الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنهج النقدي في قراءة التاريخ

عبد الحكيم الكعبي

2022 / 6 / 1
الادب والفن


ـ مقدمة:
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى إشاعة المنهج النقدي الذي يجب أن يطال كل شيء في واقعنا العربي دون استثناء، فهو يعد الخطوة الأولى في مسارات التجديد والنهوض الحضاري، وهو منهج عربي أصيل، وإذا كان فيكو الإيطالي الذي عاش في القرنين السابع عشر والثامن عشر قد شخّص للأوربيين أوهام المؤرخين، ووضع لهم أسس المنهج النقدي في الكتابة التاريخية، فإن ابن خلدون العربي قد سبقه في هذا المضمار بعدة قرون، ومع ذلك ما زال الكثير من الناس عندنا وإلى زمن قريب يعتقد أن التاريخ مجرد سرد لحوادث الماضي، أو رواية في هذا الكتاب أو ذاك، تتحدّث عن زمنٍ مضى، ومعرفةٍ يتفاوت فيها الناس تبعا لأمرين هما: سعة الاطلاع وملكة الحفظ والاستحضار، وليس ثمة معنى آخر، يطرق باب التساؤل عن وعي أو تعليل أو نقد لمجريات أحداثه، فالتاريخ وفق هذا المفهوم ليس أكثر من قصصٍ لأحداث منفصلة عن سياقها، لا روح فيها، وأن موضوعه دراسة الأحداث الكبرى، وما يتصل بالخاصة من ملوك وأمراء وقادة، دون اهتمام بالعامة بمختلف أصنافها وأدوارها.
لم يؤرخ الأقدمون العرب إلا للحوادث المدوية، كالزلازل والحروب، أو المشهورة كوفيات الملوك والأعيان، وغيرها من الوقائع السياسية والعسكرية، ويعود ذلك إلى كونهم لا يرون من "الحدث" إلا الجزء الظاهر، بينما تغيب عن اهتمامهم أجزاؤه العميقة التي بتنا نعرفها اليوم، ولأنهم، كذلك، يطابقون بين التاريخ والماضي، أي بين الحدث وزمانه الذي يصبح بالنسبة لمن يرصده ماضيا انقضى. وربما ظن كثيرون أن التاريخ يكتب للتسلية والإمتاع كلون من ألوان القصص، إذ لا فرق لديهم بين التاريخ والأسطورة، حتى ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن لفظ (أسطورة) العربي إنما هو تعريب للفظ إستوريا (istoria) اليونانية.
لم تعد هذه أبدا وظيفة التاريخ منذ بداية المعرفة التاريخية التي توسل بها الإنسان لمعرفة ذاته، وليس ثمة معنى للتعامل مع التاريخ بمفهوم الحكاية ومنطق السرد، أو اعتبار "المعلومة التاريخية" مجرد حلية تزدان بها بعض العقول البسيطة، ويتم التباهي بها في مجالس السمر، أو وسيلة تمكن حاملها من الفوز في مسابقات الصحف والمجلات والتلفزة .
أولا: الوعي التاريخي العربي قبل ابن خلدون.
من خلال نظرة فاحصة في مدوّنات المؤرخين العرب المؤسسين، نادراً ما نجد ملامحا لمنهج نقدي واضح للروايات أو الأحداث، فالأحداث المزدحمة فيها عبارة عن أشلاء ممزقة، لا يجمعها جامع، ولا تربطها وشيجة واحدة، فضلا عن غياب الروح في تفاصيلها، يتضح ذلك جليا مع رواد المنهج الحولي الذين بالغوا من خلاله في تمزيق الرواية الواحدة إلى أجزاء مبعثرة على سنوات، واستثناء من ذلك يمكننا التوقف عند ذلك السبق المنهجي الذي ظهر في أبداع جديد يقوم على توحيد صورة الحدث التاريخي وربط عناصره ببعضها على يد المؤرخ الكبير "اليعقوبي" المتوفّى بحدود سنة 294 هـ والذي انتهى من كتابة تاريخه سنة 256 هـ، ليستحق به لقب المؤرخ الفاتح في عصره، وعلى منهجه هذا مضى أبو حنيفة الدينوري (ت281 هـ) في تاريخه المهم (الأخبار الطوال).
يبدو أن هذا المنهج الجديد لم يشكّل وعيا تاريخيا عاما لدى المؤرخين العرب آنذاك، فقد عاد محمد بن جرير الطبري (224ـ310ه) إلى تمزيق الحدث التاريخي مجددا بمبضع السنين، في تاريخه الحولي الكبير والجامع الذي مضى عليه سائر المؤرخين من بعده، وحتى ابن خلدون نفسه، مع كل ما وضعه في مقدّمته من قوانين بالغة الأهميّة في وعي التاريخ وتفسيره.
وبالإمكان تأشير مرحلة أكثر تقدما في الوعي والمنهجية العربية الإسلامية تمثلت أولا في تعمّق مفهوم النقد التاريخي، والعناية بالسبب والتحليل والمقارنة، على يد الجغرافي والمؤرخ الكبير المسعودي (أبو الحسن علي بن الحسين 283 هـ-346هـ/896- 957م) في كتابيه مروج الذهب، والتنبيه والإشراف، قبل أن يأتي الفتح الجديد على يد "مسكويه"( أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب المتوفى سنة 421هـ،) في كتابه "تجارب الأمم "، الذي عبّر فيه بوضوح تام عن أن التاريخ حركة متصلة وليس طبقات متراصفة، فكان بمثابة البداية لأعلى درجات الوعي التاريخي، بداية تجد الإبداع يتجلّى حتى في عنوانها المبتكر "تجارب الأمم".
ومع كل هذا التقدم في الوعي المنهجي، يبدو أننا مازلنا أسرى المناهج التقليدية وأحادية الأسباب المباشرة، كما هو ظاهر جداً عند ابن الأثير المتوفى سنة (630 هـ) في مؤلفه الشهير "الكامل في التاريخ"، ولم نقف على أبعاد أخرى في تفسير الحدث التاريخي، بشكل واضح ومفهوم إلاّ عند ابن خلدون المتوفى سنة (808 هـ).
ثانيا ـ المنهج النقدي عند ابن خلدون:
للتاريخ في نظر ابن خلدون وجهان ظاهر وباطن: الظاهر: يخبرنا عن الأيّام والدول والسوابق من الأحداث. وفي الباطن نظر، وتدقيق، وتعليل الكائنات، والعلم بكيفيّة الوقائع، وأسباب حدوثها.
من جهة أخرى اعتمد ابن خلدون التاريخ باعتباره: معرفة وفنّاً: فالمعرفة هي التعرّف على أحوال الأمم السابقة، والإخبار عنها، حيث إنّ العلم بالكيفيّات والأسباب هو من أنواع المعرفة،(أي دراسة تجارب السابقين)، أّما اعتماد التاريخ فنّاً فيقصد به حرفة التاريخ، وصنعته،(أي التدوين، مهنة المؤرخ). أما موضوع التاريخ عند ابن خلدون: فيدور حول الإنسان وأعماله، وما تنطوي عليه من أسباب ومبرّرات ونتائج.
ـ عناصر التاريخ وأغراضه:
عناصر التاريخ الأساسيّة قبل ابن خلدون ثلاثة هي: الإنسان, والماضي, وتقلبات الزمن، وهذه مفاهيم متداولة في مناهج المؤرخين السابقين، وزاد عليها ابن خلدون ثلاثة مفاهيم فكرية جديدة منها: (التعليل، والتفلسف، واكتشاف الأسباب).
أما الغرض من دراسة التاريخ في رأي ابن خلدون فهو: ضرب الأمثال،.. والوقوف على تقلّب أحوال الناس، وتعليل سبب وقوع الأحداث السابقة، وتناول المجتمعات الإنسانيّة جميعها على اختلاف العصور والبلدان.
ـ إن الجديد والمهم في منهج ابن خلدون هو القول بأن: قوانين التاريخ تحاكي قوانين الطبيعيّة، مثل: قانون السبب والمسبّب.. وقانون الاستحالة والإمكان،.. وقانون التشابه والتباين.
لقد تنبه ابن خلدون إلى مجمل الإشكاليات والظواهر التي رافقت تدوين التاريخ، وانتقدها بشدة، فقال في " المقدمة " منتقدا المؤرخين بقوله: " كثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل، غثا أو سمينا، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضّلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط"، لذلك دعا ابن خلدون إلى إتباع منهجين في دراسة التاريخ:
الأول: منهج استقرائي يعتمد على الحواس والعقل.
والآخر: منهج تجريبي يعتمد التاريخ الذي لا يخضع إلى الماورائيات (الغيبيات) أو المثاليات،
لذلك عد ابن خلدون، في أسلوبه ومنهجه العلمي هذا، بأنه ينتسب إلى العصر الحديث أكثر من انتسابه إلى العصور الوسطى. ومع ذلك فإن ابن خلدون نفسه في تاريخه (العبر) لم يلتزم كليا بالمنهج الذي دعا إليه في "مقدمته" الشهيرة .
ـ ثالثا: الشك المنهجي عند ابن خلدون:
ورث ابن خلدون من مناهج المحدثين (علم الحديث)، طرق التثبت من صحة ما يروى منه. وهذا يفسر السبب في أن ابن خلدون لم يكن شكاكًا فحسب، بل كان باحثًا مدققًا، وناقدًا محققًا، ولكنه بدلاً من أن يستخدم شكه المنطقي في علم الفقه وعلم الكلام ـ كما فعل الأصوليون قبله ـ استعان به في إثبات موضوع علمه الاجتماعي الجديد، وهو علم الاجتماع الإنساني والعمراني البشري، وكذلك نجده، بدلاً من استخدامه شكه النقدي في تمحيص الحديث، استعان به في تمحيص الروايات والأخبار، التي تشكّل مادة علم التاريخ، الذي يمكن تعريفه بأنه علم اجتماع الماضي.
وبعد أن يشكك ابن خلدون في الأخبار والروايات، ويعطينا أمثلة لبعض من الكاذب منها والذي لم يقع، يقول: " فلا تثقن بما يلقى إليك من ذلك، وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة، يقع لك تمحيصها بأحسن وجه". لهذا نراه يتقصى أسباب الكذب في الروايات والأخبار، ويشرحها ويحللها.
شكك ابن خلدون وحقق في الأرقام التي أطلقها المؤرخون جزافا دون تمحيص أو مراجعة ومنها ما نقله المسعودي وكثير من المؤرخين من أرقام في عدد جيوش بني إسرائيل، وأن النبي موسى أحصاهم في التيه، بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح، خاصة من ابن عشرين فما فوقها، (فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون..) ، وناقش ذلك الموضوع مفصلا، بالشواهد والأدلة العقلية، وأثبت لا معقوليته وعدم مطابقته للواقع. وختم بالقول: أن السبب في عدم صحة هذه الرواية أنها تتعلق بإحصاء الأعداد، " التي كثيرًا ما تكون مظنة الكذب ومطية الهذر"، أي الخلط والتحدث بما لا يمكن أن يكون. وفي معرض مناقشته لأعداد هذه الجيوش، الواردة في الروايات وعدم مطابقتها للواقع، يقول: ابن خلدون، إن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يستحيل أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق مساحة الأرض عنها، إذا ما اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثًا أو أزيد، فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر؟
ومن هذه الشكوك أيضا ما جاء في الروايات التي تخص الجانب الجغرافي، وهي تتحدث عن (وادي الرمــــل) الذي يُعجز السالك، فلم يسمع قط ذكره في المغرب على كثرة سالكيه، وعن إرم ذات العماد، (..... فيجعلون لفظة إرم اسمًا لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين، في صحارى عدن، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض ...).
لقد أجرى ابن خلدون هذه التحقيقات كلها، وكشف عن أسباب الكذب في الروايات والأخبار مجتمعة، وهو في هذا الإجراء يلتزم بتعاليمه، وبخاصة أنه يؤصل لعلم جديد غريب على أذهان العلماء، والكافة من المتعلمين، وبخاصة أنهم فيه مبتدئون كالصغار، ويريد هو أن يقربه إلى عقولهم، ويجعله مستساغًا لمداركهم.
أما أسباب الكذب في الأخبار بحسب رأي ابن خلدون فهي:
التعصب للآراء والمذاهب، التقرب لأصحاب المناصب والتجلة والمراتب بالثناء والمدح، الثقة بالناقلين، الذهول عن المقاصد، ولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان وعدم محاسبة النفس على الخطأ وعدم مطالبتها في الخبر بالاعتدال والصدق، القياس والمحاكاة، ثم الجهل بطبائع الأحوال في العمران.
قصد ابن خلدون من كل ذلك أن الطريق الصحيح للتمييز بين الممكن والمستحيل من الأخبار، هو مشاهدة الكائنات الخارجية والتعرف على دقائقها، وبذلك يمكن الكشف على خصائصها الذاتية، ومدى ما بينها من اختلافات، تجعل الحكم عليها نسبيًا. أما النظر في الأخبار التي تنقل عن الكائنات الخارجية وفق صورها المطلقة، التي يتوصل إليها عن طريق التجريد الذهني، فلا يؤدي إلى رأي يقيني. لاشك في أن نظرة ابن خلدون في العمران وأحواله ووقائعه. من حيث المضمون المادي الذي يحتوي عليه نسيج الحياة الاجتماعية المتشابك، نظرة وضعية واضحة، سبق بها " أوغست كونت" صاحب المذهب الوضعي بقرابة خمسة قرون، ذلك لأنه يجعل من الحواس الأدوات الرئيسية التي يمكن بواسطتها معرفة الظواهر الاجتماعية كما هي في الواقع، معرفة يقينية دليلها الإدراك الحسي، لا البراهين العقلية المعنوية.
لقد نبه ابن خلدون إلى تلك الإشكاليات والظواهر في تدوين التاريخ، وانتقدها بشدة. وفق منهج نقدي عقلاني عرف بقواعد "الإمكان والاستحالة" لتنقية الروايات التاريخية من الخرافة والأساطير، ألا أن هذه أن المشكلة استمرت وما زالت قائمة في ثقافتنا العربية إلى يومنا هذا، ولم يستفد منها حتى كبار المؤرخين المحترفين، ومما هو مؤلم حقا ويثير الاستغراب، ليس أن "المقدمة" لم تغير وجهة نظر المؤرخين، وذلك متوقع، بل كونها لم تغير الذهنية العمومية، لأن المجتمع كان وما زال في حالة تفكك وانحطاط، وتأكد: أن الوعي التاريخي وإشاعة المنهج النقدي الرصين لا يحصل إلا في عصور التقدم والازدهار.
*******








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا