكن سبق أن تم التنديد به باعتباره واشيا عند وصوله، دخل مجتمع بعض اللاجئين الشيوعيين الألمان في لندن، اللذين، من أجل الحصول على أدلة حول شخصيته الحقيقية، أدخلوه لمنازلهم لفترة قصيرة، وسرعان ما تم الحصول على أدلة على تعامله مع الشرطة، ومنذ تلك اللحظة هرب السيد هيرش. وعلى الرغم من تخليه عن كل فرصة للحصول على المعلومات، التي دفع له مقابلها، فإنه لم يتخل عن نشاطه. من مكان انزوائه في كينسينغتون، حيث لم يلتق قط بأي من الشيوعيين المعنيين، لفق من أسبوع لأسبوع مزاعم روايات عن اجتماعات مزعومة للجنة مركزية مزعومة لنفس هذه المؤامرة التي لم تتمكن الشرطة البروسية من وضع اليد عليها. كان مضمون هذه التقارير ذا طابع سخيف للغاية: فلا يوجد اسم شخصي صحيح، ولا اسم كتب بشكل صحيح، فلم يكن الحديث ولو على شخص واحد كما كان من المفترض فعله. وقد ساعده معلمه وسيده فلوري في عملياته المزيفة، ولم يثبت بعد أن "الملحق" غريف يمكن أن يغسل يديه من هذه العمليات المشينة. وبشكل لا يصدق، أخذت الحكومة البروسية هذه الاختراعات غير الكفأة على أنها حقيقة إنجيلية، ويمكن أن تتخيل أي ارتباك تخلقه مثل هذه القطع، التي تم خلقها بين مواد التحقيق المعروضة أمام هيئة المحلفين. وعندما جاءت المحاكمة، جاء السيد ستيبر ضابط الشرطة الذي سبق ذكره إلى منصة الشهود لكي يشهد تحت القسم بحقيقة كل هذا الهراء، ومع القليل من الرضا عن النفس، استمر في ادعائه بأنه وضع عميلا سريا، يعمل في حميمية وثيقة جدا مع أولئك الناس في لندن، اللذين اعتبروا الملهمين لهذه المؤامرة الرهيبة.
في الواقع، كان سريا هذا العميل السري، لأنه لمدة 8 أشهر كان مختبئا في كينسيغتون خوفا من أن يلتقي حقا واحدا من تلك الشخصيات، حيث يزعم أنه أسبوعا بأسبوع، نقل الأفكار والحديث والأفعال الأكثر حميمية، ومع ذلك: احتفظ السيدان هيرش و فلوري باختراع احتياطي آخر، وتلاعبا بجميع التقارير التي لفقاها، وجعلا منها "سجلا أصليا لمحاضر" اجتماعات اللجنة السرية العليا، التي ادعت الشرطة البروسية وجودها، وبعد أن اكتشف السيد ستيبر أن هذا السجل ينطبق تماما مع التقارير الواردة بالفعل من نفس الأشخاص، سلمه على الفور إلى هيئة المحلفين، معلنا، تحت القسم، أن السجل، بعد فحص دقيق، وفقا لقناعته المطلقة، كان صحيحا. ومن ثمة، فإن معظم الهراء الذي أبلغ عنه هيرش، كان علنيا، ويمكنكم أن تتخيلوا دهشة ما يسمى بأعضاء هذه اللجنة السرية عندما سمعوا عرضا يتعلق بهم، أشياء لم يعرفوها أبدا من قبل. مثل ذلك الذي تم تعميده باسم غيوم يسمى هنا لويس أو شارل، إلى كون بعضهم ألقوا خطابا في لندن في الوقت الذي كانوا فيه على الجانب الآخر من انجلترا، وجرى تقديم آخرين قرأوا رسائل لم يتلقوها أبدا، وجعلوهم يجتمعون بانتظام كل خميس، بينما هم يجتمعون كأصدقاء مرة واحدة كل أسبوع، أي يوم الأربعاء، وظهر عامل، بالكاد يستطيع الكتابة، كمكلف بالمحاضر ويوقعها باعتباره كذلك، وكلهم جعلوهم يتحدثون لغة، التي يمكن أن تكون لغة مركز شرطة بروسي، ولكن بالتأكيد، لا يتعلق الأمر باجتماع، حيث رجال مثقفون، معروفون بشكل إيجابي في بلدانهم، يشكلون الأغلبية. ومن أجل تتويج القضية كلها، تم اختراع وصل لمبلغ مالي، الذي كان من المفترض أن يؤدي المزورون ثمن هذا السجل إلى ما يسمى بسكرتير اللجنة المركزية الوهمية، لكن وجود هذا السكرتير المزعوم، كان يعتمد فقط على خدعة لعبها شيوعي ذكي تجاه هيرش السيء الحظ.
كانت هذه المكائد الفظة مخزية للغاية، لكي لا نقول أنها كانت تسير ضد الهدف المنشود، على الرغم من أن الأصدقاء اللندنيين المتهمين حرموا من جميع الوسائل للفت انتباه هيئة المحلفين إلى الوقائع الحقيقية، على الرغم من الرسائل التي وجهوها إلى المحامين قد تم اعتراضها عن طريق البريد، و على الرغم من الوثائق والإفادات تحت القسم، التي تمكنوا من تسليمها إلى المحامين لم تكن قد قبلت كدليل، ومع ذلك كان هناك سخط عام كبير، حتى أن النائب العام، ماذا أقول السيد ستيبر – الذي شكل القسم الذي أداه ضمانة على حقيقة هذا السجل – كانا ملزمين على الاعتراف بأن السجل مزور.
غير أن هذا التزوير لم يكن الوحيد من نوعه مما كانت الشرطة متهمة به، فقد تم الكشف عن واقعتين أو ثلاثة وقائع مماثلة أثناء المحاكمة، فعن طريق الاستيفاءات التي قامت بها الشرطة، قد تم تشويه معنى الوثائق التي سرقها رويتر. هناك وثيقة مليئة بالهراء الجامح قلدت كتابات الدكتور ماركس، وخلال بعض الوقت احتفظ بكونه هو من كتبها، إلا أنه في الأخير، فرض على الاتهام الاعتراف بأنها مزورة. ولكن كأي شرطة سيئة السمعة تبث عنها ذلك، فقد انبثق عنها خمس أو ست وثائق جديدة كل الجدة، حتى أنه كان من العجز إزالة الستار عنها على الفور، لأن المحامين أخذوا على حين غرة، فكان عليهم من الضروري إحضار الحجج من لندن، وأن كل اتصال للمحامين مع اللاجئين الشيوعيين، قد تم التعامل معه في وسط محكمة العدل، كدليل تواطؤ فيما يسمى مؤامرة.
إذا كان غريف و فلوري، كما يقدمان هنا، فإن هير ستيبر نفسه صرح بذلك في شهادته، أما بالنسبة لهيرش، فقد اعترف أمام قاض في لندن بتزوير "سجل المحاضر" بأمر من فلوري وبحضوره، وقد فر من انجلترا من أجل الهروب من الملاحقة القضائية.
كان بإمكان الحكومة دعم الكثير من الاكتشافات المخزية، مثل تلك التي تم الكشف عنها خلال المحاكمة، ومع ذلك كانت لها هيئة محلفين مشكلة من نبلاء رجعيين من مستوى عال، أربعة أعضاء من الأرستقراطية المالية، واثنين من موظفي الدولة، لم يكونوا رجالا ليفحصوا بعناية كومة من الشهادات المرتبكة تراكمت أمامهم لمدة ستة أسابيع، بينما كان يدق أسماعهم أن المتهمين كانوا قادة مؤامرة شيوعية بشعة، تهدف إلى الإطاحة بكل ما هو مقدس: الملكية والأسرة والدين والنظام والحكومة والقانون. ومع ذلك، إذا كانت الحكومة، وفي نفس الوقت، لم تعط للطبقات المحظوظة إلا براءة في هذه المحاكمة، سيكون إشارة على إلغاء هيئة المحلفين، وأنه سيتم تفسيره على أنه برهان سياسي مباشر، كدليل على أن المعارضة اللبرالية البورجوازية كانت مستعدة للاتحاد مع الثوريين الأكثر تطرفا، فإن الحكم كان سيكون تبرئة، في هذه الحالة، سمح التطبيق للقانون البروسي بأثر رجعي، للحكومة بالحكم على سبعة سجناء، بينما تمت تبرئة أربعة فقط، كان الحكم ضد المدانين يتراوح بين ثلاث وست سنوات، كما سبق أن علمتم ذلك بدون شك في الوقت الذي وصلكم فيه هذا الخبر.

ــــ ـــ
مرافعة كارل ماركس

أيها السادة أعضاء هيئة المحلفين
لو تم هذا العمل قبل 5 دجنبر لكان بإمكاني تفهم التهمة، التي وجهها المدعي العام، أما الآن، وبعد 5 دجنبر، لا يمكنني أن أفهم كيف تجرأ المدعي العام على استخدام قوانين ضدنا داسها التاج نفسه بقدميه. على ماذا يرتكز المدعي العام حين ينتقد الجمعية الوطنية وقرار الامتناع عن أداء الضرائب؟ هل على قوانين 6 و8 أبريل 1848؟ إذن، ماذا فعلت الحكومة في 5 دجنبر حين منحت البلاد، بناء على سلطتها، دستورا وقانونا انتخابيا جديدا؟ لقد مزقت بذلك قوانين 6 و8 أبريل.
لم يعد لهذه القوانين وجود بالنسبة لأنصار الحكومة، فلماذا إذن تستمر شرعيتها بالنسبة لخصوم الحكومة؟ استندت الحكومة عل مرتكزات "ثورية" في موقفها في 5 دجنبر، أي على مرتكزات مضادة للثورة، وبالنسبة لها فإنها تواجه ا لآن إما بثوريين أو بمتواطئين، لقد حولت حتى جماهير المواطنين، اللذين كانوا يتمسكون بالقوانين القائمة، واللذين ساندوا هذه القوانين في وجه الخرق الذي كانت تتعرض له، إلى ثائرين.
قبل 5 دجنبر، كان من الممكن ألا يحصل أي اتفاق فيما يخص انتقال الجمعية الوطنية إلى براندينبرغ، أو حتى حلها وفرض القوانين العرفية على برلين. أما بعد 5 دجنبر، فقد أصبح تابتا أن هذه الإجراءات كانت تشكل تمهيدا للثورة المضادة، منذ ذلك الحين كل وسيلة أصبحت مشروعة ضد مجموعة لم تعد هي نفسها تعترف بالظروف التي كانت تحكم في ظلها، وبالتالي لا يمكن للبلاد أن تعترف بها كحكومة.
أيها السادة
كان بإمكان التاج أن يحافظ على الأقل على مظاهر الشرعية لكنه، كان يزدري فعل ذلك. كان بإمكانه تعليق جلسات الجمعية الوطنية، والإتيان بوزارته لتمثل أمام البلاد وتقول: "تجرأنا على القيام بانقلاب ... فقد أجبرنا الوضع عل ذلك. لقد تجاوزنا القانون ... لكن هناك لحظات يكون فيها وجود الدولة في خطر، وفي مثل هذه اللحظات هناك قانون واحد يجب مراعاته ألا وهو الحفاظ على وجود الدولة. عندما تم حل الجمعية الوطنية لم يكن هناك دستور، لذلك فإننا لم نتجاوز أي دستور، بل كان يوجد قانونان أساسيان فقط وهما قانونا 6 و8 أبريل، وللحقيقة نقول قانون أساسي واحد فقط، وهو القانون الانتخابي، لذلك فإننا ندعو البلاد للمشاركة في انتخابات جديدة وفقا له. وسنمثل نحن، الوزارة المسؤولة أمام الجمعية، التي تنبثق من هذه الانتخابات. إن لنا كل الثقة بأن تلك الجمعية ستعترف بالانقلاب كمخرج منقد أملته الظروف آنئذ، لذا ستصادق على الانقلاب، وتعلن أننا قد تجاوزنا القانون الشرعي لإنقاذ البلاد، و لنترك للجمعية أمر تقرير مصيرنا"!
لو أن الوزارة تصرفت بهذه الطريقة لكان لها بعض حجج ظاهرية كي تقدمنا للمحاكمة. لقد كان بإمكان التاج إنقاذ الشكليات الشرعية، لكنه لم يكن يريد ذلك.
كان التاج ينظر لثورة مارس على أنها واقع عنيف، والواقع العنيف لا يمحى إلا بواقع عنيف مماثل. لقد تنكرت الحكومة لمسؤوليتها عبر رفضها إجراء انتخابات جديدة وفقا لقوانين أبريل، لذا فإنها قد نقضت القانون الذي كانت هي نفسها مسؤولة أمامه، وبهذا تحولت دعوة الجمعية الوطنية إلى إجراء انتخابات عامة إلى مظهر وهمي، خيالي وخادع. لقد مزقت الوزارة القوانين الأساسية بأن استحدثت مجلسا يقوم على مؤهلات الملكية كجزء متمم للجمعية التشريعية، كما تخلت عن الأصول الشرعية، وزيفت الانتخابات و "حرمت" الشعب من أية إمكانية للحكم على "أعمال الإنقاذ"، التي يقوم بها التاج.
هناك حقيقة لا يمكن إنكارها – ولن يتمكن أي مؤرخ مستقبلا أن ينكرها- لقد قام التاج بثورة، وهكذا أيها السادة! قوض النظام الشرعي القائم، لذا لا يمكنه إذن أن يلجأ إلى قوانين قام هو بإبطالها وبشكل مشين.
عموما، بعد القيام بثورة ناجحة، يمكن للمرء أن يأخذ خصومه، لكن لا يمكنه إدانتهم، وكأعداء مهزومين يمكن أن يزيلهم من طريقه، لكن لا يمكنه محاكمتهم كمجرمين. بعد أي ثورة أو ثورة مضادة ناجحة، لا يمكن للمرء تطبيق قوانين أبطل مفعولها ضد المدافعين عن هذه القوانين، إن هذا ليس إلا تظاهرا جبانا بالشرعية، وهذا ما لا يجب عليكم الموافقة عليه عند نطقكم بالحكم علينا.
سبق لي أن ذكرت أن الحكومة زيفت حكم الشعب على "عمل الإنقاذ"، الذي نفده الملك، وعلى الرغم من ذلك أيها السادة! فقد وقف الشعب ضد التاج ومع الجمعية الوطنية. إن انتخابات المجلس الثاني هي الانتخابات القانونية الوحيدة، لأنها وحدها تقوم على قوانين 8 أبريل. تقريبا، أعيد انتخاب إلى الغرفة الثانية كل النواب، اللذين صوتوا مع رفض دفع الضرائب، كما أن شريكي المتهم شنايدر الثاني انتخب نائبا عن كولونيا. وهكذا فإن حق الجمعية الوطنية للتصويت مع رفض دفع الضرائب هو حق قد أقر مسبقا من قبل الشعب.
حتى لو نحينا جانبا هذا الحكم الرفيع، فإنكم لابد أنكم ستوافقون معي على أننا لم نرتكب جريمة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، كما أننا لم نقم بأية تعديات على القانون تقع ضمن صلاحيتكم، ذلك أن القوانين تنفذ في الأيام العادية على أيدي السلطات العمومية، ويعتبر المواطن مجرما إذا تخطى هذه القوانين ومنع سلطات الشعب من تنفيذها. أما فيما يتعلق بالمسألة المعروضة أمامنا، فإن إحدى السلطات العمومية قامت بخرق القانون، بينما قامت أخرى بالمحافظة عليه، والصراع هكذا بين سلطتين لا يقع ضمن صلاحيات القانون الخاص ولا القانون الجنائي، أما فيما يتعلق بمسألة من كان الحق إلى جانبه، هل التاج أو الجمعية الوطنية، فتلك مسألة متروكة للتاريخ، ولا يمكن لكل محلفي ومحاكم بروسيا أن تقررها. هناك قوة وحيدة بإمكانها حسم هذه المسألة، وهي التاريخ، وتبعا لذلك، فإنني غير قادر على فهم كيف أتهم وفقا لقانون العقوبات.
إننا نتعامل هنا مع صراع بين قوتين، ولا يمكن لهذا الصراع أن يحسم إلا بالقوة. لقد أشارت صحافة الثورة وصحافة الثورة المضادة إلى هذا بنفس المقدار. لقد أعلنت ذلك حتى صحيفة ناطقة باسم الحكومة قبل أن تظهر نتيجة الصراع بوقت قصير، لقد رأت الجريدة البروسية الجديدة – الصحيفة الناطقة باسم الحكومة – هذه النقطة بوضوح. قالت هذه الصحيفة قبل هذه الأزمة بأيام ما يلي: "لم تعد المسألة مسألة حق بل مسألة قوة، وسوف تظهر الملكية القديمة، التي " يخصها الله بعنايته" أنها هي الأقوى" ... لقد فهمت الجريدة البروسية الجديدة الوضع بطريقة صحيحة، قوة في مواجهة قوة، والانتصار المادي يقرر المسألة. لقد انتصرت الثورة المضادة، لكن هذا الانتصار لم يكن إلا خاتمة الفصل الأول من الدراما. لقد استمر الصراع في انجلترا أكثر من 20 سنة، وانتهى الأمر بشارل الأول بعد انتصارات متوالية إلى حبل المشنقة، فما يضمن أيها السادة! ألا تدان الوزارة الحالية والموظفين اللذين وضعوا أنفسهم في تصرفها، من قبل المجلس الحالي أو الذي يخلفه على أنها وموظفيها خونة ... لقد حاول المدعي العام أن يدعم اتهاماته بقوانين6و 8 أبريل! وبذلك أجبرني على أن أوضح كيف أن هذه القوانين تبرئنا ولا تديننا، إلا أنني لا أخفي حقيقة كوني لا أعترف بهذه القوانين، ولن أعترف بها مطلقا، لأن هذه القوانين لم تكن سارية المفعول حتى بالنسبة للنواب، اللذين أتت بهم الانتخابات الشعبية، وتبعا لذلك، لم يكن لهذه القوانين أن تقرر المسار الذي سلكته ثورة مارس.
كيف ظهرت قوانين 6 و8 أبريل إلى حيز الوجود؟ لقد ظهرت من خلال اتفاق تم بين الحكومة و البرلمان الإقليمي الموحد، لقد كانوا يأملون بهذه الطريقة تأكيد الارتباط بالوضع الشرعي القديم، وتبييض وجه الثورة التي كنست هذا الوضع.
لقد كان رجال من أمثال كامبهاوزن وآخرين، يعتبرون أن من المهم المحافظة ظاهريا على التقدم القانوني، فكيف فعلوا ذلك؟ من خلال مجموعة من التناقضات السخيفة و اللامنطقية. لنبق أيها السادة للحظة عند وجهة النظر الشرعية القديمة، ألم يكن وجود كامبهاوزن، الوزير المسؤول، الوزير الذي لم يتسلق السلم البيروقراطي وجودا غير قانوني. هذا الموظف الذي لا يعترف به القانون يدعو البرلمان الإقليمي الموحد للاجتماع ليجعله يوافق على قوانين لم يكن مخولا قانونيا لكي يوافق عليها، ويطلقون على هذا التلاعب بالشكليات بدون جدوى، انقادا للتقدم القانوني والعمل في مجال القانون!
لكن، دعونا نترك الشكليات جانبا أيها السادة. ماذا كان يمثل البرلمان الإقليمي الموحد؟ لقد كان يمثل العلاقات الاجتماعية المتعفنة، وقد قامت الثورة ضد هذه العلاقات، وكان مطلوبا من ممثلي المجتمع المهزوم الموافقة على قوانين أساسية من المفترض أن تعترف وتشرف على الثورة ضد هذا المجتمع القديم.
يا له من تناقض صفيق! لقد أطيح بالبرلمان والملكية القديمة.
بالمناسبة، أيها السادة، لننظر مباشرة إلى ما يسمى الميدان القانوني.
إنني مدعو أيها السادة للتوسع في هذه النقطة خاصة وأنه يتم تقديمنا بالفعل كأعداء للقانون، وأن قوانين 6 و 8 أبريل تعزو وجودها إلى الاعتراف الشكلي بالقانون.
كان البرلمان أساسا يمثل كبار الملاكين العقاريين، والملاكون العقاريون يمثلون القاعدة الحقيقية لمجتمع القرون الوسطى، المجتمع الفيودالي، في حين أن المجتمع البورجوازي الحديث، أي مجتمعنا يقوم بالعكس على الصناعة والتجارة. لقد فقدت الملكية العقارية الكبيرة نفسها كل ظروف وجودها القديمة، وأصبحت اليوم تعتمد على الصناعة والتجارة، لهذا تتم الزراعة في أيامنا هذه على أسس صناعية، وقد تحول سادة الإقطاع القدامى إلى منتجي مواشي وصوف وحبوب وشمندر وكحول ...الخ، أي أناس يتاجرون بالمنتجات الصناعية كما هو الحال بالنسبة للتجار الآخرين. لقد أصبحوا عمليا بورجوازيين، ومهما تمسكوا بأهوائهم القديمة، فهم ينتجون أكبر كمية ممكنة بأرخص سعر ممكن، يشترون من حيث يحصلون على أفضل مساومة ممكنة، ويبيعون بأعلى سعر ممكن. إن نمط الحياة والإنتاج، الذي يعيشه هؤلاء السادة يقدم تكذيبا يوميا لأوهامهم الموروثة والمبالغ فيها. إن الملكية العقارية تفترض، إذا كان لها أن تكون العنصر الاجتماعي السائد أنماط إنتاج وتجارة قروسطية. لقد كان البرلمان الإقليمي الموحد يمثل هذا النموذج القروسطي المندثر من الإنتاج والتجارة، والذي توقف عن الوجود منذ فترة طويلة، والذي، وإن كان ممثلوه يتمسكون بالامتيازات القديمة إلا أنهم في الوقت نفسه أخذوا يشاركون في امتيازات المجتمع الحديث.
كان على المجتمع البورجوازي الحديث، والذي يقوم على أسس مختلفة كليا وعلى نمط إنتاج مختلف، أن يستولي على السلطة السياسية لحسابه، كان عليه أن ينتزع هذه السلطة من أيدي ممثلي مصالح المجتمع المندحر، هذه القوة السياسية، التي سيقام بنيانها بكامله على تربة من العلاقات المادية المختلفة كليا.
لقد كان هذا سبب الثورة. لم تكن الثورة فقط موجهة ضد الملكية الاستبدادية، التعبير السياسي الأعلى للمجتمع القديم، بل كانت موجهة في نفس الوقت ضد ممثلي الإقطاعيات، هؤلاء اللذين قضت الصناعة الحديثة عليهم منذ زمن بعيد، أو في أحسن الحالات مع من يقف مع أنقاض متداعية من الطبقات المتحللة، التي كانت البورجوازية تتخطاها كل يوم، وتدفعها إلى الوراء يوما عن يوم.
كيف تم التوصل إلى الفكرة التي تجعل البرلمان الفيدرالي، ممثل المجتمع القديم، يملي قوانينه على المجتمع الجديد الذي بحث في الثورة عن وسيلة لبناء قانونه؟ على ما يبدو من أجل المحافظة على الأساس القانوني. لكن، أيها السادة، ماذا تعنون بالدفاع على القانون؟
إنه الدفاع على قوانين تنتمي لحقبة زمنية ماضية وضعها ممثلون لمصالح اجتماعية بائدة هكذا يتم الرفع إلى مرتبة قانون هذه المصالح المتعارضة مع الحاجات العامة. على كل، لا يعتمد المجتمع على القانون، إن هذا مفهوم قانوني. على العكس من ذلك، فالقانون هو الذي يعتمد على المجتمع، وعليه، أن يكون التعبير عن مصالحه وحاجاته المشتركة، التي تنبثق من نمط الإنتاج المادي السائد في ذلك الوقت، وهي تتعارض مع تعسف الفرد المنعزل.
لم يكن قانون نابليون هو الذي خلق المجتمع البورجوازي الحديث، على العكس من ذلك، فقد كان المجتمع البورجوازي الذي ظهر في القرن 17، وتطور أكثر في القرن 19، هو الذي وجد تعبيره الشرعي في قانون نابليون، وبمجرد أن يتوقف هذا القانون عن ملاءمة الظروف الاجتماعية، فإنه لن يكون أكثر من رزمة من الورق. ليس بإمكان الظروف الاجتماعية أن تجعل القوانين القديمة أساسا للتطور الجديد للمجتمع، كما لم يكن بإمكان هذه القوانين القديمة أن تخلق الظروف الاجتماعية القديمة.
لقد نتجت القوانين عن هذه الظروف، ولا بد أنها ستنتهي عندما تتلاشى تلك الظروف، لابد لها أن تتغير مع شروط الحياة. إن الدفاع على القوانين القديمة في وجه حالات ومتطلبات التطور الاجتماعي، هو في الجوهر دفاع منافق عن مصالح خاصة لأقلية تجاوزها الزمن في وجه مصالح الأكثرية العظمى المتمشية مع روح العصر. إن الوقوف على أرضية الدفاع على "الأساس القانوني" تهدف إلى تأكيد مصالح الأقلية على أنها المصالح السائدة، في حين أنها لم تعد سائدة، فهي تهدف إلى فرض قوانين على مجتمع، ترفضها شروط حياة هذا المجتمع ونمط اغتناءه ووسائل تملكه وتجارته، وإنتاجه المادي بأكمله. إنها تهدف إلى إبقاء مشرعين لا يهتمون بغير مصالحهم الضيقة على حساب مصالح الأكثرية.
إنه إساءة استخدام السلطة العامة لإخضاع بالعنف مصالح الأغلبية لمصالح الأقلية. إن تصرفا من هذا القبيل يجد نفسه في كل لحظة في تناقض مع الحاجات الراهنة، إنه يعيق الصناعة والتجارة، ويمهد لنشوء أزمات اجتماعية تنفجر على شكل ثورات سياسية.
هذا هو حقيقة معنى التمسك بالأساس القانوني. فقد كانت عبارة الأساس القانوني، التي لم تستخدم كخداع واع أو كوهم لاواعي، هي السند لتبرير دعوة البرلمان الفيدرالي ودفعه إلى صياغة القوانين الأساسية للجمعية الوطنية، هذه الجمعية التي خلقتها الثورة، وجعلت وجودها ضرورة!! والآن يراد لهذه القوانين أن تصدر حكمها في حق الجمعية الوطنية.
تمثل الجمعية الوطنية المجتمع البورجوازي الحديث، في حين يمثل البرلمان الإقليمي الموحد المجتمع الإقطاعي. لقد انتخب الشعب الجمعية لكي تصوغ بشكل مستقل دستورا يتلاءم مع شروط الحياة، التي أصبحت تتعارض مع المؤسسات السياسية القديمة والقوانين السابقة. لذلك فقد كانت منذ البداية هيئة ذات سيادة، لقد كانت جمعية تأسيسية. وإذا كانت الجمعية، بالرغم من ذلك قد ارتضت موقف وسطي مساوم، فإن ذلك لا يعدو كونه عملا شكليا مهذبا تجاه التاج. وليس من الضروري هنا تفحص ما إذا كانت الجمعية تملك حق التصرف باسم الشعب عبر اتخاذها موقفا مصالحا مع التاج، فقد كانت الجمعية تعتقد بإمكانية تجنب الصدام مع التاج عبر إظهار حسن النوايا لذى الطرفين.
على أي حال، هناك أمر وحيد مؤكد، وهو أن قوانين 6 و8 أبريل، والتي تم الاتفاق عليها مع البرلمان الإقليمي الموحد لم تكن نافذة رسميا، والأهمية الملموسة الوحيدة التي تحظى بها هي كونها ترسي وتوضح الشروط التي تمكن الجمعية الوطنية من التعبير فعلا عن سيادة الشعب، فقد كانت القوانين التي أقرها البرلمان الإقليمي الموحد مجرد كلمات وفرت على الملك مهانة إعلان هزيمته.
سأنتقل الآن إلى تفحص عن كثب خطاب المدعي العام!
أيها السادة المحلفون، يقول المدعي العام: "تنازل التاج عن جزء من السلطة التي تقع كليا بين يديه، لكنه من الواضح أنه حتى في الأحوال الطبيعية، فإن عملية التنازل لا تتجاوز ما تنص عليه كلماتها بوضوح، لكن قانون 8 أبريل لا يخول للجمعية الوطنية حق رفع دفع الضرائب، كما أنه لا يحصر مكان انعقاد الجمعية في برلين".
إن السلطة ترقد محطمة بين أيدي التاج، وقد تخلى التاج عن السلطة ليتمكن من إنقاذ الشظايا! أيها السادة، لابد أنكم ستذكرون كيف أن الملك عند اعتلائه العرش مباشرة، تعهد رسميا في كونيكسبورغ وبرلين بمنح ميثاق دستوري، ولعلكم تتذكرون كيف أن الملك في سنة 1847 عند افتتاحه دورة البرلمان الفيديرالي أقسم بأغلظ الإيمان أنه لن يدع قطعة صغيرة من الورق تحول بينه وبين شعبه، لكن بعد أحداث مارس 1848، وفي ظل الدستور الممنوح، أعلن نفسه ملكا دستوريا، وبذلك وضع بينه وبين شعبه حلية لاتينية مجردة، أي تلك القطعة من الورق. هل يجرؤ المدعي العام على التأكيد بأن الملك حنث بوعوده الجليلة اختيارا، وبطريقة ملفتة للنظر واضعا نفسه موضع اتهام بالانسجام، تحت أعين أوروبا كلها عندما قبل الصفقة أي الدستور. لقد قدم الملك التنازلات، التي أجبرته الثورة على تقديمها، لا أقل ولا أكثر!
إن المقارنة الشعبوية التي أوردها المدعي العام، فإنها لسوء الحظ لا تثبت شيئا، فإذا ما تخلى المرء عن شيء، فإنه لا يتخلى عن أكثر مما أعلن بوضوح أنه يتخلى عنه. إذا أهديتك هدية، فسيكون من الوقاحة بمكان، أن تطالبني بتقديم التزامات أكثر انطلاقا من الهدية. لكن بعد أحداث مارس، كان الشعب هو الذي تقدم بالهدية، وكان التاج هو الذي تلقاها، ومن المعروف أن طبيعة الهدية تحددها نوايا مقدم الهدية لا متلقيها، بمعنى آخر نوايا الشعب وليس نوايا التاج.
لقد تناثرت سلطة التاج المطلقة وانتصر الشعب، وتوصل الطرفان إلى هدنة، ثم قام التاج بخداع الشعب. لقد كلف المدعي العام نفسه جهودا كبيرة ليبين لكم بشكل مطول، أن الشعب قد خدع، ثم قام بمداخلة طويلة ومفصلة بهدف الطعن بحق الجمعية الوطنية برفض دفع الضرائب، وأشار إلى أنه إذا وجد حق من هذا القبيل في قانون 6 أبريل، فإنه قد تلاشت تماما في قانون 8 أبريل. هكذا استعملت فترة اليومين لحرمان ممثلي الشعب من الحقوق التي سلم لهم بها ليومين سلفا.
هل كان بإمكان المدعي العام وضع أمانة التاج موضع الشبهة بشكل صارخ أكثر من هذا؟
يستمر المدعي العام فيقول: "إن تأجيل وتمديد جلسات الجمعية الوطنية كحق تنفرد به السلطة التنفيذية هو حق معترف به في كل البلاد الدستورية" أما عن حق السلطة التنفيذية في نقل مكان اجتماع المجلس التشريعي، فإنني أتحدى المدعي العام أن يورد قانونا أو مثالا واحدا يدعم هذا الادعاء. في انجلترا مثلا، يمكن للملك بناء على امتياز تاريخي قديم أن يدعو البرلمان للاجتماع في أي مكان يريد، وليس هناك قانون يحدد أن لندن هي مقر اجتماعات البرلمان.
كما تعرفون أيها السادة، فإن الحريات السياسية الأكثر أهمية في انجلترا، مثل حرية الصحافة، يصادق عليها بشكل عام عن طريق العرف وليس القانون المكتوب، لكن إذا فكرت حكومة انجليزية ما بنقل البرلمان من لندن إلى ويندسور أو ريتشموند، فسيكون ذلك كافيا لتتأكد كم هو مستحيل تحقيق ذلك.
صحيح أنه في الدول الدستورية يحق للتاج تعطيل البرلمان، لكن علينا ألا ننسى، في الجانب الآخر، أن كافة الدساتير تحدد مدة تعطيل البرلمان، ومتى تجب دعوته للانعقاد من جديد. ليس في بروسيا دستور، إذن ليس فيها حد زمني قانوني لإعادة جلسات برلمان معطل، ولهذا السبب بالذات لا يحق للملك تعطيل البرلمان. لو كان الحال غير ذلك، لكان بإمكان الملك تعطيل المجلس للانعقاد مرة أخرى؟ لقد وجدت الغرف جنبا إلى جنب مع التاج، ووضع الأمر كله بيد التاج، وبذلك تحولت السلطة التشريعية – إذا أمكن الكلام عن سلطة تشريعية ما – إلى مجرد صورة شكلية.
أيها السادة!
يمكنكم أن تروا هنا، استنادا إلى مثال واحد، نتيجة محاولة المقارنة بين صراع التاج البروسي والجمعية الوطنية البروسية من جهة باستحضار الوضع في البلدان الدستورية من جهة أخرى. إن ذلك المثال يؤدي إلى الحفاظ على الملكية المطلقة. من ناحية، يدافع المدعي العام على حقوق التاج على أنها حقوق السلطة التنفيذية، لكن من ناحية ثانية، ليست هناك قوانين أو تقاليد أو مؤسسات سياسية قادرة على فرض تقييدات متناسبة على السلطة التنفيذية الدستورية. فهل نتوقع من ممثلي الشعب أن يلعبوا دور برلمان دستوري بالعلاقة مع ملكية مطلقة؟
هل نحتاج إلى مزيد من الإيضاحات كي نثبت أن الحالة التي نتعامل معها، ليست حالة سلطتين، تنفيذية وتشريعية، تواجهان بعضهما البعض، وبأن مبدأ التقسيم الدستوري للسلطات لا ينطبق على الجمعية الوطنية البروسية والتاج البروسي؟
فلننحي الثورة جانبا من اعتبارنا مؤقتا، ولنحصر اهتمامنا بنظرية التسوية الرسمية. وفقا لهذه النظرية هناك سلطتان مطلقتان جنبا إلى جنب في دولة واحدة، إن هذه سخافة تشبه محاولة تربيع الدائرة. لابد أن تحسم المسألة بين السلطتين بالقوة المادية، وليس مهمتنا الآن مناقشة إمكانية الوفاق أو عدم إمكانيته، فلكي تتوصل قوتان إلى اتفاق لابد لهما أن تقيما علاقة بين بعضهما البعض، وقد أشار كامبهاوزن نفسه إلى ذلك. كان كامبهاوزن يتكلم بحكم منصبه الوزاري، وقد بين للمدافعين عن الوفاق، الخطر الكبير الذي ستواجهه البلاد إذا لم يتم التوصل إلى حل وسط، والخطر في ذلك يعود إلى العلاقة بين الجمعية الوطنية المستعدة للمساومة وبين التاج، أما الآن وبعد فوات الأوان، فهناك محاولة لتحميل الجمعية الوطنية مسؤولية الخطر عبر إنكار للعلاقة الأولية وتحويلها إلى جمعية تأسيسية! إن ذلك شبيه بمحاولة التغلب عل الصعاب عبر التغاضي عنها.
أعتقد أيها السادة، أني قد بينت كيف أن التاج لا يملك حق نقل مقر الجمعية الوطنية، بل حاول أن يبين أن نقل المقر كان عملا لائقا "ألم يكن من اللائق "يقول المدعي العام" أن تطيع الجمعية الوطنية التاجو أن تنتقل إلى برندنبرغ، واللياقة في هذا العمل وفقا للمدعي العام تنبع من صميم وضع الجمعية، فالجمعية لم تكن حرة في برلين ... ولكن ألم تكن غاية التاج واضحة مثل الشمس؟ ألم يجرد التاج نفسه من كل الأسباب التي قدمت رسميا من التبرير الظاهري الذي كانت توفره. ليست المسألة هنا تتعلق بحرية النقاشات. لقد كان الأمر على العكس يتعلق إما بحل الجمعية أو منح دستور،أو خلق تمثيلية وهمية باستدعاء ممثلين على المقاس. أكثر من ذلك، عندما اكتمل النصاب، بشكل غير متوقع، في براندينبرغ، وأصبح ممكنا اتخاد قرار، أزيح قناع الشكليات، وحل التاج الجمعية. وبالمناسبة، لم يكن للتاج الحق في إعلان الجمعية الوطنية حرة أم لا. ليس هناك شخص آخر غير الجمعية الوطنية الذي بإمكانه أن يقرر هل تتمتع أم لا بحرية نقاشاتها. من البديهي أنه ليس هناك أمر أسهل على الملك من إعلان أن الجمعية غير حرة، وأنها بالتالي غير مسؤولة عن أعمالها ويمنعها كلما اتخذت الجمعية قرارا لا يرضي الملك.
تحدث المدعي العام أيضا عن واجب الحكومة في حماية وصون شرف الجمعية الوطنية من تخريب الشعب البرليني.
هذه الحجة تحمل في طياتها نقدا لاذعا ضد الحكومة. سوف لن أتحدث هنا عن معاملتها لأشخاص مفردين: هؤلاء الأشخاص الأفراد اللذين هم فضلا عن ذلك ممثلون منتخبون للشعب، عملت الحكومة على إذلالهم بكل طريقة فقد لاحقوهم بخساسة ظاهرة، ونظموا بحقهم مطاردات شرسة، لكن لندع الأشخاص المفردين جانبا، كيف تم الحفاظ على شرف وعمل الجمعية الوطنية؟ ترك أرشيفها – وثائق اللجان، الرسائل الملكية، الاقتراحات التشريعية ومشاريع القوانين الأولية –للجنود يستعملوها ولاعات لغلايينهم وليحرقوها في المواقد، ويدوسونها بالأقدام.
لم تراع حتى الشكليات الحقوقية، فقد تم الاستيلاء على الأرشيف بدون القيام بأي جرد. كانت الخطط تقوم على تدمير هذا العمل، الذي كلف الشعب كثيرا، ليتمكنوا بعد ذلك من الافتراء على الجمعية الوطنية بفعالية أكثر، وليمسحوا من الوجود خطط الإصلاح التي كان يكرهها الأرستقراطيون والحكومة. أليس من التفاهة بمكان التأكيد بعد ذلك أن الحكومة نقلت الجمعية من برلين إلى براندنبورغ حرصا منها على شرف الجمعية؟
أصل الآن إلى حجة المدعي العام حول مسألة الصلاحية الرسمية لقرار الامتناع عن أداء الضرائب. يقول المدعي العام أن هذا القرار كان يمكن أن يكون صالحا إذا حاز فقط على التصديق الرسمي للملك، لكن الملك واجه الجمعية في شخص وزارة براندينبرغو ليس في شخصه الخاص. كان على الجمعية طبقا لذلك، وطبقا للادعاء التافه للمدعي العام، الاتفاق مع وزارة براندينبرغ لإعلان تلك الوزارة متهمة بالخيانة العظمى، والامتناع عن أداء الضرائب لها.
يقول المدعي العام أن هناك سبب آخر في الأصل، يجعل قرار الامتناع عن أداء الضرائب غير صالح، وهو كون الاقتراح لا يصبح قانونا إلا بعد القراءة الثانية.
إن الحكومة، من جهة تستهزئ بشكليات أساسية ملزمة لها تجاه الجمعية، ومن جهة أخرى، فإنها تطالب الجمعية بمراعاة أقل الشكليات أهمية. ليس هناك شيء أسهل تفسيرا من ذلك. لقد أقرت الجمعية بكل بساطة في قراءتها الأولى، قرارا غير مقبول من الملك، فما كان من الملك إلا أن ألغى القراءة الثانية بقوة السلاح، لذلك أصبح القانون غير ساري المفعول، وسيبقى كذلك، لكونه يفتقر إلى القراءة الثانية.
لقد تجاهل المدعي الظرف الاستثنائي، الذي أقر ممثلو الشعب القرار في ظله، ألا وهو حصار مقر ممثلي الشعب، وتهديدهم بالحراب. اتخذت الحكومة عددا من الإجراءات التعسفية تباعا، وبطريقة هوجاء لم تراع عددا من القوانين الأساسية، ومن ضمنها قانون تنظيم الحرس الوطني، وتحت ستار القانون العرفي أدخلت استبدادية عسكرية تعسفا. لقد أرسلت ممثلي الشعب إلى الجحيم، وخرقت القوانين بصفاقة لا سابقة لها، ثم تطالب الجمعية الوطنية بمراعاة أبسط الإجراءات القانونية.
لا أدري إذا كان في ذلك تزييف متعمد (وشخصيا أستبعد أن يلجأ المدعي العام إلى هكذا أسلوب) أو أيها السادة! أنها مجرد مسألة جهل، حين يقول المدعي العام أن "الجمعية لم تكن تنشد قط أو تريد المفاوضات".
أيها السادة، إذا كان الشعب يلوم جمعية برلين الوطنية على شيء، فعلى رغبتها في المصالحة. لقد كانت تلك الرغبة في المصالحة هي التي باعدت تدريجيا بين الجمعية والتاج، وبسببها فقدت الجمعية كل مواقعها وعرضتها إلى هجمات التاج بعد أن فقدت سندها الشعبي، بل أكثر من ذلك، فعندما أرادت الجمعية أخيرا اتخاذ موقف، وجدت نفسها وحيدة بلا حول ولا قوة.
أبدت الجمعية رغبتها بالتصالح أول مرة حين تنكرت للثورة وصادقت على نظرية الوفاق، وعندها حطت من شأنها، من مستوى جمعية وطنية ثورية إلى تجمع توفيقيين غامض. بلغت الجمعية منتهى الضعف حين قبلت الاعتراف من "بيفيويل" كأمر مقبول، بقيادة جيش شتاين. لقد كان إعلان هذه القيادة بحد ذاته مهزلة، حيث لا يمكن النظر إليها إلا كانعكاس هزلي لقيادة فرانجيل. وعلى الرغم من ذلك، وبدلا من أن تذهب بعيدا تمسكت به الجمعية بالتفسير المائع لوزارة بي ويفيل، مما أفقد الأمر معناه. قبلت الجمعية اعتبار مشهد المظاهرة الضعيفة ضد الجيش الرجعي القديم على أنها مظاهرة حقيقية. تظاهرت بنفاق حين اعتبرت ما كان ظاهريا حلا للنزاع، بأنه حل حقيقي له. وعلى الرغم من رغبتها الضئيلة بالقتال، وحرصها الشديد على المفاوضات، إلا أن المدعي العام يصف الجمعية بأنها مثيرة للمتاعب.
ليس هناك مدعاة لذكر دليل آخر على الطبيعة التوفيقية لهذا المجلس. تذكرون الاتفاقية التي تمت بين الجمعية الوطنية و "بي ويفيل" حول القانون الذي يعلق حساب الاستهلاك.
إذا لم تعرف الجمعية كيفية تحطيم العدو من خلال تحطيم الجيش، فإنه كان من الضروري فوق كل شيء كسب صداقة الفلاحين، لكنها أحجمت حتى عن هذه المحاولة.
كان هم الجمعية الرئيسي، الذي كان يعلو على حفاظها على بقائها، أن تفاوض يعني أن تتجنب النزاع مع التاج بأي ثمن، ومع ذلك فإن هذه الجمعية تلام على أنها لم تكن تريد التفاوض، ولم تكن تحاول ذلك.
كانت جمعية برلين الوطنية تمني نفسها بالأوهام المفرطة، ولم تكن تع وضعها الخاص، وظروف وجودها الخاص، حين كانت تعتقد قبل النزاع وحتى أثناءه، أن إمكانية حل ودي وتوفيقي مع التاج ما زالت واردة، وكانت تعمل في هذا الاتجاه.
لم يكن التاج يريد حلا وسطا، لم يكن بإمكانه أن يفعل ذلك. دعونا لا نخلط أيها السادة بين الصراع الذي انفجر في مارس، والصراع الذي انفجر مؤخرا بين الجمعية الوطنية والتاج. لم يكن النزاع هنا بين وزارة ومعارضة برلمانية، بين وزراء وساعين إلى المناصب الوزارية، لقد كانت معركة بين طرفين سياسيين في مجلس تشريعي. من الممكن أن بعض أعضاء الأقلية وبعض أعضاء الأكثرية، كانوا يظنون أن الوضع كذلك، والعامل الحاسم في أي حال ليس رأي النواب، بل وضع الجمعية الوطنية التاريخي، كونها نتجت عن الثورة الأوروبية، وعن ثورة مارس التي نشأت عنها. لم يكن النزاع الذي نشأ هنا نزاعا بين طرفين سياسيين ضمن نفس المجتمع، بل كان نزاعا بين مجتمعين، نزاعا اجتماعيا أخذ شكلا سياسيا، إنه صراع بين المجتمع الإقطاعي البيروقراطي القديم والمجتمع البورجوازي الحديث، صراع بين مجتمع المنافسة الحرة ومجتمع الطوائف المهنية، بين مجتمع ملكية الأرض والمجتمع الصناعي، بين المجتمع الديني والمجتمع العلمي. كان التاج الذي يستمد سلطته من الله والبيروقراطية المستبدة والجيش المستقل، هو التعبير السياسي المتوافق مع المجتمع القديم، والأساس الاجتماعي الذي كان يتوافق مع السلطة السياسية القديمة هو شكل ملكية أرض أرستوقراطية مميزة مع ما يرافقها من استرقاق كلي أو جزءي للفلاحين، صناعات حرفية أو باترياركية، طبقات مغلقة على بعضها البعض بدقة، والتناقض الحاد بين المدينة والريف، وفوق كل شيء سيطرة الريف على المدينة.
كانت السلطة السياسية القديمة – التاج الذي يستمد سلطته من الله، البيروقراطية المستبدة، والجيش المستقل – تعرف أن قاعدتها المادية الأساسية ستختفي من تحت أقدامها، بمجرد تغيير في أسس المجتمع القديم، الملكية الأرستقراطية المميزة، والأرستقراطية نفسها، سيطرة الريف على المدينة، الوضع التبعي لسكان الريف، والقوانين الموازية لشروط الحياة، هذه مثل لوائح الأبرشية وقانون الجرائم. قامت الجمعية الوطنية بمثل هذه المحاولة. على الجانب الآخر، كان المجتمع القديم يعرف أن السلطة السياسية ستسحب من يده بمجرد أن يفقد التاج والبيروقراطية والجيش امتيازاتهم الإقطاعية. كانت الجمعية الوطنية تريد إلغاء هذه الامتيازات. ليس من الغريب أن تتكاتف قوى الجيش والبيروقراطية والنبلاء لتحريض الملك على القيام بهجوم مفاجئ، وليس من الغريب أن نرى الملك، الذي تتشابك مصالحه مع مصالح المجتمع البيروقراطي القديم، وهو يدفع للقيام بانقلاب. كان التاج يمثل المجتمع الإقطاعي الأرستقراطي، كما كانت الجمعية تمثل المجتمع الحديث. كانت شروط وجود المجتمع البورجوازي الحديث تتطلب أن تصبح البيروقراطية والجيش اللذان كانا يتحكمان بالتجارة والصناعة مجرد أدوات، تختزل إلى مجرد آلات في يد السيرورة البورجوازية، فهذا المجتمع لا يمكن أن يقبل بوضع تقييدات على الزراعة من قبل الامتيازات الإقطاعية، وعلى الصناعة من قبل البيروقراطية. إن هذا مناقض للمنافسة الحرة، المبدأ الحيوي لهذا المجتمع. لا يمكنها أن تقبل بأن تقرر الاعتبارات الدولية للقصور الحاكمة العلاقات التجارية الخارجية بدلا عن مصالح الإنتاج الوطني، إذ يتوجب على الأخيرة إخضاع السياسات المالية لاحتياجات الإنتاج، بينما كانت الدولة البائدة تخضعها لاحتياجات التاج، الذي يستمد سلطته من الله، وخصوصا لاحتياجاته لترميم الأسوار الملكية. على المجتمع الحديث أن يهدم كافة الحواجز "الشرعية" والسياسية بين المدينة والريف. لا يزال المجتمع الحديث يحتوي على طبقات، لكنها ليست بأية حال طبقات مغلقة، إذ أن تطور هذا المجتمع يكمن في الصراع بين هذه الطبقات، لكن كل هذه الطبقات تتحد ضد الطبقات المغلقة و "مملكتها المقدسة".
ليس بمقدور التاج المقدس للسلطات، والتعبير السياسي الأعلى، والممثل الأعلى للمجتمع الإقطاعي البيروقراطي البائد، أن يقدم تنازلات حقيقية للبورجوازية الحديثة و بإ خلاص، ذلك أن غريزته للحفاظ على ذاته، و على وجود المجتمع الذي يرتكز عليه، ستدفعه باستمرار إلى سحب التنازلات التي قدمها، و ذلك بغية الحفاظ على الطابع الإقطاعي الدائم لوجوده، و هو لذلك يخاطر بثورة مضادة، ذلك أن الثورة المضادة هي شرط دائم التكرار و الحدوث بالنسبة لوجود التاج بعد كل ثورة.
على الجانب الآخر، لا يمكن للمجتمع الحديث أن يتوقف إلا إذا دمر وألغى السلطة السياسية، والسلطة التقليدية الرسمية، التي من خلالها فرض المجتمع القديم، وحافظ على نفسه بالقوة، ذلك أن حكم الملك المقدس، المستمد لسلطاته من الله، هو بالضبط حكم الشرائح الاجتماعية الميتة.
تبعا لذلك، لا يمكن أن يسود السلام بين هذين المجتمعين، إذ أن المصالح والاحتياجات المادية لكل منهما تتطلب صراعا مصيريا بينهما، ولهذا لا يمكن أن يكون هناك سلام بين الملك والجمعية الشعبية كأرقى ممثلين عن هذين المجتمعين. كان على الجمعية الوطنية أن تختار بأن تفسح المجال للمجتمع القديم، أو أن تنتصب أمام الملك كقوة مستقلة.
وصف المدعي العام الامتناع عن دفع الضرائب بأنه إجراء "يهز أسس المجتمع" لا علاقة! أيها السادة للامتناع عن أداء الضرائب بأسس المجتمع.
بشكل عام، لماذا تلعب الضرائب ودفع الضرائب أو الامتناع عن دفعها دورا بمثل هذه الأهمية في تاريخ الدول الدستورية؟ الجواب بسيط جدا. مثلما كان الأقنان يشترون امتيازاتهم من اللوردات الإقطاعيين بأموال مدفوعة نقدا، كذلك فإن شعوبا بأكملها تشتري امتيازاتها من الملوك الإقطاعيين بنفس الطريقة: كان الملوك يحتاجون إلى المال لتغطية نفقات حروبهم مع أمم أخرى، وعلى وجه خاص، حروبهم مع اللوردات الإقطاعيين. كلما تقدمت الصناعة والتجارة أكثر، ازدادت حاجتهم للمال أكثر، لكن الطبقة الثالثة، الطبقة الوسطى، نمت بالدرجة نفسها، وأصبحت تملك موارد مالية أكثر فأكثر، وبالطريقة نفسها، اشترت هذه الطبقة حريات من الملوك من خلال الضرائب. يمكنكم تتبع تفاصيل هذا التطور على وجه خاص في التاريخ الانجليزي.
هكذا، كانت الضرائب في العصور الوسطى هي الرابطة الوحيدة بين المجتمع البورجوازي الصاعد والدولة الإقطاعية الحاكمة، هذه الرابطة التي أجبرت الدولة على تقديم تنازلات للمجتمع البورجوازي لتفي باحتياجاتها وتؤقلم نفسها مع تطوره.
تحول هذا الحق في الدولة الحديثة، دفع الضرائب أو رفضها على يد المجتمع البورجوازي إلى وسائل لضبط الحكومة، الجسم الإداري ومصالحه المشتركة.
ستجدون إذن أن الامتناع الجزئي عن دفع الضرائب مكملا لكل تركيب دستوري. هذا النوع من الامتناع عن دفع الضرائب يستخدم كلما رفض إقرار ميزانية.
يصوت على الميزانية، في الوقت الراهن، لفترة محددة فقط، بالإضافة إلى ذلك يجب دعوة المجلس، الذي يعلق مؤقتا، إلى الاجتماع بعد مضي فترة زمنية محددة ... وهكذا، لا يمكن للملك إطلاقا أن يجعل نفسه مستقلا. إن رفض الميزانية يعني التأكيد على رفض الضرائب، هذا إذا لم تعط أغلبية المجلس الثقة للحكومة، أو إذا لم يبادر الملك إلى اختيار وزارة جديدة. وهكذا، فإن رفض الميزانية هو امتناع عن دفع الضرائب، يأخذ شكلا برلمانيا. في النزاع الذي نحن بصدده، لا يمكن تطبيق هذا الشكل لكون الدستور غير موجود بعد، بل يجب إعداده.
لكن الامتناع عن دفع الضرائب الذي نحن بصدده، هذا الامتناع الذي لم يقف عند حدود رفض الميزانية، وإنما تعداه إلى رفض دفع الضرائب الحالية، ليس على أي حال عملا استثنائيا. لقد حدثت أشياء من هذا القبيل كثيرا في العصور الوسطى، فحتى البرلمان الألماني الامبراطوري القديم، و برلمان براندنبورغ الإقطاعي القديم اتخذ مثل هذه القرارات، ولن نقدم أمثلة أخرى مشابهة في الدول الدستورية الحديثة. لقد أدى الامتناع عن أداء الضرائب في بريطانيا إلى سقوط وزارة ولينغتون سنة 1832، وفي بريطانيا لم يكن البرلمان هو الذي قرر الامتناع عن دفع الضرائب، ولكن الشعب هو الذي أعلن عن ذلك، ونفذ قراره على مسؤوليته، وبريطانيا على أي حال، هي أرض الدستورية التاريخية.
بدأت الثورة الانجليزية، التي أدخلت شارل الأول إلى المسرح، بامتناع عن دفع الضرائب. كما بدأت ثورة أمريكا الشمالية، التي انتهت باستقلال أمريكا عن انجلترا بالامتناع عن دفع الضرائب. في بروسيا أيضا، يمكن للامتناع عن أداء الضرائب أن يكون نذير أمور مريعة جدا. على أي حال لم يكن جون همبدن هو الذي أدخل شارل الأول إلى المسرح، وإنما كانت صلابة رأي شارل الأول، واعتماده على الطبقة الإقطاعية، وعناده في إخماد مطالب المجتمع الصاعد بالقوة. إن الامتناع عن دفع الضرائب هو مجرد إشارة إلى وجود نزاع بين الملك والشعب، مجرد دليل على أن النزاع بين الحكومة والشعب قد وصل إلى مستوى عالي من التوتر. إنه ليس سببا للوفاق أو النزاع، إنما مجرد تعبير عن هذه الحقيقة. في أسوء الأحوال فإن هذا يؤدي إلى سقوط الحكومة الحاضرة لا النظام السياسي المعني، ولا تتأثر أسس المجتمع بذلك. في الحالة الحاضرة، إضافة إلى ما سبق، كان الامتناع عن دفع الضرائب بمثابة دفاع ذاتي يقوم به المجتمع ضد الحكومة التي هدت أسسه.
أخيرا، فإن المدعي العام يتهمنا بأننا ذهبنا أبعد من الجمعية الوطنية نفسها في نشر هذه الوثيقة، ويقول: "من ناحية سياسية، فإن الجمعية لم تنشر قرارها". هل يتوجب علي أيها السادة تقديم رد جدي على كون قرار الامتناع عن دفع الضرائب لم ينشر حتى في سجل الجمعية القانوني.
لم تبادر الجمعية الوطنية بالإضافة إلى ذلك – عكس ما فعلنا نحن – إلى التحريض على استعمال القوة، وهي عموما لم تتخذ موقفا ثوريا، ولكنها أرادت أن تبقى مرتكزة على القانون.
وصف المدعي العام الجمعية سابقا أنها خارجة عن القانون، أما الآن فهو يعتبرها قانونية – وهو يفعل ذلك في الحالتين ليظهرنا بمظهر المجرمين – لكن إذا اعتبر المدعي العام جمع الضرائب عملا غير قانوني، أليس من الأولى بي أن أقاوم بالقوة استعمال القوة في فرض عمل غير قانوني. حتى من وجهة النظر هذه، فنحن محقون في استعمال القوة في مواجهة القوة، وهي عموما لم تستعمل موقفا ثوريا، ولكنها أرادت أن تبقى مرتكزة على القانون.
بالمناسبة، من الصحيح تماما أن الجمعية الوطنية كانت تريد العمل على أسس شرعية محضة من خلال اللجوء إلى المقاومة السلبية. كان هناك طريقان اثنان أمامها، الطريق الثوري الذي لم تلجأ إليه، لأن أولئك السادة لم يكونوا يريدون المخاطرة بأعناقهم– أو طريق الامتناع عن أداء الضرائب، وبهذا فهم لا يذهبون إلى أبعد من المقاومة السلبية.
لقد اختارت الطريق الثاني بالطبع، لكن حتى يكون قرار الامتناع عن دفع الضرائب مجديا، فقد كان على الشعب أن يسنده بموقف ثوري. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون تصرف الجمعية الوطنية نموذجا يحتذي به الشعب. تستمر حقوق الجمعية الوطنية كجمعية وطنية ما دامت تدافع عن حقوق الشعب. أما إذا فشلت الجمعية في الوفاء بالتزامات الانتداب، الذي خولها إياه الشعب، فالشعب حل من هذا الانتداب، في هذه الحالة يدخل الشعب بنفسه إلى المسرح، ويعمل وفق مشيئته الخاصة. إذا شاءت الجمعية مثلا، أن تبيع نفسها لحكومة خائنة، فإن الشعب سيركل هذه الحكومة والجمعية معا، وإذا قام الملك بثورة مضادة، فإن من حق الشعب أن يرد عليه بثورة. إن ذلك العمل لا يتطلب مصادقة الجمعية الوطنية، لكن في الحقيقة، فقد أشارت الجمعية الوطنية البروسية نفسها إلى أن الحكومة البروسية تحاول القيام بعمل إجرامي وخائن.
خلاصة القول أيها السادة المحلفين، فإنه لا يحق للمدعي العام أن يتهمنا بموجب قوانين 6 و8 أبريل، ما دامت هذه القوانين قد نبذت من قبل التاج نفسه. هذه القوانين ليست حاسمة في أي حال من الأحوال، حيث أنها قد لفقت من قبل البرلمان الإقليمي الموحد. إن القرار الذي اتخذته الجمعية الوطنية بالامتناع عن دفع الضرائب له مفعول القانون رسميا وماديا. لقد ذهبنا أبعد مما ذهبت إليه الجمعية الوطنية في بياننا، وكان ذلك واجبنا وحقنا.
أخيرا، فها أنا أكرر: لقد شهدنا الفصل الأول من الدراما فقط. سوف ينشب الصراع بين المجتمعين، الإقطاعي والبورجوازي من جديد بأشكال سياسية، وستعود النزاعات نفسها إلى الظهور حالما تجتمع الجمعية الوطنية، وها هي الجريدة البروسية الجديدة – الناطقة بلسان الوزارة – تتنبأ بما يلي: إذا انتخب نفس الأشخاص مرة ثانية، ستحل الجمعية مرة ثانية.
على أي حال، ومهما كانت الطريقة التي ستسلكها الجمعية الوطنية الجديدة، فإن النتيجة التي لا مفر منها، فهي، إما نصر تام للثورة المضادة، أو ثورة جديدة ناجحة، ويبدو أن انتصار الثورة سيكون ممكنا فقط بعد أن تستنفذ الثورة المضادة.
ـــ ـــ ـــ
موقع 30 غشت
http://www.30aout.info








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضباط شرطة يدخلون كلية مدينة نيويورك لاعتقال وتفريق المتظاهري


.. اقتحام الشرطة الأميركية جامعة كولومبيا واعتقال العشرات من ال




.. شرطة نيويورك تعتقل عددا من الطلاب المتظاهرين في جامعة كولومب


.. الشرطة في جورجيا تشتبك مع متظاهرين خرجوا ضد مشروع قانون -الع




.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطيني