الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة48

محمود شقير

2022 / 5 / 31
الادب والفن


ها أنذا أقف حراً طليقاً خارج بوابة السجن، أعانق أفراد أسرتي الذين جاءوا منذ الصباح الباكر من يوم 27 / 5 / 1970، ينتظرون لحظة الإفراج عني. طوال الليلة التي سبقت هذه اللحظة، لم أنم من شدة الفرح، فبعد عشرة أشهر من الاعتقال الإداري، أخرج من السجن. حينما نظرت في المدى الواسع المكشوف من حولي، أدركت إلى أي حد هو بغيض هذا السجن.
غادرت سجن الدامون متجهاً إلى القدس (سوف أعود إليه بعد ست وعشرين سنة من مغادرتي إياه، إثر الدعوة التي وجهها إلي الدكتور نعيم عرايدي مدير مركز أدب الطفل العربي في حيفا، للمشاركة في ندوة حول أدب الأطفال، تعقد في منتجع بيت أورن على جبل الكرمل، ليس بعيداً عن سجن الدامون. أذهب صحبة الناقد أنطوان شلحت لزيارة السجن، سنتوقف في الساحة الترابية المحاذية لبوابة السجن، التي كان أهلنا ينتظرون فيها، ريثما تتاح لهم فرصة الدخول لزيارتنا، وهي الساحة نفسها التي ما زالت أسر مقدسية تتردد عليها لزيارة الأبناء الذين ما زالوا يقبعون في السجن. سنلقي نظرة على الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمبنى، ثم نقترب من بوابته المتجهمة، ولا نطلب من السجانين إذناً للدخول، لأننا نعرف أنهم لن يسمحوا لنا بذلك). وصلنا البيت بعد ثلاث ساعات من لحظة الانطلاق. كانت العودة إلى البيت تبعث في القلب مشاعر دافئة، وكان علي أن أعود إلى ممارسة حياتي اليومية في المدينة.
وصلتني بالبريد، بعد أيام قلائل، ورقة رسمية، يتعين علي بموجبها أن أذهب إلى مكتب المخابرات، القريب من سجن المسكوبية، لمقابلة أحد المسؤولين هناك. ذهبت للمقابلة. قال المسؤول دون مقدمات: إذا عدت إلى مواصلة النشاط السياسي، فسوف نعيدك إلى السجن.
غادرت مكتب المخابرات. اتجهت إلى مكتب فيليتسيا لانجر لأخبرها بما جرى معي.
(تعرفت إلى فيليتسيا لانجر حينما زارتني أول مرة بعد أسبوعين من اعتقالي في سجن المسكوبية. تقدمت بطلب إلى المحكمة للإفراج عني بكفالة. جاءني شرطي، فتح باب الزنزانة التي تقع في طرف ساحة سجن المسكوبية (وضعت فيه بعد عودتي من سجن صرفند)، اقتادني الشرطي إلى الباحة الخارجية للسجن. هناك كان أبي ينتظر، فلما رآني بادي الشحوب، انقلبت سحنته، غير أنه تماسك ولم يسمح لعينيه أن تدمعا، إلا حينما عاد إلى البيت، وراح يصف لأمي ولزوجتي ولأبناء عائلتي الحالة التي وجدني فيها. أما فيليتسيا، فقد أصبحت أكثر قدرة على ضبط انفعالاتها، لكثرة ما شاهدت من مآسٍ، منذ أن تطوعت للدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. سلمت علي وحثتني على الصمود في وجه الجلادين. كانت تتأمل وجهي الشاحب بين الحين والآخر، وكنت أشعر بامتنان نحوها).
غادرت مكتب فيليتسيا لانجر إلى البريد. أرسلت إلى زملائي في السجن بطاقات بريدية، تمنيت لهم فيها إفراجاً عاجلاً، ثم انهمكت في البحث عن عمل، بعد أن قرر الحاكم العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية، فصلي من عملي في التدريس منذ اللحظة الأولى لاعتقالي، فوجدت عملاً في المعهد العربي الذي تأسس العام 1970 باعتباره مدرسة ثانوية، تديرها هيئة عربية مرتبطة بوزارة التربية والتعليم الأردنية.
عملت في المعهد عاماً واحداً مدرساً للغة العربية والفلسفة، ثم فصلت من العمل على أيدي الهيئة نفسها التي عينتني فيه، وذلك اعتماداً على تقرير قدمه مدير المعهد، يشير فيه إلى أنني وزميلاً آخر هو عادل عيد، الذي كان خارجاً من السجن الإسرائيلي أيضاً، قمنا طوال العام الدراسي بتحريض طلبة المعهد على تنظيم التظاهرات والإضرابات، وتوزيع المنشورات التي تدعو إلى مقاومة الاحتلال، ما "يتسبب في تشويش الدراسة وانتظامها في المعهد"! غير أن الهيئة المسؤولة، شعوراً منها بالتعاطف معنا، قامت بتوظيفنا من جديد، أنا وعادل، مدرسين في مدرسة دار الأيتام الإسلامية في البلدة القديمة، فقبلنا قرارها والتزمنا بتنفيذه.
بعد ترحيل المقاومة الفلسطينية من الأردن العام 1971، ضعفت صلاتها المباشرة بالأرض المحتلة. ومن ثم، أخذت الأنشطة الثقافية والفنية تحاول ملء الفراغ الناشئ عن ذلك. واصلت الشاعرة فدوى طوقان إقامة الندوات الشعرية، استمعت إليها أول مرة في بيت لحم وهي تنشد قصائدها المكرسة لبطولات الفدائيين. ومرة أخرى، استمعت إليها في ندوة شعرية في القدس، ولم ألتق مع فدوى على نحو متصل إلا في المنفى، حينما كنت أتهيأ لكتابة مسلسل تلفزيوني عن أخيها الشاعر إبراهيم طوقان (ذات يوم دعوتها لتناول طعام الغداء في مطعم بعمان، وكانت معنا الكاتبة الأردنية سحر ملص. تحدثنا بألم عن حصار بيروت وما تبعه من خروج للمقاومة الفلسطينية من لبنان، وتحدثنا بإعجاب عن قصيدة محمود درويش الجديدة آنذاك: "مديح الظل العالي". كانت فدوى تتحدث بصوت خافت كما هي عادتها، وتضحك بخفوت. وبدت معجبة بسحر التي تلتقيها للمرة الأولى).
وكان للقدس نصيب من هذه الأنشطة الثقافية، وبرز المسرح باعتباره أبرز تجلياتها آنذاك. أخذت فرقة بلالين تقدم عروضها التي ابتدأتها بمسرحية "قطعة حياة"، ثم أردفتها بمسرحيتها الثانية "العتمة" التي لفتت إليها الأنظار. العرض الأول للمسرحية، تم تنظيمه على مسرح المدرسة العمرية الإعدادية في البلدة القديمة. اعتبرت المسرحية بسبب الإيحاءات الرمزية التي يثيرها في الأذهان اسمها نفسه، عملاً تحريضياً ضد الاحتلال الذي تجسد العتمة واحدة من تجلياته، فانشدَّ أزر الفرقة بسبب إقبال الناس على المسرحية، وراح مخرجها والممثلون المتطوعون في صفوفها يحرصون على تقديم المزيد من الأعمال المسرحية الملتزمة.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جمعية قدماء المعتقلين السياسيين ضمن الحوار المتمدن
سائس ابراهيم ( 2022 / 6 / 1 - 20:22 )
تحياتي الحارة ايها العزيز
ما رأيك أن نُكَوِّنَ ضمن الحوار المتمدن جمعية لقدماء المعتقلين السياسيين في أوطان القهر والعهر؟ ه
عفواٌ إنني أمازحك أيها الكاتب اللامع
عشت حراً وعاش قلمك
تحياتي مرة أخرى
ابراهيم

اخر الافلام

.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب


.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا




.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم