الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليمن والانتخابات الرئاسية: في انتظار المسرحية الخامسة

صبحي حديدي

2006 / 9 / 16
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية


في أواخر حزيران (يونيو) الماضي، كاد الرئيس اليمني المشير علي عبد الله صالح أن يسجّل سابقة تاريخية لا مثيل لها في سجلّ الحاكم العربي، بل كاد أن يصنع معجزة سياسية: لقد رفض، هو الذي يتولى السلطة منذ 28 سنة، قرار حزبه الحاكم، "المؤتمر الشعبي العام"، ترشيحه لولاية رئاسية جديدة تمتدّ على سبع سنوات. ولقد بدا جاداً، وكذلك حازماً وغاضباً، حين خاطب قيادة حزبه هكذا: "لست تاكسي أجرة تستأجروني لصالح المؤتمر أوالقوى السياسية. أنا في المقام الأول أرعى مصلحة هذه الأمة ولست مظلة لفساد حزب سياسي أو قوى سياسية. لست مظلة لأن يفسد أحد بجهد علي عبدالله صالح".
لم يكن ذلك التشبيه، الغريب بعض الشيء في الواقع، هو التصريح الأكثر لإثارة في سلسلة ما أدلى به صالح من أقوال ذات طابع دراماتيكي، وذلك منذ تعليقه الشهير حول عزم الولايات المتحدة حثّ الأنظمة العربية الصديقة أو الحليفة على اعتماد مزيد من الإجراءات الإصلاحية: "يجب أن نحلق لأنفسنا قبل أن يحلق لنا الآخرون"؛ وصولاً إلى تعليقه الأحدث عهداً: "لقد ملّلنا الناس وملّونا"! وفي طور ما من هذا الميل الجارف إلى مباغتة الناس بأقوال ليست معهودة منه شخصياً، ومن الحاكم العربي إجمالاً، بدا صالح فلسفيّ المزاج أيضاً: "كم من زعامات في العالم غنوا وملكوا، لكن في نهاية المطاف ـ لا إله إلا الله ـ يذهب كل منهم إلى الآخرة بأجسادهم ملفوفة بذراعين إلى ثلاثة أذرع قماش أبيض فقط. لا شيك ولا حلية ذهب ولا صولجان.. ولا شيء ينفع أي منهم إلا عمله إذا كان صالحاً أو ما تصدّق به في الدنيا أو إذا كان لديه ولد صالح يدعو له"!
وفي العودة إلى خطابه أمام مؤتمر حزبه، اعتبر صالح أنّ شروط العمل السياسي في اليمن تتيح إطلاق اللعبة الديمقراطية كاملة غير منقوصة، لأنّ "الملعب مهيأ من قبل 15 سنة عندما أخذنا بالخيار الديمقراطي وطلعت الأحزاب من تحت الطاولة إلى فوق الطاولة. والملعب مهيأ أكثر عندما أعلنت في 17 يوليو عدم ترشحي. علينا أن نقدم نموذجاً ديمقراطياً في المنطقة. كما شدّد على أنّ قراره برفض ترشيح الحزب ليس مسرحاً، و"الحديث عن السلطة ليس مسرحية سياسية أو غزل سياسي معكم كمؤتمرين أو مع الشعب اليمني، ولكن لأضع الشعب اليمني أمام مسؤولية تاريخية بكل فئاته و قواه السياسية، وحسمها ينبغي ألاّ يكون عبر المظاهرات والمسيرات".
بيد أنّ القول الفصل كان من نصيب المظاهرات المسيرات، في نهاية المطاف، والغلبة عُقدت لمكبّرات الصوت المحمولة على سيارات جالت العاصمة طولاً وعرضاً، تحثّ الجماهير على التظاهر ومناشدة الرئيس العدول عن قراره. وكان للجماهير ما أرادت، فانقلب مزاج صالح رأساً على عقب، وتراجع عن قرار رفض الترشيح ليستبدله بقرار قبول الترشيح، أي القرار الذي اتضح سريعاً أنه الوحيد النهائي الذي لا يقبل الطعن، والوحيد الأبعد حقاً عن أن يكون مسرحية. وهكذا تبيّن أنّ أحداً لم يستأجر التاكسي بقدر ما تطوّع سائقها من تلقاء ذاته، أو استجابة للجماهير الغفيرة التي احتشدت في ساحة السبعين، كبرى ساحات العاصمة اليمنية صنعاء، وناشدته التراجع عن قراره.
أكثر من هذا، وفي خطاب قبول التاج من الشعب للمرّة الخامسة، ألقى صالح خطاباً حماسياً لم يطفح بالوعود والتهويل واللغة الشعبوية عموماً فحسب، بل لاح وكأنّ الرئيس سوف يتولى الحكم للمرّة الأولى فقط، وليس منذ العام 1978 حين استولى على السلطة في انقلاب عسكري. وفي مقابلة مع صحيفة "الثورة" اليمنية الحكومية، أوضح صالح أنه "استجاب للدموع التي ذرفها الشيوخ والنساء والأطفال"، وانحنى أمام "نداء الملايين من أبناء الشعب الذين خرجوا إلى الشوارع والساحات العامة في العاصمة والمحافظات لأنهم كانوا مقتنعين بأن أجراس الإنذار قُرعت، وأنّ الوحوش تكشّر عن أنيابها، مستهدفة الفتك بالثورة، وبالجمهورية، وبالوحدة، وبالديمقراطية"! وتابع يقول: "الجماهير خرجت إلى الشوارع بعفوية، دون أن يحثها أحد على ذلك، ودون برنامج موضوع مسبقاً، ولهذا أجبرتني على الرجوع عن القرار الذي اتخذته من قبل". وأمّا "المهامّ" التي حدّدها لنفسه في الولاية الجديدة، فهي ليست أقلّ من "حماية الثورة والجمهورية، حماية الوحدة، حماية الوطن ضد التطرّف والإرهاب، وحماية الجمهورية ضدّ المدافعين عن النظام الإمامي ممّن ترتفع أصواتهم بين الحين والآخر في محافظة صعدة، ولهم أنصار في محافظات أخرى".
والحال أنّ الحمقى وحدهم هم الذين صدّقوا أنّ صالح يمكن أن يتنازل طواعية عن الحكم، ليس لأنّ الرئيس سبق له أن فعل الشيء ذاته تقريباً في انتخابات 1999 فحسب، بل أساساً بسبب تعديل الدستور في عام 2003، بحيث اعتُبرت ولاية الرئيس الرابعة بمثابة ولاية أولى، الأمر الذي منحه الحقّ في ولاية ثانية! كذلك كان واضحاً أنّ جماهير ساحة السبعين، التي استجاب صالح لندائها كما يقول، لم تكن عفوية على الإطلاق: لقد عّطّلت جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية وشركات القطاع العام والمدارس، وجرى توجيه الموظفين والعمال والطلاب إلى الساحة، كما حثّ خطباء المساجد المصلّين على المشاركة، ونُصبت الخيام، وتمّ توزيع زجاجات المياه المعدنية مجاناً...
النقيض تماماً هو الذي جرى حين اجتمعت جماهير حاشدة في ساحة السبعين ذاتها في تموز (يوليو) 2005، حين خرجت تظاهرات واسعة احتجاجاً على رفع الدعم عن أسعار المحروقات. آنذاك كانت الدبابات، لا زجاجات المياه المعدنية المثلجة، في انتظار أبناء الشعب اليمني، حيث سقط عشرات القتلى ومئات الجرحى، وجرى اعتقال المئات بمن فيهم الأطفال. ورغم الارتفاع الهائل في أسعار النفط خلال العام 2005، فإنّ اليمن ما يُزال في عداد البلدان الأفقر على نطاق عالمي، الأمر الذي يزيد في عدم استقرار البلد وتزايد الإضطرابات الاجتماعية (مؤخراً، كان معهد "كارنيغي" للسلام قد صنّف اليمن في المرتبة 12 للبلدان الأشدّ افتقاراً للاستقرار، بعد هاييتي وأفغانستان ورواندا).
واليمن بلد قائم على حكم أوتوقراطي عسكرتاري، تعمّ فيه مختلف أنماط الفساد والمحسوبية والولاءات القبلية، وتنازعته أكثر من حرب أهلية داخلية بينها حرب انفصالية أساسية بين الشمال والجنوب سنة 1994، فضلاً عن انخراط النظام على نحو شبه تامّ في ما تسمّيه الولايات المتحدة الأمريكية "الحملة على الإرهاب". لكنّ النفوذ الأمني الأمريكي في اليمن بلغ حدّاً من الصلافة جعل صحيفة "المؤتمر"، الناطقة باسم الحزب الحاكم، إلى اتهام السفير الأمريكي السابق في صنعاء، إدموند ج. هَلْ، بأنه "يتصرّف مثل مندوب سامٍ لبلده وليس كسفير لدولة أجنبية، وآن الأوان لكي يدرك أنّ اليمن بلد مستقلّ ذو سيادة".
الحادث الأمني الأهمّ في هذا الصدد يظلّ ذاك الذي وقع أواخر العام 2003، حين قُتل ستة يمنيين وهم على طريق صحراوي شرق العاصمة صنعاء، وكان بينهم علي قائد الحارثي ومحمد حمدي الأهدل، اللذين اشتبهت واشنطن بأنهما كانا يشغلان مواقع قيادية في منظمة "القاعدة". ولقد تأكد، بعد ذلك، أنّ ما حدث كان في الواقع عملية اغتيال منظمة نفّذتها القوّات الأمريكية الخاصة عن طريق قصف السيارة بصاروخ من طائرة أمريكية بلا طيّار. وتردد أيضاً، وعلى نطاق واسع، أنّ السفير الأمريكي السابق كان قد زار منطقة الحادث قبل ثلاثة أيام، وتوفّر مَن اتهمه بالإعداد اللوجستيّ والإلكتروني الذي سمح بتوجيه الطائرة من الأرض.
ومن اللافت أنّ الرئيس اليمني كان في طليعة الحكام العرب الذين استشعروا الضغوطات الأمريكية على الأنظمة العربية في سياقات ما سُمّي ملفّ الإصلاح الديمقراطي، حتى أنّ تصريحه الشهير حول حلق الرأس ذاتياً بدا إشارة مبكرة على أنه ينوي الانحناء أمام العاصفة. ومن المنطقي، استطراداً، أن يكون إصراره على ولاية خامسة متكئاً على ضوء أخضر من نوع ما، أمريكي جوهرياً، يفيد أنّ واشنطن تنوي التسامح معه بسبب الأهمية التي تعلّقها على دور نظامه في ما تسمّيه "الحملة على الإرهاب".
وتعتقد الولايات المتحدة أنّ اليمن هي أهمّ المواقع التي يُحتمل أن تتحوّل إلى محطة تلجيء أسامة بن لادن ومنظمة "القاعدة" بعد أفغانستان والعراق، خصوصاً وأنّ البلد ملائم تماماً لهذا، من حيث الجوانب العملية (المناطق الوعرة في الجبال والوديان والصحاري، هيمنة القبائل في مناطق لا تخضع للسلطة المركزية إلا بالإسم، وجود أحزاب إسلامية ومجموعات أصولية متشددة، الخ...)، فضلاً عن كونها بلد بن لادن الأصلي ومسقط رأس أبيه. ولعلّ واشنطن تتعامل بجدّية، كذلك، مع احتمال أن يتحالف بن لادن مع المجموعات القبائلية التي قادت سنة 2004 تمرداً شاملاً في محافظة صعدة، حيث اعتبر زعيم التمرّد حسن بدر الدين الحوثي أنّ سلطة صالح خارجة عن الإسلام بسبب دورها في الحرب على الإرهاب تحديداً (وهذا ما يلمّح إليه الرئيس اليمني في إشارته إلى الدفاع عن الجمهورية).
المفارقة أنّ كلّ هذا الإنخراط الرسمي اليمني في الحملة الأمريكية لا يحول دون اختراقات أمنية دراماتيكية تحققها القوى الإسلامية الأصولية، كما حدث مطلع شباط (فبراير) الماضي حين تمكن 23 من عناصر "القاعدة" من الفرار من سجن تابع للمخابرات اليمنية في صنعاء، عن طريق حفر نفق تحت الأرض بطول 44 متراً. ولقد أصدرت محكمة عسكرية احكاماً بالسجن على 12 ضابط أمن، بسبب إهمالهم في هذا الحادث، كما طردتهم نهائياً من وظائفهم في الجهاز. وبصرف النظر عن المآل الختاميّ لهذه الواقعة المثيرة، فإنّ حدوثها على هذا النحو يجعلها تحمل من المغزى الأمني والسياسي أكثر بكثير مما يكتنف مغامرة هروب من سجن حصين.
ومن المرجح أن تسفر انتخابات هذا الشهر عن فوز الرئيس الحالي بولاية خامسة، وذلك رغم تغييرين هامّين دخلا على شروط اللعبة الإنتخابية: الأول هو أنّ صالح يواجه هذه المرّة مرشحاً منافساً لا ينتمي إلى الحزب الحاكم ذاته (كما حدث في انتخابات 1999، حين كان العضو في حزب "المؤتمر الشعبي العام"، نجيب قحطان الشعبي، هو الوحيد الذي وافق البرلمان على قبول ترشيحه للرئاسة منافساً لصالح). التغيير الثاني أنّ لقاء الأحزاب المعارضة أجمع على مرشح واحد مشترك هو السياسي المخضرم والبرلماني السابق فيصل بن شملان، الذي يجمع في شخصه سلسلة خصال ذاتية وموضوعية: مهندس من حضرموت الجنوبية، عمل وزيراً منذ استقلال جنوب اليمن عن بريطانيا عام 1967، ومعروف بنزاهته وزهده في المنصب لأنه اشتُهر باستقالته كوزير للنفط سنة 1997، واستقالته من مجلس النوّاب لأنّ المجلس مدّد لنفسه سنتين وأطلق عبارته الشهيرة: "الشعب منحنا الثقة أربع سنوات لا ستة".
إلى هذا وذاك، يتردد أنّ الرجل انتمى ذات يوم إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، وشعبيته في صفوف الإسلاميين لن تتاثر بمواقف الشيخ عبد الله الأحمر، زعيم "التجمع اليمني للإصلاح" ورئيس مجلس النوّاب، المؤيدة للرئيس صالح. كذلك فإنّ شعبيته في الجنوب لن تتأثر بالتحاق بعض الزعامات الجنوبية، من أمثال عبد الله الجفري ومحسن فريد، بصفّ الرئاسة. وثمة، إذاً، كلّ العناصر التي تجعل منه منافساً حقيقياً وقوياً في انتخابات الـ 20 من هذا الشهر.
هذا، بالطبع، شرط أن لا تسير الإنتخابات على شاكلة خيام السلطة ومياهها المعدنية في ساحة السبعين!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: الرئيس يجري تعديلا وزاريا مفاجئا ويقيل وزيري الداخلية


.. ما إجمالي حجم خسائر إسرائيل منذ بداية الحرب على قطاع غزة؟




.. بعد فشله بتحرير المحتجزين.. هل يصر نتيناهو على استمرار الحرب


.. وائل الدحدوح من منتدى الجزيرة: إسرائيل ليست واحة للديمقراطية




.. وول ستريت جورنال: أسبوع مليء بالضربات تلقتها مكانة إسرائيل ا