الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توترات الهامش والمركز في نماذج من أدب ما بعد الاستعمار

نجلاء أبوعجاج

2022 / 6 / 5
الادب والفن


يُعنى هذا المقال بدراسة توترات الهامش والمركز في نماذج من أدب ما بعد الاستعمار، ويركز أولًا على محاولة تعريف أدب ما بعد الاستعمار، وتحديد أهم موضوعاته وتقنياته، وعرض أعمال أهم النقاد والأدباء الذين ارتبطت أسماؤهم بأدب ما بعد الاستعمار ونظرياته، ثم يُقدم تحليلًا لعدد من النماذج الأدبية التي تنتمي لأدب ما بعد الاستعمار، وهي نماذج من أعمال كُتّاب من أصول غير أوروبية وأقاموا في إنجلترا، سواء لفترات محددة من أجل غرض الدراسة، أم بصفة دائمة من خلال الهجرة، أو ولدوا في إنجلترا لعائلات غير أوروبية أو عائلات مختلطة، وتُركز دراسة هذه النماذج على بحث الآليات التي اعتمدتها الشخصيات فيها للتعامل مع التوترات التي تنشأ عن تماس الهامش والمركز، وتعرض النجاحات والإخفاقات التي خبرتها هذه الشخصيات، وتضم هذه النماذج "موسم الهجرة إلى الشمال" (Season of Migration to the North) (1965) لطيب صالح، و"مغسلتي الجميلة" (My Beautiful Launderette) (1985) لحنيف قريشي، و"أسنان بيضاء" (White Teeth) (2000) لزادي سميث، و"بريك لين" (Brick Lane) (2003) لمونيكا علي.
والفرضية التي يقوم عليها هذا المقال تتمثل في أن دراسات ما بعد الاستعمار مشروع غربي، مثله في ذلك مثل الاستشراق، ويرى المقال أن المشروعين يضعان الشرق، سواء في ظل الاستعمار كما في كتابات المستشرقين، أم في مرحلة التحرر من الاستعمار التقليدي والوقوع في شرك الاستعمار الجديد بصوره المختلفة، يضعان الشرق في إطار ضيق من الموضوعات والخصائص يرى الشرق من خلال علاقته بالغرب فقط، فالمعضلة في إطار الاستشراق أن الشرق غير قادر على التعبير عن نفسه، أو تمثيل نفسه، فيحتاج إلى الغرب، إلى الباحثين والدارسين والرحالة والجغرافيين والقادة العسكريين والساسة الغربيين ليقوموا بهذا الدور نيابة عنه، ليمثلوا الشرق، أما في أدب ما بعد الاستعمار فالشرق أسير العلاقة بينه وبين المستعمِرفي صورة فكرية تجعله دائمًا يدور في فلك قياس ثقافته وممارساته وهويته ووجوده بالإشارة إلى الغرب، فنشأة أدب ما بعد الاستعمار كحقل معرفي جاءت مع نشر كتاب "الإمبراطورية ترد"The Empire Writes Back في عام 1989، الذي كان لصدوره تأثير كبير على النظر إلى أدب ما بعد الاستعمار، حيث قدم الكتاب مفهوم "الهيمنة"، وهو المفهوم الرئيس في وصف العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وعرض نماذج من أدب ما بعد الاستعمار، حيث يُعنى الكتاب بالنصوص الأدبية المكتوبة باللغة الإنجليزية لكُتّاب ليست الإنجليزية لغتهم الأم، ولكنهم يكتبون بها نتيجة للتعليم الذي تلقوه في فترة الاستعمار، أو لأنها أصبحت اللغة الرسمية لدولهم بسبب الاستعمار، وتنظر دراسات أدب ما بعد الاستعمار هذا الأدب في مدى قدرة هؤلاء الكتاب على التعبير عن أنفسهم وعلى صياغة صوت سياسي وثقافي لهم في لغة أجنبية، وهي اللغة الإنجليزية، اللغة المسيطرة ولغة الاستعمار، فتمثلوها وطوعوها واستخدموها للتعبير عن واقع ثقافي خاص بهم وتقديمه للعالم أجمع (Ashcroft 203)، وهكذا، فإن أدب ما بعد الاستعمار يقوم على أساسين اثنين: اللغة الإنجليزية من ناحية والواقع الثقافي في البلاد التي تحررت من الاستعمار من الناحية الأخرى، وهذا الواقع الثقافي يتمثل في محتوى الثقافة المحلية ووجود أفرادها في ظرف تاريخي يتضمن وقوفهم وحدهم في عالم صاغت موازين القوى فيه العلاقات بين المستعمِر والمستعمَر.
وبذلك استمر الارتباط بين الشرق والغرب في ما يُعرف بأدب ما بعد الاستعمار الذي يرى زين الدين ساردار أن جيني شارب محقة في توضيح الفرق بينه وبين أدب الاستقلال، فيقول إن شارب ترى أن فانون وغيره من الكتاب المناهضين للاستعمار مثل (C.L.R. James, Aimé Césaire, Amilcar Cabral, Ngugi wa Thiong and Albert Memmi) "كانوا بعيدين من الناحية الجغرافية والتاريخية عن التطور المؤسسي لأدب ما بعد الاستعمار، فبخلاف أدب الاستقلال الذي ارتبط بحركات التحرر من الاستعمار في بلدان العالم الثالث في الستينات والسبعينات (من القرن العشرين)، فإن أدب ما بعد الاستعمار خطاب أكاديمي ينتمي للعالم الأول ويقع في الإطار الزمني في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين" (زين الدين ساردار xviii)، وفي هذا الصدد تنشأ الحاجة إلى العودة للتعريف الذي قدمه بيل أشكروفت وآخرون، حيث إن ما ورد عند أشكروفت يبدو أنه يختص بأدب ما بعد الاستعمار وليس أدب الاستقلال، وربما يحتاج الأمر إلى المزيد من الدراسة المتمركزة حول تعريف أدب ما بعد الاستعمار ووضع حدوده وأطر الدراسات فيه وموضوعات اهتمامه.
تعريف أدب ما بعد الاستعمار:
يقول هومي بابا إن أدب ما بعد الاستعمار يشير إلى "أن نظام العالم الحديث الذي يقوم على التنافس من أجل السلطة السياسية والاجتماعية لا يكفل العدالة والمساواة من حيث التمثيل الثقافي، فيبرز أدب ما بعد الاستعمار من خلال شهادات العالم الثالث عن فترة الاستعمار وخطاب الأقليات في إطار تقسيم العالم جغرافيًا إلى شرق وغرب وإلى شمال وجنوب" (171)، ويستطرد ليشرح أن هولاء الذين عانوا من القهر وسيطرة الاستعمار والتيه يعلموننا أقوى الدروس في التفكير وفي الحياة، مما يجعلنا ننظر إلى النصوص الأدبية التي تأتي من الهامش أو تلك التي تعبر عن الأقليات (172)، وفي هذا الإطار يرى هومي بابا أن الثقافة "استراتيجية للبقاء"، ويرى أن التعريف الدقيق لها ومعرفة ما تعنيه الثقافة أمور شائكة في ظرفنا المعاصر الذي يشهد تغيرات تكنولوجية وتحركات على الخريطة تنقل المهاجرين من مكان لمكان (172).
ويُعنى أدب ما بعد الاستعمار بدراسة العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، ورؤية أبناء المستعمرات السابقة لهويتهم الثقافية ولموقعهم على خريطة العالم بالمعني الحرفي لهذا الأمر وبالمعنى المجازي، فالعالم في ظل الامبراطوريات الاستعمارية للدول الأوروبية كانت ترفرف على أراضيه أعلام هذه الدول، وتتشكل العلاقات الجيوسياسية فيه في إطار مصالح هذه الدول وميزان القوة الذي يحدد هذه المصالح ويوجهها، أما في عالم ما بعد الاستعمار فقد خرجت إلى النور أعلام دول جديدة حصلت على الاستقلال، ووضعت تصورًا لحدودها وفق إحساسها بهويتها القومية مما أدى إلى صراعات إقليمية بين الدول التي استقلت حديثا بعضها وبعض، هذا إلى جانب الصراعات الثقافية بين الثقافة المحلية في المجتمعات حديثة العهد بالاستقلال والثقافة الغربية، وانعكس هذا السياق على الموضوعات التي يتناولها أدب ما بعد الاستعمار مثل وصف المكان ودراسة الهوية، والتعريف التقليدي لأدب ما بعد الاستعمار يتمثل في الأدب الذي يكتبه أبناء المستعمرات بلغة المستعمِر، ويُعنى في المقام الأول بالبحث عن مكان للهوية القومية في مقابل ثقافة المستعمِر وهيمنته، هذا بالإضافة إلى الأدب الذي يكتبه أبناء العرقيات غير الأوروبية وأبناء الزيجات المختلطة من المقيمين في إنجلترا بصفة مؤقتة أو المهاجرين إليها، ومؤخرًا اتسعت مظلة أدب ما بعد الاستعمار لتشمل أي نصوص تنضوي على مقاومة من أي نوع (ماكلويد 6).
عندما جمع بيل أشكروفت وآخرون نماذج من النصوص الأدبية التي جاءت من المستعمرات السابقة للإمبراطورية البريطانية، ووضعوا نظرية حولها مفادها أن الإمبراطورية ترد، ركزوا على استخدام اللغة الإنجليزية للرد على الإمبراطورية، وهذا يثير تساؤلات حول مدى قدرة هؤلاء الكُتّاب الذين يكتبون باللغة الإنجليزية على التعبير عن هويتهم الثقافية، فهم يستخدمون لغة الآخر لمخاطبة الآخر ولوصف أنفسهم، وهذا يجعلهم دائمًا مسجونين في إطار ثنائية "نحن وهُم"، ويشير إلى تفوق "هُم"، والأمثلة التي يدرسها كتاب "الإمبراطورية ترد" تتضمن في إس نايبول الذي تُعنى أعماله بالمأزق الذي يقع فيه أبناء المستعمرات السابقة للإمبراطورية البريطانية عندما يستخدمون لغة أجنبية، اللغة الإنجليزية، في كتابة الذات، ومايكل أنتوني الذي يتناول في أعماله قضية الأصالة في وصفه لهولاء الذين يسكنون هوامش الإمبراطورية، وتيموثي فندلي المهتم بالآخر وباحتمالات التهجين، وآر. ك. نارايان الذي تُركز أعماله على تمثل القوة، هؤلاء الكُتّاب تمثلوا اللغة الإنجليزية، لغة الإمبراطورية البريطانية، واستخدموها لعرض رؤيتهم حول الثقافة وآرائهم حول العلاقة بينهم وبين ثقافة الإمبراطورية، وبالتالي، فإن أعمالهم، بالرغم من أنها محاولات للوقوف أمام الإمبراطورية والرد عليها، فإنها مازالت حبيسة في إطار لغة الإمبراطورية، مما يجعل مشروع أدب ما بعد الاستعمار مشروع هيمنة غربية لا مشروع تحرر واستقلال.
واتسعت مظلة أدب ما بعد الاستعمار لتشمل أية نصوص مكتوبة باللغة الإنجليزية لكُتّاب من غير الثقافة الغربية أو نصوص مترجمة للغة الإنجليزية، التي أصبحت الآن اللغة العالمية في إطار الظرف التاريخي الذي نحيا فيه والذي يُطلق عليه "العولمة"، وهذا يسمح بالنظر لأدب ما بعد الاستعمار، إذن، بوصفه الوجه الآخر للاستشراق، فالاستشراق يصف الشعوب والمجتمعات غير الغربية من وجهة نظر الغرب، ويقيس نجاحات وإخفاقات هذه الشعوب والمجتمعات وفق نسق القيم الغربية، وخلقت كتابات المستشرقين صورة نمطية للشرق تتضمن "نسيجًا من الأفكار والمعتقدات والعبارات السارية والمعرفة بالشرق" (سعيد 205)، ولم تسمح هذه الكتابات لصوت الشرق بالتعبير عن نفسه وبتصوير نفسه، كما أنها لم تعطه الفرصة للتعليق على الصورة النمطية للشرق التي كرستها كتابات المستشرقين لفترة من الزمن تصل إلى مائتي عام، وشكلت هذه الكتابات الأساس الفكري للاستعمار، حيث إن الشرق غير قادر على إدارة أموره والاستفادة من ثرواته للمضي قدمًا نحو التقدم مثلما حدث في أوروبا مع بزوغ الثورة الصناعية ونشأة الفلسفة الليبرالية، وقد بات لزامًا على الرجل الأبيض أن يحمل عبء تقديم الحضارة لهذا المكان من العالم الذي تسوده الخرافة ويشكو من الفقر والجهل والقهر السياسي، تمامًا كما نرى في رواية تشينوا أتشيبي "الأشياء تنهار" (Things Fall Apart) (1958) التي تصف دخول الرجل الأبيض إلى إحدى القرى الأفريقية حاملًا نمط حياة مختلف، حيث بنى الكنيسة والمدرسة وحارب معتقدات أهل القرية، تلك التي رأى الرجل الأبيض أنها خرافات لا تتفق مع العقل ولا تتفق مع المسيحية، أي لا تتفق مع القصص الكبرى التي يؤمن بها الغرب، وهذه الرواية وغيرها من النصوص التي تنضوي تحت مظلة أدب ما بعد الاستعمار، وإن كانت تُعبّر عن صوت الشعوب والثقافات غير الغربية، وتصف مقاومة هذه الشعوب والثقافات لهيمنة المؤثرات الثقافية الواردة من الخارج، فإنها ما زالت أسيرة النمط الذي قام عليه الاستشراق، نمط "نحن وهُم"، أي أن أدب ما بعد الاستعمار ما زال يدور في فلك الاستعمار، ولكن في صورته الجديدة، الاستعمار الثقافي والفكري، والنماذج الأدبية التي يُقدمها هذا المقال تشير إلى ذلك.
توترات الهامش والمركز في أدب ما بعد الاستعمار:
تتمحور دراسة النصوص الأربعة، "موسم الهجرة إلى الشمال"، و"مغسلتي الجميلة"، و"أسنان بيضاء"، و"بريك لين"، حول رؤية مفادها أن الحداثة والاستعمار صنوان، في حين تتقاطع دراسات ما بعد الاستعمارمع الأطر الفكرية لما بعد الحداثة، فالحداثة وما رافقها من توجه نحو الصناعة أدت إلى التنافس بين القوى الأوروبية الكبرى على المواد الخام ومصادر الطاقة سواء كانت في داخل أوروبا أو في مناطق أخرى من العالم، وعلى الأسواق اللازمة في جميع أنحاء العالم، فنشأت الإمبراطوريات الأوروبية العابرة للبحار، واستمر الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا قرابة قرن كامل، ثم كان تفكيك الإمبراطوريات الأوروبية العابرة للبحار بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 مما أتاح الفرصة للأصوات من خارج المركز الأوروبي الاستعماري، سواء أكانوا يكتبون ردًا على الإمبراطورية من بلادهم التي تحررت من الاستعمار السياسي الصريح، ومازالت تكافح الاستعمار العقلي والثقافي والاقتصادي، أم كانوا من المهاجرين الذين أقاموا في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أو ارتحلوا إلى أوروبا لاحقًا للعمل أو للدراسة، وتعكس كتابات هؤلاء محاولات الحصول على مكان لأنفسهم في النسيج الثقافي لهذه البلدان الأوروبية التي فقدت سطوتها الاستعمارية، ولكنها لم تفقد الإحساس بالتفوق الحداثي، وتُعنى هذه الورقة بنماذج من هذه الكتابات، فتدرس محاولات الشخصيات في هذه النصوص الأربعة للنفاذ إلى المركز والالتحام بالثقافة الأوروبية، وترصد الآليات التي تتبناها الشخصيات لهذا الغرض، وذلك في إطار تصوير لعالم مابعد الإمبراطورية الذي شهد استقلال المستعمرات، والكتابة ردًا على الإمبراطورية، وظهور فكر ما بعد الحداثة.
لقد تزامن بزوغ الحداثة في أوروبا في القرن التاسع عشر مع الاهتمام بالشرق، والعمل على بسط النفوذ الأوروبي في بلدان أفريقيا وآسيا، وتكوين إمبراطوريات عابرة للبحار، من أهمها الإمبراطورية البريطانية التي كانت تشتهر في نهايات القرن التاسع عشر أنها لا تغيب عنها الشمس، فالاستعمار كان لصيقًا بالحداثة ومعبرًا عن جوانب منها، وبينما يرى هومي بابا أن الاستعمار من بين تناقضات الحداثة ، وأن دراسات ما بعد الاستعمار تُعنى بهذا التناقض، وبتناقضات حركة التنوير إجمالا، فإن هذه الورقة تميل إلى القول بأن الاستعمار كان من بين أسس الحداثة التي رسخت القوة الاقتصادية والسياسية للإمبراطوريات الأوروبية العابرة للبحار، ولم تنظر إليه الإمبراطوريات وقتئذ على أنه من التناقضات أو المشكلات، بل بذلت في سبيله الكثير من الجهود، وذهبت الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية إلى الحرب فيما بينها لأسباب كانت الهيمنة الاستعمارية الملازمة والمحققة للمصالح الاقتصادية على رأسها، وهكذا فإن الاستعمار كان لصيقًا بالحداثة ومعبرًا عن جانب منها، ولم يكن من بين أسباب الأزمة التي عانت منها الحداثة في مطلع القرن العشرين بعد انتهاء الحرب الكبرى في 1919، لقد تنبهت نظريات ما بعد الاستعمار لهذا المأزق الحداثي لاحقًا، أما الأزمة الحقيقية التي تعرضت لها الحداثة في السنوات الأولى من القرن العشرين، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى فتمثلت في قدرة العلم والعقل على إحداث الدمار من خلال الأسلحة الحديثة التي اخترعها العلم ومن خلال استخدام العقل في النهضة العلمية والصناعية التي شهدتها أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كما أن عجز الفلسفة الليبرالية، التي ظن فلاسفة نهايات القرن التاسع عشر أنها ستحقق الرفاهية والسعادة للقارة الأوروبية، عن تفسير ما شهدته أوروبا أثناء الحرب العالمية الأولى من دمار وموت وفقر وقسوة زعزع الثقة في الجوهر الفلسفي للحضارة الغربية الحديثة، هذا إلى جانب وقوف المسيحية موقف المتفرج السلبي من الأحداث التي شهدتها أوروبا في هذه الفترة، والمسيحية إحدى القصتين الكبرتين اللتين تقف عليهما الحضارة الغربية في تفسيرها للعالم، والقصة الأخرى هي العلم، لم يكن الاستعمار يشغل بال أوروبا، إذن، بوصفه موضع تناقض مع الأفكار الكبرى التي تقوم عليها الحضارة الغربية، وهكذا ترى هذه الدراسة أن الحداثة والاستعمار متلازمان لا تناقض بينهما على المستوى النظري والعملي إذا نظرنا إليهما معًا من وجهة نظر الغرب، وقت بناء الإمبراطوريات وترسيخ السلطة الأوروبية في المستعمرات في أفريقيا وآسيا، كما أنهما كانا متلازمين لدى أبناء المستعمرات أيضًا، فقد قدم الرجل الأبيض لأبناء المستعمرات نظم التعليم الحديثة وبنى المدارس واستقدم المدرسين، كما أرسى النظم الإدارية وطبق فكرة الحكومة المركزية، وفي كثير من الحالات لم يكن أهل المستعمرات يعرفون هذا النوع من تنظيم الحكم والإدارة، وكذلك بعث الرجل الأبيض بالمبشرين لنشر المسيحية وأقام الكنائس، فنشأ العداء بين الثقافات المحلية المتجذرة المتوارثة وبين الثقافات الأوروبية الوافدة، وأدرك المتعلمون في هذه المستعمرات، ممن قرأوا الليبرالية وتعرضوا لفكر التنوير التناقضات التي تنبني عليها الحضارة الغربية في إيمانها بالديمقراطية والليبرالية في بلادها من جهة، واعتقادها بضرورة الحكم المطلق للسلطة الاستعمارية في المستعمرات من جهة أخرى، كما نرى مثلًا في رؤية سير ألفريد لايال لما يجب أن يكون عليه الحكم البريطاني في الهند في نهايات القرن التاسع عشر ، ويرى أيضًا أنه من حق المستعمر الإنجليزي أن يغير من العادات الفكرية للهند وأفكارها الدينية والنسق الأخلاقي بها في ضوء مرتكزات حداثة الحضارة الغربية.
ومثلما ظهرت الحداثة في الغرب، جاءت ما بعد الحداثة من رحم الحضارة الغربية للنظر في أسس الحضارة الغربية، ويرتكز فكر ما بعد الحداثة على عدة مفاهيم، من أبرزها التشظي، وخلخلة المركز، ولانهائية المعنى، وعدم وجود الحقيقة وبالتالي فإن البحث عنها ضرب من الأوهام، وتفكيك السلطة، وفقدان الإيمان بوعود الحداثة التي قدمها العلم والليبرالية والتكنولوجيا والسلطة الدينية، وقبول البدائل مثل جميع الديانات وجميع الأنساق الأخلاقية، والتضمين بحيث تذوب الفروق بين الهامش والمركز، والنظرة إلي البيئة وتبني قضاياها، والقول باختفاء الحدود سواء بين الدول أم بين المجموعات الثقافية أم بين الأجناس الأدبية، وعلى النغمة ذاتها تحتفي دراسات ما بعد الاستعمار بالهامش وسكانه وثقافاته، وترسخ سقوط المركز الإمبريالي، وتعتمد سياسات التفاوض، وتُولي التهجين الثقافي عنايتها، وترى فيه سبيلًا للوقوف أمام سطوة الخطاب الاستعماري والثقافة الاستعمارية، وتقول بفضاء ثالث تخضع فيه الهوية لعملية إنتاج لا تنتهي نتيجة التداخلات المستمرة والحركة الدائمة للعوامل التي تشكل الهوية، وبالتالي فليس للهوية جوهر محدد صلب ترى فيه ذاتها وتستند عليه.
وتطمح هذه الدراسة إلى تبيان تقاطعات نظريات ما بعد الاستعمار مع أطر فكر ما بعد الحداثة من خلال تحليل آليات النفاذ إلى المركز في أربعة نصوص تُعنى بثنائية المركز/الهامش، وتُغطي الفترة الزمنية من منتصف القرن العشرين حتى أوائل القرن الواحد والعشرين، فتشهد بذلك تفكك الإمبراطورية البريطانية وخسارتها لمستعمراتها، ثم بزوغ فكر ما بعد الحداثة ومقولات التشظي والانشطار واللامركزية، وهذه النصوص تجمعها مظلة أدب ما بعد الاستعمار، ويُمكن النظر إليها على أنها نماذج ممثلة للعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر من خلال تشابكات وأحداث تدور كلها في بريطانيا، فجميع الشخصيات غير الأوروبية التي تسكن هذه النصوص انتقلت جغرافيًا من أوطانها إلى بريطانيا، إما في رحلات قصيرة للتعليم وإما للإقامة الدائمة، أو وُلدت في بريطانيا لأسر مهاجرة أو مُهجنة، وترى الدراسة أنه، بشكل عام، ثقافات الهامش أو الثقافات غير الغربية في النصوص الأربعة ما زالت تؤمن بالمركز، أي بتفوق الحضارة الغربية وتشكيلها لكيان أكثر تمدنًا ونجاحًا، وترى هذه الثقافات ذاتها بالمقارنة إلي المركز وفي إطار العلاقة معه، وترهن بقاءها بقدرتها على النفاذ إلى المركز والانتماء إليه، وذلك بالرغم من المقاومة التي قد تلقاها، حيث إن نفاذها إلى المركز يؤكد عدم قدرته على التسيد الذاتي، ويبرز تشظيه، ومن هنا تأتي مقاومة المركز لهذه المحاولات، وتدرس الورقة هذه المحاولات في النصوص الأربعة، فترصد النجاحات والإخفاقات، وتبحث في أوجه مقاومة المركز لها، بُغية التوصل إلى تصور لنمط العلاقة بين المركز والهامش في إطار نظريات ما بعد الاستعمار وتقاطعاتها مع فكر ما بعد الحداثة، وتعكس هذه النصوص الأربعة صعوبة التوصل إلى الحل السحري الذي قدمه هومي بابا في كتابه "موقع الثقافة"، حيث لا تنجح الشخصيات التي تسكن عوالم هذه النصوص في الوصول إلى الفضاء الثالث الذي وصفه هومي بابا في كتابه، والذي يُعد من وجهة نظره غاية العلاقة بين الثقافات في عالم ما بعد الاستعمار، وتعكس النصوص الأربعة استمرار سيطرة المركز الأوروبي بالرغم من المشكلات التي يُعاني منها بسبب الصدام بين ثقافات الهامش وثقافة المركز.
في النصوص الأربعة موضوع الدراسة، وهي موسم الهجرة إلى الشمال"، و"مغسلتي الجميلة"، و"أسنان بيضاء"، و"بريك لين"، تُقرر المركزية الأوروبية حدود المسموح به بالنسبة للقادمين من أطراف الإمبراطورية، فالمركزية الأوروبية نقطة الارتكاز في هذه النصوص، وذلك بالرغم من دعاوى تفكك المركز وفق نظريات ما بعد الحداثة، فنرى في هذه النصوص أن المركز ما زال يحتفظ بقدرته على تشكيل الأحداث والشخصيات، وتصبح القدرة على النفاذ إليه، سواء سعيًا للقبول والتضمين أم رغبة في الانتقام، محور الحركة في هذه النصوص، وهكذا فإن النصوص الأربعة التي تندرج تحت مظلة أدب ما بعد الاستعمار لا تحظى بوجود مستقل بعيدًا عن المركز، وبالتالي فإنها تثير تساؤلات حول ماهية هذا الأدب، وتشير إلى كون أدب ما بعد الاستعمار مشروعًا غربيًا، كما يقول زيد الدين ساردار في مقدمته لكتاب فرانز فانون "بشرة سوداء أقنعة بيضاء" ، حيث يرى ساردار أن خطاب الاستشراق وخطاب أدب ما بعد الاستعمار يؤكدان هيمنة المركز الأوروبي، بالرغم من اختلاف منظور الكتابة في كل منهما، ففي خطاب الاستشراق يكون تمثيل الشرق من خلال كتابات المستشرقين الغربيين الذين رسخوا فيما بينهم صور الشرق، كما أوضح إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق ، وتتلخص هذه الصور في أن أهل الشرق لديهم "عقول مضطربة" (سعيد 38)، وكاذبون (39) وغير عقلانيين وفاسدون أخلاقيًا (40)، هم جنس يجب استعماره (44)، و"يسكنون هذه الفضاءات الصامتة الخطرة التي تقع خلف حدود أراضينا المألوفة ...وتنذر بالخطر" (57)، والشرق في هذا الخطاب "يظل دائمًا على ما هو عليه، بلا تغيير، يظل جامدًا، يظل موضوعًا غريبًا" (98)، وهو المكان الذي يمارس فيه الأوروبيون التجارة، مكان "خارج أوروبا ثقافيًا وفكريًا وروحيًا، وخارج الحضارة الأوروبية" (71)، باختصار، إن الشرق في خطاب الاستشراق يُوصف بأنه في حالة "بدائية" (120)، وذلك ضمن المشروع الاستعماري الغربي الذي كان يهدف فقط لخدمة المصالح السياسية والاقتصادية للقوى الاستعمارية الأوروبية، أما في خطاب أدب ما بعد الاستعمار، فيأتي تمثيل الشرق في كتابات أبناء هذه المنطقة سواء أكانوا يقيمون في داخل حدود بلادهم في أفريقيا وآسيا وجزر البحر الكاريبي، أم كانوا يقيمون في الدول الأوروبية سواء تلك التي كانت يومًا تستعمر بلادهم أم غيرها، ولكن المركزية الغربية تظل نقطة المرجع في هذه الكتابات، سواء من خلال الوقوف أمامها والرد عليها بالكتابة كما نرى في كتاب "الإمبراطورية ترد بالكتابة" ، أم في إطار الدفع بأن لهم الحق في المطالبة بالتضمين والانتماء إليها حال إقامتهم في أوروبا أو ولادتهم على أراضيها لوالدين من المهاجرين أو لأحدهما، ويصبح في هذه الحالة النفاذ إلى المركز هدفًا يسعون من أجله، ويدرس هذا الجزأ من المقال تداعيات هذا السعي في النصوص الأربعة سالفة الذكر.
في "موسم الهجرة إلى الشمال" وصفت القصة التي يسردها الراوي بعد أن نال السودان استقلاله وبعد أن عاد الراوي من رحلة الدراسة في إنجلترا محاولات مصطفى سعيد للنفاذ إلى المركز وفق الأطر التي حددها الاستعمار، فتُصور الرواية مصطفى سعيد بشكل يناسب رؤية المستشرقين، فنراه بدائي النزعة والتصرفات، وقد بدأت رحلة مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال" نحو المركز منذ سنوات طفولته، فإجادته للغة الإنجليزية كانت دومًا مثار إعجاب معلميه، ومصدر زهو له، واستمر أداؤه المتميز حتى التحاقه بالجامعة في إنجلترا، حيث اعتمد وسيلة أخرى للتوجه نحو المركز تتمثل في علاقات عاطفية مع عدد من الفتيات الإنجليزيات، ثم زواجه من إحداهن، ثم كانت حادثة قتله لزوجته في مشهد محمّل بالغضب والرغبة في آن واحد، وحوكم بتهمة القتل وقضى سنوات في السجن قبل أن يعود إلى موطنه السودان غريبًا يقيم في قرية لا يعرفه فيها أحد، ويُخفي سره في حجرة مغلقة ترك مفتاحها بعد مماته للراوي، الذي يُشبه مصطفى سعيد بقدر لا بأس به، فمثل مصطفى سعيد، درس الراوي في إنجلترا وتزوج من إنجليزية، ولكن بخلاف مصطفى سعيد يعيش الراوي حياة زوجية مستقرة، فيبدو أن رحلته نحو المركز لم تكن عاصفة بقدر ما كانت رحلة مصطفى سعيد، ربما لوضوح جذور الراوي، فنقرأ عن أبيه وجده وبيت عائلته وأفرادها وطقوسها، ونقرأ عن ذكرياته في القرية، في حين أن ضبابية ماضي مصطفى سعيد تجعل منه نبتًا مهزوزًا تائهًا في طقوس المحاكاة تارة بحديثه بلغة إنجليزية منمقة، أو غارقًا في حكايات المستشرقين تارة أخرى بقصصه عن الأفيال والأسود التي تملأ شوارع بلاده، وعن التماسيح التي تدلف إلى منزله في السودان وقت القيلولة، وعن منزله الذي يقع على ضفاف النيل ويُمكن له أن يلمس مياه النهر بيديه من نوافذه، وعن والديه الذين غرقا في النهر، هذه القصص التي تنسج شخصية خيالية تناسب رؤية الإنجليز لسكان هذا المكان الغامض، الشرق، البدائيين أصحاب البشرة الداكنة.
ومثل مصطفى سعيد والراوي في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" ارتحل الكاتب السوداني طيب صالح إلى إنجلترا، وُلد طيب صالح في عام 1929 في السودان، وتوفي في عام 2009 في لندن، عمل طيب صالح لسنوات طويلة في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، وعمل لفترة في وزارة الإعلام في قطر، ثم مديرًا إقليميًا بمنظمة اليونسكو في باريس، وممثلا لهذه المنظمة في عدد من دول الخليج العربي، ثم استقر في لندن حتى وافته المنية في عام 2009، ومن أشهر أعماله رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي ظهرت باللغة العربية في عام 1967 في بيروت، ثم تُرجمت إلى حوالي ثلاثين لغة، من أهمها اللغة الإنجليزية، وتتضمن أعمال طيب صالح روايات مثل "عرس الزين" في عام 1969، و"مريود" في عام 1985، ومجموعة قصصية بعنوان "دومة ود حامد" في عام 1997، وعددًا من الكتب التي تُعنى، مثلما تُعنى أعماله الأدبية، بالسودان والعلاقات بين الشرق والغرب، وتحتل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" مكانًا دائمًا على قوائم القراءة لمقررات أدب ما بعد الاستعمار في عدد كبير من الجامعات في العالم الغربي والوطن العربي.
من جهة فإن رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" تُرسخ الخطاب الاستعماري في تصويرها لمصطفى سعيد على نمط الرؤية التقليدية للشرق التي نجدها في خطاب الاستشراق، وتصف محاكاته للمركز في إجادته المتميزة للغة الإنجليزية، ثم في تفاصيل حجرته المغلقة في السودان، تلك التي تضم كل متعلقاته التي تنتمي إلى فترة حياته في لندن وعددًا كبيرًا من الكتب الإنجليزية والصور، وبعضًا من كتاباته المنشورة عن الاقتصاد والاستعمار، وقصاصات من الأوراق عليها بعض الخواطر والقصائد، وكراسة كتب على صفحتها الأولي: "قصة حياتي: بقلم مصطفى سعيد"، وعلى الصفحة التالية كتب الإهداء "من أجل هؤلاء الذين يرون بعين واحدة، ويتكلمون لغة واحدة، ويرون الأشياء سوداء أو بيضاء، غرب أو شرق"، ولم يأتمن مصطفى سعيد أحدًا على هذا السر سوى الشخص الوحيد في القرية الذي تعلم في لندن أيضًا، كما لو كانت الرسالة "أنت وحدك من ستفهمني"، ومن جهة أخرى تقف حادثة قتل زوجته الإنجليزية موقفًا رمزيًا ضد الاستعمار يتمثل في العنف ضد المستعمر والانتقام منه، فغزو مصطفى سعيد لقلوب الفتيات الإنجليزيات، وتأثيره الساحر عليهن، والموت الذي يلحق باثنتين منهن تخلصن من حياتهن بعد علاقة عاطفية مع مصطفي سعيد، وجه من أوجه الوقوف في وجه الاستعمار، ولكن السؤال هنا، ما الغاية من هذا النوع من الانتقام، لو كان الأمر انتقامًا بالفعل من المحتل المستعمر الغازي الذي أخضع الأرض، فذهب مصطفى سعيد إلى عقر داره وأخضع النسوة له وأفرغ فيهن انتقامه، فما الرسالة التي تبثها الرواية إذن؟ ربما تكون الرسالة أن الرحلة إلى المركز متعثرة تشوبها الصعوبات، خاصة إذا كان المرتحل به الكثير من سحر الشرق وبدائيته، وربما تكون الرسالة أن الشرق لا يملك وسيلة للوقوف في وجه الاستعمار غير الارتكان إلى الانتقام الجنسي، وربما الرسالة أن الشرق مهما تعلم وأجاد اللغة الإنجليزية وتفوق في التخصص العلمي، الذي هو في حالة مصطفى سعيد الاقتصاد السياسي، فسيظل ضعيفَا محاصرًا لا أمل له سوى الانتصارات الصغيرة في علاقات جنسية مشوبة بالتوتر والإخفاقات والانتقام، وإجمالا فإن الرواية تُطلق رسالة مفادها أن رحلة مصطفى سعيد إلى إنجلترا ومحاولاته للنفاذ إلى المركز رحلة يُغلفها العنف والقتل والدماء.
أما رحلة الراوي إلى المركز فتبدو أكتر نجاحًا لأنه أكثر اتزانًا من مصطفى سعيد، فقد أكمل الراوي دراسته الجامعية، وحصل على درجة الدكتوراه، في الشعر الإنجليزي، مما يجعلها درجة جامعية غير مفيدة في سياقه المحلي، ولكنه أتم الدراسة وحصل على الدرجة، في حين فشل مصطفى سعيد في الانتهاء من دكتوراه الاقتصاد التي كان يدرس لها في لندن، أما من الناحية الاجتماعية، فقد نجح زواج الراوي من زوجته الإنجليزية، وأثمر أطفالا، وعادت معه الزوجة الإنجليزية إلى السودان، وذلك بخلاف قصة زواج مصطفى سعيد، كما أن الراوي عاد إلى قريته وأسرته، في حين استقر مصطفى سعيد في القرية غريبًا، فهو لا ينتمي إليها أصلا، وهذا يعزز ضبابية أصول مصطفى سعيد، كما أنه يرسخ فشل رحلته نحو المركز، فليس له مكان يعود إليه ليشعر بالأمان، غريب في أرض الاستعمار، وغريب في بلده الأم بعد عودته من رحلته، وغريب في موته، أو اختفائه، ولكن رحلة الراوي إلى المركز ونفاذه نوعًا ما إلى إليه في صورة درجة الدكتوراه والزواج من إنجليزية قد أثّرت في التكوين الثقافي للراوي بشكل دفع بأحداث الرواية إلى اتجاه مأساوي، فيرفض الراوي الزواج من أرملة مصطفى سعيد، وهو زواج ثان بالنسبة له لا تشوبه شائبة وفق عادات القرية، كما أنه قد رصد مشاعر تكونت في داخله لأرملة مصطقى سعيد، لكنه يؤثر الالتزام بالعادات الثقافية التي تعلمها في الغرب ويرفض الارتباط بها، ومن ناحية أخرى، يظهر أيضًا تأثر أرملة مصطفى سعيد بالغرب في رفضها للزواج من أي من رجال القرية بعد وفاة مصطفي سعيد، وتجد في الراوي وحده أملها المنشود، ربما لأوجه الشبه بين الراوي وزوجها الراحل، وربما لأنه يمكنها التوصل إلى اتفاق مع الراوي كما طلبت منه يتضمن أن يتزوجها صوريًا فقط ليحميها من أهل القرية وضغوطهم أنها يجب أن تتزوج، وأدى بها رفض الراوي للزواج منها إلى الزواج من واد ريس، هذا الزواج الذي استمر أسبوعين اثنين بدون أن يتبادلا فيهما كلمة واحدة، ثم انتهي بقتل أرملة مصطفى سعيد لزوجها الجديد ثم قتل نفسها، مما يعكس الأثر السلبي ثقافيًا لتعليم الراوي وإقامته في إنجلترا وزواجه من إنجليزية، فقراره برفض الزواج من أرملة مصطفى سعيد أدى إلى حادثة القتل الوحيدة في القرية، ويُمكن القول طبعًا إن واد ريس قد أسهم في المأساة بإصراره على الزواج من أرملة مصطفى سعيد، وملاحقته لها، وتصف الرواية واد ريس بأنه شيخ كبير من المفترض أن يكون قد زهد النساء، وتُشير إلى نزقه وإدمانه للملذات الحسية، ومثل هذا النوع من الشخصيات نجده في خطاب الاستشراق وحديث المستشرقين عن الحريم والملذات الجنسية في الشرق، ويقف بذلك واد ريس ممثلا للشرق في مقابل الراوي الذي يُمثّل التعليم الغربي في الرواية إلى جانب مصطفى سعيد، والتضاد بينهما يعكس العلاقة بين الشرق والغرب في عالم ما بعد الاستعمار، فمن تأثر بالتعليم والفكر الغربي وتبنى قيمًا ثقافية غربية تختلف عن القيم الثقافية التي يعيش في إطارها المجتمع لا يندمج في نسيج المجتمع بعد عودته من الغرب سواء عاد ناجحًا منجزًا كما هو حال الراوي، أم عاد مهزومًا مطرودًا مثل مصطفى سعيد، لقد اختار مصطفى سعيد أن يعيش على الهامش، لقد كون أسرة بزواجه من إحدى سيدات القرية، وأنجب طفلين، ولكنه لم يكن يختلط بأهل القرية، وكانوا يرون فيه شخصًا غريبًا منعزلا، لكنه لم يكن مؤذيًا لأحد، فلم يصطدم بأي منهم، أما الراوي، فقد أنشأ أسرة على أسس مغايرة، فزوجته إنجليزية ويعيش في الخرطوم، ولكنه يأتي إلى القرية كثيرًا ويشترك في أعمالها وفي التخطيط لها، وهو غير منعزل عن أهله وقريته، ولكن عند الاختبار الحقيقي اختار الانعزال ولاذ بالقيم الثقافية الغربية عنذ اتخاذ القرار، وفي هذا تماه مع المركز الأوروبي، بالرغم من وجود الراوي في موطنه الأصلي، السودان، عند لحظة اتخاذ القرار، فمحاولات النفاذ إلى المركز، إذن، في "موسم الهجرة إلى الشمال" محاولات بائسة نتج عنها عنف وقتل ودماء، محاولات جاءت ضمن رحلات قام بها كل من مصطفى سعيد والراوي إلى أرض المستعمِر لتحقيق مهام محددة.
وبخلاف الرحلة ذات المهمة التي قرأنا عنها في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، هناك الإقامة الدائمة في المركز لهؤلاء الذين اختاروا أن يهاجروا إلى إنجلترا أو الذين وُلدوا فيها لأسر من أصول غير غربية أو أسر مهجنة، فالشخصية الرئيسة في "مغسلتي الجميلة"، عمر، وُلد لأم إنجليزية وأب باكستاني، وهو يُشبه في ذلك حنيف قريشي ذاته، فحنيف قريشي ولد في بروميلي بإنجلترا في 1954 لأب هندي وأم إنجليزية، ويرى قريشي أنه "بريطاني أولا وأخيرًا" (Sandten 374)، وذلك بالرغم من نشأته وسط الصراعات العرقية والثقافية التي يتناولها في معظم أعماله (Postcolonialstudies) ولجوئه للكتب هربًا من العنصرية التي كانت سمة من سمات معظم الأحياء السكنية في الستينات من القرن العشرين في إنجلترا (Ramesh)، وفي هذا يقول قريشي "يظن الناس أنني عالق بين ثقافتين، لا، أنا لست عالقًا، أنا بريطاني، أنا أستطيع أن أنجح في إنجلترا، والدي هو العالق بين ثقافتين" (Qtd in Sandten374)، وكان قريشي قريبًا من والده الذي كان يتمنى أن يصبح كاتبًا لكنه لم يتمكن من ذلك، ولكن قريشي نجح في الحصول على جائزة جورج ديفاين في عام 1981عن مسرحيتيه "الحواف"Outskirts و"على الحافة" Borderline، وفي العام الذي يليه أصبح كاتبًا مقيمًا في مسرح Royal Court بلندن، وحصل نصه السينمائي الأول "مغسلتي الجميلة"My Beautiful Laundrette على عدد من الجوائز، من بينها جائزة أحسن نص سينمائي من جمعية نقاد الفيلم بنيويورك، ثم جاءت بعد هذا النص مسرحيات عديدة مثل "سامي وروزي في علاقة"Sammy and Rosie Get Laid (1987) و"لندن تقتلني"London Kills Me (1991) و"الأم"The Mother (2003) و"فينوس"Venus (2007)،وكذلك "تبريد الحرارة"Soaking the Heat (1976)و"الملك وأنا" The King and Me (1979) و"البلد الأم"The Mother Country (1980)و"طيور الرحلة" Birds of Passage (1983)، كما كتب قريشي الرواية والقصة القصيرة، ومن أشهر رواياته "بوذا الضواحي"Buddha of Suburbia (1990) و"الألبوم الأسود" The Black Album(1995) و"الحب في زمن أزرق" Love in a Blue Time (1997)و"الحميمية"(1999) Intimacyو"منتصف الليل طوال اليوم" Midnight All Day (2000)و"هبة جابريل" (2001) Gabriel’s Giftو"الجسد" The Body (2004) و"شيء أرويه لك" Something to Tell You (2008).
وتكشف قصة عمر في "مغسلتي الجميلة" رحلة الهجين في عاصمة الإمبراطورية البريطانية، ومحاولاته للنفاذ إلى المركز، وقبل أن نُركّز على شخصية عمر نستعرض عددًا من الشخصيات الأخرى في المسرحية من الباكستانيين المهاجرين إلى إنجلترا من الجيلين الأول والثاني، ومن بينهم والد عمر، الصحفي المثقف الذي كان يتمتع بشهرة ومكانة مرموقة في بومباي قبل هجرته إلى إنجلترا، حيث يختار الانعزال عن المجتمع الإنجليزي، ويفضل الطعام الباكستاني، ويوصي ابنه بالالتزام بالتعليم، حيث إنه الوسيلة الوحيدة التي يُمكنه من خلالها تحقيق مكانة في المجتمع الإنجليزي الذي يعيشون فيه تحت "الحصار" (قريشي 18)، وكلمة "الحصار" هنا كلمة مهمة تعكس الشعور بالاختناق والحبس تحت وطأة قوة عاتية، والإحساس أن المهاجرين في هذا المجتمع يجب عليهم النضال في إطار التعليم والعمل الجاد من أجل الحصول على فرصة حياة كريمة، وبالتالي يمثل والد عمر الاغتراب عن عالم لندن الرأسمالي، وإن انعزال والد عمر عن الحياة العملية يجعل بقية شخصيات المسرحية ترى أنه لم يبذل الجهد الكافي من أجل الحصول على عمل يضمن له ولولده الحياة الكريمة، فليس لديه أموال يستند عليها، ولا أملاك تصنع له جذورًا في هذا البلد الذي استوطنه بعيدًا عن بلده الأم، ولكنه لا يرى أن المال والأملاك وسيلة لخلق جذور له أو لابنه، بل يرى أن التعليم وحده قادر على ذلك، وربما يرجع ذلك إلى فكر والد عمر الأيديولوجي المناهض للرأسمالية ولنقده لفترة حكم مارجريت تاتشر (قريشي 21)، وعلى النقيض من شخصية والد عمر نجد ناصر عم عمر، الذي أصبح من كبار رجال الأعمال، والذي يرى أن مفتاح النجاح في المجتمع الإنجليزي يتمثل في المعرفة بقواعد اللعبة، فهو ينتمي إلى فئة رجال الأعمال قساة القلوب الذين تحركهم أطماعهم الصريحة، ولكنه يدرك أيضًا النزعة العنصرية التي يتسم بها المجتمع الإنجليزي في علاقته بالمهاجرين، فيقول: "في هذا البلد اللعين، الذي نحبه ونكرهه في آن واحد، يمكنك أن تحصل على أي شيء تريده، فكل شيء متاح ومعروض، ولهذا فأنا أؤمن بإنجلترا، عليك فقط أن تعرف كيف تستفيد من هذا النظام" (قريشي 17)، فالجراج الذي يديره ناصر وغيره من الأنشطة التي يمارسها، وتجارة المخدرات التي يديرها صديقه سالم، والأعمال المشبوهة التي يقوم بها عمر وأصدقاؤه لصالح ناصر وسالم، وكذلك المغسلة التي يفتتحها عمر ويطلب من صديقه جوني العمل معه فيها، كلها محاولات للاستفادة من النظام الاقتصادي والمجتمعي الإنجليزي، وبالتالي فإنه يُمكن النظر لناصر وسالم في المسرحية على أنهما "يُمثّلان قسوة فكر تاتشر الذي يعتمد على التنافس الفردي وانحسار الإحساس بالمسئولية المجتمعية" (Ranasinha 235).
أما عمر، فتعكس مسيرة حياته إلى جانب ذلك، شيئًا من حياة قريشي ذاته، فقد ولد عمر لأب باكستاني وأم إنجليزية توفيت في طفولته، وعاني عمر من الفقر والعنصرية في المجتمع الإنجليزي، في الوقت الذي لم يجد أن اللغة الأردية التي يُصّر والده أن يتحدث بها، تُعبر عنه أو تُمثّل له جانبًا من جوانب الوطن، ويُصر عمر على النجاح في إنجلترا بالرغم من ظروفه الاقتصادية وأصوله العرقية، فيتحدث اللغة الإنجليزية فقط، ويرى نفسه "بريطانيًا"، ويرى علاقته ببريطانيا طبيعية وضرورية، ويبدو أنه غير مقتنع برؤية والده لأهمية التعليم للحصول على مكانة اجتماعية جيدة في المجتمع الإنجليزي، فيوضح لجوني أنه "يريد تحقيق الثراء، وأن هذا البلد لن يسحقه، وأنه يتذكر عندما كانوا تلاميذ في المدرسة كيف أن جوني ورفاقه من التلاميذ البيض كانوا يضربونه ويطاردونه، ثم يمسك بجوني ويجذبه إليه قائلا: "والآن ماذا تفعل أنت يا جوني؟ إنك تنظف أرض مغسلتي، هذا هو ما أحبه، والآن إلى العمل، اذهب إلى العمل قلت لك، وإلا فأنت مفصول" (قريشي 51)، وجاء هذا الحوار بعد أن كان عمر قد جدد المغسلة وأصبح أحد رجال الأعمال الآسيويين الناجحين "الذين يشعرون بالراحة لنظام تاتشر الاقتصادي ولثقافة ريادة الأعمال التي يتبناها، ورجال الأعمال هؤلاء يُعنون فقط بجني الأموال وتحقيق الثروات بالطرق المشروعة وغير المشروعة على حد سواء، (....) وفي هذا الصدد نجد أن جزءًا من استراتيجية فيلم "مغسلتي الجميلة" استخدام نجاح الشخصية الآسيوية العملي ليقلب علاقات القوى مع الإمبراطورية رأسًا على عقب" (Hill 210)، ونرى ذلك بوضوح في علاقة العمل بين عمر وجوني، وفي نظرة عمر لجوني، فعمر يرى مثلا أن جوني من الطبقات الدنيا ولن يتجرأ على دخول الحفل في بيت ناصر بدون أن توجه إليه الدعوة (قريشي 38)، وبهذا أصبحت علاقة المستعمِر والمستعمَر في "مغسلتي الجميلة" معكوسة، ونجحت محاولة عمر للنفاذ إلى المركز على مستوى النشاط الاقتصادي والموقف المالي.
أما من الناحية الاجتماعية فإن "مغسلتي الجميلة" ترصد العلاقة المثلية بين عمر وجوني، فنجد المشهد الأخير في النص يُصور عمر وجوني في الغرفة الخلفية في المغسلة، وعمر يمسح وجه جوني الذي تعرض للضرب في الشارع في محيط المغسلة بسبب عمله مع عمر، فالعلاقة بين عمر وجوني، حتى لو نحينا البعد الجنسي لها بعيدًا، علاقة مزعجة للمحيطين، لوالد عمر ولأصدقاء جوني المتحفزين دائمًا عندما يرون عمر وجوني معًا (قريشي 24)، وعندما توجه عمر مرة لهم بالسؤال ما إذا كانوا قد رأوا جوني، وجد منهم العنف اللفظي والبدني، فطلب منه أحدهم أن يعود إلى الغابة، وركل أحدهم سيارته بقدمه (قريشي 29)، أما البعد الجنسي لهذه العلاقة فيثير العديد من القضايا، فالجنس هنا ساحة حرب مثلما كان الأمر في "موسم الهجرة إلى الشمال"، فعلاقة عمر مع جوني، وخاصة أنه يعمل لديه، تؤكد إخضاع جوني لرغبات عمر على كل المستويات، في العمل يُنفذ جوني تعليمات عمر، ويعود ذلك إلى احتياج جوني لمصدر رزق، فنجده يقول لأصدقائه الذين يلومونه على العمل مع عمر إنه يريد أن يعمل، فقد ضاق ذرعًا بالتسكع (قريشي 38)، والجدير بالذكر أن وجود المهاجرين من أصول غير إنجليزية في إنجلترا يرجع إلى تشجيع إنجلترا في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية للمهاجرين من المستعمرات السابقة للإمبراطورية البريطانية على الإقامة في إنجلترا نظرًا لاحتياج إنجلترا للأيدي العاملة بعد خسرانها لشريحة كبيرة من شبابها في أتون الحرب العالمية الثانية، واتخذت إنجلترا عددًا من الإجراءات لضمان عدم التفرقة العنصرية تجاه المهاجرين الذين تحتاج إليهم لاستمرار عجلة الإنتاج في المجتمع، وتتمثل هذه الإجراءات في القوانين المنظمة للعلاقة بين الأعراق في المجتمع الإنجليزي التي صدرت في 1965 و1968 و1976 و2000، والتي تُعنى بالسيطرة على التفرقة العنصرية في مجالات العمل وفي مناح أخرى من الحياة، ومن أجل التأكيد على تنفيذ سياسات عدم التفرقة العنصرية، أنشئت مفوضية المساواة العرقية وفق قانون تنظيم العلاقات العرقية الصادر في عام 1976(الأرشيف القومي)، ويعكس الحوار بين جوني وأصدقائه من البيض الذين يشعرون بالغضب بسبب عمل "جوني" لدى "عمر" (قريشي 38) حالة العنف التي عرفها المجتمع الإنجليزي "منذ وصول عدد كبير من المهاجرين المسلمين من باكستان وبنجلاديش والهند بعد عام 1945، إلى جانب اللاجئين من دول إسلامية أخرى مثل الصومال، هذه الهجرات ساعدت في تغيير وجه المجتمع (الإنجليزي) في النصف الثاني من القرن العشرين" (Weedon 145)، وأدى ذلك إلى تأجيج مشاعر الغضب لدى المجتمع الإنجليزي، واتخذ هذا الغضب شكل مسيرات تنديد ومظاهر عنف في الشوارع، كما نجد في مسرحية "مغسلتي الجميلة" عندما يُذّكر عمر جوني بما كان يقوم به التلاميذ، "كنتم ترفعون علم إنجلترا، وتهتفون بطرد المهاجرين، تطالبون بقتلنا، أناس نعرفهم كانوا ضمن هذه الحشود، وكنت أنت ضمن هذه الحشود، لقد رآك (والدي) تسير معهم، لقد رأيت وجهه وهو يراقبك، لا تُنكر، لقد كنا هناك وأنت تمر بجوارنا، (يحتضن جوني عمر بين ذراعيه)، لقد كره أبي نفسه وكره عمله، وكان يخاف علي من الشوارع، وأفرغ شحنة غضبه في والدتي، ولم تحتمل، يا للفشل، يا للخواء، (يُقبّل جوني عمر، ثم يفلته من بين ذراعيه، ويجلس بعيدًا عنه قليلا، يلمسه عمر طالبًا منه أن يحتضنه)" (قريشي 43).
وهكذا فإن محاولات النفاذ إلى المركز التي قام بها عمر في "مغسلتي الجميلة" ترتكز على محورين، محور الاقتصاد، ومحور العلاقات الجنسية، فنفذ عمر إلى عالم الأعمال تاركًا خلفه الشعور بالاضطهاد العرقي الذي رافق سنوات طفولته وشبابه، وانخرط في علاقة مثلية مع "جوني"، وهذه العلاقة تُثير أسئلة عديدة لا تتعلق فقط بكونها علاقة مثلية في زمن لم يكن المجتمع بعد قد تقبل مثل هذا النوع من العلاقات، ولكنها تُعنى أيضًا بالعلاقة بين عرقين يرى كل منهما أن الآخر نقيض له أحيانًا، مثلما كان الحال عندما هتف جوني ضد وجود المهاجرين عندما كان تلميذًا في المدرسة، وأحيانًا يكون الآخر انعكاسًا لآمال وأحلام في حياة أفضل، مثلما هو الحال لدى المهاجرين الذين يتشبهون بالبيض من أهل البلد حتى يتمتعوا بالقبول الاجتماعي مثلما يفعل ناصر في ممارساته العملية والاجتماعية، وربما تكون العلاقة بين العرقين مساحة لتحقيق منافع متبادلة كما هو الحال في العلاقة بين عمر وجوني، فإن العلاقة المثلية بين عمر وجوني في "مغسلتي الجميلة" تُمثل نوعًا من محاولات النفاذ إلى المركز، وشأنها شأن المحاولات التي رأيناها في "موسم الهجرة إلى الشمال" تأتي مغلفة بالعنف والغضب، فمشهد النهاية في "مغسلتي الجميلة" يسجل صورة تدعو للتساؤل حول مصير الأمة في إنجلترا، فالرابطة بين الفتى الإنجليزي الأبيض والفتى الباكستاني تثير تساؤلات حول العلاقة بين العرقين، وتضع الثقافتين الإنجليزية والباكستانية في مواجهة بعضهما البعض، ولا تُقدم العلاقة المثلية بين الشابين تصورًا لسياق يُمكن أن يجد فيه كل منهما مكانًا آمنًا، ولا تُمثل وسيلة ناجحة للنفاذ إلى المركز بالنسبة لعمر، وتظل صورة المجتمع الإنجليزي في "مغسلتي الجميلة" صورة مجتمع لا يتمتع بالتناغم بين مكوناته ، وكما يوضح قريشي في مقال له نُشر في Time Out فإنه "لو كانت هناك محاولة جادة لفهم بريطانيا المعاصرة بكل ما فيها من أعراق وألوان، فلابد أن تكون هذه المحاولة معقدة ومركبة، فلا يمكنها أن تكون مجرد اعتذار، ولا يمكنها أن تُصور مجموعة على أنها ذات ميزة أو على أنها ذات سيادة على الآخرين" (Qtd. in Hill 210)، و"مغسلتي الجميلة" تصف الصعوبات التي يواجهها المهاجرون وأبناؤهم في المجتمع الإنجليزي، وذلك بالرغم من أنهم رسميًا مواطنون بريطانيون، فالأحداث الحياتية اليومية التي تُصورها المسرحية ترسخ العنف نحو المهاجرين وأبنائهم وتؤكد التوتر بين المركز وسائر مكونات المجتمع (أبوعجاج).
وبالمثل، تُعنى رواية "أسنان بيضاء" بهذا التوتر الذي يُمكن أن نعتبره التيمة الأساسية في الرواية والملمح الرئيس للمجتمع الإنجليزي في هذا النص، وزادي سميث، مثلها مثل حنيف قريشي، نتاج لزواج مختلط، فقد وُلدت سميث في لندن في عام 1975 لأب إنجليزي وأم من جاميكا، ودرست الأدب الإنجليزي في جامعة كامبردج وحصلت على الليسانس في عام 1997، وجاءت روايتها الأولى "أسنان بيضاء" في عام 2000 لتحقق شهرة كبيرة للكاتبة ولتخلق سجالًا فكريًا عميقًا حول ماهية المجتمع الإنجليزي في الظرف المعاصر، وذلك من خلال تتبعها لحياة ثلاث أسر تنتمي لعرقيات مختلفة، أسرة أرتشيبولد جونز التي تتكون من زوج إنجليزي وزوجة من جاميكا، وعائلة ساماد إقبال وتتكون من زوجين من بنجلاديش، وعائلة تشالفين الإنجليزية الأصيلة، وتخلق الرواية تقاطعات وعلاقات بين أفراد العائلات الثلاثة، ويُمكن النظر إلى النسيج الثري من النقاشات والصراعات والمفاوضات والصدام والمشاعر والطموحات الذي تصفه الرواية على أنه ممثل للمجتمع الإنجليزي في الظرف التاريخي المعاصر، وحصلت الرواية على عدد من الجوائز من بينها جائزة الجارديان، وجائزة كتاب الكومنويليث، وغيرها، وتحولت الرواية إلى مسلسل تليفزيوني في عام 2002، كما تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة، من بينها اللغة العربية، فصدرت الترجمة العربية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة للمترجم أسامة جاد في 2018، ويرى جاد أن الرواية "ابنة اليوم، وتُناقش كل قضايا الإنسان المعاصر، تتطرق للتأمل في مسائل التعايش، والهجرة، والتطرف في كل المذاهب والتوجهات، وصراع العلم والدين".
وأتاح لزادي سميث انتماؤها لمعهد الفنون المعاصرة الفرصة لإصدار مجموعة قصصية بعنوان "قطعة من اللحم" (Piece of Flesh ) في عام 2001، كما قامت بكتابة المقدمة لمجموعة قصصية تتكون من ثماني عشرة قصة قصيرة لعدد من الكُتّاب الشبان في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان "أولاد أمريكا المحترقون" (The Burned Children of America ) في عام 2003، أما رواية زادي سميث الثانية فتحمل عنوان "رجل الأوتوجراف" (The Autograph Man )، وصدرت في عام 2002، وتُعنى بموضوعات الفقد والضياع والشهرة، وفازت هذه الرواية بجائزة Jewish Quarterly للرواية، ورشحتها مجلة Granta ضمن أفضل عشرين رواية للكُتّاب الشبان في إنجلترا، وروايتها الثالثة "عن الجمال" (On Beauty) صدرت في 2005 وفازت في عام 2006 بجائزة أورانج للرواية، وأصدرت زادي سميث مجموعتين من المقالات، المجموعة الأولي بعنوان "غيرت رأيي: مقالات متنوعة" (Changing My Mind: Occasional Essays) في عام 2009، والثانية بعنوان "على راحتك" (Feel Free ) في عام 2018، وأخيرًا صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان "الاتحاد العظيم" (Grand ---union--- ) في عام 2019، ومنذ عام 2010 أصبحت زادي سميث أستاذًا للرواية في جامعة نيويورك، وتعيش بين نيويورك ولندن، وخلال هذه الفترة صدرت لها روايتان، هما "إن ودبليو" (NW) في عام 2012، وتدور أحداثها في شمال غرب لندن، و"أوقات مرحة" (Swing Time ) في عام 2016، وتدور أحداثها في لندن ونيويورك وغرب أفريقيا.
وتُعنى هذه الدراسة برواية "أسنان بيضاء"، حيث إنها تعرض اتجاهين رئيسين للتعامل مع المركز الأوروبي، الأول يتمثل في التماهي مع ثقافة المركز الأوروبي بدرجات متفاوتة، والشخصيات التي تتبنى هذا الاتجاه هي: ماجد، وألسانا، ونينا، وأيري، وكلارا، أما الاتجاه الثاني فهو الهجوم على المركز بُغية الانتقام من التهميش، أو بُغية فرض ثقافة مغايرة على ممارسات المركز الأوروبي، ويمثل ميلات هذا الاتجاه، وبين هذين الاتجاهين هناك ساماد الذي لديه تحفظات كبرى على ثقافة المركز الأوروبي ولكنه لا يقوم بأي فعل للتعبير عن تحفظاته هذه، إنه يعمل بجد لسنوات طويلة في وظيفة متواضعة كنادل في أحد المطاعم، ويعيش حياة غير مرفهة، ولكنه لا يقرر مثلا العودة إلى بنجلاديش موطنه الأصلي، كما أنه لا يسعى لتحسين أحواله في إنجلترا بأية صورة، ويكتفي بالحياة الآمنة الضيقة التي يوفرها له وجوده في إنجلترا، ويتحرك في إطار دائرة اجتماعية محدودة قوامها أسرة صديقه أرتشي الذي تعود علاقته به إلى سنوات الحرب العالمية الثانية، حيث انخرط ساماد في جيش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وحارب بين جنودها آملًا أن تحصل بلاده، الهند آنذاك، على الاستقلال نظير مساندتها لإنجلترا في الحرب، وفي البيان التالي نرتب الشخصيات في الرواية من حيث علاقتها بالمركز، ونرتبها من الأقل تماهيًا مع المركز إلى الأعلى تماهيًا:
ميلات: ابن ساماد إقبال، نشأ في إنجلترا بعد أن اتخذ ساماد قرارًا بعودة أخيه ماجد إلى بنجلاديش لينشأ في ظل مجتمع إسلامي خوفًا على تميزه وتفوقه، أما ميلات فكان طفلا متوسطًا عاديًا، ولذا ظن ساماد أنه لو نشأ في المجتمع الإنجليزي فلن يخسر الكثير، انضم ميلات في سنوات الدراسة الثانوية إلى مجموعة من المشاغبين الذين كانوا يتعاطون الممنوعات في المدرسة ويطاردون الفتيات ويثيرون الذعر في محطات القطار والطرقات، ثم انخرط في أنشطة "كيفين" وهي جماعة إسلامية متشددة لها تحفظات على المجتمع الإنجليزي، وتوزع الكتيبات التي تدين فيها جوانب من ثقافة هذا المجتمع، وترى أنه من حقها القيام بأفعال لردع المجتمع حال تحفظها على أي من السلوكيات أو الفعاليات في هذا المجتمع، ويؤمن ميلات بالحق في مثل هذا الفعل ويشترك في التخطيط للهجوم الذي تنفذه الجماعة في نهاية الرواية ضد دكتور تشالفين ودكتور مارك بيريه أثناء عرض تجربة فأر المستقبل، كما أن ميلات يرى في محاكاة المجتمع الإنجليزي، المحاكاة التي يعيشها ماجد، انسلاخًا عن الثقافة الإسلامية، وبالتالي فقد أعلن أنه لن يعيش في المنزل لو أقام به ماجد بعد عودته إلى إنجلترا، ولكن هذا التوجه لم يعصم ميلات من الانزلاق إلى علاقة جنسية مع أيري في لحظة عابرة.
ساماد: حارب ساماد في صفوف جيش الإمبراطورية البريطانية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وظن أنه بانتهاء الحرب ستنظر الإمبراطورية في منح الهند استقلالها تقديرًا للدعم والمساندة في أثناء الحرب، وبعد انتهاء الحرب استقر ساماد في إنجلترا، وعمل نادلا في أحد المطاعم الهندية، واستقدم زوجة من موطنه الأم، تصغره بأعوام كثيرة، وأنجب منها التوأم ماجد وميلات، وتعرض في فترة لهزة ثقافية عندما انغمس في علاقة عاطفية مع إحدى المعلمات في مدرسة طفليه، وشعر عندئذ أنه ارتكب معصية كبيرة وشجعه هذا على اتخاذ القرار بإرسال أحد طفليه إلى موطنه الأصلي في بنجلاديش لينشأ الطفل في ظل ثقافة إسلامية تعصمه من ارتكاب الموبقات، ويظل في حيرة من أمره بخصوص أي من الطفلين يختار، في البداية يختار ميلات، فهو الأضعف والأكثر عرضة للتأثر بالمجتمع الإنجليزي، وبالتالي لابد من إبعاده لإنقاذه، ولكنه يعود فيفكر في شأن ماجد النابه الجاد المجتهد، ويرى أنه لابد من الحفاظ عليه وإبعاده عن المجتمع الإنجليزي حتى لا تتعرض صفاته الحميدة للتلف في المجتمع الإنجليزي الذي يرى ساماد أنه بعيد كل البعد عن الإسلام والقيم التي يجب أن ينشأ عليها المسلم ويمارسها في حياته اليومية، وينتهي بساماد الحال إلى اختيار ماجد، وبالفعل يقضي ماجد حوالي تسع سنوات في بنجلاديش، ولكنه خلال هذه السنوات يتعرف على أحد الكُتّاب العلمانيين في بنجلاديش ويرسل صورًا له معه تثير حنق ساماد وتشعره بعدم جدوى اختياره إرسال ماجد للوطن الأم، ثم يفاجأ ساماد بعد عودة ماجد إلى إنجلترا على نفقة دكتور تشالفين، أن ماجد تبنى السلوكيات الحياتية الإنجليزية وانتهج الثقافة الإنجليزية في ملبسه ومأكله ونسقه القيمي، فشعر أنه هُزم أمام سطوة المركز وتفوقه.
ألسانا: تزوجت ألسانا من ساماد الذي يكبرها بعدد كبير من السنين، وجاءت للحياة معه في إنجلترا، وتوصلت إلى رؤية متواضعة مفادها أنها تريد حياة آمنة مستقرة لنفسها ولولديها، وفي ظل ما يدور في الهند والدول المجاورة لها من أحداث عنف وفتنة طائفية، فإن الحياة في إنجلترا، مهما كان بها من صعوبات، فإنها تضمن السلامة لولديها، وإجمالًا لا تضع ألسانا نفسها في مواجهة الثقافة الغربية، مثلما يفعل ساماد، بل هي تقبل بشكل عام كون ولديها مواطنين إنجليز، ولا ترى غضاضة في تبنيهما لبعض العادات الحياتية الإنجليزية، وتعيب على ساماد إصراره على التمسك ببعض التفاصيل التي ترى أنها شكلانية، كما أنها لا تؤيد قراره أن يرسل ماجد إلى بنجلاديش لينشأ على تعاليم الإسلام وعادات الشرق بدلا من أن يتركه فريسة لمغريات الغرب، هذا القرار يُحدث شرخًا في العلاقة بين ألسانا وساماد، لا يلتئم إلا بعودة ماجد بعد تسع سنوات كاملة، ولكن العودة تضع ألسانا في مواجهة مع الثقافة الغربية، فتفاجأ ألسانا أن ماجد ينتهج عادات الإنجليز في الملبس والمأكل واللغة والهوايات، بل إنه ينتهي به الأمر بالسكن لدى أسرة تشالفين، الأسرة الإنجليزية التي تكفلت بمصروفات عودته ومصروفات تعليمه الجامعي لدراسة القانون، وترى ألسانا في ذلك سببًا للصدع الذي ألم باسرتها بعد عودة ماجد ورفض ميلات للإقامة في ذات المنزل مع شقيقه الذي يصفه بالكافر لتبنيه عادات الإنجليز، وكذلك حنق ساماد على ابنه الذي حاول أن يحميه من مؤثرات الحياة الغربية، فإذا به يتحول في نظره أيضًا إلى كافر لا يأبه بالمعتقدات الإسلامية ويطلب شطيرة من لحم الخنزير في اللقاء الوحيد بينه وبين والده بعد عودته إلى إنجلترا، وتلوم ألسانا أسرة تشالفين على ما وصل إليه الحال في أسرتها، فلولا أن جر تشالفين ماجد إلى أمور ليست من صميم ثقافة المجتمع الإسلامي في إنجلترا ما كان الصراع الذي وقع فيه أفراد أسرتها.
نين: ابنة أخ أو أخت ألسانا، ولها تحفظات على الاختيارات التقليدية للمرأة الشرقية عمومًا، وبدأت حياتها العملية في إنجلترا في أحد محال تصليح الأحذية، ثم أصبحت مصممة أحذية ومنتجات جلدية، لم تتزوج نينا، وانخرطت في علاقة مثلية، وأبدت ألسانا تحفظًا كبيرًا على هذا النوع من العلاقة، حيث رأت أنها لا يمكن أن تنفتح إلى هذا الحد وأن يشمل قبولها للعادات الغربية هذا الأمر.
كلارا: تتزوج كلارا من أرتشي جونز الإنجليزي، وينجبان أيري، وذلك بعد فترة عاشت فيها كلارا وسط جماعة من الهيبيز، وارتبطت فيها بعلاقات عاطفية مع اثنين منهما، وكلارا سمراء داكنة البشرة، وترتدي أحيانًا غطاء الرأس الأفريقي الملون التقليدي المنتشر في منطقة البحر الكاريبي، ولا تعاني كلارا من مشكلات تأقلم مع زوجها الإنجليزي، ولكنها تراقب شعور ابنتها بعدم الارتياح في المجتمع الإنجليزي بسبب لون بشرتها وشكل جسدها بنوع من القلق.
أيري: ابنة أرتشي، صديق ساماد منذ أن كانا ضمن صفوف جيش الإمبراطورية البريطانية في الحرب العالمية الثانية، وأيري نتاج زواج مختلط، حيث إن والدتها من جاميكا، وورثت أيري عنها الشعر الأفريقي الخشن، والبشرة السمراء والجسد الضخم، مما سبب لها قدرًا من المعاناة تجسدت في تصورها أن ميلات لا يهتم بها لأنها قبيحة وشعرها مجعد، فتخوض مغامرة يتعرض فيها شعرها للتلف من أجل أن تحظى بشعر أملس، فهي تظن أن الشعر الأملس سيجعل ميلات ينتبه إليها، وفي نهاية الرواية، وبعد أن تُقيم أيري علاقة جنسية مع كل من ميلات وماجد، ولا تستطيع أن تُحدد من منهما والد الجنين الذي تحمله، تتزوج من جوشوا تشالفين ويقيمان معًا مع جدتها لأمها في مكان ما على شاطيء البحر الكاريبي.
ماجد: الأخ التوأم لميلات، وكان منذ طفولته جادًا منضبطًا متفوقًا في دراسته، ويحقق درجات عالية ويرى المعلمون أن له ميولًا فكرية، مما جعل ساماد يقرر بعد فترة تفكير أن يرسله إلى بنجلاديش لينشأ في مجتمع إسلامي يحفظ صفاته الجادة، وعوضًا عن ذلك يرسل ماجد صورًا تجمعه بأحد الكُتّاب العلمانيين المشهورين في بنجلاديش مما يثير حنق والده، كما أن ماجد ودكتور ماركوس تشالفين يتراسلان ويتفقان على عودة ماجد إلى إنجلترا لدراسة القانون، وستتكفل أسرة تشالفين بجميع المصروفات، ويثير هذا حنق ساماد أيضًا حيث إن ماجد سيدرس القانون الوضعي وسيُسهم في تنفيذه وترسيخه، بدلا من أن يُعنى بالقانون الإلهي والشريعة، وعند عودة ماجد إلى إنجلترا، نراه يتحدث الإنجليزية كما يتحدثها المتعلمون من أبنائها، كما يقيم ماجد مع أسرة تشالفين ويصبح مساعد دكتور تشالفين في أعماله البحثية، حيث يؤمن ماجد بالعلم وبحق العلماء في التجريب واجتياز الحدود سعيًا وراء أحلامهم العلمية، وهو في هذا يرسخ واحدة من القيم الجوهرية التي تقوم عليها الحضارة الغربية، وهي قيمة التفكير العلمي، وكان ماجد محل ثقة دكتور ماركوس تشالفين، وكان يصحبه في رحلاته العلمية ولقاءاته، ويراقب عمله في المعمل، ويكتب التصريحات الصحفية المطلوبة من تشالفين، ويُعد له الإجابات عن أسئلة الصحفيين وقنوات الإعلام، ويدبج الحجج الأخلاقية المطلوبة لدعم التجربة الجريئة التي يعمل عليها تشالفين بمهنية تدعو للعجب، وكان يعيد صياغة ما يقوله تشالفين في لغة إنجليزية جميلة منمقة قبل أن يرسلها إلى الصحافة، وهو الفتى الذي نشأ بعيدًا عن أوروبا ولم يتلق تعليمًا غربيًا، ولم يطلع على صحف أو يشاهد التليفزيون.
وكما توضح القائمة، وكما ترى جويس تشالفين، فإن ميلات وماجد يقفان على طرفي نقيض من حيث علاقة كل منهما بالمركز، فلكل منهما موقف ثابت جامد من المركز، وعند لقائهما بعد مفاوضات ومحاولات لتقريب وجهات النظر بينهما، يحاول كل منهما أن يبرر رؤيته للعالم، فيشرح ميلات رؤيته للمجموعة الشمسية كما يصفها القرآن، قبل أن تعرفها الحضارة الغربية بقرون، ويقدم الكتيبات التي أعدتها مجموعة "كيفين" لهذا الغرض، بينما يعرض ماجد لمقال كتبه ليرد على الحجج التي ساقها ميلات، وليدافع عن هذا النوع من البحث العلمي الذي يقوم به تشالفين ويذكر من خلال مقاله براءات الاختراع التي حصل عليها علماء في مجال الهندسة الوراثية، ويعيد ماجد تمثيل تفاصيل سفره عندما كان طفلا من خلال وضعه ثلاثة كراس بجوار بعضها البعض واستخدام لمبتين متحركتين، تُمثل كل منهما أحد الأخوين، يرتعشان بجوار بعضهما البعض في داخل سيارة، ثم ترتفع طائرة ورقية في السماء، ويفترق الأخوان للأبد، حيث يخرجان من هذا اللقاء بدون تحقيق أي تقدم بشأن التقارب فيما بينهما، بل يحمل كل منهما عبئًا إضافيًا يأتي من فشل اللقاء، ويظل كل منهما على موقفه من المركز.
ولما كان المركز هو النقطة الرئيسة في هذا التحليل لرواية "أسنان بيضاء"، فلابد من وضع تصور لماهية هذا المركز، فهو جوهر الثقافة الغربية، من عادات وتقاليد وسلوك وقيم وبنية اقتصادية واجتماعية وكيان سياسي، وفي "أسنان بيضاء" تدور الأحداث كلها على أرض المركز الأوروبي، وفي إطار بنيته، هناك فقط الصور والحكايات التي تصل إلى الأسرة عن حياة ماجد في بنجلاديش في الفترة التي يقضيها هناك، فالمركز هو المدرسة التي يرتادها الأطفال: أيري وميلات وماجد، وهو علاقات العمل التي تحكم المطعم الذي يعمل به ساماد، وهو الإغراء الذي قدمته معلمة الموسيقى بالمدرسة في علاقتها القصيرة مع ساماد، وهو فرص التعليم والعمل والأمان التي تحلم بها ألسانا لولديها، وهو جيش الإمبراطورية البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو عائلة تشالفين ونجاحاتها واهتمامها بالعلم والثقافة واستعدادها لتقبل الآخر بالشكل الذي يناسبها ويلبي احتياجاتها، فتكلف مسز تشالفين ميلات بمهمات تتعلق بعملها، وتعمل أيري في وظيفة سكرتيرة لدى دكتور تشالفين، في حين يصبح ماجد بعد عودته من بنجلاديش المساعد الرئيس لدكتور تشالفين، وكذلك فإن المركز الأوروبي يتمثل في العلاقة التي جمعت بين دكتور تشالفين ودكتور مارك بيريه الطبيب الفرنسي الذي تعاون مع قوات النازي في أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي كان قد عثر عليه ساماد وجونز في القرية الأوروبية التي تمركزت فيها القوة التي ينتميان لها نحو نهاية الحرب العالمية الثانية، ويستدعي ظهور تشالفين وبيريه معًا على منصة واحدة في الحدث العلمي المخصص للإعلان عن فأر المستقبل الذي عمل تشالفين على إنتاجه عبر تجارب جينية، يستدعي هذا الظهور ملابسات الحرب العالمية الثانية على مستوى تجربة ساماد إقبال وأرتشي جونز التي صاغت العلاقة بينهما لمدة تزيد عن الأربعين عاما، وكذلك على مستوى الصراع الأيديولوجي الذي خاضته أوروبا في هذه الحرب، فمن حيث العلاقة بين ساماد وجونز، كان القبض على الطبيب الذي يعمل لحساب الألمان وقتله الأساس الذي قام عليه الارتباط بينهما، فهذه هي مغامرة الحرب التي جمعتهما، وهذا هو القرار الكبير الذي اتخذاه معًا، وكان من المفترض أن ينفذه جونز، ولكن التفاوض الذي قام به الطبيب نجح في إرباك جونز، فانقلبت موازين القوة في لحظة تخلى فيها جونز عن سلاحه ليلقي بعملة معدنية في الهواء ليرى هلى يعفي عن الطبيب ويتركه لحال سبيله أو يقتله، فانتهز الطبيب الفرصة واستولى على سلاح جونز وأطلق عليه الرصاص ولاذ بالفرار، فجاءت الإصابة التي كان جونز يتباهى بها طوال حياته، ولم يُخبر جونز ساماد بالحقيقة، وانبنت علاقتهما منذ هذه اللحظة على هذه الكذبة التي فضحها ظهور الطبيب بجانب دكتور تشالفين على المنصة، فعلى المستوى الشخصي، فإن هذا المشهد يُلقي بظلال الشك على صداقة استمرت ما يزيد عن أربعين عامًا تخللتها مواقف عصيبة مر بها الصديقان معًا وكانا فيها سندًا لبعضهما البعض، وأسرار تشاركا فيها، وخطط وضعاها معًا، وتجارب حياتية تبادلا فيها المشورة والرأي، أما لو نظرنا إلى كل من جونز وساماد على أن كل منهما يُمثل الثقافة التي ينتمي إليها، فيمكن القول إن الثقافة الغربية التي يُمثلها جونز في هذا الموقف قد خدعت الثقافة الشرقية التي يُمثلها ساماد، ويحمل هذا التصور قدرًا من الوجاهة في ضوء علاقة الإمبراطورية البريطانية بمستعمراتها، فانخراط ساماد في صفوف جيش الإمبراطورية كان في إطار تصور لديه أنه لو ساعدت الهند الإمبراطورية البريطانية في حربها ضد دول المحور، فستنظر الإمبراطورية في مطالبة الهند بالاستقلال، وجاءت حياة ساماد في إنجلترا بعد انتهاء الحرب وحصول الهند على استقلالها في 1947 في إطار تشجيع إنجلترا للهجرة من المستعمرات السابقة، وخاصة شبه جزيرة الهند، التي انقسمت إلى ثلاث دول في مرحلة الاستقلال وما بعدها، وهذه الدول هي الهند وباكستان (1947) وبنجلاديش (1971)، ويُصوّر المشهد الذي يكتب فيه ساماد اسم عائلته بدمائه التي نتجت عن جرح في يده على أحد المقاعد الخشبية في إحدى الحدائق العامة إحساسه بأنه غير مرئي في هذا المجتمع الذي يعمل فيه في وظيفة محدودة في مقابل دخل ضيق بالكاد يكفيه لسد المتطلبات الأساسية في الحياة، ولذلك يجب أن يثبت وجوده وحضوره بدمائه، فيحفر اسمه على المقعد الخشبي ويرويه بالدماء، ثم يصف هذا المشهد لأبنائه بعد ذلك بسنوات قائلا:
لقد كنت أعرف دومًا أنني مكتئب في هذا البلد، ولكن هذا كان شأنًا مختلفًا، انتهى بي الحال يومها وأنا مستند على الأعمدة الحديدية في ميدان بيكاديللي، جثوت علي ركبتي وصليت، كنت أنتحب وأصلي، وقاطع هذا الأغاني والموسيقى التي يقدمها العازفون في الشارع، كان هذا شأنًا مختلفًا لأنني كنت أعرف معنى ما كان يحدث، كان معناه أنني أردت أن أكتب اسمي على العالم، كان معناه فيما أظن يشبه ما فعله الإنجليز في بلدنا عندما أطلقوا على الشوارع في كيرالا أسماء زوجاتهم، ومثل ما فعله الأمريكيون عندما غرسوا علمهم على سطح القمر، وكان هذا إشارة من الله، رسالة مفادها: إقبال، انتبه إنك في طريقك لأن تصبح مثلهم، كان هذا معنى الحدث. (سميث، بدون رقم صفحة)
ويعود ميلات لذات المشهد نحو نهاية الرواية، وموقف ميلات الأيديولوجي من المجتمع الإنجليزي يجعله يرى نفسه منعزلا عنه وفي حاجة إلى إثبات وجود وإثبات هوية، ولطالما رأى في ساماد رجلا ضعيفًا مسحوقًا في مجتمع لا يُعامل الثقافات والعرقيات والديانات على قدم المساواة، ويرى ميلات
أنه عندما سمع القصة لأول مرة، لم يكن هذا ما فهمه منها، لا، إن ما تعنيه هذه القصة هو أنك لا شيء، وعندما نظر للمقعد الخشبي الآن لم يشعر بأي شيء سوى الاحتقار، كان ميلات طوال حياته يحلم بأب روحي، ولكن ما حصل عليه بالفعل كان فقط ساماد، نادل بمطعم، مليء بالأخطاء، مكسور وغبي، نادل بمطعم قضى ثمانية عشر عامًا من حياته في أرض غريبة ولم يُحقق فيها أي شيء يذكر، لم يترك أية علامة سوى هذه الكتابة على مقعد خشبي في ميدان عام، وهذا لا يعني أي شيء، كرر ميلات هذه الجملة، لايعني أي شيء. (سميث، بدون رقم صفحة).
وربما يكون هذا الشعور بالغربة والخيبة هو ما دفع ميلات للانضمام إلى مجموعة متطرفة متشددة دينيًا، يرى أعضاؤها أن لهم الحق في الحكم على المجتمع الإنجليزي وفي تسييره وفق أفكارهم، وتضم هذه المجموعة عددًا من الأشخاص الذين لا يجمعهم شيء سوى هذه الأفكار المتشددة وهذا الشعور بالغبن في مجتمع يعيشون على هامشه، فنجد مثلا مو الجزار، وحسين إسماعيل، وشيفا العامل بالمطعم، وفكرة هذه الجماعة المتشددة وُلدت في وسط تجمعات المهاجرين من السود ومن أصحاب الأصول الآسيوية، وتقوم الجماعة على مبدأ جوهري يتمثل في ضرورة التطهر من أثر الغرب، وترى أن السياسة والدين وجهان لعملة واحدة، وتعتمد الجماعة نهج المواجهة العنيفة المباشرة، ولا تحظى بقبول الأغلبية من المسلمين في المجتمع الإنجليزي، ولكتها تعتمد على المرحلة العمرية من سن السادسة عشرة حتى الخامسة والعشرين، وعادة ما تسخر منها الصحافة ولكنها أيضًا تخشاها، وتعقد الجماعة ندوات واجتماعات جماهيرية، كما ترى أن من حقها التدخل بالفعل مثلما نجد في مشهد النهاية في "أسنان بيضاء"، عندما يُطلق أحد أعضاء هذه الجماعة الرصاص تجاه المنصة، ويسود الهرج والمرج وينكسر القفص الزجاجي الذي يقبع بداخله الفأر، ويقف الفأر برهة، ثم يندفع نحو إحدى فتحات التهوية، وتنتهي التجربة الجريئة وتنتهي الرواية، فهل كانت التجربة محور الرواية؟ أم تظل العلاقات بين ثقافة المركز والثقافات الهامشية موضوع النص وفحوى الرسالة التي يتركها النص للقراء؟ الأمر في حاجة إلى تفسير.
إن مشهد النهاية في "أسنان بيضاء" يُرسخ جوهر المركز الأوربي ويؤكد تفوقه، وذلك بالرغم من المشكلات التي يعاني منها مثل وجود المتطرفين ورؤيتهم للمجتمع الغربي واعتقادهم في حقهم في فرض تصوراتهم بالقوة، فظهور دكتور تشالفين ودكتور بيريه على المنصة معًا، بالرغم من الحرب التي خاضتها إنجلترا ضمن تحالف دولي ضد ألمانيا ضمن تحالف دولي آخر مرتين، هذا الظهور يعبر عن جوهر الحضارة الغربية، فقد اجتمع العالمان الإنجليزي والفرنسي الذي خدم لصالح ألمانيا في الحرب العالمية الثانية في إطار مشروع جريء يهدف إلى التحكم في الجينات ودورة الحياة من خلال إنتاج فأر المستقبل الذي يتمتع بخصائص جينية معينة تجعله يعيش لمدة سبع سنوات ويتعرض لتغيرات محسوبة ودقيقة يشرحها ماركوس تشالفين أثناء الفاعلية، ويوضح للحضور أن الفأر سيكون معروضًا للجمهور طوال السنوات السبعة المحددة لحياته، والتعاون بين العالمين الإنجليزي والفرنسي في هذا المشروع الكبير يُعد انعكاسًا لقيمة كبرى من القيم التي ترتكز عليها الحضارة الغربية، وهي قيمة التفكير العلمي، تلك القيمة التي أنتجت الثورة الصناعية وشكلت نمط الحياة في أوروبا في العصر الحديث، ولكن الرواية توضح أن النظرة للحدود التي يصح للتفكير العلمي أن يتحرك في إطارها تختلف باختلاف الأيديولوجيات، فالنشطاء الداعمون للبيئة، وتحمل جماعتهم اسم FATE، أي "القدر" باللغة الإنجليزية، لديهم تحفظات على هذا النوع من البحث العلمي، ويتوجهون إلى الفاعلية الخاصة بالإعلان عن فأر المستقبل بغرض إعلان اعتراضهم وتحفظاتهم، ومن بين هؤلاء النشطاء جوشوا ابن دكتور تشالفين، وقد انضم جوشوا لهذه المجموعة بعد عودة ماجد إلى إنجلترا وإقامته في منزل أسرة تشالفين، ولم ير جوشوا غضاضة في الاشتراك في الإعداد لتخريب الحدث العلمي المهم الذي يعد له والده لإطلاق فأرالمستقبل، أما شهود يهوذا فلديهم اعتراضات على هذا التوجه للبحث العلمي الذي يتضمن تعديل ما خلقه الله، وهم يسجلون اعتراضهم من خلال الغناء خارج المبنى الذي تقام فيه الفاعلية، ومن بين هؤلاء هورتني، جدة أيري، وأخيرًا فهناك "كيفين" الجماعة الإسلامية المتشددة التي يحضر أفرادها هذه الفاعلية، ومن بينهم ميلات، بغرض إطلاق النار على المنصة تعبيرًا عن اعتراضهم على تدخل العلماء في عملية الخلق، وتنفيذًا لتصورهم لدور جماعتهم في صياغة المجتمع وفق مبادئهم حتى لو استدعى الأمر استخدام القوة.
وهكذا فإن مشهد النهاية في الرواية يجمع كل الخيوط الرئيسة التي ظهرت في الرواية ويضع المركز في عين الاهتمام متصدرًا الساحة، فيجلس دكتور تشالفين جنبًا إلى جنب مع دكتور بيريه الفرنسي الذي خدم في صفوف جيش النازي والذي كاد أن يلقى حتفه في الحرب العالمية الثانية عندما أمسك به ساماد وأرتشي، واتفقا أن يكون مقتله هو العمل البطولي الذي يقومان به من أجل بلادهم في هذه الحرب، وادعاء آرتشي جونز أنه قام بالمهمة كان أساس الصداقة المتينة التي نشأت بينه وبين ساماد، وجاء هذا المشهد ليضع نهاية لهذه الصداقة التي قامت على الخديعة، وليُرسّخ سيطرة المركز وقدرته على البقاء، فالاختلاف الأيديولوجي الذي عبرّت عنه الحرب العالمية الثانية، كونها صراعًا بين الفاشية والليبرالية كنظريتين سياسيتين، لم يخلق صدعًا بداخل المركز الأوروبي، بل رأينا تعاونًا علميًا في مشروع مهم جريء، وقبع فأر المستقبل في قفصه الزجاجي رمزًا للعمل المضني الذي يقوم به المركز في سبيل السيطرة على المستقبل من حيث جوانب مهمة من مناحي الحياة، فالتجربة تُعنى بالسيطرة على خط سير حياة الفأر على نحو ينبيء بتحرك البشرية نحو محاولة السيطرة على الحياة والموت.
فالرواية نص غني معقد تسكنه شخصيات تنتمي إلى مجموعات عرقية مختلفة، كما نرى فيه أيضًا التزاوج بين هذه الشخصيات وبين البيض وأبناء الأجناس الأخرى، فتعكس الرواية بذلك صورة للندن في الظرف المعاصر، حيث إن ما يقرب من 40% من الأطفال في لندن حاليًا لديهم على الأقل أحد الوالدين أو الأجداد من السود، ويبدو أن مصطلحي "أسود" و"أبيض" قد فقدا الكثير من المعنى، مع زيادة انتشار درجات من اللون البني نتيجة التزاوج المستمر، وبالتالي فإن البعض يرى أن "أسنان بيضاء" تصور حياة الجيل الجديد الذي لا يعتمد العرق ضمن أسس التفرقة بين الأفراد، ولكنه مجرد عنصر من عناصر الحياة اليومية التي نتعايش معها، ولا تسبب مشكلات، وفي هذا تنزع زادي سميث عن العرق صفته السياسية وتسلخه من سياقه التاريخي، ويرى آخرون أنها بذلك تسبق عصرها وتصور لندن الحديثة على ما هي عليه بالفعل، ويرون أن هذه المرة الأولى التي يقوم فيها أحد بذلك .
فما الرسالة التي يقدمها لنا نص "أسنان بيضاء" إذن؟ هل تطرح الرواية مفهوم ما بعد العنصرية؟ إن هذا المفهوم مفهوم ملتبس ويثير الكثير من القضايا، فالكثيرون قد لا يتفقون مع وصف إنجلترا بأنها مجتمع ما بعد العنصرية، والرواية ذاتها لا تصف مجتمعًا متجانسًا تخطى العنصرية، على العكس من ذلك تمامًا، الرواية تصف الصعوبات التي تواجهها شخصيات مثل ساماد وميلات وأيري في التأقلم، أما المحاكاة التي اعتمدها ماجد فقد خلقت مشكلات في أسرته، حيث لم يتقبل والده تناوله للحم الخنزير ووصفه بالكافر، وأعلن ميلات أنه لن يقيم في المنزل إذا أقام به ماجد، ولكن الزيجة التي تتم بين جوشوا وأيري نحو نهاية الرواية، خاصة وأن أيري تحمل في أحشائها طفلًا لا تعرف من والده، هل ماجد أم ميلات، تُبشر بإمكانية المعايشة بين العرقيات المختلفة، ولكن من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن جوشوا وأيري يعيشان لدى جدتها في إحدى جزر البحر الكاريبي، أي أن إنجلترا ذاتها ليست البيئة التي تعيش فيها هذه الزيجة، مما ينفي احتمال صياغة مجتمع ما بعد العنصرية في إنجلترا إذن، وهذا بدوره يؤكد أن إمكانية النفاذ إلى المركز بغرض تحقيق التناغم بين عناصر الثقافات المختلفة التي تحيا في إطار المجتمع الإنجليزي تكاد تكون منعدمة، وأن الهرج الذي يسود مشهد النهاية ربما هو الرسالة التي يتركنا معها نص "أسنان بيضاء".
أما رواية "بريك لين" لمونيكا علي فترسخ رسالة مختلفة مفادها أن المجتمع الإنجليزي يحمل فرص حياة أفضل للمهاجرين، فنرى في مشهد النهاية شاهانا وهي تفك الربطة التي كانت قد وضعتها على عيني والدتها، وتقول لها:
هيا، افتحي عينيك، وتفتح نازنين عينيها، لتجد أمامها دائرة بيضاء هائلة الحجم، تحيط بها قوائم من كل اتجاه، ارتفاعها أربعة أقدام، إنه الجليد، اللامع المذهل الذي يخطف الألباب، نظرت إلى الجليد الذي كشف عن نفسه ببطء، عن آلاف من آثار التزحلق المتقاطعة على سطحه، عن الألوان التي تتحول وتتغير تحت الضوء، عن طبيعته الثابتة التي تقبع تحت كل هذا، اندفعت امرأة في حركة سريعة ساحرة إلى حلبة الجليد وهي تدور على قدم واحدة، لم تكن ترتدي ملابس مطرزة بالترتر، ولا تنورة قصيرة، إنها ترتدي بنطلون جينز، وانطلقت نازنين نحو الحلبة، "هذا حذاء التزحلق الخاص بك يا أمي"، واستدارت نازنين لتدخل إلى الحلبة فعليًا، ليس من المهم أن ترتدي الحذاء، إنها بالفعل على رقعة الجليد في خيالها، "لا يمكنك التزحلق على الجليد وأنت ترتدين الساري"، وكانت رازيا قد بدأت بالفعل في إحكام رباط حذاء نازنين، التي قالت: "هذه إنجلترا، يمكنك أن تفعل ما يحلو لك". (علي، بدون رقم صفحة)
مونيكا علي كاتبة بريطانية من أصل بنغالي، وصلت إلى إنجلترا مع أسرتها عندما كانت في الثالثة من عمرها، واستقرت مع أسرتها عند وصولهم إلى إنجلترا في بولتون في مانشستر، ولاحقًا التحقت مونيكا علي بجامعة أكسفورد، وصدرت روايتها الأولى "بريك لين" في عام 2003، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة Man Booker Prize للرواية في ذات العام، وعند صدور "بريك لين" وصفت مجلة Granta مونيكا علي بأنها ضمن أفضل عشرين من الروائيين البريطانيين الشبان، ورواية "بريك لين" تصف حياة أسرة بنغالية تعيش في المملكة المتحدة، وتُعنى الرواية بدراسة حال المهاجرين وتتعرض لموضوعات الهوية والتعدد الثقافي والتهجين، وتحولت الرواية إلى فيلم في عام 2007، أما رواية مونيكا علي الثانية فتحمل عنوان "ألينتيجو الزرقاء" (Alentejo Blue) وصدرت في عام 2006 وتدور أحداثها في البرتغال، وجاءت الرواية الثالثة في عام 2009 بعنوان "في المطبخ" (In the Kitchen)، وأحدث الروايات بعنوان "قصة لم ترو بعد" (Untold Story) وصدرت في عام 2011.
تُعنى "بريك لين" بعرض العلاقة بين رؤيتين للمركز ولما يجب أن تكون عليه آليات التعامل مع المركز، فنازنين ترى أن المركز، إنجلترا، الحضارة الغربية، هو المكان الذي يمكنك فيه أن تفعل ما يحلو لك، فترتبط بالتالي بالمركز مفاهيم مثل الحرية والاستقلال والإبداع والأمان، وبالرغم من عدم إجادتها للغة الإنجليزية وعدم تمتعها بوظيفة ذات قيمة في إنجلترا واستمرارها في ارتداء الساري التقليدي، فإنها ترى أن إنجلترا هي المكان المناسب لتنشئة ابنتيها، وتتخذ القرار بالبقاء في إنجلترا بالمخالفة لما يراه زوجها، شانو، الذي لديه تحفظات أيديولوجية على ما يمثله المركز من سطوة وسيطرة وشعور بالتفوق الأوروبي، وذلك بالرغم من إجادته للغة الإنجليزية ودراسته للأدب الإنجليزي وعمله لسنوات طويلة في إنجلترا، ويخطط شانو للعودة بأسرته إلى بنجلاديش لتنشأ الفتاتان في ظل ثقافة إسلامية، ويجتهد في العمل، وتعمل نازنين أيضًا بالخياطة لتتمكن الأسرة من توفير نفقات العودة، ولكن عند التنفيذ تقرر نازنين البقاء في إنجلترا بابنتيها، ويتقبل شانو قرار نازنين، ويعود وحده إلى بلده الأم، وتعمل نازنين بالخياطة لتلبي احتياجات ابنتيها، إلى جانب المبلغ الضئيل الذي ينجح شانو في إرساله كل فترة، وتبقى البنتان في مدرستهما وسط أصدقائهما وفي إطار الثقافة الإنجليزية التي رأت نازنين أنها تضمن لهما حياة كريمة قوامها التعليم والحرية الاجتماعية والمستوى المادي الأفضل من الحياة في بنجلاديش بالقطع، وفي هذا القرار اعتماد آلية للنفاذ إلى المركز، وهي آلية اللجوء والثبات، فليس من الضروري أن تُجيد نازنين الإنجليزية ولا أن تتبنى السلوكيات والعادات اليومية الإنجليزية لتضمن لنفسها ولبناتها مكانًا في المجتمع الإنجليزي، يكفي فقط أن تظل على أرض إنجلترا، وأن تذهب الفتاتان إلى المدرسة، فهذا يضمن مستقبلًا مستقرًا لهما، ويأتي مشهد النهاية ليرسخ تفوق المركز الأوروبي وانتصاره، فالرواية إذن تضع تصورين للمركز في مقابل بعضهما البعض، وتنتصر في النهاية للتصور الذي يرى الجوانب الإيجابية في المركز، وتحتفل الرواية في المشهد الأخير منها بهذا الانتصار.
وننظر أولا للتصور الذي يمثله شانو، ويستلزم ذلك النظر إلى شانو ذاته وإلى كيفية تصوير الرواية له من خلال رؤية الاشخاص المحيطين به له ولفكره ولعاداته ولخططه المستقبلية، فنجد نازنين تصف وجه شانو المنتفخ عندما تستيقظ إلى جواره في الصباح، وتذكر شفتيه المنفرجتين أثناء نومه، كما أن الرواية تصف شانو وهو
يجلس على السرير ويضع ساقًا فوق ساق، وتتجه ركبتاه العاريتان نحو الحائط، ويبرز كرشه فوق أعضائه الخاصة مثل الغدة المنتفخة، ويضع يديه في ثنيات كرشه، يبحث ويزن، وذراعاه سمراوان ورفيعان، ويظهر أعلى مرفقه الأيمن مجموعة من الحبوب، وكتفاه نحيفان مستقيمان يمكن أن يقال عنهما إنهما جميلان، وفوقهما وجه مستدير سمين، ولوكان هذا الوجه لرجل آخر لأعطى انطباعًا بالسعادة والرضا. (على، بدون رقم صفحة)
وفي موضع آخر تصف الرواية التداعيات الجسدية للتفكير عند شانو، فتقول
إنه عندما يفكر يتحرك فمه يمينًا ويسارًا كأنه يرتعش، وهذه المرة يتحرك الفم إلى أعلى، فيدفع الخدين إلى أعلى وكذلك فتحتي الأنف وتنغلق العينان، وللحظة تسترخي شفتاه، ثم تنفتحان، ثم تتمددان إلى الخارج، كما لو كانتا ترفضان كلمة ما، ثم سيطرت العينان على المشهد، ضاقتا في تركيز، ثم انفرجتا في دهشة، ثم أصبحتا كأن بهما حولا تعبيرًا عن التقييم، وفي حركة العينين تحرك الحاجبان، وسحبا معهما خطوط الجبهة لتقوم بدورها في هذا العمل، فشانو، إذا كان مستيقظًا فهو يفكر، وتكون أفكاره مكتوبة على وجهه، فشانو مثل الطفل الذي تعلم القراءة ولكنه يجب أن يمثل صوت الكلمات بشفتيه، هكذا فكرت نازنين. (علي، بدون رقم صفحة)
وشانو يختلف عن شخصيات مثل مصطفى سعيد وعمر، فهو غير قادر على المواجهة والقتال، يعرف قدره في داخل الإطار الاستعماري الذي يعيش فيه، يعرف أن الاستعمار لم ينته بحصول المستعمرات على استقلالها، بل استمر في شكل التعامل مع المهاجرين، ولذلك فهو يسعى دائمًا للإعداد للعودة إلى بلده الأم بنجلاديش، ويتصرف دائمًا كما لو كان على سفر، فنراه يهتم بما يظنه الأهل والأصدقاء في بنجلاديش، ويحلم بأن يعود إلى دياره يومًا ما وقد حقق نجاحًا، فيقول لنازنين: "أتعلمين، ويضع فمه في كفها ويغمغم، طوال هذه السنوات كنت أحلم أن أعود إلى الوطن رجلًا كبيرًا ناجحًا، والآن، بعدما قاربت على تحقيق ذلك، أدركت ما هو الشيء المهم، الشيء المهم هو أنه طالما أن أسرتي معي، زوجتي وبناتي، فأنا قوي، قوي مثل هؤلاء الرجال الأقوياء" (علي، بدون رقم صفحة)، وهذا الحلم تسبب في أن يقترض شانو مبالغ من المال من مسز إسلام، حيث إن الأهل في بنجلاديش عندما يحتاجون إلى شيء ويلجئون إليه، لم يكن يجرؤ أن يخبرهم أنه يعيش على الكفاف في بلد الرجل الأبيض، فلم يحقق شانو أية نجاحات في بلد الرجل الأبيض، فقد عاش في هذا البلد لمدة ستة عشر عامًا، لم يحصل على درجة الدكتوراه، ولم يتبوأ منصبًا ولم يكوّن ثروة، وهذا عكس ما كان يتوقعه عند قدومه إلى إنجلترا شابًا صغيرًا
عندما جاء إلى هذا البلد كانت لديه أحلام عظيمة، وكان يحمل في حقيبته شهادة جامعية في تخصص الأدب الإنجليزي، وكان يظن أن فرصة النجاح متاحة، وكان يظن أنه سيحصل على وظيفة حكومية وقد يصبح سكرتير رئيس الوزراء، ولكن ما حدث بالفعل كان مختلفًا، فأهل هذا البلد لم يعرفوا الفرق بين شخص مثله يحمل شهادة جامعية وبين الفلاحين الذين هبطوا من سفن المهاجرين لا يحملون إلا القمل في رؤوسهم، فماذا يمكنك أن تفعل حيال ذلك؟ صنع بيديه كرة من الأرز واللحم وجعل يحركها في الطبق. (علي، بدون رقم صفحة)
أما نازنين التي جاءت إلى إنجلترا لتتزوج رجلًا لا تعرفه ويكبرها بسنوات، فتتمحور حياتها حول البقاء، عند مولدها كانت تعاني من مشكلات صحية، وقاومت وعاشت وأصبحت حكاية نجاتها من الموت في طفولتها من أهم حكايات حياتها، وبعد زواجها من شانو، اكتشفت أنه لا يحب جسدها، لا يراه جميلًا، ولكنه لا يراه قبيحًا أيضًا، "الوجه عريض، والجبهة كبيرة، والعينان قريبتان من بعضهما البعض إلى حد كبير" (علي، بدون رقم صفحة)، هذا ما قاله شانو وما سمعته نازنين، ووضعت يدها على رأسها ووجدت أن ما قاله صحيح، جبهتها عريضة، ولكنها لم تفكر أبدًا أن عينيها قريبتان من بعضهما البعض إلى حد ملحوظ، واستكمل شانو الأوصاف موضحًا أن نازنين ليست بطويلة ولا هي بقصيرة، وأن منطقة الحوض لديها ضيقة إلى حد ما، ولكنها كافية، كما يعتقد لحمل أطفال، وإجمالًا فإنه يشعر بالرضا، ربما عندما تكبر ستنبت لها لحية، إنها الآن في الثامنة عشرة من عمرها، وكما يقول المثل الشعبي، إن وجود عمك الأعمى أفضل من عدم وجود عم على الإطلاق، كما أنه انتظر طويلًا للحصول على زوجة، ولكن رغبة الحياة لدى نازنين، تلك التي تجلت في مقاومة الطفلة الصغيرة نازنين للظروف الصحية التي ولدت بها، ونجاتها من الموت طفلة، هذه الرغبة في الحياة تقف وراء استمتاع نازنين بالرقص، ويرمز الرقص في هذا النص كما نرى في مشهد النهاية وفي هذا المشهد لتقدير نازنين لجسدها سواء رآه الآخرون جميلًا أم لا، فقد
رفعت ذراعيها خلف رأسها، وألقتهما إلى الوراء، في حركة يبدو أنها تحررها من قيود الواقع وتشابكاته، ورقصت حول المنضدة، وغنت مع الأغنية التي يعرضها التليفزيون، وأحست بالهواء يملأ رئتيها، يملأ أعماق رئتيها، ثم يخرج، أحست بشعرها يتراقص خلف عنقها وعلى كتفيها، واستسلمت للنغمات تُطلق خصرها إلى الهواء يمينًا ويسارًا، ووضعت يديها على خصرها، ودفعت بساقيها عاليًا الواحدة بعد الأخرى، واستدارت وأعادت الحركات، الدفع بالساق إلى الأعلى والاستدارة، القفز إلى أعلى والاستدارة، وكانت قدمها تصل إلى أعلى من رأسها. (علي، بدون رقم صفحة)
هذا المشهد، عند وضعه في سياق علاقة نازنين بكريم، الذي تعرفت عليه من خلال زوجها بعد أن عثر شانو على عمل يناسبها، وهو تصليح الملابس لصالح شركة إنتاج ملابس يمتلكها والد كريم، وكان كريم يحضر الملابس المطلوب تصليحها إلى منزل شانو ويعود لاستلامها بعد انتهاء نازنين منها، وتدريجيًا تطور الأمر وبدأ كريم في الحضور بدون أن يكون شانو في المنزل، وتطورت العلاقة بين نازنين وكريم إلى الحد الذي أقاما فيه علاقة جسدية عرفت معها نازنين مشاعر وملذات لم تعرفها من قبل بالرغم من سنوات زواجها الطويلة من شانو، ويمكن القول إن ممارسة الجنس مع كريم تشبه الرقص في المشهد المذكور آنفًا، فقد حررت علاقة نازنين بكريم جسدها من الإحباط الذي صاحب علاقتها بشانو منذ زواجهما، فشانو لم ير أبدًا جسد نازنين عاريًا، وكان كريم أول رجل يراها عارية، فهذا الجسد الذي تمسك بالحياة في الطفولة، وعاش حياة جافة مع زوج لا يُقدّره، بالرغم من أن شانو ليس سيئًا أو شريرًا، وعرف متعة الجنس في علاقة خارج إطار الزواج، هذا الجسد أدرك أن الحياة الآمنة في إنجلترا فقط وأن العودة إلى بنجلاديش تُعرضه وتُعرض الفتاتين، "شهانا" و"بيبي"، للخطر في إطار حياة ضيقة اجتماعيًا وماديًا في الوطن الأم بنجلاديش، قرار البقاء ليس نجاحًا في النفاذ إلى المركز، فنازنين لا تعرف ماهية المركز، تعرف فقط أنه مختلف ثقافيًا، ويتحدث لغة مختلفة، ولكنه أكثر أمنًا، فكان القرار بالبقاء واللجوء المعنوي.
إن قرار نازنين بالبقاء، إذن، لا يعكس قدرة على التفاوض وتمثّل الثقافة المغايرة والانفتاح الثقافي، ولا علاقة له بديناميات الهوية الثقافية في مجتمع متعدد الثقافات، إن نازنين لم تصل إلى الفضاء الثالث حيث تدور عمليات التفاوض، وحيث تكون الهوية الثقافية في حالة تخلق دائم يجعل منها كيانًا هلاميًا لا معالم ثابتة له، ويمكن القول إن الرواية لا تصل إلى ما يعرف بالفضاء الثالث هذا، فقسم كبير من الرواية يصف أنشطة الجماعة المتشددة التي ينتمي إليها كريم والتي ترى أن الثقافة الغربية تحارب الإسلام وتخنق العادات والممارسات الإسلامية، فينظمون المسيرات ويطبعون النشرات التي تندد بالثقافة الغربية وتدعو إلى الاتحاد والتمسك بالممارسات الإسلامية، ويصل الأمر إلى أعمال عنف في بعض الشوارع وتدخل الشرطة، وقسم آخر من الرواية يصف الحي السكني الذي تعيش فيه أسر المهاجرين، ويُبرز الفقر والعزلة الاجتماعية والاغتراب الثقافي، وهي أمور تمثل جوهر حياة المهاجرين في إنجلترا في رواية "بريك لين"، هذا إلى جانب إخفاقات شانو المتعددة، وشعوره بالغربة في المجتمع الإنجليزي، فحتى زملاء العمل يرى أنهم متعصبون عرقيًا، وهو
يعتقد أنه سينال الترقية في عمله، ولكن الأمر سيستلزم وقتًا أطول من الوقت الذي يحتاجه الموظف الأبيض للترقية، وهو يقول إنه لو قام بطلاء بشرته باللونين الوردي والأبيض لما لاقى أية مشكلات، ولقد لاحظت (نازنين) أن شانو أصبح يُقل من الحديث عن الترقية ويُكثر من الحديث عن العنصرية، لقد حذرها من مصادقة البيض، كما لو كان هذا الأمر متاحًا لها، فهم مهذبون طوال الوقت، يقولون من فضلك وشكرًا، ويصافحونك باليد اليمنى ويطعنونك في الخلف باليد اليسرى. (علي، بدون رقم صفحة)
ولذلك كان يرى ضرورة تعزيز ارتباط ابنتيه بالثقافة البنغالية، ليس فقط تمهيدًا للعودة إلى بنجلاديش، ولكن ترسيخًا للتراث الثقافي البنغالي في مقابل تسيد الثقافة الغربية المحيطة بهما في كل الأنشطة الحياتية من حولهما، ويأتي تصوير شانو وهو يستعد لقراءة إحدى قصائد طاغور مع ابنتيه يحمل قدرًا من السخرية والتهكم، كما لو كان شانو أضحوكة، فيقول الراوي "تنهد شانو وتحسس بطنه، وهدهدها كما يهدهد الوسادة، وكانت قبضة يده تعمل في حركة دائرية، وكان قد أنفق خمسة أيام في تعليم ابنتيه قراءة إحدى قصائد طاغور بعنوان "البنغال الذهبي"، وهذه الليلة ستقومان بتمثيل القصيدة كاملة، كان شانو يعتزم أن يعود بالأسرة إلى بنجلاديش، وكان طاغور الخطوة الأولى في هذه الرحلة" (علي، بدون رقم صفحة)، وتفشل خطة العودة إلى بنجلاديش بالأسرة كاملة، فيعود شانو وحده، وتبقى نازنين والفتاتان، ويأتي مشهد النهاية احتفاليًا، ليس احتفالًا بالبقاء في إنجلترا فقط، ولكن ربما يكون احتفالًا بالبقاء على قيد الحياة إجماًلا، فيأتي هذا المشهد تتويجًا لنضال نازنين منذ طفولتها من أجل البقاء على قيد الحياة، وهاهي ذي تناضل من أجل استمرار زواج محبط مع شانو، ثم تنتصر على رغبات قلبها وجسدها وتُنهي علاقتها بكريم، بالرغم من بقائها في إنجلترا، فهي لا ترغب في اختلال حياة ابنتيها، حتى لو كان الثمن أن تتخلى عن العلاقة التي أحست فيها بأنوثتها لأول مرة، وفي النهاية تستقيم الحياة لها في حدود المتاح، تعمل وتلبي طلبات ابنتيها وتستمر ابنتاها في التعليم وتستمر هي في زواجها من والدهما، بالرغم من حياته في دولة أخرى، واستقامة الحياة هذه متاحة فقط في إنجلترا، التي تُمثلها رمزيًا حلبة الرقص على الجليد في مشهد النهاية.
على العكس من "أسنان بيضاء" التي انتهت بإطلاق الرصاص وسيطرة حالة من الهرج والمرج مما يثير تساؤلات حول قدرة المركز على الصمود والاستمرار، تنتهي رواية "بريك لين" على نغمة إيجابية تنعكس في مشهد الرقص على الجليد، وترسخ قوة المركز وثباته، وذلك بالرغم من المناوشات التي تقوم بها جماعة "كيفين"، إن الصورة التي ترسمها "بريك لين" للمركز تتمثل في الاستقرار والحرية والآفاق المفتوحة وقبول الذات، ولا تُعنى "بريك لين" بالنظر في سياسات النفاذ إلى المركز بقدر ما تهتم بالتفاصيل الحياتية اليومية للشخصيات التي تُقدمها، وجميع شخصيات الرواية، فيما عدا شانو لا تنتبه إلى الإطار الأيديولوجي الذي تدور بداخله عمليات فهم الذات وتكوين الهوية والمفاوضات، حتى كريم الذي انخرط في نشاط جماعة كيفين، كان العنصر الديني محركه والعلة وراء انتمائه لهذه الجماعة، ولم تكن تشغله الهوية من حيث مفهومها ومكوناتها وسياسات تشكيلها، ونازنين التي تحتفل في نهاية الرواية بإنجلترا التي يُمكنك فيها أن تفعل ما يحلو لك، لا دراية لها إطلاقًا بهذه الإشكاليات. فما الرسالة التي يُمكن أن نستخلصها إذن من رواية "بريك لين"؟ هل الرسالة مفادها أن المركز الغربي يُقدّم حياة أفضل وهذا كل ما يهتم به البعض من المهاجرين؟ هكذا فعلت نازنين، بدون تفكير في أطر أو أيديولوجيات، وفي سبيل ضمان هذه الحياة لابنتيها ولنفسها تنازلت عن كيان الأسرة، لم تصحب زوجها في رحلة عودته إلى البلد الأم بنجلاديش، فتكون الرسالة هنا أن الحياة اليومية الآمنة والمستقبل الذي يعد به التعليم الفتاتين أكثر أهمية من الحياة الأسرية، وبالتالي أكثر أهمية من الأسرة ككيان اجتماعي؟ هل الرسالة موجهة إلى دول العالم الثالث التي أتى منها المهاجرون والتي تصورها النص على أنها بيئة طاردة لأبنائها؟ وكيف تكون الرسالة موجهة لشعوب هذه الدول ومعظمهم لا يستطيع القراءة باللغة الإنجليزية؟ فهل الرسالة، إذن، موجهة للمركز الأوروبي، لعله يفهم لماذا يلجأ إليه المهاجرون من أنحاء العالم الثالث؟ في هذا إقرار بتفوق ثقافة المركز بصرف النظر عن التفاوض الأيديولوجي معها، يكفي أنها توفرالاحتياجات الأساسية من أمن وتعليم وغذاء وحرية، فيتحقق النفاذ إلى المركز في رواية "بريك لين" على هذا المستوى فقط، الذي، بالرغم من ضآلة أهميته الفكرية، يعكس استقرار المركز الأوروبي، بخلاف رواية "أسنان بيضاء" ومن قبلها مسرحية "مغسلتي الجميلة"، حيث يسود الهرج والمرج مشهد نهاية "أسنان بيضاء" ويقبع العنف مهدِدًا في مشهد النهاية في "مغسلتي الجميلة".
الخاتمة:
وهكذا نرى في النصوص الأربعة موضوع الدراسة تصورات مختلفة للمركز وآليات مختلفة للتعامل معه، مما يعني ثراء التجربة الإنسانية المعاصرة التي تتمثل في الظرف ما بعد الحداثي الذي تفككت فيه الإمبراطوريات الأوروبية عابرة البحار، وشهد موجات ارتحال وهجرة من المستعمرات السابقة إلى المركز الأوروبي لأغراض متعددة منها التعليم والعمل والبحث عن حياة أفضل، وأتاح هذا الظرف علاقات جديدة بين ثقافات المستعمِر والمستعمَر، أو تطورات لرؤى سابقة لهذه العلاقات، وإجمالًا ترى النصوص الأربعة تفوق المركز الأوروبي، فالنجاح في إتقان لغته والتحدث بها مثل أبنائها كما فعل مصطفى سعيد منذ أن كان طفلًا، والأمل في الارتحال إلى المركز الأوروبي لتلقي العلم كما نرى في حالة مصطفى سعيد والراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال"، أو في اعتماد سياسات العمل التي ينتهجها من منافسة واستغلال كما نرى في أنشطة ناصر الاقتصادية وفي النهج الذي اختاره عمر ليصبح من رجال الأعمال في "مغسلتي الجميلة"، أو في حلم تحقيق حياة أفضل كما نرى في "أسنان بيضاء" و"بريك لين"، فالعلاقة بين المركز الأوروبي (الاستعمار) وبين الهامش (الثقافات غير الأوروبية) ما زالت تدور في فلك تميز المركز الأوروبي، مما يدحض مقولات التفاوض والخلق الدائم للهوية وميوعة الحدود الثقافية والتخطي، ويُلقي بظلال الشك على إمكانية الوصول إلى الفضاء الثالث الذي يُمثل الحل السحري لأزمة ظرف الاستعمار كما يرى هومي بابا.
لم تتمكن شخصيات النصوص الأربعة من تجاوز مرحلة الاستعمار، وظل شبح الاستعمار يحيط بكل خطواتهم، فمصطفى سعيد، الجنوب الذي يحِن للشمال، تفرغ في الشمال للنزوات الجنسية ولغزو المحتل الإنجليزي على فراشه في غرفة نومه التي أعدها لتفوح بعطر الشرق وتخطف ألباب الفتيات الإنجليزيات، وانتحرت اثنتان منهن ولقيت زوجته مصرعها على يديه وخاض المحاكمة وتجربة السجن وعاد إلى السودان، إلى الجنوب، مهزومًا غريبًا، وهكذا استكمل حياته حتى وفاته الغامضة التي أدت إلى مأساة أخرى عندما شهدت القرية جريمة القتل الأولى في تاريخها على يد أرملته التي قتلت زوجها الذي أُجبرت على الزواج منه ثم قتلت نفسها، وهكذا نرى أن قصة مصطفى سعيد قصة استعمارية حزينة لفتى أسمر من الجنوب لازمه الإحساس بالدونية ووضاعة الأصل منذ الصغر، فتشوهت حياته، كما شوّه الاستعمار شعوبًا كاملة ضم أراضيها لإمبراطورياته، أما الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" فهو نسخة معدلة قليلًا من مصطفى سعيد نظرًا لنجاحه في الحصول على درجة الدكتوراه ولاستقرار زواجه من زوجته الإنجليزية، ولكن درجة الدكتوراه في تخصص ليست له فائدة عملية في قريته أو في السودان بوجه عام في هذه الفترة بعد حصوله على الاستقلال وتطلعه لنهضة زراعية وصناعية مستقبلية، كما أن رفض الراوي للزواج من أرملة مصطفى سعيد أدى لحادثة القتل التي انتهت بها الرواية، فلم تقدم الرواية، إذن، أية فرصة لتجاوز المرحلة الاستعمارية، كذلك لا تتوفر في مسرحية "مغسلتي الجميلة" معطيات هذا التجاوز وإقامة علاقات عادلة في داخل المجتمع الإنجليزي بين المركز والهامش، فتصور المسرحية الصراعات التي يعيش في إطارها المهاجرون وأبناؤهم، هذا إلى جانب صرامة النظام الرأسمالي في فترة حكم مارجريت تاتشر التي تدور خلالها أحداث المسرحية، فأصبح البقاء من خلال النفاذ إلى المركز يعتمد على مدى إجادة الفرد لاستخدام آليات التنافس الاقتصادي ومهارات إدارة الأعمال، ولا تجد في المسرحية حلولًا للنزعة العنصرية التي تسيطر حتى مشهد النهاية حيث يسود العنف العنصري ويُهدد باقتحام المغسلة في تعبير رمزي عن كونه الخطر الذي يُهدد المجتمع الإنجليزي، ومشهد النهاية في "أسنان بيضاء" يسوده العنف أيضًا، حتى الزواج الذي تم بين أيري وجوشوا في نهاية الرواية لا يعد فضاءً ثالثًا تجاوز فيه الطرفان إرث الاستعمار، حيث يعيش الزوجان بعيدًا عن إنجلترا في إحدى مناطق البحر الكاريبي مسقط رأس والدة أيري، وربما الرسالة هنا أن إنجلترا لن تحتضن هذا الزواج ولن تقدم له فرصة للنجاح، وفي النهاية تُرسخ "بريك لين" تفوق المركز الأوروبي وترضى بما يقدمه للمهاجرين من فرص تعليم وحياة آمنة بها قدر مريح من الحرية الاجتماعية، وتعرض التوتر الذي يشوب علاقة ثقافات الهامش بثقافة المركز، ولا تقدم تصورًا للتعامل معه، ولا تُعنى بسياسات التفاوض أو التواصل بين الثقافات المختلفة التي تحيا على أرض إنجلترا، وأخيرًا تنتصر "بريك لين" لتسيد المركز الأوروبي وتحتفي بقدرته على التضمين، وإن كانت هذه القدرة على المستوى السطحي فقط، فترقص المرأة التي ترتدي الجينز بجوار المرأة التي ترتدي الساري الهندي على حلبة التزحلق على الجليد في مشهد النهاية، ويمكن النظر إلى هذا المشهد على أنه مشهد ما بعد حداثي يُرسخ التضمين ويقبل الاختلاف.
المراجع
Achebe, Chinua. Things Fall Apart. Johannesburg, Re---print---ed, 2000.
Abou-Agag, Naglaa. “London/Karachi Confrontations in Hanif Kureishi’s My Beautiful Laundrette”. Cairo Studies. June. Cairo: Cairo University: 451-469.
Ali, M. Brick Lane, Black Swan, eBook, 2003.
Aschcroft, Bill, Gareth Griffiths & al. The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures. London: Routledge, 2nd Ed, 2002.
Bhabha, Homi. Interview.
https://www.youtube.com/watch?v=9t82nbsoiqE&fbclid=IwAR2y_VPopHsRvIZy3S58cFTFwXkh5rDIBmz3fTFQHV01YHr98R24azuEm5M. February 20, 2020.
Bhabha, Homi K. The Location of Culture. London & New York: Routledge, 1994.
Hattenstone, Simon. “White knuckle ride. Simon Hattenstone’s interview with Zadie Smith”.https://www.theguardian.com/books/2000/dec/11/fiction.whitbreadbookawards2000. April 26, 2020.
Gad, Osama. “Interview”. Al-Ahram. http://gate.ahram.org.eg/News/1807786.aspx. May 4, 2020
Hill, John. British Cinema in the 1980 s: Issues and Themes. Oxford: Clarendon Press, 1999.
Kureishi, Hanif. My Beautiful Laundrette. London: Faber & Faber, 2000.
Layall, Alfred. The Rise and Expansion of the British Dominion in India. London: John Murray, 1894.
McLeod, John. “Introduction”. In John McLeod (ed). The Routledge Companion to Postcolonial Studies. London: Routledge, 2007: 1-18.
Moss, Stephen. “White Teeth by Zadie Smith. Stephen Moss assesses the critical verdict on Zadie Smith’s epic, serio-comic debut novel”. Web. April 26, 2020.
National Archives UK.Web. July 23, 2014.
Postcolonial Studies.Web. July, 23 2014.
Ramesh, Randeep. “Interview: Hanif Kureishi – Mid-life Kureishi”.The Independent. 3 May, 1998. Web. February 22, 2014.
Ranasinha, Ruvani. South Asian Writers in Twentieth-Century Britain: Culture in Translation. New York: Oxford University Press, 2007.
Said, Edward. Orientalism. New York: Vintage Books, 1979.
Saleh, Tayeb. Season of Migration to the North. New York: New York Review of Books, 2009.
Sandten, Cecile. “HanifKureishi’s Urban Hybrids and AtimaSrivastava’s Metropolitan Yuppies”. In Brian McHale & Randall Stevenson (eds.). The Edinburgh Companion to Twentieth-Century Literature in English. Edinburgh: Edinburgh University Press, 2006: 373-385.
Sardar, Zaiuddin. “Forward to the 2008 Edition”. Franz Fanon. Black Skin White Masks. Translated by Charles Lam Markmann. London: Pluto Press, 2008: vi-xx.
Smith, Z. White Teeth, Penguin Books, London & New York, digital copy, 2001.
Weedon, Chris. Identity and Culture. Maidenhead, England: Open University Press, 2004.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في