الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكون غير المحدد، مرافعة من أجل اللاحتمية

الشريف زيتوني

2022 / 6 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


الكون غير المحدد، مرافعة من أجل اللاحتمية: l’univers irrésolu plaidoyer pour l’indéterminisme

تكمن أهمية ترجمة هذه القراءة لكتاب كارل بوبر: الكون غير المحدد، مرافعة من أجل اللاحتمية ( l’univers irrésolu plaidoyer pour l’indéterminisme ) لـ ليديا جايجر (Lydia JAEGER)، في أنها تلقي ضوءا على مسألة هامة من المسائل الإبستيمولجية لكارل بوبر، تتمثل في جدله ضد كل الأشكال العلمية واليتافيزيقية للحتمية، ومرافعا عن اللاحتمية، هادفا وراء ذلك إلى رفض كل قول قطعي في العلوم الخاصة بالطبيعة والمجتمع، مقترحا في مطلبه الموجه إلى العلماء والفلاسفة، بأن لا يسقطوا من أبحاثهم التساؤل عن الحرية والإبداع البشري. لكن تبقى وجهة نظره بالرغم من أهميتها، موضع تساؤل عن الحدود التي تقف عندها.

مسالة الحتمية،لا تترك من دون مبالاة الذي يبحث عن جسر بين العلم والإيمان، أو أكثر من ذلك اتساعا بين التأمل الفلسفي واللاهوت. ومن الشائع تقريبا أن تتدخل الحتمية التي تتحكم في العلم (على الأقل قبل ظهور ميكانيكا الكوانتم) لتقويض الاعتقاد الساذج القائل بتدخل إله متعال في عالم تجربتنا. لكن، هناك من يرى أيضا عدم وجود توافق بين الحتمية الصارمة السائدة في العلم وحرية الإنسان، تساؤلا مهما في الحوار بين التخصصات، فضلا عن أن الحتمية، سيطرت على المناقشات اللاهوتية المحضة؛ تلك التي تشير إلى الأقدار. وعليه فإن حجم التساؤلات المتعلقة بمفهوم الحتمية دفعتني إلى الاهتمام بمؤلف لأبرز إبستيمولوجي في قرننا، إنه كارل بوبر، الذي أبى أن يعالج هذه المسألة من منظور الإيمان المسيحي، فإنه بذلك يمكن أن يضيف لنا اضاءات محفزة . إن معالجته للمسألة، تؤكد سمعته كفيلسوف ثاقب النظر ومستقل.وعليه فلنلتزم بمتابعته، لنجني شيئا من ثمار فكره. وهاهنا، ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أن الكتاب ليس حديثا، ولكن في الغالب يكون القديم هو الأفضل؟
يظهر كتاب: الكون غير المحدد أنه يتكون من أجزاء كثيرة، وكل جزء منه يركز على أطروحة محددة، وأن نص الكتاب يبدو أنه مخصص لـ (الانتصار للاحتمية)، (ص، 1- 91)، وقد وضع الناشر في النهاية بحث لبوبر، نشر أولا في سنة 1974، "اللاحتمية غير كافية" ص، 93-107. واتبعه بإضافة بحث سنة 1974: "الاختزال العلمي والطبيعة غير المكتملة لجميع العلوم" ص، 109-136، مع إضافة "ملاحظات إضافية على الاختزال"، كتبت سنة 1981، ص، 137 – 147. وحتى لا نطيل في هذه الدراسة، فإنه من الضروري أن نختار الأسباب التي تبدو في زعم المؤلف، أنها مضادة للحتمية. وعليه، يمكن أن يتصف المعيار المتبع في ذلك بالأصالة وقوة الحجة. ونترك بعض التشويق للقارئ، ليقدم بشجاعة، وبأمل إتمام قراءة العمل بأكمله. على اعتبار، أنه على عكس بعض كتب الفلسفة، يشبه حوارا ملزما، وملتزما مع القارئ، مما يجعل اكتشافه عاملا، يجذب اهتمام أولئك الذين يقبلون الدخول في النقاش.
تعريفات
يميز كارل بوبر بين ثلاثة أنواع من الحتميات: الحتمية الدينية، والعلمية، والميتافيزيقية. والفكرة الأساسية للحتمية، يمكن التعبير عنها بصورة " فيلم سينمائي"يكون فيه المستقبل ثابتا كالماضي. المتفرج، لا يفعل سوى اكتشاف ما هو محدد مسبقا. إذن، في الوقت الذي تكون فيه الحتمية الدينية، تستند إلى العلم الإلهي الكلي، والقوة الإلهية الكلية،، فإن الحتمية العلمية، تبدو من الناحية التاريخية، كنظيرتها العلمانية، تحل القوانين الطبيعية، محل القدر الإلهي (ص 4-5). فإذا كان، العلم هو مشروع إنساني، فإن الحتمية في منظور كارل بوبر، تعني إمكانية التنبؤ داخل العالم، الحتمية العلمية ((هي العقيدة التي يكون وفقها بناء العالم، يسمح بأن يكون من الممكن التنبؤ عقلانيا بأي حادث، إلى الدرجة المطلوبة من الدقة، شريطة أن يكون الوصف للأحداث الماضية دقيقا بما فيه الكفاية، وكذلك، كل القوانين الطبيعية معطاة لنا)) (ص 1).
أما الحتمية الميتافيزيقية، فإنها لا تؤكد، إلا الخصائص الثابتة لكل حوادث العالم، بدون أن تشترط معرفة أو أية قابلية للتنبؤ. إنها تشكل فرضية غير قابلة للاختبار التجربي، لكنها ليست خالية من المعنى ، فهي في منظور كارل بوبر (( تتضمن كل ما هو مشترك بين المذاهب القطعية المختلفة)) (ص،7). غير أن المؤلف هاهنا يولي اهتماما أساسيا بالحتمية العلمية التي غالبا ما تكون مقبولة أو (مرفوضة) في العصر الحديث. إلا أن الجزء الكبير من البرهنة، كان دائما ضد الحتمية العلمية. بدءا من المعنى المشترك للفيزياء الكلاسيكية والفلسفة، ولا يلجأ إلى الحجج المستمدة من ميكتنيكا الكوانتم؛ لأن – من وجهة نظره – فإن تالفيزياء الكلاسيكية لا تؤيد هذه الرؤية للعالم (ص1-2) وفي الأخير يقدم حججا تضع الحتمية الميتافيزيقية موضع شك (ص75-77).
قد يكون من المناسب، معرفة الكيفية التي قدم بها بوبر شيطان لا بلاس، بمعنى التصور الذي جاء في المقال الفلسفي الشهير للا بلاس، حول الاحتمالات، والذي جاء فيه: أن كائنا مزودا بقدرة حسابية لا نهائية، يكون بإمكانه، أن يتنبأ بطريقة عقلانية بكل الحالات المستقبلية للعالم، بشرط معرفة - في وقت معين – حالته استنادا إلى قوانين الطبيعة. غير أن شيطان لا بلاس، في منظور كارل بوبر ليس شيئا آخرا، سوى إنسان علمي مثالي" (ص، 26). الأمر الذي يجعلنا نستنتج بان " قدرات الذكاء، لا يجب أن تكون محدود، إلا في مجالات، أين لا يوجد حد معين، لقدرات الإنسان العلمي". يستخلص كارل بوبر "شرطين اتفق عليهما لابلاس": أولا، " لا يفترض أن الشيطان قادر على تحديد الشروط الأولية بدقة رياضية مطلقة". ثانيا، " أن الشيطان جزء لا يتجزأ من العالم المادي الذي يدعي التنبؤ بمستقبله" ؛ ولذا يجب عليه أن يتنبأ بالنظام من الداخل وليس من الخارج".هذان الشرطان يوجهان بقدر كبير النقد البوبري للحتمية العلمية؛ إذ إنهما، يمثلان زاويا الهجوم في حججه.
2 - المبررات المزعومة ضد الحتمية العلمية
أ – المستقبل في النسبية الخاصة
يستحضر المؤلف حججا كثيرا مرتبطة مباشرة بالنظريات العلمية: الفوضى في الفيزياء النيوتونية (ص، 16 – 17، 33 – 34). القياس المرتبك للنظام (ص، 45 – 47) ، "شفرة لا ندي" (ص، 80 – 89). من بين كل ذلك، يبدو لي أن تركيزه على نظرية النسبية الخاصة، هي الحجة الأكثر إثارة للدهشة، وبالتالي، الأكثر إثارة للاهتمام. حقيقة، السند الذي يتخذه المؤلف من نظرية النسبية الخاصة، قد يفاجئ القارئ، لأن معادلات النسبية الخاصة متناظرة في الزمن (وإلا، لن يتم حفظ الطاقة)، مؤسس النسبية الخاصة معروف بدفاعه عن الحتمية ( وخاصة ضد ميكانيكا الكوانتا). زيادة على ذلك، نظرية النسبية، تبدو – من وجهة نظر - أنشتاين أنها تجعل تقسيم الزمن بين الماضي والمستقبل نسبيا. إذ بعد وفاة صديقه القديم ميشال بيسو Michele Besso كتب إلى عائلته يقول: ها هو مرة أخرى يسبقني، مفارقا هذا العالم الغريب، وهذا لا يعني شيئا، بالنسبة لنا، نحن الفيزيائيين المؤمنين، هذا الفصل بين الحاضر، الماضي، المستقبل، لا يحفظ سوى قيمة هذا الوهم العنيد . لقد خصص كارل بوبر فصلا كاملا، لحواره مع انشتاين ( ص، 75 – 77، راجع، ملاحظة الناشر، ص، 2)، قائم على المقابلات بين رجلين، بغض النظر عن تبادل هذه الآراء، كارل بوبر يملك حق (بل واجب) استخلاص استنتاجات من النسبية، لأنها من حيث هي نظرية علمية، تنتمي إلى الحقل العام. وبالتالي، ليس لأي سلطة شخصية (حتى ولو كان مؤسسها) أن تمنع التعامل معها. حجة بوبر، في ذلك، تقوم على حقيقة أن الملاحظ لا يستطيع أن يتنبأ بمستقبله الخاص، لأنه لا يعرف في لحظة « t » كل الحوادث التي ستؤثر عليه لا حقا. ويرتبط ذلك بالسرعة المحدودة التي تنتشر بها الإشارات، بموجب النسبية الخاصة، ويترتب على ذلك، وجود أحداث متزامنة وسابقة على الملاحظ « t »، التي تستطيع أن تؤثر على مستقبله، لكن لن يكون على علم بها إلا لا حقا. كما قال ريتشارد فايمان Richrad Feynman، بأسلوبه التصويري: (( يوجد أناس ... يقولون لنا، بأنه باستطاعتهم معرفة المستقبل... ولكن في الواقع، لا يوجد عراف، بإمكانه أن يخبرنا بشيء آخر غير الحاضر)) .
لذلك، يمكن اعتبار النسبية الخاصة ضربة قوية لشيطان لابلاس: "شيطان لابلاس، لا يستطيع أن يحسب إلا حدثا متواجدا داخل ماضيه الخاص" (ص، 52). ولا توجد إلا وضعية واحدة تمكن الملاحظ من معرفة كل الحوادث: المستقبل اللامتناهي . وعليه، فشيطان النسبية الخاصة للابلاس، لم يعد للابلاس، على اعتبار أن هذا الذكاء، هو على العكس من لابلاس، لا يستطيع أن يتكهن، بل عليه أن يراجع الزمن فقط.
تبين حجة كارل بوبر أن النسبية الخاصة، لا تستجيب لمتطلبات "القابلية للتنبؤ الداخلي"ص،52). هاهنا تبرز خاصيتان في معالجة بوبر للحتمية، وقد ذكرناهما سابقا، ونلتقي بهما مرة ثانية: إنه يقيم صلة وثيقة مع إمكانية التنبؤ، ويؤكد وضعنا في العالم. وذلك، بالرغم من أن الحجة القائمة على النسبية الخاصة، لا يمكن أن تقول أكثر من أن المستقبل يبدو لنا مفتوحا، فإن هذه النظرية لا تفعل سوى أنها تعطي لنا رؤية حتمية. ومن المؤكد أن كارل بوبر سوف يرد على أن هذا ليس وضعنا: إن العلم لا يتأمل العالم من الخارج، بل هو مشروع للذين يعيشون في العالم. ومادام الأمر كذلك، فإن الحجة المقترحة، بالتأكيد، لا تستطيع أن تثبت اللاحتمية. فضلا عن أنها تبين بأننا لا نستطيع أن نثبت الحتمية اعتمادا على النسبية الخاصة؛ إذ لكي يتسنى لنا ذلك، لا بد من استنباط النظرية العلمية، من مستوى أعلى مما يمكن أن يقوله العلم، وتحويلها إلى نظرية ميتافيزيقية، في حين يبقى العلم برنامجا إنسانيا.
بـ - الخاصية التقريبية للنظريات العلمية
الخاصية التقريبية لكل معرفة علمية – هذه الشبكة التي نحاول أن نضيق من حلقاتها - تمثل ما يبدو لي، أنه الحجة الفلسفية الأساسية ضد الحتمية "العلمية" (ص، 47). هاهنا، لسنا فقط في قلب البرهنة على اللاحتيمية، بل ربما نحن أيضا في قلب ابستيمولوجية كارل بوبر. عموما، العديد من أطروحاته تبين مقاربته العلمية التي تتجلى في: العلم في تقدمه، يخضع لاختبارات التكذيب القابلة دائما للتجديد ، الواقع موجود كحقيقة مستقلة عن نظرياتنا التي تستهدف الحقيقة من حيث هي مطابقة له، ( لكن ذلك يكون بطريقة نقدية، وليست اعتباطية، على اعتبار أن الفجوة بين نظرياتنا والعالم متضمنة في تحليلاتنا).
يكون المجاز هاهنا، كخيط موجه للفكر. يفيد في تعيين النظريات العلمية من حيث هي نتائج للعقل الإنساني: " أتصور النظريات العلمية مثل الكثير من الإبداعات الإنسانية – كشبكات من صنعنا، تهدف إلى الإحاطة بالعالم" ص،36). إنها تعبر عن المسافة بين العالم وتمثلاتنا له: " إنها شبكات عقلانية، من صنعنا، و لا يجب، أن نخلط بينها وبين التمثيل الكامل لكل مظاهر العالم الحقيقي" (ص، 36). كما أنها تؤكد عدم وجود أي نظرية بإمكانها البرهنة على الحتمية: " نحاول اختبار العالم بصورة شاملة، بواسطة شبكاتنا، لكن ثقابها تجعلنا نضيع بعض السمكات الصغيرة: سيوجد دائما ما يكفي من اللعب من أجل اللاحتمية" (ص،40).
لكن، ما بعد المجاز، يضطر بوبر إلى إثبات الخاصية التقريبية لكل نظرية علمية. في ظل التدخل الصارم للخطأ الإنساني: إذا ما احتفظنا بصورة قطعية في عقولنا بأن نظرياتنا هي من اختراعنا، وأننا نخطأ، وأن نظرياتنا تعكس خطأنا، نصل، إذن، إلى أن العلامات العامة لنظرياتنا، بساطتها، أو وجهها الأول الحتمي، يتطابق مع علامات العالم الواقعي (ص36). تبدو الحجة كما هي، قابلة للدحض، وقد نقع في وهم خطير إذا تخيلنا بأن معرفتنا (حتى العلمية) لا يشوبها خطأ الإنسان، لكن يمكن أن تكون مدعمة بالملاحظة التالية ( التي لا تبدو، صريحة عند بوبر): إن تطور العلم يبين ( على الأقل منذ القرن 17)، بأن نظرية متهاوية، تحل محلها نظرية أخرى أكثر دقة، وغالبا ما تكون قريبة جدا من النظرية الجديدة المتعلقة بالنتائج التجريبية ( على الأقل في مجال محدد من الصلاحية)، في حين أن صور العالم كما تبين هاتان النظريتان يمكن أن تكون متضادة. والمثال الذي يبدو بدهيا للعقل على ذلك، هو العلاقة بين ميكانيكا نيوتن وميكانيكا الكوانتا. إن المعالم الأساسية لنظرياتنا العلمية، هي على ما يبدو، الموضوع الأكثر تناولا ومراجعة في صرح البناء العلمي. يمكن أن نضيف إلى هذه الملاحظة تحذير بوبر ضد الخلط بين خصائص اللغة التي نستخدمها في وصف العالم، وخصائص العالم بحد ذاته: " نجاحات، أو حتى حقيقة العبارات البسيطة، أو عبارات الرياضيات، أو عبارات اللغة الانكليزية، لا يجب أن تجعلنا نستنبط بأن العالم بسيط بطبيعته، رياضياتي، أو بريطاني" ص، 37).
في الواقع، بإمكاننا أن نفهم لماذا نفضل النظريات البسيطة؟، لأن هذه الأخيرة هي وحدها التي تسمح بإجراء الاختبارات الصارمة. إذ لم يعد بالإمكان اختبار النظريات المعقدة حتى ولو كانت صحيحة. وبالتالي نستطيع وصف العلم كفن التبسيط االمنهجي - فن تمييز ما يمكن إغفاله بصورة نافعة. (ص 37).
لكن النظريات القطعية، تتقاسم هذه الخاصة مع النظريات البسيطة: إذ " بإمكاننا أن نجعل اختباراتها أكثر فأكثر دقيقة وصارمة. وعليه، فإن هذا النظريات، تبعا لمحتواها، وقابليتها للاختبار وبساطتها، تكون أفضل من غيرها" ص37.
إن رأي بوبر ملائم، وله صلة بالموضوع، بل إنه يقدم شرحا حول حقيقة الحتمية التي تسم العديد من نظرياتنا العلمية. لكن من الملائم من المناسب أن ننبه إلى مسألتين: - لا يجب قراءة حجة بوبر منظور كانطي (بوبر يوضح اختلافاته مع كانط في القسم التالي ص. 40-42) . إن التفسير المقدم للطابع الحتمي لعديد النظريات العلمية، لا يدل على أنه لا يوجد شيء في العالم لا يتوافق معها. ويمكن أن نقول الشيء ذاته حول بساطة بعض النظريات. لم يجد بوبر بكل تأكيد أي صعوبة للإعجاب بما مارسته بساطة النظريات العلمية من تأثير – مثلا - على البرت انشتاين. ولا يتعلق الأمر هاهنا، بمجرد تمثل العقل الإنساني للطبيعة فقط. بوبر بكل تأكيد على محق في رفضه تمجيد الميتافيزيقي، شبه الديني للبساطة (وبشكل مماثل للحتمية). إن بنية النظريات العلمية، تبقى دائما هي بنية إبداعاتنا.
ثانيا، يجب أن أعبر عن قلقي تجاه الفكرة التي تتضمن الفهم القائل بأن الحتمية هي شبكة ذات ثقاب واسعة، والتي تترك قليلا من الفجوات للاحتمية؛ استخدام صورة " بعض الأسماك الصغيرة"، التي تنجح في الخروج من ثقاب شبكة الحتمية كما هو مبين في (ص، 40 المذكورة أعلاه). هذه الفكرة يمكن توظيفها أيضا في التمييز الذي أحدثه بوبر بين تصور (الحس المشترك) للعلية وللحتمية "العلمية ": (( إن الفكرة القائلة بأن الحس المشترك، يفسر حادثة ما تفسيرا عليا، هي بالأساس كيفية. والحال أن الحتمية "العلمية" تؤكد قدرتنا على التنبؤ بحادثة ما، وبدرجة ما من الدقة، وهذا أمر يتجاوز بكل تأكيد فكرة الحس المشترك)) ص،9).
إن هذه المصالحة بين النظريات العلمية الحتمية، والعالم اللاحتمي المفترض لأمر مغر. لكن تبدو أنها في حاجة إلى شيء من التحسين، لأنه في ظروف معينة، قد تكون للانحرافات الصغيرة نتائج أكثر مأساوية على المستوى الفيزيائي على الأقل في النظام العشوائي. لكن، بالتأكيد قد تكون هناك حالات متشابهة في مجالات أخرى. فيما يتعلق بالتاريخ الإنساني، كانت –ربما- الأمور غير ذلك، لو كان أنف كيلوباترا مشكلا بطريقة مخالفة، هذا على سبيل المثال لا الحصر. إن التمييز المقترح بين السببية (الكيفية) والحتمية العلمية الكمية، يبدو - على الأقل – بأنه تمييز دقيق، حتى ولو كان من الصعب بالتأكيد إيجاد حل بديل.
ج – نمو المعرفة
مع الخاصية غير المكتملة للنظريات العلمية، يمكن أن نتوغل أكثر في عمق الحجة البوبرية، التي تمثل وجهة نظر المؤلف بحد ذاته. غير أنه، من المدهش أن نجد حجة أخرى تبرز غالبا في العديد من المرات، وبصور متنوعة، في مسار التطور. يرتبط هذا، بنمو المعرفة الإنسانية. ويمكن أن نميز بين شكلين من هذه الحجة: - واحدة ترتبط بالحس المشترك. – الأخرى متضمنة في صياغة حجة الحس المشترك. لا شيء ، يلخص حجة الحس المشترك أفضل من مزحة بوانكاريه التي ذكرها بوبر في القسم المخصص لهذه الحجة : لا تنتظروا أية نبوءة مني ؛ لو عرفت ما سيكتشفه أحد غدا، لنشرته منذ زمن بعيد، لكي اضمن لنفسي حق الأولوية (ص ،53).
بواقعية أكثر، نستطيع القول، بأنه لا واحد من المعارف الجديدة ممكن في عالم يخضع لحتمية صارمة، لأن في مثل هذا العالم، يكون المستقبل بكامله متضمنا في الحاضر؛ وبالتالي، لا نتوقع أن شيئا جديدا حقا يمكن أن ينشأ. وبما أن الحجة مبنية على الحس المشترك، فلا يجب أن ننتظر من ذلك، برهانا صارما. لقد جاء بيان تطور الحجة في ( ص، 18،19،35،36،53،57،105) ويبدو أن صرامة اللغة المستخدمة، تكشف عن قوة الحدس التي هي في الأساس (حدس بوبري، يتقاسمه معه القارئ بدون صعوبة).
يعبر بوبر نفسه عن عمق حجته فيما يلي: لا نستطيع أن نتنبأ بصورة علمية بالنتائج التي نحصل عليها في سياق معرفتنا الخاصة. وقد يكون الآخرون الأكثر منا حكمة على قدر من الاستطاعة على التنبؤ بنمو معرفتنا، تماما كما يمكننا، في ظروف معينة، أن نتوقع نمو معرفة الطفل. غير أنهم مثلنا، ليس باستطاعتهم، أن يتوقعوا أو يستبقوا اليوم، ما يمكن أن يحصل غدا. (ص،53).
الحجة تبدو أنها غير قابلة للدحض، وتشكلها الصوري (حجة المتنبئ)، تبين بأنها لا تستند إلا إلى تناقض (ناتج فقط عن صياغتنا) ، (ص 53). في الواقع، ينبغي أن نبين بأنه يوجد في عالمنا شيء، جدير بأن يسمى معرفة جديدة. حتى من دون الانشغال الآن، بصياغة الحجة، يجب أن نعترف لبوبر بأن الإبداع الذي كان وراءه الإنسان، يشكل حجة قوية حدسيا على التجديد الجوهري لبعض جوانب معرفتنا.
لا واحد من الفيزيائيين والفيزيولوجيين، الذين سيدرسون بدقة جسم موتزارت Motzart، وخاصة دماغه، بإمكانه التنبؤ بسمفونيته صول الصغرى Sol mineur بصورة مفصلة. والرأي المعارض يبدو أنه حدسيا غير معقول. ويظهر بدهيا على الأقل أنه من الصعب جدا تكوين حجج معقولة لصالحه، وليس لها حاليا كسند يتسم بالصرامة إلا الحكم المسبق شبه الديني، الذي يكون وفقه العلم الكلي للعلم، قريبا من العلم الكلي الإلهي (ص،35). يبدو أنه ليس ضروريا تطوير الحجة المقدمة هاهنا، إذ الخاصية غير المعقولة حدسيا للرأي المعارض واضحة، لنعود الآن إلى صياغة الحجة.
د – حجة المتنبئ
تتمثل الفائدة الخاصة من الحجة البوبرية في ارتباطها بجديد ( بعض المظاهر ) من معرفتنا، في أنها لا تتوقف عند موقف صارم يبدو ظاهريا أنه غير معقول. ولكنها تسمح "ببلورة (دحض قطعي للحتمية العلمية" (ص،53). ويبدو، أننا – ربما - مع حجة المتنبئ، نجد أنفسنا أمام مساهمة أكثر أصالة جاءت في مؤلف بوبر. إذ إنه، حقيقة، يبين بأن الإنسان لا يستطيع (علميا) أن يتنبأ بالمستقبل، حتى ولو كانت معرفته بالحاضر على سبيل الفرض كاملة، وأن العالم يخضع لحتمية صارمة. والشرط الوحيد المطلوب هو أن يكون الإنسان جزءا من النظام الذي يجب توقعه.
يتوقف المؤلف عند حدود الإمكانات التنبؤية في المجال العلمي ( استطيع بدون شك أن أتنبأ بتصرفي، إذا كنت قد اتخذت قرارا بالقيام بفعل ما بطريقة ما، بشرط أن أكون قد أخذت بعين الاعتبار المعوقات الخارجية التي قد تعيقني عن تنفيذ قراري). كذلك ( مشروع التنبؤ ... يرد إلى مشكلة حسابية). وعليه، فمن الممكن تنفيذه (بآلة تنبؤ)، تسمى (المتنبئ) (ص،58)؛ (نستطيع أن نعتبرها تجسيدا فيزيائيا كاملا لذكاء لا بلاس) (ص،59). إن تقديم الحجة في صياغة المتنبئ، وليس الإنسان، تمكننا من دحض (الحتمية من دون افتراض لوجود الروح)، لكن هذا لا يلزم عنه أن بوبر يرد الإنسان إلى آلة، (لا شي اقل صدقا) (ص،59).
وبالتالي، من الممكن إثبات (أن لا واحد من المتنبئين، بإمكانه أن يتنبأ بطريقة استنباطية نتائج توقعاته الخاصة) (ص، 58). حقيقة، (في حالة مشروع التنبؤ الذاتي، لا تكون الإجابة كاملة، إلا بعد وقوع الحادث المتنبأ به، أو من الأفضل، وقوعه في ذات الوقت) (ص، 60). (اعرف نفسك بنفسك ... فكرة مثالية، لكن منطقيا غير قابلة للإنجاز) (ص،89).
من دون التفصيل في الحجة التي (جاءت في عشر صفحات، ص، 59 – 67). ينبغي أن ننبه إلى أنها تتطلب فرضية أساسية تتمثل في: ( أن إنجاز العمليات المختلفة التي ينفذها لمتنبأ تستغرق وقتا)؛ وذلك لاستبعاد الآلات العالمة لكل شيء،، أو شبه العالمة بكل شيء) (ص،60). ومن جهة أخرى، نختار ظروفا، يمكن تسميتها بالمثالية: يكون فيها المتنبأ قادرا على الوصول إلى إجابة، إذا كان مشروع التنبؤ جليا بالقدر الكافي، ووظيفته حتمية بتمامها، وبالتالي، لا نطلب منه سوى التنبؤ بالمنظومات الحتمية لا غير. حتى في هذه الحالة المثالية، هناك استحالة للتنبؤ الذاتي. إذا أستطاع المتنبأ التصرف في محيطه، وفقا لتنبؤاته، نصل إذن، إلى نتيجة مفادها: إنه (المتنبأ) لا يستطيع أن يتنبأ بمستقبل تطور النظام الذي هو جزء منه، حتى ولو كان هذا الأخير حتميا بصورة تاما.
يدرك بوبر أن حجته لا تدحض الحتمية في حد ذاتها. حيث يقول: (أنا لا أريد بأي حال من الأحوال، أن أدحض الحتمية. بل أرى أنها غير قابلة للدحض). ونستطيع دائما أن نفكر، أنه (بعد أن تكون الحادثة المتنبأ بها قد وقعت... يمكن أن نلاحظ... أن وصفا كاملا وكافيا للنظام ( في صلة مع القوانين الطبيعية) يفيد منطقيا التنبؤ. غير أن عدم استطاعتنا حساب هذا التنبؤ مسبقا، لا يغير الوضع المنطقي بتاتا (ص، 67).
حتى ولو انكر المؤلف الطابع الافتراضي المحض لشرط (الوصف الكامل والكافي ) (راجع، ص، 68). فإن حجة المتنبئ تكون في موضع آخر. إذ إنه، يتجه ضد الحتمية "العلمية" (وليس – مثلا- الميتافيزيقا). وبشكل أكثر دقة، فإنه، يعارض كل سند وهمي، يبرر الحتميات في العلم، أو في النجاح التجريبي للنظريات العلمية الحتمية (ص،67). لأنه، حتى ولو كان العالم حتميا، فمن المستحيل ملاحظته. وبما أن العلم هو مشروع لوصف الكون الذي نحن جزء منه، لا يجب أن يستنبط خارج حدوده. ولا ينبغي تحويله إلى نظريةن،تتأمل الكون من الخارج .
3 – هل أثبت بوبر اللاحتمية؟
إن القوة الحجاجية البوبرية التراكمية ضد الحتمية "العلمية" كبيرة. غير أن بوبر بحد ذاته، يدرك بأن محاجته لا تدحض كل أشكال الحتمية. بالفعل، لأنه يفترض بان مشروع كهذا، ينبغي أن يفشل، لأن (عالم ميكانيكي بسيط، وحتمي)، يبدو من الناحية المنطقية ممكنا،ص،68). إذ إنه، من خلال بيان استحالة التنبؤ بنمو المعرفة، "لم أبين شيئا آخرا، إلا استحالة التنبؤ الكامل من داخل العالم. هذا يترك المجال مفتوحا أمام إمكانية أن يكون العالم، بكل ما يتضمنه، حتميا بصورة تامة، إذا نظر إليه من الخارج "(ص، 73).
يرفض بوبر الحتمية الدينية، وكل الأنواع الأخرى من الحتميات الميتافيزيقية. إنه مقتنع بالطابع الجوهري اللاحتمي للعالم. الأمر الذي جعله، يستند إلى بعض الحجج ليهاجم مباشرة الحتمية الميتافيزيقية، حتى لو كانت هذه الحجج، لا تبين أن بوبر يوليها الأهمية المنطقية ذاتها،كتلك التي يوجهها ضد الحتمية "العلمية. علاوة على ذلك، فإننا ،لا نستطيع أن نرى كيف يكون الأمر عكس ذلك.
يستمد المؤلف حججه من مقابلة خاصة مع انشتين سنة 1950م ( ص،57، هامش، 3). حيث يرى، بأننا نستند من جهة، إلى تجربتنا؛ التي لا يوجد فيها ما يبرر(الميتافيزيقا البرمينيدية) (ص، 76). ومن جهة أخرى، فإن الحتمية، لها نتائج عديدة ليس من السهل قبولها. يركز بوبر على ثلاث منها: في مثل هذا الكون، يصير المستقبل زائدا عن الحاجة، ولا لزوم له. (مشاهدة فيلم مثلا، فإن لقطاته، يتم تحديدها بدقة ومنطقية من خلال اللقطة الأولى (وفقا لنظرية معروفة)، ليس له معنى كبيرا) (ص،76). ثم، (هذا التكرار الكبير)، لا يتوافق مع فكرة البساطة التي يعتز بها انشتاين. أخيرا، (الزمن كما نحياه هو وهم)، الأمر الذي يبدو وكأنه "تناقضا حقيقيا"(ص،76). لأننا لا نعرف، كيف نتملص من ملاحظة شيء واحد – على الأقل - يتغير في عالمنا: (تجربتنا الواعية) (ص،77). إن (تحويل مستقبلنا إلى ماضينا، يعني -بالنسبة لنا- تغييرا)، وبما أننا جزء من العالم، هذا يؤدي أيضا إلى تغيير هذا العالم، وهذا أمر يتناقض مع أطروحة البرمنيدس) (ص،77).
يقول بوبر: ((اعترف، بأنه يمكن أن نرد على هذه الانتقادات، لكن ليس بالإمكان العثور على إجابة فعالة)) ( ص، 77). مع ذلك، قد نجانب جوهر محاجة بوبر، إذا ما اقتصرنا على الدحض، (أو في بلورة) حججه ضد الحتمية الميتافيزيقية. إن العدو المقصود في الكون غير المحدد، هو الحتمية "العلمية"، أو بأكثر دقة الدعم الذي تبحث عنه الحتمية في العلم، وهنا، المحاجة البوبرية، توظف كل قوتها. ويكون هنا دحض القابلية الداخلية للتنبؤ، ناجحة، حتى في رأي المؤلف الناقد للإجابة التي قدمها بوبر بخصوص الحتمية، مثل بوتو boutot . لا شي أكثر ضرورة من رفض الدعم الذي تجده الحتمية في العلم.
الجدير بالملاحظة، هو أن الحجة تحقق هدفها، حتى ولو بدأنا من نظريات علمية حتمية، لأن طابعها الحتمي، لا يمكن أن يكون ذريعة لدعم الحتمية؛ ولكي نحقق ذلك، لا بد أن نحل محل إله، يكون خارج العالم، يتأمل مجموع ما يحتوي عليه. لكن لماذا ينبغي لهذا الكائن أن يصل إلى الاستنتاجات ذاتها، التي يديرها الباحث العلمي من داخل العالم؟ لا شيء بإمكانه تبرير هذا الاستقراء، إلا الافتراض (شبه الديني) القائل بأن علمنا، سيكون وصفا صحيحا، ومطلقا لمجموع ما يحتويه العالم.
الخاصة التقريبية لنظرياتنا العلمية تعطي دائما للاقتناع المضاد تماسكه الداخلي؛ لكن ليس من الضروري التعويل عليه، لإثبات استحالة التنبؤ الداخلي. حتى ولو بلغنا إلى النسخة الأخيرة من علمنا، ( بكل الأحوال، لا نستطيع أن ندرك ذلك، كما لا حظ ذلك اكزينوفان Xénophane، راجع، ص،39). لا وجود لحجة مستمدة من العلم يمكن أن تدعم الحتمية الميتافيزيقية: لماذا نتخيل أن الوصف المشكل من داخل العالم، يتزامن مع المظهر الخارجي؟
إذن، أن نحاجج انطلاقا من العلم، لتدعيم الحتمية، لا يعد موقفا علميا؛ بل علمويا، لأجل ذلك يحرص بوبر بصورة منهجية وضع عبارة الحتمية "العلمية" بين مزدوجين (P.xvi). يظهر كل تطور الفكر البوبري، بكل قوة أهمية التمييز بين الاستخدام المشروع للعلم من حيث هو شبكة نرميها على الواقع، بهدف فهم جوانب معينة منه - حتى نبقى في الاستعارة البوبرية- والاستكمال من الخارج، والمؤدلج للعلموية.
يعد الكون غير المحدد مثالا ملهما، ومبينا لثراء هذا التمييز المتعلق بمسألة الحتمية. وفي الوقت ذاته، يبين الكتاب حقيقة، إن أولئك الذين استخدموا تفكيرهم بعلمية، لم يتوسعوا في ذلك، ليمنحوا له مكانة شبه دينية. إن العلموية هي الخاصية السيئة للكتب العامة. إن أكبر معرفة (يتم تحليلها بشكل صحيح)، تؤدي إلى التواضع، وتصون العقل الإنساني من عبادة الأوثان.
4 – اللاحتمية ليست كافية
حتى لو نتبع بوبر في محاجته ضد الحتمية ( كما سأفعل)، فإننا لم نبلور بعد الإمكانية الحقيقية للإبداع الإنساني، ( أو بطريقة مطابقة لمسؤوليته الأخلاقية)، لأجل ذلك، رأى الناشر أنه من الحكمة أن نضم "كنوع من الخاتمة، أو خاتمة هذا الكتاب" (ص، 93، 1). بحث لبوبر يوضح:
عنوان هذا البحث: " اللاحتمية غير كافية" جاء كخاتمة، وقد تم اختياره للإشارة إلى الفيزياء اللاحتمية – التي جاء هذا الكتاب للدفاع عنها – لا تكفي لذاتها، ولا حتى لجعل الحرية الإنسانية ممكنة، أو مفهومة (ص،93).
من خلال التعليق على ميكانيكا الكوانتم لا حظ المؤلف:
بأن، لا حتمية إله يلعب النرد، أو قوانين احتمالية، من شأنها أن تصل إلى تكوين مكان للحرية الإنسانية، لأن ما نبحث عن فهمه ليس فقط كيف نستطيع أن نتصرف، بطريقة غير منتظرة، وطارئة، لكن كيف نستطيع أن نتصرف بحرية وعقلانية (ص، 104).
إن العنصر الذي نحتاجه، لمنح تناسق حقيقي للإبداع والحرية الإنسانية (وبدرجة أقل ومسبقة لوعي الحيوان) و"التفتح العلي للعالم 1، تجاه العالم 2، وكذلك، الفتح العلي للعالم2 تجاه العالم3". (ص،93- 94) . العالم2، يجب أن يكون مستقلا نسبيا عن العالم1، لكن في الوقت ذاته، يجب أن يؤثر عليه في حدود معينة. الشيء ذاته بالنسبة للعالم3 تجاه العالم2، وعبر العالم2، نحو العالم1 (إن التأكيدات المتضادة، أي الاستقلالية، وتأثير لعالم1 تجاه العالم2، والعالم2 تجاه العالم3، تشكل مشكلة أقل، ومقبولة بصورة عامة).
عندما نحلل حجة بوبر لصالح التفتح السببي المقترح، نلاحظ انه يستمد العون مما يمكن أن ندركه من كوننا. من وجهة نظره، يكفي أن نفتح أعيينا (وعقلنا)، لكي ندرك، أنه من المستحيل رد العالم3 إلى العالم2، أو رد العالم2 إلى العالم1. بالإضافة إلى أنه من البديهي بان النظريات العلمية القاطنة في العالم3، لها تأثير على العالم2 (حينما، يكون باحثا –مثلا- مهووسا بفكرة إيجاد حلا لمشكلة علمية) و على (العالم1 (خاصة عبر وسائل تقنية، ص،96). هذه الخاتمة، تعد أيضا، إضافة حقيقية موضوعة في نهاية الكتاب. مكرسة للاختزالية ( وبتحديد أدق، لصالح استحالة الحجة).
إن قوة الأمثلة المتراكمة التي يسوقها بوبر ضد الاختزالية جذابة، ومن المؤكد أن ثقل الدليل يقع في جهة الاختزاليين. ومع ذلك، فإن بوبر لا يقترح وصفا لكيفية الاستقلال الذاتي للعوالم الثلاثة، وطريقة تفاعلها. هنا، يبدو لي، الموضع الذي يكون فيه تمديد الحجة البوبرية ضروريا، وواعدا أكثر.
لا تخطئ في صعوبة مثل هذا التمديد ؛ لا يوجد تفسير دقيق لهذا المشروع البحثي يثبت أنه يتضمن بعضًا من أصعب المشكلات في نظرية المعرفة
إننا لا نخطئ ، في تصور صعوبة هذا التمديد، إذ إن، مجرد تفسير دقيق لهذا المشروع البحثي، يبين انطوائه على بعض المشاكل الأكثر صعوبة في الابستيمولوجيا. وخاصة فيما يتعلق بمسألة الجسد والروح؛ وهي المسألة التي اشتغل عليه جيل كامل من المفكرين. كما يقول تشارلز هودج Charles Hodge : ((نحن نعرف أن الإرادة تمارس تأثيرا على بعض عضلات الجسم؛ لكن نقطة الاتصال، أو الربط بين الإرادة والفعل العضلي،غير قابلة للفهم تماما)). من الممكن أن يكون امتداد الحجة البوبرية، المذكورة هاهنا، تكشف عن (محاولة لتفسير ما لا يمكن تفسيره) . لكن، حتى ولو كان هذا المشروع فاشلا، فإنه بالتأكيد سيكسبنا قدرة الكشف عن الرهانات المماثلة للتشديد البوبري على إمكانية الدحض (راجع، ص،136).
من دون أن نلتزم بالمشروع الحجاجي المذكور، دعنا نشير أن الإجابة ( حتى الجزئية)، لمشكلة الظهور التي ينبغي أن تتضح: يجب أن تأخذ في الحسبان القدرة على التفاعل بين مجالات الواقع المختلفة، بسبب استقلالها الذاتي نسبيا. يرفض بوبر حلين، غالبا ما يتم اقتراحهما لتأسيس العلاقة بين العوالم المتباينة: المادية التي ترد العالم 2 والعالم3 إلى العالم1)، والمثالية (التي تختزل على الأقل تحت بعض المظاهر، العالم1 والعالم2 إلى العالم3؛ راجع. نقد الحل الكانطي (ص، 40-42). يبقى إذن - (إذا كنا لا نريد أن نقتصر على تقصي بسيط للوقائع) – الحل في افتراض مصدر مشترك، يتمثل في ربط المجالات المختلفة للواقع من قبل طرف ثالث.
ينبغي أن نلاحظ، بأن تصور الله الخالق، هو الذي يضمن هذا الرابط، لأنه يمثل المنبع المشترك لهذه العوالم المختلفة. إذن، وإذا كان الأمر كذلك، ينبغي أن نبين بأن النقد البوبري للحتمية، لا يلغي الحتمية الدينية. إن بوبر بحد ذاته، يقف ضد التفسير المبسط لحججه ضد الحتمية العلمية لمعارضة في القدر (ص73). أما بخصوص، نقده للحتمية الميتافيزيقية، المشار إليها في المقابلة بين البرت أنشتين، وبارمنيدس، سيكون من الواجب أن نبين – على الخصوص – بأن القدر الإلهي لا يعني الطابع الوهمي للزمن . حتى ولو كان الإطار المفاهيمي مختلفا جدا، فإنه من الأمور التي لها دلالة قوية في تاريخ الكنيسة، نجد أحد أبطالها الذين يؤمنون بالقدر الإلهي؛ وهو كالفين Jean Calvin (أحيانا لا نحتفظ إلا بهذا الجانب من نظرته اللاهوتية، راجع، ص،4)، يأخذ بعين الاعتبار التمييز بين القدر الإلهي والحتمية: ما يجعل هذه العقيدة كريهة (العناية الإلهية)، ومشوهة، هو خيال الرواقيين الذين يرون بان كل الأشياء تحدث بالضرورة، أما نحن فإننا لا نستخدم مصطلحهم، أي القدر Fatum.
... نحن لا نفكر في وجود ضرورة تسري في الطبيعة، وذلك من خلال اقتران دائم للأشياء كلها، كما هو الشأن عند الرواقيين، لكننا نعتقد أن الله سيدا، ومشرفا على كل الأشياء. ووفقا لحكمته حدد كل شيء، وما يجب عليه فعله، والآن، فإنه ينفذ كل ما تداوله
نجد تمييزا واضحا لدي كالفين خصوصا فيما يتعلق بالضرورة المطلقة والضرورة الطارئة: " صحيح أن كل ما أمر به الله قد حدث، لكن، ومع ذلك، ما تم حدوثه، ليس ضروريا بدقة ولا من طبيعته" . إن هذا التمييز يصبح ممكنا، كلما كان التقدير المسبق قرارا صادرا عن الإرداة الإلهية ؛ وبالتالي، ليس له الطابع "الأعمي" لتقرير داخلي في الطبيعة.
حتى ولو كان البعد التاريخي بين ملاحظات كالفين وحجة بوبر معتبرا، فإن ذلك، يأخذنا إلى تأمل بعض المشكلات القديمة التي ما تزال تقلق الفكر الإنساني، ويمكن اعتبار ذلك، شهادة قوية، على الكون غير المحدد.
أخيرا ، يخلص بوبر إلى نتيجة مفادها: "إن النتيجة العامة لاعتباراتنا – على ما يبدو – تكمن في إعادة تأسيس رؤية ساذجة، للعالم، بموجبها، تكون هناك أحداث يمكن التنبؤ بها، أو يتم تحديدها، وأخرى لم يتم تحديدها" (ص. 91)، غير أن وجهة النظر الساذجة هذه، لا تعني في شيء التبسيط. إذ إن، الكون غير المحدد ، هو مثال ناجح، لفن التفلسف الذي يستفيد من المعطيات العلمية من دون أن يبقى محاصرا بفخ العلموية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: المرشحون للانتخابات الرئاسية ينشطون آخر تجمعاتهم قبيل


.. رويترز: قطر تدرس مستقبل مكتب حماس في الدوحة




.. هيئة البث الإسرائيلية: تل أبيب لن ترسل وفدها للقاهرة قبل أن


.. حرب غزة.. صفقة حركة حماس وإسرائيل تقترب




.. حرب غزة.. مزيد من الضغوط على حماس عبر قطر | #ملف_اليوم