الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معضلة فلاديمير بوتين الفكرية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 5 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


حرب روسيا في أوكرانيا تعويض لضعف بنيوي داخلي

بول بيرمان، مؤلف كتاب "السلطة والمثاليون"، من بين كتب أخرى.

قد يظن البعض أن فلاديمير بوتين قد فقد عقله، لكن في الحقيقة كل ما في الأمر هو أن الرجل ربما قد نظر للأحداث من منظور روسي تاريخي عتيق وتصرف وفقاً لما رآه. فغزو الجيران عبر التاريخ لم يكن بالشيء الجديد بالنسبة لزعيم روسي. بل شيء مألوف. بديهة تاريخية. عادة قديمة. لكن حين يحاول بوتين انتقاء الكلمات المناسبة لتبرير وتأصيل هذه العادة القديمة وجعلها مستساغة لنفسه أو لمعاصريه حول العالم، يصطدم بتناقض وخواء الحجة والمنطق.

سنجده يتشبث بذرائع سياسية مجتزءة من أزمنة سحيقة، تتهاوى الواحدة تلو الأخرى من بين يديه. فهو لا يتوقف عن إلقاء الخطابات، ليكتشف أنها مجرد كلام فارع، أو أشبه بذلك. وهذه الانتكاسة الخطابية قد تكون هي الانتكاسة الإنشائية، قبل وقت طويل من الانتكاسات العسكرية التي ألمت بجيشه. هي أزمة خطابية لا تعبر عن إخفاق نفسي، بقدر ما تعكس إخفاقًا فلسفيًا. لغة التحليل المناسبة تراوغه، ومن ثم يراوغه الوضوح.

المشكلة تكمن في أنه يحاول حل معضلة روسية أزلية، تلك المتمثلة في "اللغز الفعلي المغلف بالغموض، داخل أحجية" خص بها وينستون تشرشل روسيا (ولم يفلح أبدًا في حلها، رغم اعتقاده أن "المصلحة الوطنية" تعطي مفتاحًا). هي معضلة تتعلق بما يجب فعله حيال عدم الاتزان المشين والخطير جدًا في الحياة الروسية.

من جهة، يعزى عدم الاتزان هذا إلى عظمة الحضارة الروسية وجلالة أراضيها المترامية، ليشكلا معًا نقطي قوة هائلتين. ومن الجهة الأخرى، هناك العجز الغريب والمستمر في بناء دولة متجددة وموثوقة، وهو ما يشكل نقطة ضعف هائلة. وقد حاول الزعماء الروس عبر القرون معالجة عدم الاتزان هذا عبر إقامة أعتى الأنظمة الديكتاتورية، أملاً في أن تعوض الوحشية عن غياب الحيوية والقدرة التجديدية. ثم جمّلوا هذه الوحشية بسياسة خارجية غير عادية لا تشبه السياسة الخارجية لأي بلد آخر، لكنها كانت تلبي الغرض.

هذه الوحشية والسياسة الخارجية غير العادية قد ساعدتا الدولة الروسية في مواصلة البقاء خلال القرن التاسع عشر وحالتا دون انهيارها، ما اعتبر إنجازاً بحد ذاته. لكن في القرن العشرين، الدولة انهارت مرتين. المرة الأولى، في 1917، أدت إلى وقوع السلطة في حجر المتطرفين وحفنة من المجانين وبعض من أسوأ الكوارث في التاريخ العالمي. بيد أن كل من نيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف قد نجحا في العودة بالدولة إلى وضع مستقر.

ثم انهارت الدولة الروسية مجددًا. ولم يكن هذا الانهيار الثاني، في حقبة ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين، بذات الدرجة من الكارثية مثل سابقه. لكن الإمبراطورية اختفت، واشتعلت الحروب بمحاذاة حدود روسيا الجنوبية، وتفسخ الاقتصاد، وتراجع متوسط الأعمار. هذه المرة كان بوتين هو من قاد التعافي. وقد طبقه في الشيشان بدرجة من البلطجة تؤهله وحده، بجانب المتورطين في الحرب الحالية، لاتهامه بما يشبه الإبادة الجماعية.

رغم ذلك لم يكن بوتين أكثر قدرة من خروتشوف وبريجنيف في بلوغ الغاية المنشودة، المتمثلة في خلق دولة روسية على قدر كاف من القوة والحيوية لتفادي أي انهيارات أخرى. هذا هو ما يقلقه، في الحقيقة يرعبه. وقلقه هذا يجعله يتشبث باستماتة بنفس النظرة الإنشائية للمشكلة التي خلص إليها سابقوه الواحد تلو الآخر عبر التاريخ الروسي.

هذه النظرة تربو إلى ما يشبه داء بارانويا المناخ. هي الخوف من أن المبادئ الساخنة للفلسفة الليبرالية والممارسات الجمهورية الآتية من الغرب، إذا ما هبت باتجاه الشرق، سوف تصطدم بالغيوم الجليدية للشتاء الروسي، وستطلق عواصف رعدية عنيفة، ولن ينجو شيء. هي، باختصار، القناعة باعتبار الأخطار على الدولة الروسية ذات مصدر خارجي وأيديولوجي، بدلاً من كونها داخلية وبنيوية. جاء أول اصطدام من هذا النوع، الاصطدام الإنشائي، في شكل أولي للغاية ولم يكن معبرًا عن الاصطدامات التالية. لكنه كان جارفًا. كان غزو نابليون لروسيا في 1812، الذي حمل بذور الثورة الفرنسية من سلالة محرفة وديكتاتورية ليغرسها في تربة الرجعية القيصرية المتجمدة. فالصدام بين الثورة الفرنسية والقياصرة أتى بالجيش الفرنسي لقلب موسكو، والجيش القيصري إلى باريس.

لكن الاصطدامات المعبرة، تلك التي وقعت مرارًا وتكرارًا عبر القرون، كانت دائمًا فلسفية، مع اقتصار الجوانب العسكرية على الرد الروسي. إذ بعد عقد من دخول الجيش القيصري باريس، وتحت تأثير الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، سكرت دائرة من الأرستقراطيين الروس من خمرة الأفكار الليبرالية، لتراودهم الأحلام بروسيا جديدة وليبرالية. ورغم القبض عليهم ونفيهم وسحق مشروعهم، ظل القيصر، الذي كان في ذلك الوقت نيكولاس الأول، غير مطمئن إلى انتصاره عليهم. وجاء رد فعله في تبني سياسية من شأنها أن تحمي للأبد الدولة الروسية ضد كل خطر تخريبي.

هبت ثورة فرنسية جديدة في عام 1830 وحركت أوتارًا متعاطفة وليبرالية هنا وهناك عبر أوروبا، وبالأخص في بولندا. كان نيكولاس الأول يعرف أن انتشار الليبرالية على حدود بلاده كفيل بإحياء مؤامرات الأرستقراطيين المسجونين والمنفيين. لذا جاء رده عبر اجتياح بولندا، وبدرجة كبيرة ابتلع الدولة البولندية في بطن الإمبراطورية القيصرية.

ثم تفجرت ثورة أخرى لا يزال في فرنسا عام 1848، أفضت إلى تظاهرات ليبرالية وجمهورية في أنحاء أكثر من ذي قبل عبر أوروبا- ثورة عمت القارة الأوروبية كلها تقريبًا، في إشارة تحذيرية على أن ثمة حضارة جديدة تكافح للبزوغ في أوروبا، لا هي ملكية ولا إقطاعية بعد، ولا هي مطيعة لإملاءات سلطة كنائسها المحلية بعد، حضارة جديدة قوامها حقوق الإنسان والتفكير العقلاني. وكانت هذه الحضارة الجديدة هي بالضبط ما يخشاه نيكولاس الأول.
....يتبع
____________________________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي: https://foreignpolicy.com/2022/03/13/putin-russia-war-ukraine-rhetoric-history/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس مجلس النواب الأمريكي يهدد بإسقاط التا?شيرة الا?مريكية ع


.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور




.. الدفاع المدني اللبناني: استشهاد 4 وإصابة 2 في غارة إسرائيلية


.. عائلات المحتجزين في الشوارع تمنع الوزراء من الوصول إلى اجتما




.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم