الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السرد المؤسطر بين الواقعي والمتخيّل

أسامة غانم
ناقد

(Osama Ghanim)

2022 / 6 / 1
الادب والفن



الموت يصنع التاريخ
والتاريخ يصنع الموت .
جون كيتس
تستمد رواية " زقاق الجُمجٌم "* للروائي بيات مرعي نسغها من جوهر الوقائع التاريخية – السياسية – السوسيولوجية ، وهي تعمل على تحويل المشاهد الواقعية الى مشاهد اسطورية ، عبر مزاوجتها في سياقات تخيلية موحدة ، وهكذا فإن الواقع المرسوم في السرد المتخيل ما هو الا عبارة عن سرد يستوحي المتخيل المرسوم في الواقع للشخصيات والأحداث ، فاللجوء الى المتخيل يكون من اجل خلق عوالم مغايرة ، أو اختراع عوالم بديلة تكون نقطة الشروع في مزاوجة الواقع بالمتخيل ، لأن هذا الواقع قد انهك الاشخاص ، كونه مؤلم جداً لاحتوائه على معاناة عميقة غير خاضعة لحدود ، لذا احياناً يجدوه معقداً ولا يعرفوا ماذا يفعلوا ، واحياناً اخرى يكون لا معقول بالنسبة لهم أو غير مفهوم بتاتا ، فالإنسان يقف " عاجزاً أمام أسئلة الوجود وأسئلة الواقع فيلجأ إلى المتخيل ليجد أجوبة لم تمنح له ، أي أن المتخيل لا ينبع عن اختراع أعلى بل عن سؤال لم يشبع العقل " 1 . عند ذلك يتقبل هذا الواقع االمأساوي، الشخصيات والأحداث والامكنة المؤسطرة ، لأنه في " عالم يتقبل العناصر المؤسطرة بصورة مبهمة لحياته اليومية "2 .
تمثل الاسطورة بالنسبة للكتّاب دعماً ابداعياً جمالياً ، اما في النقد فتعتبر الاسطورة مفتاحا ًتفسيرياً ، ولكن ماهي الاسطورة اليوم بالمفهوم الحديث ، يقول بارت " سأعطي مباشرةً جواباً بسيطاً يتفق تماما مع علم الاشتقاق : الأسطورة كلام.. أن الأسطورة عبارةً عن منظومة اتصال . إنها رسالة . إنها صيغة من صيغ الدلالة "3 . وهذا ما نعثر عليه بكثافة عالية في نص رواية " زقاق الجمجم " ، فأن اللغة فيه حاملة للدلالات ، يعني الكلام المشتق من اللغة كذلك ، وهو في الوقت ذاته منظومة اتصال ، مع كل الخطابات ، أذن من الممكن أن يصبح كل شيء أسطورة " لأن العالم معينً لا ينضب من الإيحاءات " 4 .وعلينا أن لا ننسى أن الأسطورة هنا في النص موظفة كأداة تفسيرية . وهذا ما جعل الروائي المعاصر أن يقوم بتوظيف العنصر الاسطوري في روايته ، كما في رواية " زقاق الجمجم " ، عندما قام الروائي بتوظيف العناصر اليومية الاعتيادية من خلال لغة الاسطورة الى عناصر اسطورية ، فاللغة قد تحولت من اعتيادية الى مؤسطرة .
إن رواية " زقاق الجمجم " مُتشْكلة من حكايات متعددة ، متناسلة من بعضها ، متداخلة متشابكة في بعضها ، ليس ذلك فحسب ، بل حتى الأزمنة فيها متداخلة بقوة ، بحيث تتيه على القارىء غير المْركزْ في السرد عن أي زمن يتكلم النص ، ولو لم يضع الروائي بعض التواريخ في متن النص أو كتابته لبعض الاشارات العابرة لأصبح الزمان في النص مفقود بالنسبة للقارئ ، بل ومبهم وغامض .
تبدأ الرواية بإهداء محمل بسخرية مبطنة ، ولا معقوليته ، مع الاشارة الى نساء زقاق الجمجم الخمسة والحبيبة غير المعروفة : " إلى ضحايا الحرب العالميّة السّابعة نساء الجمجم وحبيبتي " ص7 ، وقد يتسأل المتلقي افتراضيا: لماذا حشر المؤلف في الاهداء مع نساء الزقاق ،الحبيبة (غموض)؟ وماهي الغاية المقصودة بالحرب العالمية السابعة (عدم الحدوث)؟ هنا من حق المتلقي أن يلجأ الى التأويل ، لأن التأويل متعدد الأوجه بالنسبة للنص وبالنسبة للمتلقي ، فالنص هو فضاء مستقل للمعنى " لأن حدث النصّ ليس حدثاً من إنشاء المؤلف ، وليس معنىّ لمعنى المؤلف . وكلَ من الحدث والمعنى في متناول التأويل أو التفسير "5 ، وبما أن المتلقي يؤسس المعنى ، فاذا المعنى يتأسس في قراءة النصّ .
وعند الحفر في عنوان الرواية تتوضح لنا دلالة المعنى ، جمجم السرّ في صدره: أخفاه . جَمْجَمَ عدّوه : أهلكّه . جمجَمَ كلامه :لم يبينه . الجمجُم : المداس ، ومن خلال التمعن في معاني المفردات ، يرى المتلقي أن انسب واقرب مفردة للعنوان هي " الاخفاء " ليكون : زقاق الاخفاء/الموت ، بالرغم من أن العنوان فيه من المجاز الايحائي الكثير متماشياً مع النصّ والذي يتوافق معه تماماً : زقاق الأرامل – زقاق الموت . بحيث اصبح زقاق الجمجم (جغرافيا و ورمزاً) من شخصيات الرواية الرئيسة بالإضافة الى الشخصيات الأخرى : الأرامل الاربع . أن رواية " زقاق الجمجم " كمكان يحمل من الرموز والدلالات الكثير ، كما أنه يكشف لنا عن قوة وارادة الإنسان رغم مأساوية الظروف وقساوتها ، ليظهر لنا قدرته على عدم الاستسلام واليأس امام الصعاب ، كما يبين زقاق الجمجم / المكان بواطن الإنسان الداخلية بكل ما يختلج فيها من صراع على المستوى : السايكولوجي – والايدولوجي – والسوسيولوجي ، وبين كل شخصية وقرينتها من شخصيات الرواية ، بل وبين شخصيات الرواية جميعها ، فيكشف المكان لنا الغطاء عن مأساة هذه الشخصيات في صراعها مع نفسها ومع العالم المحيط بها ، أن الذي يدفع بيات مرعي لـ هكذا عمل روائي هو أن الشخصية الرئيسة في الرواية ليس الارامل الاربع فقط ، بل كذلك الزقاق نفسه ، لأن اشتغاله على المكان كان بمثابة اشتغال على شخصية حية ، وباعتقادي أن زقاق الجمجم هو يرمز لمكان أخر اوسع الذي هو " العراق " والذي ابتلى بالحروب وبالاحتلال الامريكي ، وما زقاق الجمجم الا نتيجة حتمية لتلك الحروب وللاحتلال الامريكي . حيث اصبح المكان نفسه هنا تعاقباً متخيّلاً لا يشبه حضوره في الجغرافيا اذا كان موجوداً فعلاً .
تبدأ الرواية بعنوان " ما بعد 1980م " وهو العنوان الذي سيكون الوحيد للأخير، وهو الذي سيضعنا في مواجهة الحرب العراقية – الايرانية : " السّاعة الواحدة بعد منتصف الليل ، كانت سيارة الـ ( O.M ) روسيّة الصّنع – هكذا أسماها الأصدقاء – قد جاءت بنا من مدينة الديوانية في وسط البلاد الى مدينة البصرة في اقصى جنوب العراق ، هكذا هي الحياة " ص9 ، هكذا هي حياة الحروب المؤدية الى الموت المجاني المتعدد الانواع ، ولكن صوت من نسمع ؟ اهو صوت المؤلف أم صوت الراوي/ البطل ؟ لا يمكن أن يصبح المؤلف – الإنسان خارج الصورة ،خارج النص ، فهو يظهر في الجانب الشكلي من الصورة ، وهذا يجعله بكل سهولة يتطابق مع الراوي/ البطل ، عندئذ تكون صورة المؤلف ممزوجة بصورة الإنسان الحقيقي في الواقع ، لأنه حاصل تطابق وعي المؤلف مع وعي الراوي / البطل وعالمه " يحاول المؤلف أن يبرز كل تفصيل من تفاصيل البطل بهذا المعنى ، كل خاصية له ، كل حدث من حياته ، كل تصرفاته : افكاره وأحاسيسه ، وكأننا نتعامل في الحياة من الناحية القيمية مع كل انعكاس يصدر عن الناس المحيطين "6 ، وليس ذلك فحسب بل " يتوجب علينا أن نعطي تعريفاً أكثر عمومية للمؤلف والبطل كجوانب مترابطة نسبياً من الكل الفني للعمل ، ومن ثم إعطاء قانون عام لعلاقتهما المتبادلة ، ويخضع هذا للتباين والعمق "7 .
ومنذ السطور الاولى ، وكما بْيّن لنا الراوي وصولهم للمدينة في الليل / الظلام ، أي يريد أن يقول للقارىء أو يحسسه بأن الحرب ماهي الا ظلام ، انها جحيم دانتي ، وبأن فيها الاف الحكايا عن جثث اناس نزعت هوياتهم بفعل الموت واندرجوا تحت مسمى مجهول الهوية " ففي مدينةٍ كالتي اقتادونا اليها وغرسونا فيها كما تُغرَس الأشجار في الأرض ألفُ حكاية وحكاية عن جثث لا هويّة لها ، تركَتْها عجلة الحرب خلفها " ص12 .
ثم نتعرف على الراوي وعلاقته بزقاق الجمجم ، حينما يعود بنا بذكرته للطفولة مع مسح شامل للزقاق ومن هم ساكنيه مع اوصافهم :
" إحدى أسعد ذكرياتي حين كنا نجلس تحت شجرة فحل التوت الكبيرة وسط حوش بيتنا العتيق وثرثرات نساء زقاق الجمجم الملاصق لبيتنا تخترق خلوتنا "ص26 .
" زقاق ضيق مبلط بالحجارة ، تنبعث منه روائح كأن أحداً يحرق دهن العود وعرف الصّندل لتهبّ رائحة على جناح طائر تجعل الروح تنتشي ، ربّما كان ذلك لكثرة ما تتعطر نساء الزقاق بشتّى أنواع العطور " ص 22 .
" فجدار منزلنا الجنوبيّ يطلّ على الزّقاق بنافذته الواسعة التي طالما كنت اجلس في حوضها منذ الفجر، وأراقب الأحداث نزولاً عند رغبة أمّي " ص 22
" ( زقاق الجمجم ) الذي لا يُعَرف عنه اليوم سوى أنّ أربعةً من مساكنه الخمسة تقطنها أربع أرامل جمعتهن الصّدفة ، في كلّ بيتٍ أرملة ، شاء القدر أن يُسكنَ أربعة نساء أرامل ومعهنّ فتحيّة بنت المدير التي تتمتّع بالعيش مع زوجها الحاج يونس " 37 .
" فهن نساءُ تجاوزت أعمارهنَ الخمسين واثقلت اجسادهن الترهلات واكتسحت التجاعيد وجوههنّ وكأنهن جئن ضيفات من كوكب احرقته البراكين " ص 39 .
" النساء اللواتي نشفت أروحهنّ ويبَست ارحامهنّ " ص 40 .
الأرامل الاربع ، هن نتيجة تحصيل حاصل للحروب العبثية التي حدثت في العراق : الحرب العراقية – الايرانية ، الضربة الدولية عام 1991 للقطعات العسكرية العراقية عند انسحابها من الكويت المسماة " عاصفة الصحراء " ، الاحتلال الامريكي – البريطاني عام 2003 ، فهن لم يخضنّ الحرب ولكنهن تحملن نتائجها الكارثية ، روحاً وجسداً ، تحملن المعاناة والوجع والألم والحزن المشبوب بالحاجة في انصاف الليالي لجسد يدفيّ الجسد ،فإن الجسد ليس مكتملاً ذاتياً ، لأنه لا يستطيع تلبية حاجاته الذاتية ، لذا يحتاج إلى الآخر والى نشاطه وفعله، والذي يؤدي الى ممارسة الجنس ليصبحا جسدا واحدا ، وهذا ما نشاهده يحصل في اجساد الأرامل الاربع من التهاب الرغبة في اجسادهن عندما لا تلبى الحاجة من الآخر الغائب ، انهن محكومات بـ كابوس ابدي من قبل الحروب والطبيعة ، فهن أرامل / الحياة – بلا اولاد/ الزينة – بلا مال / السعادة :
" في داخل كلّ منهنّ شيء يشبه البركان ، تحرقهنّ حممه في وحدتهن ، كل واحدة تتمنّى أن تقفز المعجزات كي تخفف عنها هذه اللّوعة وهذا الشّوق المحرِق ، لكنهن يعرفن أن رداً بارداً سيصدر من حولهنّ ويجمد تلك الحمم ، فمن المستحيل أن تتحقّق تلك الأحلام " ص49 .
فعند الحاجة نوفة يكون قطها الاسود هو زورق نجاتها عند لحظة الشبق في الليالي الحالكة عوضاً عن زوجها عبد الرحمن الفحام ، الذي غادرها يوم الاثنين من عام 1985م للالتحاق بالجبهة ، ولم يعد لها نهائيا ، ثم قطها الأسود يخرج ولم يعد :
" لقد غاب دون سابق انذار ليضيّعني في منتصف الطريق ، رحل واودعني في ثلاجة الموتى وبين بقايا حطام ، بقيتُ جسداً تلسعه لفحات الوحدة المُرّة ، جسداً حذِراً مترقباً مكفَناً بالصمت "ص51 .
" وقد اعتادت أن لا تنام إلا بعد ان يضرب ذلك الأسود بذيله الأملس ساقيها المنتفختين فتخرس روحها وهي تنظر الى عينيه المشعتين ، ويكاد مواؤه يكون همساً يثير فيها كلَ غرائزها المدفونة ، فتنام بعد أن يفيض تعرُقها " ص 46 .
إما ما كان يثير الأرملة الثانية مديحة الخياطة ، وفي ذات اللحظة يثير حنقها ، وتدخل في حالة نفسية ذات بعدين متعاكسين ، أثارة / اشمئزاز ، عندما تقوم بتحميم اخيها عبود الذي جن أثر اصابته بشظية طائشة والذي يعثر على جثته منتفخة خارج المدينة ، واما زوجها سعيد بن مجيد الحلاق فقد قتل في حرب عاصفة الصحراء عام 1991م اثر سقوط صاروخ :
" ظل سريرها ساعاتٍ يُصدر صوت زقزقاته وهي تحاول أن تهرب من فكرة تطاردها ، وقد اعتادت أن تراودها عن نفسها وهي في قمّة أزمة حرمانها الجنسي كلما دخلت مع عبّود لتساعده في الاستحمام ، الرجُل الذي تحضر فيه كلّ معالم الرجولة إلا العقل " ص88 .
إما الأرملة الثالثة صبيحة بنت العربنجي ، والتي قتل زوجها صالح وهو ابن عمها بـ قذيفة هاون ، التي تبقى تعدّ الساعات في ليلها ، الا بعد .. :
" كانت تحاول ان تمسك لجام حصان أبيها الذي رحل منذ زمن بعيد ،ولجام صبرها وانتظارها في وحدتها ، فحصان روحها لا يثبط عزيمته الفارسُ الطّائش الوحيد الذي يحضر في حلمها كل ليلة بسبب نذير أمرٍ لا مفرّ منه ، يتسلل عنيداً وغامضاً الى مضمار جسدها ليبلل وحدتها ، فتهرب منكسرة لتٌمضي نصف الليل في صناعة سروج الخيل ، تلك المهنة التي ورثتها عن أبيها ، فهي مصدر عيشها " ص 89 .
إما الأرملة الرابعة مهدية ام عيون ، ذات الجمال الفاتن والأنوثة الطاغية ، زوجة حسن الحجار الذي فُقْد في الحرب ، مجهول المصير ، تموت هي وزوجها الثاني ابراهيم الحمال ، بعد أن تحملت الاهوال :
" تُمضي وقتا طويلاً أمام المرآة في غرفة نومها وهي تستعرض قامتها بثوبها الشفاف ، وفي احيان كثيرة تمنح جسدها حرّيّته المطلقة ، فتتعرى كطفل وليد بعد أن تُسدل ستائر نافذة غرفتها ، ثم تطرح جسدها على فراشها مَرّةً وتتقلّب كسمكة ابتلعت الزّهر ، أو تقف أمام المرآة مرة أخرى ، تريد أن تطفي تلك الغريزة الثائرة بين ضلوعها " ص 90 .
كما شاهدنا أن السمة الجوهرية في رواية "زقاق الجمجم " هي سيطرة الموت على كافة محاورها " للموت وجوه متعددة منها : مجازي – رمزي – ايحائي – طبيعي )، وفي خضم هذا الموت العبثي الذي تنتجه الحروب أو الموت بالصدفة أو الذي تنتجه الطبيعة كنتيجة حتمية للإنسان ، يبقى الموت لغزاً يستعصي فك شفراته وابعاده : الفلسفية – السوسيولوجية – والميتافيزيقية ، لذا استثمر الروائي في السرد هذه الابعاد الثلاثية جمالياً لكتابة روايته التي تحتوي على الكثير من الدلالات والانزيحات ، للوصول الى غاية معينة تدفع بدهشة الموت نحو ارتداء عباءة الجمالية .
كما نعرف أن الرواية عموما هي إعادة تشكيل العالم باللغة ، أما هنا هي إعادة تشكيل العالم الروائي بالموت ، من خلال توظيف لعبة الموت ، وبما أن الحياة هي نقيض الموت ، فالرواية إذا هي تشكيل للحياة ، رغم حضور الموت في هذا التشكيل ، أي أن ثنائية الحياة / الموت يكونا متقابلين فيها ، كوجهي العملة المعدنية ، " إنّ اللعب يكون قادراً على تخلل كل أبعاد حياتنا الاجتماعية عبر كل الطبقات ، والأجناس ، والحظوظ المتباينة من الثقافة ،لأنّ الأشكال من اللعب هي أشكال من حريتنا "8 ، وكما يوجد لعبة للموت هنالك لعبة للحياة ، وخير من يمثل ذلك ملحمة جلجامش وانكيدو، عندما اراد جلجامش الخلود وبحثه عن عشبة الخلود ، ولكن حالما حصل عليها فقدها ، و رأى موت صديقه وخله انكيدو أمامه ، عندئذ عرف الحقيقة ، رغم أنه من الخمسة الملوك – الالهة في مملكة اوروك .
جميع شخصيات الرواية الرئيسة يموتوا أو يصابوا بمرض لا شفاء منه مثل فتحية زوجة الحاجّ يونس ، أما الأرامل الاربع رحلوا الى العالم الأخر باستثناء "مديحة الخياطة " التي غادرت العراق الى تركيا مصابة بمرض الارتعاش العصبي .
من حكايات زقاق الجمجم المهمة والتي تحمل في طياتها رمزية – تأويلية هي حكاية البحث عن كنز مخبّأ تحت أحد الجدران العتيقة ،ولا أحد يعرف تفاصيل الحكاية التي " تسربت من مصدر مجهول ، مفادها أن تحت أحد البيوت الخمسة ، أو في زاوية من زواياه يوجد كنز عظيم للخديوي العثماني .. إلا أنّ الحاجّ يونس لم يُبدِ أي اهتمام بهذه الشائعات ، وهو الرّجل الوحيد في زقاق الجمجم ، وربما كان بيته معنياً بهذا الأمر " ص37 ، اشاعة لا وجود لها من الصحة ، إلا عندما ظهر رجل قصير عراقي يبحث عن الأخوين التوأم حميد ومجيد ثخينة ، وعندما التقى بـ حميد ثخينة بدأ يسأله أسئلة حول زقاق الجمجم وانه سوف يمنحه ضعف أجره اليومي عشرة اضعافه ، هنا بدأ " يتسأل حميد : من هذا الرّجل ؟ وماذا وراءه ؟ ولماذا يسأل عن زقاق الجمجم ؟ " 71 ، وفي صباح اليوم الثاني كان الرجل العراقي القصير والرجل الأشقر الانكليزي قد اعدا للأخوين موتة لا يحلمان بها أبداً ، عندما انجزا مهمتهما بمساعدة الخرائط التي جلبها معهما والكتب التي عثرا عليها داخل الغرفة المستطيلة التي نزلوا اليها عبر فتحتين من السرداب العائد للحاجّ يونس الساعاتي ، الاولى ارتفاعها حوالي ثلاثة امتار والثانية ارتفاعها حوالي اربعة امتار، وفي أحد زوايا الغرفة يظهر لهم " باب كبير محصَن بمسامير حديدية قد اضفت على مظهره متانةً كبيرة ، منقوش ومزخرف ، يوحي الى من يراه بالكثير من الجمال والابداع كأنه باب قصر ملّكي " ص98 ، وعند الاقتحام للباب يعثرا على " نساء ورجال وحيوانات وعربات صغيرة من الطين المفخور، وهناك ألواح خشبية منقوشة ، مدعومة برسومات مختلفة ،وألواح صلصال عليها نصوص كٌتبت بالكتابة المسمارية ، وأوانٍ فخّارية وحليّ من الذهب ، وزجاجيات وأسلحة وأدوات برونزية وقطع نقود قديمة جداً ، قطع مختلفة بأحجام متعددة "ص 106 .
فالحيلة التي اعدها العميل العراقي والرجل الانكليزي هي أن اغلقا على الأخوين ثخينة باب أحد الحجرات الموجودة في الدهليز المتعفن ليتركاهما للموت البطيء نتيجة الطمع لكسب دنانير قليلة وسذاجتهما وجهلهما ، لكن المفارقة التي وقعت للرجلين كما اسماها الراوي " لعنة المكان " أن الانكليزي عندما سحب الحبل الذي نزلوا به نكاية بالأخوين كان هو طريق العودة الوحيد . ولكنه كان يعتقد بأن هنالك منفذ أخر للخروج ، ولتظل صرخة القصير مكتومة لا أحد يسمعها سوى يهوذا .
تنتهي الرواية صباح الثامن عشر من ديسمبر عام 2011 م باعلان المحتل الامريكي انسحابه من العراق تاركاً قواعد عسكرية متفرقة فيه .
استخدم الروائي أسلوب السرد المتداخل " المتقطع" بحيث يجعل القارىء ينتقل من حكاية الى حكاية ثانية دون أي فجوة أو أحساس بالانقطاع ، كون هذا التداخل سلس واحياناً مكملاً لحكاية سابقة ، فالسرد المتداخل " المتقطع" يقوم على عدم الالتزام بالتتبع المنطقي فيختلف زمن الحكاية عن زمن السرد ، اذ يقوم السارد بتقديم الحكاية من آخر حدث عرفته ، معتمداً في ذلك على تقنية الاسترجاع والوصف والحذف ، وكذلك قام باستخدام تقنية أخرى تلجأ اليها الرواية الممسرحة في ايجاد نوع من العلاقة البنائية ما بين الواقع بوصفه وثيقة والمتخيل بوصفه نوعا منضبط ، بل تكون اقرب الى أنتاج لقطة سينمائية متكاملة ، يمثل ذلك هذه الاسطر ( المشاهد المتداخلة ) :
" أصبحت مهدية أملاً جديداً فتح الباب على مصراعيه لأحلام جاراتها الأرامل المتعطشات الى رائحة عرق الرّجال .. انهى الأشقر وصاحبه القصير عملهما بنجاح وقد تحايلا على الليل ، وقبل أن يضعا خطة للهرب كان هناك أمر يدور في رأسيهما ، وهو أن يتخلصا من الأخوين "ص142 .
" منذ اليوم الاول لعودة المقهى للحياة علق خلدون صورة كبيرة لعمه الراحل توسطت عمق المقهى . رحل الحاجّ قاسم بهدوء تام تاركاً صوت التلفاز يصدح بأخبار الوطن ..صور التجاوزات الامريكية في سجن ابو غريب تثير عاصفة غضب عالمية ، مفتش امريكي مَعنيّ بالأسلحة يعجز عن التوصل الى ادلّة حول إنتاج الحكومة السابقة أسلحة دمار شامل " ص194 .





الهوامش والإحالات
*بيات مرعي – زقاق الجمجم " رواية " ، الآن ناشرون وموزعون ، عمان / الاردن ، 2021م .
1- ليلى احمياني – صورة المتخيل في السرد العربي : البناء والدلالة ، رؤية للنشر والتوزيع ، القاهرة / مصر ، 2016م ، ص 43 .
2- وليم رايتر – الاسطورة والأدب ، ترجمة صبار سعدون السعدون ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد / العراق ، 1991م ، ص 12 .
3- رولان بارت – اسطوريات : أساطير الحياة اليومية ، ترجمة : د. قاسم المقداد ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2012م ، ص 225 .
4- م ن ، ص 226 .
5- ج. هيو سلفرمان – نصيات : بين الرمينوطيقا ، ترجمة : حسن ناظم و علي حاكم صالح ، المركز العربي الثقافي ، الدار البيضاء / المغرب ، بيروت / لبنان ، 2002م ، ص 54.
6- ميخائيل باختين - النَظرية الجمالية : المؤلف والبطل في الفعل الجمالي ، ترجمة : عقبة زيدان ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2017م ، ص 59 .
7- م . ن ، ص 67 .
8- هانس جورج غادامير – تجلي الجميل ، ترجمة ودراسة وشرح : د . سعيد توفيق ، المشروع القومي للترجمة ، القاهرة / مصر ،1997م ، ص 208 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا