الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المديّات الصّوفيّة في (مُكَابَدَاتُ الحَافِي) للشاعر عبد الأمير خليل مراد

داود السلمان

2022 / 5 / 23
الادب والفن


توطئة
النصوص هي عوالم، وكلّ عالم قائم بذاته، متفرّد بفلسفته، ومنها النصوص الأدبية، والشعرية، وهذه لها خصوصيتها، ومنها إيقاعها الموسيقي، ولاسيما النص النثري، ذلك النّص المبني على بناء هرمي، أكثر الأحيان، وهذا البناء يعتمد على أرض خصبة صالحة للزراعة (+ الإبداع) في كلّ موسم.
لكن، وهذا هو الأهم، إن صاحب هذه الأرض، ودعونا نقول، صاحب النص، أي الشاعر(طالما نحن نتحدث هنا عن نص شعري) الشاعر المعني، أحيانًا يخفق وأحيانًا يصيب، كصاحب الأرض، المالك، الفلاح، المهندس، البنّاء، فالذي يصيب، أي الشاعر، هو المتمكن، المُبدع؛ الذي يحمل أدوات الكتابة غير المنقوصة، (كالطبيب الحاذق).
وبين يديّ الآن هذه المجموعة الشعرية للشاعر عبد الأمير خليل مراد، وهي تحت عنوان "مكابدات الحافي" والعنوان هذا هو أيضا عنوان لنص داخل المجموعة، المشار إليها، هو الثاني من حيث التسلسل، ثم هناك نص آخر هو الأطول في هذه المجموعة، يكاد أن يتغلب على المجموعة كلها فهو يبلغ اثنين وأربعين صفحة، ويحمل عنوان "من أحوال الحافي وأماليه"، هو بمثابة تكملة مطوّلة لهذا النص الذي نحن بصدد الحديث عنه، أعني "مكابداث الحافي"؛ والشاعر يقصد بالحافي: بشر الحافي الرجل العارف المتصوّف، والذي سنتعرض للحديث عنه ونحن نغوص في بحر هذا النص، في محاولة لفك رموزه وحل شفراته، إن كانت ثمة شفرة شعرية بمصطلحات ومفردات صوفية تقصّد الشاعر أن يضعها في هذا النص الباذخ المعنى ذي المفردات الأخاذة.
تشريح النص
لابد لكل نص من تشريح أن نضعه على مشرحة النقد، ليبان بالتالي: فهمه ومعرفته، وتوضيح مكنوناته الداخلية وفق إيضاح يخضع لمعرفة مسبقة يفترض أن يمتلكها المشرّح (+ الناقد) الحامل لكل معايير النقد، وهو أيضا يجب أن يكون ذا خبرة تجعله يخوض غمار النقد.
لقد دأب معظم النقاد (المشرحين) اتخاذ منهج للنقد كمعيار يَزِنون به (بضاعة) النقد كي لا تخرج عن إطاره، وبالتالي قد يخفق الميزان – ميزانهم النقدي، فتظهر عورة العملية النقدية للملأ.
لذلك يتلافون المآخذ والهفوات التي قد تطرأ على عملية النقد (التشريح) وهم يعملون بمشرطهم الإبداعي.
يقول الشاعر في مطلع نصه هذا:
أَنَا بِشْرُ الحَافِي
فِي السُّوْقِ أَقُوْمُ وَأَقْعُدْ
وَدِثَارِيْ أَوْزَارٌ بَالِيَةٌ
ظَمْآنًا أَكْرَعُ مِنْ صَدَفِ البُشْرَى
وَشَقِيًّا أَغْرِفُ آمَالاً وَخَطَايَا
لا مَالٌ فِي كَفِّي يَنْصُرُنِي
لا غُرَرٌ فِي رَأْسِي وَوَصَايَا
تَلْقُفُنِي مِنْ بِئْرِ ظُنُوْنِي
وَتُدَحْرِجُنِي كَمَسِيْحٍ فِي حَوْمَاتِ
قِطَافِ"
والنص هذا، هو اقرب الى سيرة، كتبها الشاعر بنص شعري متماسك البناء يُمثل لمحة وصفية، يتخللها البؤس والشقاء لهذا المتصوّف، بشر الملقب بـ "الحافي". فمن ديدن المتصوّفة إنهم لا يكترثون بحطام الدنيا، ولا ينشغلون بالقضايا الماديّة، مهما كان حجم هذه الماديات، بقدر ما هم يهتمون للقضايا الروحية البحتة، وهدفهم من ذلك هو الوصول الى الحقيقة، الى الوجود، والى التمسك بالأخلاق التي هي الطريق المُعبّد، إضافة الى الطقوس الخاصة، والطرق المعروفة لدى هؤلاء المتصوفة، فهم بمعنى آخر زهاد لا يريدون الاهتمام بالدنيا ولا بالمال والبساتين والضياع، وإنما طلبهم هو القرب الى الله للفوز برضاه، ومن ثم الحصول على الجائزة الكبرى وهي جنات عدن ذلك الهدف الأخير.
أَنَا بِشْرُ الحَافِي
يَاه..يَاه..يَاه..كَمْ
عَايَشْتُ مُلُوْكًا وَرَعَايَا
وَقَنَعْتُ بِجِلْبَابٍ يَسْتُرُنِي
وَبِزَادٍ يُقْرِيْ أَضْيَافِيْ
أَنَا بِشْرٌ وَرَمَادِي .. أَيُّ بِشَارَةْ
مَنْثٌوْرٌ فِيْ بَوَابَةِ عَالَمِنَا الكَابِي
أَبْكِيْ.... وَأُصَلِّيْ
وَأُصَلِّيْ فِيْ كَبَدٍ
وَنَشِيْجِيْ آهِ ... نَشِيْجِيْ
إِنْجِيْلٌ وَمَصَاحِفُ فِي مَعْمَعَةِ
الأَحْلَافِ
المقطع من هذا النص القصير، هو بمثابة تعريفة بـ "بشر الحافي" أبدعه الشاعر على لسان بشر نفسه، وميزة النص أنّه يمتاز بميزة عرفانية يعرف المتصوف طبيعة مذهبه العرفاني. والعرفاء جمع وهُم طائفة متصوفة، وربما أن العرفان هو التصوّف نفسه، فأهل السنة يطلقون عليه "تصوّف" والشيعة يطلقون عليه "عرفان" فهو من حيث المبدأ لا فرق بينهما إلا بالتسمية، ومعظم المتصوّفة – العرفاء استمدوا طريقتهم من الشيخ ابن عربي الذي أطلقوا عليه تسمية: الشيخ الأكبر، وهو صاحب كتاب "الفتوحات المكيّة" ولعل أفضل من كتب عنه هو الكاتب الكبير نصر حامد أبو زيد، في كتاب أطلق عليه "هكذا تكلم أبن عربي".
من هو بشر: تعريف
جاء في "الموسوعة العربية ما يلي:
أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي، المعروف بالحافي، متصوف زاهد، ومن ثقات رجال الحديث. أصله من الموالي من قرية من قرى مرو، استقر أبوه الحارث في بغداد وفيها عاش بشر، ولقب بالحافي لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعاً لإحدى نعليه وكان قد انقطع، فقال له الإسكاف: ما أكثر كلفتكم على الناس. فألقى النعل من يده والأخرى من رجله وحلف لا يلبس نعلاً بعد ذلك، ومشى حافياً حتى اسودّ أسفل قدميه.
سمع بشر من كثيرين، منهم: إبراهيم بن سعد الزهري، وعبد الله بن المبارك، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية الضرير والمعافى بن عمران الموصلي.
يعدّ بشر في كبار المتصوفة، وقد اقترن اسمه باسم اثنين من المتصوفة الزهّاد القدامى، أولهما ذو النون المصري ثوبان بن إبراهيم (ت245هـ) والثاني سهل بن عبد الله التستري (ت283) فقيل «إنّ ذا النون له العبارة وسهلاً له الإشارة، وأما بشر بن الحارث فله الورع». وكان تصوّف بشر يقوم على الزهد والعزوف عن الدنيا ومغالبة شهواتها في السرّ والعلن، وكان في ذلك شديداً على نفسه لا يتركها على هواها تشتهي شيئاً من مأكل أو ملبس، فاجتمع حوله عدد من الزهّاد، بثّ فيهم تعاليمه، منهم: ابن منصور البزّاز، والسريّ السقطي، وإبراهيم بن هانئ النيسابوري وغيرهم. وقد أخذ نفسه بالتعاليم التي يدعو إليها، فاعتزل الناس، إذ كان يرى أن السلامة في العزلة والبعد عمّن حوله، وكان يبغض المدح ويرى أن العلم هو العمل، وإذا لم يعمل الإنسان بما تعلم فترك العلم أفضل. وقد عظَّم شأن الأبوة، ورأى أن دعاء الوالد لولده كدعاء النبي لأمته.
أَنَا بِشْرُ الحَافِيْ
أَنْطَقَنِي اللهُ وَأَخْرَسَنِيْ
وَبِبَابِ المَسْجِدِ أَتْلُوْ نَفَثَاتِيْ
ضَيْفًا يَتَهَجَّى أَوَّلَ حَرْفٍ
نيرودا..أَطْفَالَ السَّيَّابِ.. وَابْنَ الفَارِضِ وَكُثَيِّرَ
وَالمَجَنُوْنَ وَأَحْمَدْ
ها أَنَذَا أَتَمَلَّى مَا حَكَتِ الأَدْهُرُ
مِنْ سِدْرَةِ أَسْلَافِيْ
ديدن المتصوّفة أنهم يعدون أنفسهم الأقرب الى الله، من حيث التقرب والمناجاة وسرعة استجابة الدُعاء، ويدّعون أنهم يرون الله بعين العقل، ومن خلال طقوس وأوراد روحية خاصة، من صلوات وأدعية ورياضات، وغير ذلك؛ ويقولون أن اتصالهم يكون مباشرًا من خلال تلك العبادات بالتقرب والزلفى، وعليه فهم تركوا ملذات الدنيا، واكتفوا من دنياهم باليسير البسيط من المأكل والمشرب، وكذلك المسكن، بل إن أغلبهم لم يستقر في منزل واحد إلا ليلة أو ليلتين، بل أخذ يجوب المُدن والبلدان ويقول إنه يبحث عن الله، كما فعل جلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي.
أَنَا بِشْرُ الحَافِيْ
لَمْ تَتْبَعْنِي فِي الحَقْلِ خِرَافِيْ
أَسْقِيْهَا بِيَدَيَّ دُمُوْعِيْ
وَأُرَوِّيْهَا مِنْ رُوْحِيْ وَشِغَافِيْ
وَتُخَلِّيْنِيْ فِيْ نَجْوَايَ أُغَنِّيْ
زِرْيَابًا يَحْبُوْ فِيْ جَوْقَةِ
عُزَّافِ
اتصال المتصوّف يكون من خلال معراج الروح، سُمو النفس نحو الملكوت الأعلى للتزود من الأنوار السماوية، والنفحات الروحية، فهو لا يجعل واسطة بينه وبين معشوقه، بل يعتقد أن ذلك المعشوق لا يحتاج من يتدخل بين وبين ذلك، فالسمو النفسي يكفي التقرب والزلفى حينما يناجي المحبوب محبوبه، بموسيقى روحية وكلمات قدسية تصل بالمباشر، لتزرع الاطمئنان لتلاقي روُح الحبيب مفتوحة بالترحاب. و المقطع هذا خلاصة الترجمة لما أراد قوله الشاعر على لسان المتصوف بشر، نفحات " أَسْقِيْهَا بِيَدَيَّ دُمُوْعِيْ".
أَنَا بِشْرُ الحَافِيْ
سَأَظَلُّ حَفِيًّا بِشُجُوْنِيْ
وَقِيَامَاتِيْ بُؤْسٌ وَضَرِيْعْ
لا أَدْرِيْ أَمْسِيْ مِنْ يَوْمِيْ
أَسْمَائِيْ ... آهٍ ... مِنْ أَسْمَائِيْ
وَسَمَائِيْ أَفْلَاكًا تَتَشَظَّى
كَالْبَيْدَرِ فِيْ قَبْضَةِ عَرَّافِ
كلُّ المُسميات ستذوب، وكل الأشياء ستضمحل، وجميع الفلسفات ستقف عند حدها، لكن العشق الروحي المغروس بشذى الإخلاص لمصور الوجود، خالق النفحات الروحيّة والنفسيّة، ستبقى شاخصة تزهو بالأنوار وساطعة فتضيء ما حولها إلى أبد الآبدين. فهي "كَالْبَيْدَرِ فِيْ قَبْضَةِ عَرَّافِ". فالعرّاف هو من يدك أسرار ذلك الوجود الحقيقي، الذي لا يعيه ويعرفه حق معرفته، إلّا العراف، لأنه العراف، هذا قد أوغل بعمق الأشياء وأدرك طريقها الموصل للحق.
أَنَا بِشْرُ الحَافِيْ
أَتْلُوْ مَا بَيْنَ صَبَاحِيْ وَمَسَائِيْ
( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا )
فَأُكَلِّمُ عِيْسَى فِي المَهْدِ صَبِيًّا
وَأُخَاصِرُ مُوْسُى عِنْدَ تُخُوْمِ الطُّوْرِ
وَأَكُبُّ عَلَى نَعْلِ أَبِيْ القَاسِمِ
جُنْدِيًّا فِيْ غَمَرَاتِ التَيْهُوْرْ
فَالمَوْتَى وِحْدَانٌ فِيْ بُوْقِ المَلَكُوْتْ
وَالسَّاعَةُ قَالَتْ:
لا كَافُوْرٌ أَوْ تَابُوْتْ
فَيَضُجُّ بَأَخْمَصِهَا الأَحْمَرُ
وَاليَاقُوْتْ
نعم، النفحات الروحيّة لا تأتي إلّا بالتدبّر وبالتأمل، فالمتصوّفة لا يقرأون النصوص كما نقرأها نحن، أي بحسب مفهومها العام الظاهر، بل إنهم يرون أن للنص ظاهراً وباطناً، فنحن نتمسك بالظاهر ولا نعي الباطن، لأننا لا ندرك أسرار الباطن، حتى ظهر لمعظم المتصوّفة ظاهرة جديدة، هي ما تسمى بـ "الشطحات الصوفية" حتى قيل إن الحلاج المقتول صبرًا قد ذهب شهيدًا على إثر تلك الشطحات، وهي كشوفات أشبه بالقضايا الغيبية، وهي ما يعبّر عنها الفلاسفة بالميتافيزيقيا.
وهذه القضايا هي بحكم عوامّ الناس هي نوع من الشرك، فهي كمن يرى رأيه في قضية وحدة الوجود، التي قال بها كثير من المتصوفة، ورأى البعض أنها شرك واضح بالله، فحكم على من يدين بها بالموت، مثلما جرى لفيلسوف الإشراق السهروردي.
أَنَا بِشْرُ الحَافِيْ
وَأَدُوْنِيْسُ الشَّرْقِيُّ أَبِيْ
يَتَأَبَّطُنِي قِيْثَارَاتٍ وَفَرَائِدْ
وَكِتَابًا مَسْطُوْرًا مِنْ أَزْمَاااانْ
فِيْ الحَيِّ اللَاتِيْنِيِّ يُهَدْهِدُنِيْ
وَعَلَى نَخْلَاتِ البَصْرَةِ
أَوْ كُوْفَانْ
وَعَنَاقِيْدِيْ مِنْ فِضَّةِ بَابِلَ
مَبْذُوْلَاتٌ فِيْ سِكَكِ
العَشَّارِيْنَ
وَمَقْصُوْرَاتِ السُّلْطَانْ.
يكتفون بالقليل، ولا يمدُّون أعناقهم إلى ما بأيدي الناس، أو إلى ما في يد السلطان وصاحب المُلك الدنيوي الفاني، فهم أغنياء النفس، وتعبير الشاعر، هنا، في هذا المقطع، هو اختزال يعجُّ بمعنى كبير، رسمته ريشة إبداع الشاعر عبد الأمير خليل مراد؛ وكأنّه يريد القول على لسان بشر: بأنه سليل أجداد لهم باع طويل في بالبيان والمعرفة، بدءاً من بابل الحضارة حتى البصرة والكوفة، وما جرى فيهما من أحداث.
الخلاصة:
قرأت النص ربما قراءة مختلفة، لا قراءة نقدية كما يحلو للبعض أن يسميها، بل هي قراءة تحليلية انطباعية بمنطق فلسفة تاريخ، ولا سيما أن هذا النّص الشعري للشاعر عبد الأمير خليل مراد، هو بحسب رؤياي مختلف عما جادت به قريحة كثير من الشعراء، أعني من الذين يكتبون القصيدة أو النص المتعلق بالتصوف، فالذي لم يطّلع على التصوّف، ولم يدرك مديات المذهب التصوّفي وما تعنيه هذه المفردة من جمالية وسمو، لا يستطيع أبدًا أن يبدع قصيدة أو نصاً شعرياً يضاهي هذا النص الذي كتبه الشاعر بعد الأمير خليل مراد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي