الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجموعة الشاعر قاسم حداد -البشارة-: تستعاد بثوب يغنّي للأمل

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2022 / 5 / 31
الادب والفن


باستثناء الشاعر الفرنسي رامبو، الذي قطع صلته بشعره يافعاً، وذهب إلى الشرق بحثاً عن الذهب في الوقت الذي يتحوّل فيه شعره إلى ذهب في الغرب؛ يختلف الشعراء في مواقفهم من أعمالهم الأولى، بحسب نجاح تلك الأعمال، وحسب تطوّر تجاربهم الشعرية بدءاً منها، فيحذفون ما يجدون أنه لا يمثّلهم، وأنه ظَهرَ في اللحظات التي يعرفها الشعراء بخداع الشعر للشاعر، حيث تتوارى القصيدة الحقيقية مختبئةً إذا استعجل الشاعر ظهورها، خلفَ أخرى تُظهرها له، وينشرها فرحاً بها تحت تأثير خداع الجمهور بها كذلك، لكنه يحذفها إن تمتّع بصرامة وقسوة محمود درويش مع شعره، عندما يكتشف خداعها له وللجمهور الذي يكرس لعبة الخداع، في الوقت الذي تكرّس فيه قصائدُ ومجموعاتٌ نفسها بنجاحها كعلاماتٍ عن مراحل تمرّ في حياة الشاعر والعصر الذي تظهر فيه، مثل مجموعة الشاعر البحريني قاسم حداد: "البشارة" التي ظهرت عام 1970، زمن تألّق قصيدة التفعيلة، في حركة الشعر العربي الحديث، ولجأ الشاعر والمحتفون به إلى إعادة طباعتها في الذكرى الخمسين لظهورها، مع إضافة لمسة بالغة الأهمية عليها، بوحيٍ من وجود جذورها، وإن اختلف الزمن وتطورت تجربة الشاعر إلى اختلاف عنها، هي طباعتُها بخطّ يده، مع رموزٍ من التراث البحريني، حيث يَعرفُ المهتمون بالفنون والقراء قيمة ما تمثّله المواد الطبيعية النبيلة في الفن والحياة مثل الرخام والخشب والبرونز، والحبر هنا الذي يكمل مسير الدم في اليد إلى الورق ليمنحه نبضاً حياً، يمتّن جسر التواصل بين القصيدة والقارئ من دون وساطة الآلات.
"بشارة" الشاعر قاسم حداد، بالتعريف الضروري للقراء، حيث تغيب في العادة تفاصيل الأزمنة الماضية، هي الديوان الشعريّ الأول له، والذي جاء، وفق وصف الشاعر "تعبيراً عن روح اللحظة الأدبية والفكرية والسياسية والاجتماعية ولحظة النضال الوطني". وقد استوحى الشاعر عنوانه من الروح الشعبية في التراث البحريني، إذ كانت العائلة البحرينية، حين ينجو أحد أفرادها من مرض أو يعودُ من سفر أو يخرج من السجن، وبالأخص السياسي، تَرفع على سطح بيتها ثوباً نسائياً بهيج الألوان، يسمّى بِـ "ثوب النَشِل"، كرايةٍ تُعلم وتبشّر الناس بهذا الحدث. وقد أخذ هذا الديوان اسمه من قصيدة البشارة التي يتحدث فيها الشاعر عن ثوب أمه المرفوع رايةً تتجاوز بشارة الحدث إلى بثّ الأمل بانتصار الثورات. وهو ما يشي بأحد ميزات حداد منذ هذه البداية، في التقاط اللحظة وإبراز أبعادها غير المرئية، مضافاً إلى ذلك بثّه روح البشارة/ الأمل، وتحقيق النصر وفرض العدالة، وتعميم الرخاء، في جميع قصائد المجموعة وسط أسى الحب المستحيل، والحب المعرقل بالفقر، وأشكال الحب الأخرى، ووسط قهر القاهرين من تجّار وأمراء وملوك وسلاطين، مع الجوع والقهر والتشريد والسجون التي ترافق وجودهم: "يا ثوبَ والدتي المرفرف في السّحاب/ مزّقْ ستار الصمت واكتسح الضباب/ دوّي بصوتك واخبر الساهين أن "البوم" عاد/ واكسر جليد صقيعنا ولك البشارة./ يا ثوبَ والدتي، ولن تطفى الشموع/ فالصخرة السوداء قد لانت ولان أسى الضلوع./ وراح الحب في الإنسان يضحك في ثنايانا/ فخاف خريف دنيانا/ وظلّت شمعة الإنسان ترعانا/ أتى سيزيف ينشر ثوب والدتي/ ويكمل لحن مغنانا.".
كما يضاف إلى ذلك انطلاقاً من روح تعميمه تلك، وجود جذور وصول تجربة حداد إلى ما أصبح من مميزات شعره: الوحدة الرابطة للمجموعة وفق محور جوهري له علاقة متينة بأصول الجمال مثل الموسيقى على سبيل المثال، ومستوياتٍ تنبني على هذا المحور لتشكّل المجموعةُ بنيةً متماسكةً يضيف لها أبواب الانفتاح مثلما فعل في مجموعة "تعديل في موسيقى الحجرة".
"البشارة" كمجموعة مستعادة، وفق زمنها، تعكس بمواضيعها وتجسّد مع مثيلاتها من أعمال ذلك الزمن مرحلة نهوضٍ على المستوى الوطني، ونهوضٍ للاحتجاجات وثورات التحرير، وما تجسّدَ في الستينات بما سمي "الكفاح الأممي"، الذي يلمسه القارئ بقوة في المجموعة، وبالأخص في قصيدة حداد الأخيرة: "من أبجدية القرن العشرين العربي"، وحرف الغين فيها المخصص لصوت غيفارا: "صوت غيفارا كصوت المستحيل/ يقطع الأبعاد من كوبا/ إلى غابات بوليفيا/ إلى أرض الخليل/ صوته يأتي ليجتاح الموات/ ويخُضّ الحجر المرصوص/ في جرح الحياة.".
كما تعكس على الصعيد الفني شعر تلك المرحلة المميز بسيادة قصيدة التفعيلة واحتلالها عرش الشعر، بميزاتها المتشابهة لدى معظم شعراء تلك المرحلة، من استخدام الرمز ببعده المباشر الواحد والواضح وارتفاع إيقاع التفعيلة، واستخدام مفردات ولغة ما يميز الكفاح والنهوض والثورات، ومن أبرز ذلك استخدام الوردة الحمراء التي يكرّرها حداد أكثر من مرة مع الكتف اليسار، حيث انتمى معظم هؤلاء الشعراء ومنهم حداد إلى حركات اليسار. وفي فرزٍ لفنية مجموعة البشارة ضمن هذا يرى القارئ بوضوح تفعيلة حداد التي كانت مع غيرها من تفعيلات واضحة النبرة في تركيبها لتفعيلات رواد الشعر الحديث وأبرزهم بدر شاكر السياب والاستمرار بها، لكن، إلى آفاق الأحادية في تركيب الجملة الشعرية، واستخدام الرموز التي كانت جديدة وتعكس روح عصرها في ذلك الزمن، بالأحادية غير المتداخلة التي ميّزتها، وجاءت قصيدة نثر ما بعد الحداثة التي ساهم حداد نفسه في تطويرها بعد ذلك، لتلقي بها في متحف الشعر. ويمكن للقارئ ملاحظة رموز حداد المتماثلة مع رموز تلك المرحلة بقوة، من مثل:
ــــ الشمس، التي "تجلس في كلامنا الطويل. وتغسل الجراح والأحزان والعويل.". وتلد أطفال الأمل.
ـــ النسر: الذي يبشّر بـ "موت الغروب" وولادة الفجر الذي "يخلق في شواطئنا الحياة. بعد السنين الباليات.".
ـــ التراب: الذي يمّثل الأرض، الوطن: "نسر كبير. يقول ألّا تتركوا حب التراب. ويقول إن حقيقة الإنسان تحيا في التراب."
ـــ الأم: الراعية، وثوب البشارة والأمل.
ـــ سيزيف: الذي "يحمل صخرة الإنسان": "مثلك سوف نذهب للنهار".
ـــ شهرزاد، التي ترمز للخيال في سرد الحكاية، وبنلوب التي ترمز لعبث انتظار فارس الحلم.
ـــ الطوفان: خلّاق البشر الذي يتوقون إليه، مع تعيينه بطوفان نوح: "حطّم جدار الموت يا طوفان نوح. واغسل تراب الأرض واكتسح الحدود. واكسر حديد السجن للقمر الحزين. واقلب جذور العالمين.".
ـــ الزهرة الحمراء واليسار.
ولا بد من الإشارة إلى رمز حداد الأعلى الذي ترتكز عليه معظم قصائد البشارة/ الإنسان، سواء برموزه الشريرة والخيرة، أو بصورته المباشرة التي ترتبط بحياة الناس وآلامهم وأحلامهم، ويأخذ فيها الأطفال محور الارتباط بالرموز، مثلما يفعل مع رمز الشمس بمخاطبة الطفل: "يا طفل الشمس الآتي من عين الشمس/ ابعث ساعدك الأسمر يحضن فجر الغد/ ارفع هامتك المزروعة بالورد/ والمس أوتار الأغنية/ ما عادت في الدنيا أوتارٌ تخشى اللمس."
ولا بد من الإشارة كذلك إلى انحياز حداد المباشر والرمزي للحبّ بتحققه وإخفاقاته وصراعات قتله، كما للمرأة المقهورة بقيم المجتمع الذكوري قاتلة الحب والنساء، والتي يكشفها منحازاً بمباشرة في قصيدته الأخيرة، بمقطع جيم، حول عالم الحريم الذي يئد فيه الآباء الذكوريون بناتهم بزواجات الخوف والمصالح.
ويلاحظ القارئ بسهولة ما يميّز الرمز وتركيب الجملة في شعر حداد الذي يعكس رموز وتركيب جملة تلك المرحلة. كما يمكنه ملاحظة بعض المفردات التي قد تثير استغرابه من شاعر حافل بالدفاع عن حرية وكرامة الإنسان، مثل مفردات الحقد والانتقام، التي لا تعني ذلك في الحقيقة عند معرفته لعصرٍ سادت فيه هذه المصطلحات، وكانت تعني الحقد الطبقي غير المتطابق مع حقد النفس، والذي ربطته الماركسية اللينينية بالكفاح من أجل الحرية واسترداد الحقوق من العدو الطبقي.
ولا يضير حداد بطبيعة الحال، طبيعة هذه القصيدة المتخطّاة منه هو نفسه، إذ كانت شاهداً فنياً عن عصر أثّرت في إنسانه، ودفعته للتفاعل مع المفاهيم الجديدة، وتخطّيها هي نفسها فنياً مع الحفاظ على روح انتمائها للإنسان، وكفاحها من أجل الحرية والتجديد، كما فعل شاعرها في أول حرف من قصيدته الأخيرة، ألف: "الأمر يختلف/ فالأبجدية التي نعيشها جديدة/ فنحن لا نكتب فوق الماء/ لكننا نخط بالدماء/ في مقاطع القصيدة/ فالشاعر الشجاع يعترف/ ويغمس الريشة في الجراح/ ويصرع الرياح/ ويركب العذاب عبر الرحلة البعيدة/ فالشاعر الجديد في زماننا الجديد يختلف/ والأمر يا رفاق يختلف/ الأمر يا رفاق يختلف.".
وكما في بنية معظم مجموعات الشعر التي سادت تلك المرحلة من توالي القصائد فيها بتنوّع شمولي، مع تميّز في رغبة التجديد كما في "البشارة"، يكوّن حداد مجموعته القديمة بثوب بشارتها الجديد، من مقدّمة لـ يعقوب المحرقي حول طباعة الذكرى تحت عنوان "شمعة الخمسين"، يشير فيها لشعر مرحلة المجموعة، يليها إهداءٌ متناغمٌ مع طبيعة البشارة: "إلى الأطفال/ بشارة الفجر الآتي"، يليها توالي ست عشرة قصيدة، الأربع عشرة الأولى منها، متوسطة الطول بإيقاع التفعيلة واختلافها بين القصائد، بينما تتفرد القصيدتان الأخيرتان بالطول والتقسيم إلى أجزاء، الأولى يأخذ تقسيمُها صيغة اثني عشر رقماً، والثانية يأخذ فيها صيغةَ خمسة عشر حرفاً، وتشي الاثنتان برغبة التجديد الذي سار به حداد في مجموعاته الإحدى عشر المميزة دائماً بالاختراق والتجديد، مع كتاباته العديدة التي تدور حول ذلك.

قاسم حداد: "البشارة"
دار سؤال للنشر: الطبعة الثالثة 2021، بيروت، لبنان
95 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??


.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??




.. فيلم -لا غزة تعيش بالأمل- رشيد مشهراوي مع منى الشاذلي


.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط




.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش