الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية فكرية للحوار الوطني: الفرصة البديلة للتحول الطوعي لدولة ما بعد الاستقلال

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2022 / 6 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


مقدمة: في فلسفة الحوار
الحوار الوطني بديلا عن دورة "الانسداد السياسي"واستمراريتها

إستجابة لخطورة اللحظة التاريخية العالمية الشديدة على الجماعة المصرية برمتها وليس على الدولة المصرية والإدارة السياسية الحالية فحسب، ولتأثيرها الوجودي فائق الحساسية لعقود قادمة وربما لقرن جديد من الزمان على العرب أجمعين وليس على مصر فقط، اخترت أن أقدم مساهمتي في موضوع الحوار الوطني، لأن البديل عن المشاركة وإبداء الرأي المستقل المتجرد عن الهوى والاستقطابات السياسية سلطة ومعارضة سواء مع أو ضد؛ هو حقيقة استمرار "دورات الانسداد" السياسي أمام الجماعة المصرية وليس أمام الإدارة السياسية وحدها.
ذلك لأن الجماعة المصرية وتمثلاتها السياسية سلطة ومعارضة تكلست بدائلها السياسية، أو احترق حضورها في مشهد ما بعد ثورة 25 يناير، وتفتقد الجماعة المصرية بشكل ملحوظ "مستودعات الفكر" الفعالة والتصورات التي تتجاوز إرث القرن العشرين سلطة ومعارضة يمينا ويسارا على السواء، إذ لم تقدم المعارضة التاريخية أو الحواضن السلطوية مسارات فكرية أو سياسية ناجعة، بقدر ما ارتبك الجميع بعد ثورة 25 يناير العظيمة، ودار الجميع في فلك الاستقطاب والاستقطاب المضاد في حلقة متصلة عبثية، يريد فيه الجميع سلطة ومعارضة المحافظة على مواقعه التاريخية وذلك هو سر الانسداد المستمر الذي تصل له الحالة العربية/ المصرية، هو إصرار التمثلات السياسية التاريخية في المعارضة والسلطة على مواقعها التاريخية، وغياب الوعي الفكري بأن اللحظة الثورية تعني التجاوز للأشكال والتمثلات السياسية القديمة وظهر تمثلات جديدة تماما، تتجاوز أشكال الاستقطاب التاريخي المتعددة.
وكان العكس هو ما يحدث حيث كان يتم توظيف الاستقطابات التاريخية بين اليمين وفرق الدين السياسي وجماعة الإخوان تارة وبين اليسار والليبراليين تارة أخرى، للهروب من الاستحقاقات الثورية وتجاوز اللحظة التاريخية للسلطة والمعارضة على السواء، ورفض ظهور "مشترك مجتمعي" جديد بنخبة جديدة تتجاوز الاستقطاب القديم للمعارضة المصرية/ العربية، وتم تفكيك أو تشتيت معظم الجهود الوطنية التي كانت تبحث عن "المشترك المجتمي" والدفاع عن "مستودع الهوية" الجامع وقضاياه، وتكسرت على صخرة الاستقطاب والاستقطاب المضاد في دورة عبثية تكاد لا تصل لـ"الانسداد السياسي"؛ حتى تعيد إنتاج نفسها وتبدأ دورة أخرى من توظيف التناقضات.
وحقيقة هناك العديد من الإنجازات التي قدمتها الإدارة السياسية الحالية؛ مثل مشروع "مستقبل مصر" للإنتاج الزراعي، ومشروع "بركة غليون" للاستزراع السمكي، وافتتاح عدد من محطات معالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها في زراعات مناسبة، وغير ذلك من المشاريع الملحوظة.. لكن المشكلة كانت الرغبة في الحركة المستمرة لتقديم إنجازات ردا على محاولات التشويه السياسي دون دراسة جيدة للأولويات ومردودها الاجتماعي على القطاع العريض من الشعب، وتحديدا في مجال التوسع العمراني وإعادة توزيع الكتلة السكانية في منطقة القاهرة الكبرى ورفع سعر الشقق السكنية، وفي التركيز على المجال الخدمي ومجال الطرق والنقل والمواصلات، بينما كانت الأولويات تقول بتركيز السياسات الاقتصادية على المزيد من المشاريع الإنتاجية والصناعية، وربط التوسع العمراني بالنشاط الاقتصادي، هنا كانت المشكلة في تأثير الاستقطاب السياسي على فكرة الرغبة في الحركة المستمرة وتحديد الأولويات، كما أن الاستقطاب السياسي الداخلي امتد أثره إلى السياسات الخارجية.
ليكون الأمل أن تكون البلاد قد تجاوزت تلك المرحلة والمستفيدون منها والمروجون لاستمراراها، ويكون الأمل في هذه اللحظة التاريخية العالمية شديدة الحراك والتدافع كامنا في تقديم مرحلة انتقالية جديدة نتمنى أن تتجاوز الاستقطابات وتوظيف التيارات السياسية ضد بعضها (وأن تكون آخر المراحل الانتقالية)، وأن تنتصر للمستقبل ورغبة جموع الشعب المصري في التغيير واستعادة الذات والصعود الحضاري، وظهور "مشترك مجتمعي" جديد بنخبة جديدة وخطاب جديد، ومن ثم ستبحث هذه الرؤية عن البديل الغائب وفرصته البديلة الممكنة في عام 2022م للتحول الطوعي السلمي والتدريجي للبنية السياسية القائمة منذ القرن الماضي والتي يمكن تسميتها بـ"دولة ما بعد الاستقلال" عن الاحتلال الأجنبي، في معارضتها وفي سلطتها على السواء، لذا فإن هذه الورقة تطرح فرضية بديلة وتنظر في جدوى تحقيقها، فهي تنظر للحوار الوطني بشكل جذري سلمي وإصلاحي باعتباره فرصة لطرح البديل الغائب في لحظة تتسم بالهدوء، فهذه الورقة ستطرح فرضية الوصول لرؤية مغايرة للحوار الوطني ليس بهدف تحقيق مجرد توافق سياسي لعبور الأزمة بين السلطة والمعارضة التاريخية في دولة ما بعد الاستقلال، بقدر ما ستعرض الفرصة البديلة لهذا التوافق السياسي والتي تكمن في مسار التجاوز السلمي لدولة ما بعد الاستقلال سلطة ومعارضة، والمبادئ الأساسية الفكرية والسياسية للازمة لذلك.
وفيما يتعلق بمبادرة الحوار الوطني في شقها السياسي وما يتعلق بالحريات فإن هذه الرؤية تقف بالطبع مع حرية التعبير وحرية الرأي عامة، وإطلاق سراح غير المدانين في جرائم جنائية والمقيدة حريتهم لأسبابا تتعلق بإبداء الرأي الفكري أو السياسي، لكن تصور هذه الرؤية المغاير للمسألة من جذرها يختلف عن مقاربة التيارات السياسية من جهة أهمية تناول التصور الفكري والوجودي العام للجماعة المصرية، وطرحه للنقاش من أجل الاتفاق على حد أدنى وحد أقصى للاجتهاد في وضع تصور جديد للجماعة المصرية، لا يجعلنا ندور في الدائرة المغلقة أي توافق سياسي وطني يؤدي لإطلاق سراح بعض المعبرين عن رأيهم أو كلهم، ثم انسداد سياسي يتبعه تعبير عن الأزمة يتبعه تقييد لحرية الذين يعبروا برأيهم عن الأزمة.. وهكذا دوليك! لذا فإن هذه الرؤية المغايرة ترى طرح الأفق السياسي للجماعة المصرية نفسه للنقاش، أي أفق دولة "ما بعد الاستقلال" والاتفاق على الاجتهاد في تجاوز هذا الأفق بشكل وطني ومن كل المنتمين لهذا الوطن، أصحاب الحلول الإبداعية والتي تستشرف المستقبل وترصف الطريق إليه.
لذا فإن هذه المقاربة سوى تستمد روحها من "المشترك المجتمعي" الغائب بعد استقطابات ما بعد 25 يناير وموجاتها الثورية، ومن طبقات "مستودع هوية" الشعب المصري المتراكمة والمتعددة، مبصرة اللحظة العالمية الراهنة والمتغيرات شديدة الخطورة التي تحدث فيها وأثرها الإقليمي والمحلي، لأنه بالفعل تكاد سياقات الظرفية التاريخية الراهنة ودوافع الإدارة المصرية الحالية والرئيس عبد الفتاح السيسي لإطلاق الدعوة للحوار، أن تتراصف ويتجاور فيها سخونة الوضع والسياق عالميا وإقليميا ومحليا.
وسوف تعمل هذه الورقة على طرح مبادئ عامة أساسية، وفي طرح هذه المبادئ سيكون التهيئة المناسبة لمقاربة التفاصيل الصغيرة، إذا لا يمكن حل التفاصيل والمشاكل الصغيرة التي وصلت لها الجماعة المصرية، دون الاتفاق على مبادئ أساسية لمقاربة التصورات المركزية والوجودية للجماعة المصرية برمتها، لا السلطة ومؤسساتها وحدها ولا التمثلات السياسية يمينا ويسارا وحدهم، ولا المطالب الشعبية الثورية المستقلة التي لم تجد التمثيل السياسي المناسب لها بعد، إنما تطمح هذه الرؤية في التعبير عن المجمل أو "المشترك المجتمعي" الغائب للجماعة المصرية ككل وعن الذات العربية بشكل أو بآخر، وعن المطالب الشعبية المستقلة بشكل مخصص.
وإحمالا يمكن القول إن هذه الرؤية تنطلق من أن بنية الدولة المصرية السياسية منذ التحول عن الملكية إلى الجمهورية؛ تقوم على "دولة ما بعد الاستقلال" عن الاحتلال الأجنبي منذ أواسط القرن الماضي (وكذلك في العديد من الدول العربية)، وذلك استنادا إلى الدور المزدوج للمؤسسة العسكرية في التحرر وفي تنظيمها لمؤسسات الدولة المدنية وحقائبها الوزارية، وترى هذه الرؤية في اللحظة التاريخية الحالية وظرفياتها الدولية فرصة سانحة أو فرصة بديلة لطرح فرضية أن تقوم بنية "دولة ما بعد الاستقلال" بقلبها العسكري باختيار "التحول الطوعي" وتجاوز مرحلة تلك الدولة إلى دولة "المجتمع الفعال" والفرز الطبيعي لا الفرز حسب الولاء السياسي و"التنخيب الزائف"، وتجاوز اعتبار حقائب الدولة الوزارية مجرد واجهة سياسية وتحصيل حاصل، وتجاوز الازدواج السياسي في أدوار الحقائب الوزارية وهياكل المؤسسة العسكرية.
وعلى مستوى المعارضة السياسية يمينا ويسارا ترى هذه الرؤية أن الأداء السياسي لتمثلات المعارضة المصرية والعربية، لم يكن بالوعي الكافي لفهم اللحظة التاريخية للثورات العربية ورغبتها في تجاوز البنية السياسية القائمة سلطة ومعارضة، خاصة الأبنية الفكرية لهذه التمثلات التي كانت رد فعل لـ"المسألة الأوربية" والاستلاب لها من اليسار والليبرالية أو التمترس ضدها من اليمين وفرق الدين السياسي، ولم تدرك التمثلات السياسية أو المعارضة العربية الأرضية العامة التي انطلقت منها الثورة العربية، وأن فكرة الثورة عموما تعني تجاوز الاستقطابات القديمة والوصول لخطاب "مشترك مجتمعي" جديد يتجاوز الاستقطابات القديمة وجذورها الفكرية والاجتماعية والهوياتية عموما، بالتالي فإن هذه الرؤية الفكرية المغايرة وفرصتها البديلة تسعى للتأسيس لفتح المجال العام أمام نخب جديدة مستقلة، وتأمين حركة عملها من خلال مبادئ مجتمعية وسياسية عامة، مضمونها وجود حد أدنى وحد أقصى جديدين للجماعة المصرية يتنافس فيهم المتنافسون، بعيدا عن الاستقطابات السياسية القديمة للمعارضة، بهدف الوصول من خلال الفرصة البديلة هذه خلال فترة زمنية قريبة، وعبر التراكم والحوار الجديد بين النخب المستقلة لخطاب سياسي يتجاوز الاستقطاب القديم لدولة ما بعد الاستقلال سلطة ومعارضة على السواء، يحقق فكرة "المجتمع الفعال" وبشكل سلمي وتطوعي وإصلاحي وتدريجي، بديلا عن مسارات ودورات الانسداد والعنف الخشن والناعم المتبادل بين المطالبين بالتغيير والمتمسكين بالقديم.
وفي الوقت نفسه يعتبر تبني خطاب ثورة 25 يناير وتجاوز الاستقطاب مع "المسألة الأوربية" وممثليها السياسيين من العرب أيضا يمينا ويسارا، لحظة مفصلية عالمية عربية جديدة إزاء الظرف الدولي المعقد أمام الذات العربية والجماعة المصرية، حيث ترى هذه الرؤية المغايرة وفرصتها البديلة أن فرضية "التحول الطوعي" هي أقصر الطرق لتجسير المسافة بين "الجمهورية الجديدة" التي تعتمد بدرجة ما على بنية دولة ما بعد الاستقلال وحضور قلبها العسكري سياسا، وبين "المجتمع الفعال" و"الفرز الطبيعي" وضبط التوصيفات الوظيفية لمؤسسات الدولة المصرية وجموح التغيير والثورة، وتغيير شبكة علاقات الدولة المصرية واختياراتها المركزية في معظم سياساتها العامة دوليا وإقليميا ومحليا، وضبط العلاقة بين المستويات الثلاثة.
إذ ترى هذه الرؤية أن أبرز أزمات "دولة ما بعد الاستقلال" خلال فترة ما بعد ثورة 25 يناير، كانت الارتباك في ضبط أولويات السياسات العامة للدولة المصرية، ما بين السياسات الخارجية العالمية شديدة التغير والخطورة، وبين انعكاسها على السياسات الإقليمية، وبين طغيان السياسات الداخلية وتأزمها في رد فعل للاستقطاب السياسي الأخير مع جماعة الإخوان فيما بعد 30 يونيو.
حيث ترى هذه الرؤية وفرصتها البديلة التي تطرحها أن الإشكالية الرئيسية التي أدت لمرحلة "الانسداد السياسي" الحالي، وطالبت من أجلها الإدارة السياسية المصرية بإجراء حوار وطني بحثا عن توافق ما لعبور ضغوط المرحلة؛ هي ارتباك السياسات المصرية العامة، وتحديدا في الوعي بعلاقة السياسات الخارجية وأثرها على الوضع الأقليمي، وطغيان السياسات المحلية وتغولها على فهم السياق العام للدولة المصرية، في لحظة عالمية شديدة التبدل شهدت جائحة كورونا وصعود الأوراسية الجديدة وملف سد النهضة وملف صفقة القرن ومحاولة سيطرة الصهاينة على القدس.
لكن مقاربة هذه الرؤية الفكرية المغايرة لفرصة الحوار البديلة ستكون بهدف استراتيجي أوسع من الهدف التكتيكي لتحقيق "التوافق السياسي"، هدف هذه الرؤية المغايرة وفرصتها البديلة هو طرح مسار استراتيجي بديل على المستوى التطبيقي وضبط العلاقة بين أولوية السياسات الخارجية والإقليمية والداخلية، وعلى المستوى السياسي والفكري سيكون طرح تصور لمبادئ سياسية عامة، أو الخروج بـ"وثيقة مبادئ" إصلاحية وسلمية تحقق الفرصة البديلة التي تؤدي إلى عملية "التحول الطوعي" لدولة ما بعد الاستقلال وظهور سمات "المجتمع الفعال" والخطاب السياسي القادر على مواجهة اللحظة العالمية جذريا.
أي أن هذه الرؤية الفكرية لا تنتصر لهدف التوافق السياسي المرحلي لعبور الأزمة الراهنة التي تقف وراء الدعوة للحوار الوطني، إنما تنتصر لأن يكون الحوار الوطني فرصة جذرية لوضع "وثيقة مبادئ" فكرية وثقافية وسياسية جديدة للجماعة المصرية برمتها، وذلك لمواجهة مجموعة متغيرات تتسم بالخطورة الشديدة وقد يكون لها الدافع الأبرز في الإعلان عن الحوار الآن، وقد تشمل هذه المتغيرت بشكل رئيسي: ضغوط صفقة القرن المعدلة الجديدة خاصة التحول الصريح لموازين القوة ومركز خطاب الاستلاب للصهيونية الجديد إلى الإمارات والسعودية، مع الإشارة لتعطل بعض ترتيبات صفقة القرن الأصلية بسبب الجبهة الداخلية السعودية التي سيطر عليها الآن ولي محمد بن سلمان وفضيحة اغتيال خاشقجي- ضغوط "الأوراسية الجديدة" والحلف الروسي الجديد مع صعود مشروع الأوراسية الجديدة وما يملكه ما أوراق ضغط على مصر في الاستقطاب بينها وبين أمريكا والغرب الأوربي- ضغوط ملف سد النهضة وحجز الماء الثالث الذي قد يكون الأكبر حتى الآن- ضغوط انسداد المسار أمام سياسات "المدبولية الاقتصادية" نسبة إلى د.محمد مدبولي.
وتبدو المشكلة أكثر وضوحا وإجمالا في السياسات المصرية العامة وأولوياتاها؛ في أن ضغوط السياسات الداخلية مدفوعة بفكرة مواجهة التشويه السياسي وآثار استقطاب ما بعد 30 يونيو، قد أثرت على حساسية الإدارة السياسية المصرية ونخبتها الحالية برمتها تجاه الوضع الإقليمي وسياساته، وتجاه الوضع العالمي وسياساته الخارجية، هذا الارتباك في أولويات السياسات العامة في مصر تصادف انه في لحظة تاريخية يؤثر فيها العالمي بشدة على الإقليمي وعلى الداخلي، وهو ما ستلتفت له هذه الرؤية الفكرية وتضع التصور للتغلب عليه، لتجاوز جذور "الاستقطاب السياسي" والوصول لـ"المشترك المجتمعي" الذي يحقق الصالح العام لمصر وللذات العربية بكل ما تحمله في "مستودع هويتها" من طبقات ورقائق حضارية متجاورة ومتنوعة.
هذا وسوف تستعرض هذه الرؤية الفكرية توصيف المشكلة الحالية واللحظة التاريخية شديدة التدافع بالنسبة لمصر: في خمسة محاور رئيسية هي؛ أولا: وضع السياسات العامة في مصر بين العالمي والإقليمي والداخلي، ثانيا: نماذج لتأثير السياسات العالمية على الإقليمي والمحلي، ثالثا: رصد السمات العامة للمرحلة السياسية الحالية، رابعا: حضور الأزمة السياسية في المعارضة يمينا ويسارا، خامسا: معالم البديل الغائب أمام الجماعة المصرية وإنقاذ اللحظة التاريخية.
وفي نهاية الرؤية والمحور السادس بعنوان: استخلاص المباديء الأساسية الثمانية للتحول الطوعي؛ ستطرح هذه الرؤية الفكرية نقاطاها ومبادئها المحددة الأساسية كـ"وثيقة فكرية" للخروج من المأزق التاريخي واللحظة الراهنة، وهذه المبادئ ستجملها الرؤية في: إرساء مبدأ "التحول الطوعي" لدولة ما بعد الاستقلال تدريجيا - إرساء مبدأ الثورة كلحظة تاريخية عالمية وإضافة للأمن القومي المصري والعربي - إرساء مبدأ ما بعد المسألة الأوربية في خطاب السياسات الخارجية والدولية - إرساء مبدأ تجسير المسافة بين الجمهورية الجديدة و"المجتمع الفعال" - إرساء مبدأ مصر كـ"دولة صاعدة" وقلب لـ"حاضنتها التاريخية" ومستودع هويتها- إرساء مبدأ مركزية المفصلية الثقافية العربية وتجاوز أيديولوجيات الاستقطاب القديم- إرساء مبدأ تفعيل "الحاضنة الجغرافية" وتجاوز "المدبولية الاقتصادية" - إرساء مبدأ ضبط "التراتب الجماعي" وأولوية مفاهيم الأمن القومي على مفاهيم الأمن السياسي.


أولا: وضع السياسات العامة في مصر بين العالمي والإقليمي والداخلي

1- في أولوية المتغيرات العالمية وأسبقيتها في رسم السياسات الداخلية
إن العالم يمر بلحظة تاريخية حرجة للغاية تحتاج للوعي بالمتغيرات السياسية العالمية، ووضع السياسات الخارجية الضابطة لها والقادرة على مواجهتها بكل جرأة وثقة وهدوء، إذ نحن في لحظة المتغير العالمي فيها له انعكاسه المباشر على الوضع الأقليمي وأثره الفوري على الحالة الداخلية للبلاد، من هنا حينما وضعت عنوانا ومدخلا لمقاربة الحوار الوطني المطروح للنقاش اخترت أن أربطه بأهمية الوعي بالوضع العالمي أولا والإقليمي ثانيا والمحلي ثالثا لا العكس.
وربما ذلك هو سبب رئيسي يجب معالجته في أزمة مصر أو الأصح أزمة الجماعة المصرية الحالية بأكملها وليس الإدارة السياسية المصرية فقط؛ وهو طغيان السياسات المحلية ودوافعها على الوعي بأهمية وأولوية السياسات الخارجية عالميا وتأثيرها المركزي والأبرز على المستوى الأقليمي والمحلي الداخلي، وذلك يتطلب تغيير طريقة التفكير وتغيير معايير اختيار الأفرد التي تضطلع للقيام بأعباء الدولة المصرية ومؤسساتها، وهي الطريقة التي لا تزال تدور في فلك السياسات المحلية إرث مرحلة ما بعد 30 يونيو وتناقضاتها القائمة حتى اللحظة الحالية.

2- العلاقة المقلوبة.. أولوية السياسات الداخلية على الخارجية في مصر
هنا إذا لم تكن الأولوية لفهم السياسات الخارجية للعالم على الأولوية للسياسات المحلية في مصر، فسوف نستمر في الدائرة المغلقة ودائرة الاستهلاك المحلي، وغياب البدائل الناجعة في وضع تصور وجودي فاعل لمصر في اللحظة التاريخية العالمية، إذ لأسباب تاريخية تتعلق بمصر واستقطابات ما بعد 30 يونيو كانت هناك أولوية للدوافع المحلية والسياسات المحلية، على السياسات الخارجية وفهم اللحظة العالمية وظرفيتها,
وبالطبع صعود الاهتمام بالسياسات المحلية في مصر أدى لزيادة نفوذ مفاهيم "الأمن السياسي" في مصر خاصة منذ مشروع إعادة إنتاج الاستقطاب وطرح مسلسل "الاختيار"، وأثر الاهتمام بالسياسات المحلية وتنامي نفوذ الأمن السياسي إلى سيطرته على معايير "الفرز والتصعيد" في مؤسسات الدولة وكوادرها، فتم التركيز على معيار "الولاء السياسي" حتى في كافة مؤسسات الدولة ذات الصلة بالسياسات الخارجية مثل الثقافة والإعلام والخارجية والتجارة، مما زاد الطين بلة وانفصلت مؤسسات الدولة عن فهم اللحظة التاريخية الراهنة وأثرها الأقليمي والمحلي.
وجاء ذلك على حساب مفاهيم الأمن القومي التي من المفترض أن تقوم على معايير "الفرز الطبيعي" لاختيار أفضل عناصر المجتمع المصري ووضعها على رأس المؤسسات ذات الصلة، لتعظيم مكونات القوة المصرية، وشغل مناطق حضورها التاريخية عالميا وإقليما ومحليا، مما أوصل البلاد للحظة الحالية وما صاحبها من انسدادات تتطلب تكاتف الجميع لتجاوزها، لأن الذي على المحك هو الجماعة المصرية ككل ووجودها الحيوي المهدد، وليس الإدارة السياسية الحالية للبلاد وفقط.

3- تكامل السياسات الداخلية مع السياسات الخارجية
للتدليل على أن الانفصال بين السياسات الداخلية والسياسيات الخارجية يؤدي للانسداد وانقطاع السبل، سوف نوضح ذلك من خلال أمثلة أولها مسار السياسات الاقتصادية والصناعية، فلو أنك في سياساتك العامة والخارجية تسعى للحضور في فضائك الهوياتي الذي تنتمي إليه مثلا على مستوى القارة الأفريقية؛ فعليك ان تضع سياسة اقتصادية قابلة لإعادة التطبيق والتعاون في نطاق القارة، مثلا تختار بعض الصناعات الممكن ان تتميز فيها موارد القارة وتشترك فيها عدة دول، ربما بالاعتماد على أفضلية توفر المواد الخام ورخص الأيدي العاملة، أما إذا اعتمدت داخليا سياسة اقتصادية تعتمد فقط على اقتصاد الخدمات والفوائض النقدية من بيع العقارت وإعادة توزيع الكثافة السكانية، فسوف تصل في لحظة إلى حالة الانسداد وعجز السياسات الاقتصادية المحلية عن رفد السياسات الخارجية، أو عدم قدرة السياسات الدالخية في التمدد والتحول إلى قوة ناعمة طوعية يختارها اللآخر في الفضاء الهوياتي نفسه الذي تنتمي إليه، هنا تحدث الأزمة ويظهر الانفصال الواضح في السياسات العامة للدولة، بين الداخلي والإقليمي، وكذلك في لحظة ما العالمي.
وفي في مجال السياسات الثقافية؛ كيف يمكن لسياسات ثقافية داخلية تقوم على التبني التام لمفاهيم المركزية الأوربية عن التنوير وخطاب القرن التاسع عشر وتعالي العنصر الأبيض ومتلازمات "المسألة الأوربية" أو عقدها الثقافية، أن ترفد سياسات خارجية ثقافية تقوم على دعم الاستقلال الثقافي لأفريقيا؟ أو تستطيع رفض التبعية الأثيوبية لخطاب الاستعمار وتقديم مصر في صورة الامتداد للرجل الأبيض والاستعمار الأوربي! فهنا لابد من تغيير السياسات الثقافية الداخلية لتواكب السياسات الثقافية الخارجية الأقليمية مثلا، وكذلك انعكاس ذلك على السياسات العالمية نفسها في تبنى فكرة "ما بعد المسألة الأوربية" وتحميل القوى الأوربية واستقطاباتها الجديدة والقديمة، تبعة الآثار الجانبية لصراعاتها في المنطقة العربية والقرن الأفريقي والعالم ككل، لنخرج من كنف التناقضات الموروثة والعلاقة المقلوية بأسبقية السياسات الداخلية على السياسات الخارجية، التي أوصلت البلاد لحالة العجز والانسداد التي وصلت لها.
وفي مجال وزارة الخارجية نفسها ونطاق عملها كحقيبة وزارية سيادية؛ لا يمكن أن تقود السياسات الداخلية قاطرة وزارة الخارجية بغض النظر عن الوعي باللحظة التاريخية العالمية ومحدداتها، فتتحرك الوزارة في بعض الملفات الخارجية مدفوعة بالاستقطاب الداخلي الخاص لما بعد 20 يونيو، فمثلا مشاركة مصر في بعض المناورات العسكرية لحلف الأطلنطي في البحر الأسود بتنظيم أساسي من أمريكا وأوكرانيا في 2021م، جعل الرسالة تصل بشكل خاطئ إلى روسيا مما جعل الأخيرة تتزيد في موقفها ضد مصر في ملف سد النهضة، وهي المشاركة التي بررها البعض بحضور مصر على قدم المساواة في مواجهة تركيا وبجوار شواطئها، وفسرها البعض بمثابة نوع من الوجاهة في ملف شديد الاستقطاب كان على مصر أن تبقى بعيدا عنه، وهنا يمكن أن نضع معيار واضحا لقياس أداء وزارة الخارجية المصرية وهو قدرتها على إدارة التناقضات في "مستودع الهوية" المصري ببعده العربي والإسلامي والأفريقي، وعلاقة ذلك بالعالمي وتناقضات "المسألة الأوربية" ذاتها.

ثانيا: نماذج لتأثير السياسات العالمية على الإقليمي والمحلي

1- الصعود الروسي والصيني وسد النهضة
فمثلا عالميا؛ في ملف الصعود الروسي مع مشروع "الأوراسية الجديدة" وتمددها لمنافسة القوى الغربية وأمريكا، والصعود الصيني وتمدده عبر طريق الحرير القديم في مبادرة "الحزام والطريق" بريا وبحريا، وصل التمدد الروسي والصيني بوصفهما متغيرا جديدا عالميا إلى أفريقيا ولمنطقة القرن الأفريقي تحديدا، ونافسا النفوذ الغربي والأمريكي في فترة الرئيس ترامب في المنطقة وفي الحضور داخل أثيوبيا خاصة، والاستقطاب بين الصعود الروسي والصيني ومواجهة النفوذ الأمريكي والغربي دفعهما لدعم بناء "سد النهضة"، وهو ما انعكس على مصر محليا في ملف إدارة المفاوضات مع أثيوبيا والسودان حول السد، ودفع أثيوبيا إلى التشدد وعدم توقيع اتفاقية ملزمة وحجبت المعلومات حول كميات المياه التي ستمر، فأثر ذلك محليا على مصر في تحديد مساحات المحاصيل التي تتطلب كميات معينة من الماء والتحيط في التوسع فيها مثل الأرز، وأثر على تحديد كميات الاستيراد منها مما أثر على الطلب على الدولار محليا، وعلى دولاب الاقتصاد المصري برمته وتوجيه حركة ماكينته القريبة والبعيدة، هنا العالمي أثر الإقليمي أثر على الداخلي بوضوح شديد للغاية.
وقس على ذلك السياسات الخارجية المتعلقة باللحظة التاريخية العالمية التي كانت تشي بصعود مشروع الأوراسية الجديد في مرحلتين سابقتين، في الملف السوري، ثم في ملف سد النهضة الأثيوبي، ثم المرحلة الثالثة الحالية وذروة المواجهة في أوكرانيا، ولو أن هناك من يرصد السياسات الخارجية ويتابع تأزم "المسألة الأوربية" القديمة، لتوقع المواجهة وتقدم بخطاب جديد يعبر عن مصالح الذات العربية والمصرية، واستبق الاستقطاب الجديد وآثاره على المستوى الغذائي والاقتصادي بحزمة من الآليات الفعالة، وحقيقة ذلك ليس نقد للإدارة السياسية المصرية بقدر ما هو نقد للجماعة المصرية برمتها، وقدرتها النفسية على الحروج من سياق الأزمة الداخلية والتواصل مع تعقدات اللحظة العالمية، والبحث في مقاربات جديدة لعبورها وحضور الذات العربية والجماعة المصرية فيها.

2- سياسات الأفروسنترك العالمية والسطو على البان أفريقانيزم
وفي استمرار للتأكيد على فكرة أولوية السياسات الخارجية في اللحظة التاريخية الحالية بالنسبة للجماعة المصرية، وفهم أثرها الإقليمي والمحلي شديد الوضوح والارتباط؛ والخسارة المرتبطة بها وانعكاسها على الوضع الأقليمي والمحلي، ففي الملف السوداني ونتيجة حضور سياسة عالمية بديلة لشغل الفراغ الذي تركته مصر في عهد الرئيس مبارك، قدمت الصهيونية وأمريكا حزمة من السياسات الثقافية الخارجية في السودان (شماله وجنوبه) وفي أثيوبيا أيضا؛ تقدم مصر على أنها امتداد لصورة الاستعمار الأجنبي الأبيض!
وقدمت الصهيونية وأمريكا سياسة خارجية هي الأخطر تأثيرا على مصر في مستواها القاري الكلي في قارة افريقيا، حينما حولت خطاب "البان أفريقانيزم" أو الوحدة الأفريقية و"عموم أفريقيا" الذي كان يقوم تاريخيا على تحرير كامل القارة من الاستعمار الأجنبي، إلى خطاب "الأفروسننترك" أو المركزية السوداء (أمريكية الأصل والمنشأ) الذي يعتبر مصر الحالية سارقة للحضارة المصرية القديمة! وسكان مصر الحاليين غزاة سرقوها من العرق الأسود أو الزنجي!
وعززت السياسات الصهيونية والأمريكية من الفرقة والتخريب والكراهية في خطاب أفريقا الحرة أو عموم أفريقيا و"البان أفريقانيزم" الذي ساهمت مصر في تأسيسه مع جمال عبدالناصر، ليطوروا عداوة تجاه شمال القارة العربي برمته، ويحاول دعاة المركزية السوداء أو الإفروسنترك في أثيوبيا وبعض السودانيين سرقة خطاب عموم أفريقيا الحرة أو "البان أفريقانيزم" تحديدا عبر تحويله إلى عنصرية سوداء ضد المصريين، ولقد أثر ذلك على مصر إقليميا على المستوى القاري حينما وقف الاتحاد الأفريقي سليل مشروع عموم أفريقيا "البان أفريقانيزم" ضد وجهة النظر المصرية في سد النهضة باتلجاهل لدور مصر العظيم في تحرير أفريقيا ومشروع "البان أفريقانيزم" والوحدة الأفريقية، وارتبك مفهوم "البان أفريقانيزم" عند بعض السودانيين وخلطوه بالمركزية أو العنصرية السوداء "الأفروسنترك" الذي نشأ في أمريكا، هنا سياسة أمريكا و"إسرائيل" الخارجية في قارة أفريقيا أثرت على مصر في محيطها الإقليمي الأفريقي وكذلك داخليا.
فانعكس ذلك داخليا في ملف سد النهضة، وانعكس أيضا مثلا في أحداث ما بعد 25 أكتوبر بالسودان ومع عُرف بـ"ترس الشمال" في شمال السودان الذي اخترقه دعاة المركزية السوداء العنصرية المتطرفة بشعارات قطع العلاقات تماما مع مصر على المستوى الاقتصادي والتجاري والثقافي، وأثر على مصر في تنويع مصادر المواد الخام التي تستوردها منها باتجاه مصادر أخرى، هنا تكمن أهمية الوعي بالسياسيات الخارجية ومركزيتها في اللحظة التاريخية الحالية، وأوليتها في بناء النظام الفكري والإداري والسياسي والثقافي للجماعة المصرية ومؤسساتها، وانعكاس ذلك داخليا وإقليميا.

3- صفقة القرن والمغرب وأثرها على مصر في سد النهضة
وفي السياق نفسه وأهمية التركيز على الوعي بمركزية السياسات الخارجية وانعكاسها على الوضع الإقليمي والوضع المحلي للجماعة المصرية في اللحظة التاريخية الراهنة، يمكن النظر إلى جائحة كورونا وإلى تصاعد المسألة الأوربية وصفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية وأثرها الإقليمي والمحلي، فعندما ضغط دونالد ترامب لتمرير صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية كسياسة خارجية أمريكية، وعندما دعم وجهة نظر المغرب في الصراع على الصحراء المغربية مع جبهة البوليساريو، أثر ذلك فيما بعد على موقف الجزائر –التي لا تتبنى الموقف نفسه- تجاه المغرب، ولأن مصر وضعت تحت الضغط نفسه لقبول الاتفاقيات الإبراهيمية في المنطقة، أثرت محصلة ذلك على موقف الجزائر تجاه ملف سد النهضة في الاتحاد الأفريقي الذي لم يدعم الموقف المصري كما ينبغي، مع الإشارة للوزن النسبي المرتفع للجزائر في الاتحاد الأفريقي، هنا أهمية الوعي بطبيعة اللحظة التاريخية العالمية وأن كل سياسة خارجية دولية مطروحة لها أثر مباشر على الوضع الأقليمي وأثر مباشر على الوضع المحلي لمصر.
وقس على ذلك سياسات أمريكا والصهيونية تجاه البحر الأحمر ومنطقة نيوم وأثره الأقليمي العام، ثم أثره المحلي على مصر، وقس على ذلك جائحة كورونا وصعود سياسات الأمن القومي وأولوية تغطية الأسواق المحلية وجاهزية الأبنية المؤسسية للتعامل مع الأزمات، والقدرة الاستيعابية للمرافق الصحية قياسا بعدد السكان، وقدرة الموارد الداخلية على كفاية السكان المحليين وإعادة توزيع الموارد والسياسات المرتبطة بذلك.


ثالثا: رصد السمات العامة للمرحلة السياسية الحالية


1- "الأسر النفسي" للسياسات الداخلية وتجاهل السياسات العالمية
لقد وضعت صفة العالمي بداية لألفت الانتباه لأننا في لحظة تاريخية عالمية مركزية شديدة التدافع والتغير وسريعة الإيقاع، والمشكلة أن هذه اللحظة العالمية تتطلب سياسات خارجية مصرية جديدة تماما يجب أن تكون لها الأولوية، تستبق الأحداث وتملك رؤية استشرافية وتستطيع المبادرة باتخاذ إجراءات مناسبة وجرئية ومحسوبة، لأنه فجاة أصبح العالمي يرتبط مباشرة بالإقليمي يرتبط مباشرة بالمحلي.
في حين بنسبة كبيرة كانت السياسات الداخلية في الفترة الماضية تتحرك دون اعتبار للسياسات الخارجية، وربما ذلك هو ما أوصل المجموعة الوزارية الحالية (تشكيلة مصطفى مدبولي) والبلاد لحالة الأزمة والانسداد الراهنة، ويرجع السبب في أولوية السياسات الداخلية والترويج لها عند الإدارة السياسية المصرية الحالية والحكومة، إلى أنها أنتجت رواية سياسية مركزية عن ديمومة الصراع مع الإخوان المسلمين، ووقعت في الأسر النفسي ورد الفعل لأحداث إزاحة الإخوان عام 2013م.

2- معارك "تكسير العظام" وتحول البنية العسكرية إلى لاعب سياسي مباشر
هذا الأسر النفسي لدى الإدارة السياسية المصرية في مرحلة ما بعد 30 يونيو والشعور بأنهم في معركة "تكسير عظام" و"صراع وجودي" صفري، وتحول مؤسسة الجيش إلى لاعب سياسي مباشر أزاح مجموعة جمال مبارك من الصعود للحكم، ثم ازاح عمر سليمان نائب الرئيس مبارك، ثم أزاح جماعة الإخوان برمتها، وأزاح الفريق شفيق وسامي عنان والأصوات الثورية بالمؤسسة، كانت كل هذه "معارك صفرية" و"تكسير عظام" في حاجة لطبيعة نفسية خاصة لممارسة العمل السياسي وتحمل مسئولية المجال العام للمصر.
بالإضافة إلى مواجهة مطالب الثوار الأنقياء المستقلين بتغيير نظام الدولة من أساسه أي نظام "دولة ما بعد الاستقلال" عن الاحتلال الأجنبي منذ القرن الماضي، الذي كان يقوم على الحضور القوي للمؤسسة العسكرية التي ثارت على النظام الملكي وعلى الاحتلال الأجنبي معا في مؤسسات الدولة، فكان على مؤسسة الجيش أن تمارس آليات "الاستقطاب والتشويه" في الصراع السياسي لتفكك الكتلة الرئيسية والجامعة للثورة المصرية المستقلة.
الاستقطاب عبر مميزات "الدمج والتسكين" في البنية الاجتماعية للبيروقراطية المصرية، والتشويه عبر كل السبل الممكنة، وهو ما أثر على السياسات الداخلية للبلاد ومنح "الأمن السياسي" نفوذا واسعا يقوم على "التنخيب الزائف" والفرز حسب الولاء والاستقطاب السياسي، وجاء ذلك على حساب "الأمن القومي" وحضوره في السياسات الداخلية ومنطق تعظيم القوة في كل الاتجاهات، وهو الذي من المفترض أن يقوم على "الفرز الطبيعي" بحثا عن أفضل عناصر المجتمع المصري في القدرات والمواهب والانتماء الوطني المجرد.

3- صعود مفاهيم الأمن السياسي وتراجع مفاهيم الأمن القومي
تضغط سياسات الأمن السياسي بشدة على المكون النفسي عند الإدارة السياسية المصرية الحالية، وغواية تقديم "الاختيار 3" ماثلة في الأذهان، وهذه السياسات هي رد فعل لاختيار كامب دافيد وكسر الإرادة المصرية في السياسات الخارجية، ومنح الأمن السياسي اليد الطولي في القطر المصري، لتنتكس دولة ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي في مصر بمؤسساتها العسكرية وتتحول إلى دولة تابعة للسياسات العالمية وحارسة للتناقضات الإقليمية في مقابل ضمان وجودها ودعمها داخليا (وهذا كان الشكل القديم للعلاقة بين العالمي والإقليمي والداخلي في الدولة المصرية بعد كامب دافيد)، وهي الثقافة التي ماتزال سائدة حاليا دون أن يلتفتوا إلى أن ظرفيتها التاريخية قد انتهت صلاحيتها، وتجاوزها التاريخ تماما وأن محاولة إعادة إنتاجها مثلما حدث في فترة ترامب، والدفع بيوسف زيدان ومراد وهبة وسعد الدين إبراهيم وغيرهم للترويج لصفقة القرن ونشر لـ"خطاب الاستلاب" للصهيونية وإسرائيل، سيؤدي لزيادة طول الحبل الذي سيلتف حول مصر ويفكك حضورها في "مستودع هويتها" التاريخي ويهدد وجودها ذاته.
حيث قد تفككت هذه المعادلة القديمة مع تبدل الوضع العالمي وسياساته الحالية، وهناك الآن في مصر صراع كامن وغير معلن بدرجة ما بين الأبنية القديمة التي دعمت تيار التطبيع لتتجاور مع سياسات الأمن السياسي، رغم ارتباط هذه الأبنية تاريخيا بسياسات الأمن القومي وأبنيته..!
وتتراجع سياسات الأمن القومي لأنها في عهد مبارك تعرضت لحصار شديد القسوة بسبب تبعية مصر للسياسات الدولية وتفكيك حضورها في فضاء الأمن القومي الخاص بها، كما أن أبنية الأمن القومي المصري مخترقة داخليا من جانب تيار التطبيع ومن جانب علاقات هذا التيار التاريخية بسياسات الأمن السياسي ومفاهيمه، وهي العلاقة التي تشابكت وتداخلت منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي.
كما أن مركز سياسات الأمن السياسي فيما بعد ثورة 25 يناير يعد تناقضا رئيسا وتهديدا مباشرا لسياسات الأمن القومي في مصر، حيث اعتبر الأمن السياسي أن الشعب المصري ونمط حياته القائم على التكافل والقدرة الذاتية على تحمل الضغوط، هو السبب في قدرة الناس على الثورة والتمرد وتحمل ضغوط الحياة في فترة 25 يناير؛ لذا استهدفت سياسات الأمن السياسي تفكيك قدرة المصريين على الحياة والتكافل والصمود، واستهداف ما يمكن تسميته ب"محصلة القوة الشعبية" التي تتكون من الوفرات النقدية والسكنية والاجتماعية، في حين أن "محصلة القوة الشعبية" هذه هي أهم أهداف الأمن القومي على المستوى الشعبي في الاعتماد على حاضنة شعبية وذاتية قوية، قادرة على الصمود في وقت الأزمات والحروب ومواجهة الاستقطابات الحضارية، وهذا كان أسوأ التناقضات التي نتجت فيما بعد 25 يناير.
كما كان التكتيك الرئيسي في هذا السياق السياسي كان يقوم على "تفجير التناقضات" عموما، وزيادة الاستقطابات داخل المجتمع المصري، وهو ما يؤكد على أهمية تجاوز سياسة "تفجير التناقضات" والعودة لسياسة "المشترك المجتمعي" والتأكيد على اللحمة الوطنية وتعظيم مصادر الأمن القومي المصري.

4- الانتهازيون والترويج لـ"رواية ديمومة الصراع"
كل هذا العبأ السياسي وآثاره الظاهرة –للعين الخبيرة- تحملته الإدارة السياسية الحالية وعلى رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي، والأزمة أن حالة "الأسر النفسي" والاستقطاب السياسي تحولت إلى وضع شبه دائم يروج له المستفيدون منه، وفي بناء "التراتب الاجتماعي" المصري وإعادة تأسيسه فيما يعرف بـ"العاصمة الإدارية الجديدة" و"الجمهورية الجديدة"، ولم يتوقف الاستقطاب السياسي، الذي كان من آثاره الجانبية ضرورة فرض السيطرة على الإعلام والقضاء والصحافة، ومنح الشرطة صلاحيات ومميزات حمائية، والدفع برجال الجيش المتقاعدين في مؤسسات الدولة وما ارتبط ذلك من مميزات "الدمج والتسكين".
وتحولت رواية دولة ما بعد 30 يونيو إلى رواية الصراع الوجودي الدائم مع تشويه الإخوان المستمر، وتم منح تلك الرواية الأولوية والصدارة في كل مسارات السياسات الداخلية لمصر، وتم إهمال اللحظة التاريخية العالمية القائمة والسياسات الخارجية التي من المفترض أن يكون لها الأولوية فيها، حتى وصلنا للحظة الانسداد الحالية.

5- مآل "المدبولية الاقتصادية" والطريق المسدود
وعلى المستوى الداخلي تأتي دعوة الحوار في وقت وصلت فيها سياسات "المدبولية الاقتصادية" نسبة إلى مصطفى مدبولي رئيس الوزراء المصري إلى حائط سد، كانت المدبولية الاقتصادية في مرحلة ما بعد 30 يونيو رد فعل لفكرة "السياسات الداخلية" دون وعي أو اهتمام بـ"السياسات الخارجية"، فكانت تقوم على فكرة تقديم إنجازات يومية باستمرار ردا على محاولات التشويه اليومية باستمرار من الإخوان، فتوسعت المدبولية الاقتصادية في بناء المدن العمرانية دون ربط التوسع بخطط تنمية مستدامة تتفق مع الحاضنة الجغرافية المصرية.
ولم يتم ربط التوسع العمراني بالنشاط الاقتصادي والإنتاجي إنما تم التعامل معه بصفته مصدرا رئيسيا لزيادة موارد الدولة المالية، ليرتفع متوسط سعر المتر السكني خارج قدرات معظم الأسر المصرية، وتحركت المدبولية الاقتصادية في اتجاه الاستثمار الخدمي واللوجستي في الطرق الجديدة ومحاورها، لكن دون التفات للحظة العالمية المحيطة والسياسات الخارجية المطروحة فيها، التي تقوم على التحصين الداخلي واستعادة مفاهيم الأمن القومي وتحقيق الكفاية الذاتية على المستوى الصحي والغذائي والصناعي والقطاع الإنتاجي عموما.
حتى وصلت المدبولية الاقتصادية باندفاعها خلف السياسات الداخلية لطريق مسدود، بانفصالها عن العالم الخارجي والسياسات المطروحة فيها، وأعلنت المدبولية الاقتصادية عن فشلها هذا مؤخرا في مؤتمر اقتصادي تخلت فيها عن معظم توجهاتها القديمة وأعلنت طرح مجموعة من الأصول للبيع لمواجهة عجز الميزانية ودفع تكاليف القروض المتفاقمة.


رابعا: حضور الأزمة السياسية في المعارضة

1- نقد الجماعة المصرية وليس الدولة المصرية فقط
النقد هنا نقد موجه للجماعة المصرية كلها لأن الجماعة المصرية في معظمها أصبحت رد فعل لتناقضات القرن الماضي إرث المسألة الأوربية ورد الفعل لها سواء ضد أو مع، لأن الجماعة المصرية وتصوراتها الثقافية الوجودية أصيبت بالشلل منذ فترة طويلة، والجماعة المصرية المقصود بها أبنية السلطة وأبنية المعارضة والأبنية الأكاديمية والمعرفية والثقافية وكل ما يتعلق بهم.
وكان المفروض أن تتتجدد الدماء في عروق الجماعة المصرية مع ثورة 25 يناير 2011م، لكن التناقضات و توظيف الاستقطاب ما بين الأبنية القديمة والتحالف مع اليمين والإخوان في فترة تعديلات مارس الدستورية وحتى ما قبل انتخاب مرسي رئيسا، ثم توظيف الاستقطاب ذاته والتحالف ما بين الأبنية القديمة واليسار والليبرالية في إزاحة الإخوان ودستور لجنة الخمسين، هذا الاستقطاب وتوظيف اليمين ثم توظيف اليسار والليبرالية جدد الشلل الذي أصيبت به الجماعة المصرية فكريا وثقافيا وفلسفيا، وجعلها تراوح مكانها.

2- أطراف الحوار والمعارضة وأهمية التصورات المستقلة
هنا يمكن القول إن دعوة الحوار المطروحة لا يجب أن تقف عند الأطراف القديمة نفسها، التي قدمت ما لديها بالفعل للجماعة المصرية، وعجزت عن وضع تصورات سياسية للتعبير عن مطالب الشعب السياسية في فترة ثورة 25 يناير، سواء لأسباب ذاتية أو لأسباب موضوعية تتعلق بظروف الحركة والتقييد العام، وتكاد الأطراف التي دعيت للحوار أن تكون هي نفسها التي ظهرت من قبل في تحالف ما بعد مظاهرات 30 يونيو.
فحتى الآن الوجوه الرئيسية التي خرجت في سياق الحوار، هي حمدين صباحي يوم إفطار الأسرة المصرية ممثل تيار الكرامة الناصري ثم مع ضياء رشوان بقناة إي تي سي، وسامح عاشور المحسوب تاريخيا على الحزب العربي الناصري في قناة صدى البلد مع أحمد موسى، وبعده الدكتور سيد البدوي ممثل حزب الوفد القديم في عهد مبارك مع أحمد موسى أيضا في قناة صدى البلد، ثم سيد عبد العال رئيس حزب التجمع في قناة دي أم سي، ومحمد إبراهيم منصور ممثلا عن السلفيين وحزب النور، وكذلك ظهر الدكتور حسام بدراوي الممثل القديم للحزب الوطني الحاكم في عهد الرئيس مبارك في قناة إم بي سي مصر.
وطبعا يقف الإخوان وبقاياهم التنظيمية والشعبية في الخلفية يرددون سردية للمظلومية والاضطهاد، واللحظة التاريخية الحالية العالمية بالنسبة لهم يبحثون فيها عن موطأ لقدم فقط، مع حصارهم الداخلي في مصر والتشويه الذي أصابوا به الثورات العربية بانتهازيتهم السياسية في مصر وليبيا وتونس وسوريا واليمن، وهم خارج سياق الحوار الحالي لأنهم ينتظرون الفرصة المناسبة التي تظهر فيها الحاجة لهم، ويعلمون أنها بشكل ما ليست اللحظة الحالية.
ومن جهة أخرى أُعلن أن الذي سينظم الحوار هو "الاكاديمية الوطنية للتدريب" التي كانت تنظم المؤتمرات الشبابية والتي تعتبر الذراع الرسمي لإعادة تأهيل الكوادر الوظيفية لبناء الجهاز الإداري للدولة بعد تسليمه للإخوان في مرحلة سابقة، وهي تخضع بشكل غير مباشر لسلطة جهاز الأمن السياسي في مصر الذي يحدد قواعد فرز واختيار عناصرها وفق قاعدة "الولاء السياسي" في الأساس رد الفعل لاستقطاب ما بعد 30 يونيو.
والمشكلة هنا هي غياب العديد من مصادر القوة الناعمة المصرية المستقلة من الأفراد والمؤسسات، والتي يجب أن تشارك في البحث عن سيناريوهات الخروج من المأزق التاريخي الحضاري الحالي للجماعة المصرية داخليا وإقليميا وعالميا، وتحديدا من الأفراد المستقلة والكيانات المؤسسية والأهلية، فلماذا لا تشارك الأكاديمية المصرية والجامعات ومراكزها البحثية بوضع تصورات خاصة بها، ولماذا لا تشارك مؤسسات الثقافة المصرية المتعددة في المجلس الأعلى الذي تلك وظيفته، أو نوادي الأدب وقصور الثقافة بقطاعاتها الشعبية، أو اتحاد الكتاب بصفته ذخيرة ثقافية تاريخية! ولماذا لا تشارك النقابات ذات الصلة نقابة الصحفيين والمحاميين والإعلاميين، وغيرهم!
وهنا يجب أن يتم طرح فكرة "مستودع أفكار" للجماعة المصرية؛ يتم الاحتفاظ فيه وأرشفة كافة التصورات المقدمة بل وعرضها على موقع إلكتروني مفتوح ودائم، يقبل الإضافة باستمرار باسم "مستودع أفكار الجماعة المصرية"، ولماذا لا يتحول هذا المستودع إلى مركز بحثي ومظلة فكرية للجماعة المصرية ككل، يكون شغلها الدائم البحث في مجال المستقبليات واستشراف مسارات المستقبل ورصف طريق الجماعة المصرية والذات العربية إليه، ويمكن أن يلحق هذا المركز بوزارة الثقافية مثلا.
حتى ننتقل من اعتبار الحوار الوطني مجرد ظرف مرحلي قد يفسره العض على أنه البحث عن توافق سياسي لعبور ضغوط اللحظة التاريخية القاسية داخليا وإقليميا وعالميا، ويتحول إلى آلية دائمة لوضع السيناريوهات والسيناريوهات البديلة، واختبار تباديل وتوافيق المستقبل واستشراف أفضلها ووضعها أمام صانع القرار وطرحها للجماعة المصرية ككل، في حوار غير تقليدي يتجاوز الاستقطابات الأيديولوجية إرث القرن الماضي، التي أثبتت عجزها تماما عن مواكبة اللحظة الثورية للشعب المصري في 25 يناير 2011م، لذا دعونا نعطي الفرصة للشعب المصري ولكن لتكن فرصة عادلة، وسلمية وإصلاحية وتدريجية هذه المرة، بدلا من دورات "الانسداد السياسي" المستمرة والمتعاقبة.
ويكون الدور الفعلي المنوط بالأحزاب السياسية التاريخية هو فتح الطريق أمام تصورات فكرية جديدة، تبث الدماء في الجماعة المصرية وتتحرك خارج الصندوق الأيديولوجي التقليدي، وتتحول المعارضة التاريخية إلى داعم سياسي لمركز جديد يتمفصل حول اللحظة التاريخية الجديدة للثورات العربية، ولا يعتبرها مجرد ثمرة للاستقطابات والتناقضات القديمة إرث القرن الماضي، ويكون الحل عبر فتح المجال العام في مصر أمام الرؤى المستقلة والاجتهادات الجديدة التي لا تحمل ثأرا نفسيا ولا تلتقي على حلم التغيير الواسع وتبصر اللحظة العالمية الجديدة.
فلابد من تجاوز الوصول لـ"توافق سياسي" مؤقت لعبور ضغوط الظرف التاريخي والمرحلة بتوظيف جديد لتناقضات التيارات السياسية في مصر والخروج بمكاسب سياسية صغيرة، بل يجب أن يكون الحوار فرصة تاريخية و"مفصلية ثقافية" للمفكرين والمثقفين المستقلين المخلصين في مصر، حتى ولو كان توقيت الدعوة إليه توافق مع تصدير رواية أحادية استقطابية اعاد تقديمها مسلسل "الاختيار" في رد فعل نفسي مستمر لتبعات استقطاب ما بعد 30 يونيو، إلا أنه يجب على المؤمنين بمستقبل هذا الوطن والذات العربية ألا يخضعوا للرد فعل، ويجب عليهم أن يمتلكوا من الإرادة النفسية والقوة الكافية ما يجعلهم يطرحون المسارات البديلة لتجاوز اللحظة العالمية الراهنة، والاستقطاب السياسي الداخلي.

3- أزمة التحديات الجديدة للجماعة المصرية والبدائل القديمة
وهنا تصبح الصورة الكبيرة واضحة لحد بعيد؛ الإدارة المصرية الحالية تدعو لتنظيم حوار مع ممثلي المعارضة التقليدية فيما قبل ثورة 25 يناير، وعبر سيطرة تنظيمية غير مباشرة من مفاهيم الأمن السياسي المصري من وراء واجهة "الأكاديمية الوطنية للتدريب".. ويصير السؤال المطروح ما هو المطلوب وما هو المنتظر من ذلك الحوار الوطني الذي طرحه الرئيس السيسي، أو ما هي دوافع إجراء هذا الحوار في هذا التوقيت؟
يعلن الرئيس عن الحوار بوصفه مطلبا سياسيا للدخول لـ"الجمهورية الجديدة"، ولمواجهة جملة التحديات الكبرى التي تواجه الدولة المصرية عالميا وإقليميا وداخليا، والتي تشمل إقليميا صعود الصهيونية وضغوطها لتهويد القدس واحتلال البقعة المقدسة في محيط المسجد الأقصى بمدينة القدس (واحتمالية نسخة معدلة من صفقة القرن)، وتشمل إقليميا أيضا احتمالية تنفيذ حجز جديد ثالث للماء خلف السد الأثيوبي بكمية ضخمة قد تؤثر على مخططات وتشكيلة الزراعات والمحاصيل المصرية والمزيد من الضغوط الاقتصادية، وعالميا يتواكب ذلك مع ضغوط إدارة بايدن وتخفيض مبالغ ما من المعونة الموجهة لمصر بحجة حقوق الإنسان وممارساتها داخل مصر، وضغوط روسيا لدفع مصر أكثر نحو موقفها في الاستقطاب الجديد للمسألة الأوربية بينها وبين الأمريكان في تبعات غزو أوكرانيا وحربها، وكذلك الضغوط الداخلية وتازم السياسات الاقتصادية لتشكيلة الحكومة الحالية، خاصة صندوق النقد الدولي وشروطه لخدمة القروض الجديدة والقديمة.
ليبدو أن الوضع العالمي أمام الإدارة السياسية يضغط بشدة من روسيا وأمريكا كل منهم بأجندته وبأدواته، التي تنعكس إقليميا إلى أن كشفت محليا تيه توجهات المدبولية الاقتصادية، ويحتاج الرئيس لتوافق سياسي لمواجهة تأزم اللحظة التاريخية العالمية وما قد تتسبب به في الإقليم وما قد تكشفه في الداخل المصري، خاصة في ظل محاولات بايدن تمرير نسخة معدلة من صفقة القرن تحضر فيها السعودية بقوة ربما، وما حدث في الأسبوع الأخير من شهر مايو واقتحام باحات البقعة المقدسة والمسجد الأقصى في القدس، وأداء الصهاينة من اليهود للصلاة داخله مع وجود دعوات شديدة التطرف لهدم مسجد قبة الصخرة وغير ذلك، وحجز الماء الثالث يبدو سيكون هذا العام وعلى غير المتوقع كبيرا
لكن بهذا الوضع الرئيس السيسي بصفته رأس الإدارة السياسية الحالية لن يغير كثيرا في الخطوط العامة للدولة المصرية في مرحلة ما بعد 30 يونيو، إنه يطلب توافقا سياسيا مرحليا لعبور الأزمة العالمية الطارئة بالطريقة القديمة، وهو ما لن يفيد الجماعة المصرية في شيء ولن يغير من مقدراتها في تجاوز مركزية السياسات الداخلية رد الفعل الأخير للتحالف مع الإخوان ثم الصراع معهم، ولا الوعي بالسياسات الخارجية وأهميتها في اللحظة العالمية الراهنة وضرورة منح الأمن القومي المصري الأولوية على سياسات الأمن السياسي ومفاهيمه التي فككت مصر منذ نهاية السبعينيات واتفاقية كامب ديفيد.
لذا سيكون أمام الإدارة المصرية اختيارين؛ الأول سهل وهو الحصول على توافق سياسي تقليدي من المعاضة التقليدية في مقابل إعادة إنتاج بعض الشعارات التقليدية لتمر ضغوط المرحلة التاريخية عالميا وإقليميا وداخليا (وهذا الاختيار سيدعمه رجال الأمن السياسي وطبقة المستفيدين والجهاز البيروقراطي التذين استقرت أماكنهم في التراتب الاجتماعي المصري).
والاختيار الثاني وهو البديل الغائب الذي يتم الهروب منه وعدم الاعتراف به، وهو تبني خطاب ومطالب ثورة 25 يناير واتخاذ القرار الطوعي بالتحول عن دولة ما بعد الاستقلال وبنيتها السياسية، وبناء خطاب سياسي جديد يقوم على تبني اللحظة التاريخية الجديدة واعتبارها لحظة مفصلية فارقة تؤسس لمصر الصاعدة الجديدة، تحترم اللحظة التاريخية القديمة لدولة ما بعد الاستقلال والتحرر من الاحتلال الأجنبي، ولكنها تدرك أن القوة الناعمة الحقيقية لمصر والعرب في تبنى اللحظة التاريخية للثورات العربية لتعظيم قوة العامة لمصر.
وهذا الاختيار الثاني سيكون صعبا ولكنه هو الحل الاستراتيجي الحضاري الوحيد أمام الجماعة المصرية الذي لم يختبر، والذي قد يضع أمن مصر القومي في حاضنته الفكرية الصحيحة بعد تشوهات اتفاقية كامب دافيد واثرها على السياسات العامة المصرية، السياسات الخارجية الدولية والإقليمية والداخلية.

خامسا: معالم البديل الغائب أمام الجماعة المصرية وإنقاذ اللحظة التاريخية


1- مشروع "التحول الطوعي" والقوة النفسية لتجاوز "شبكات الدعم"
تحتاج الإدارة السياسية الحالية لقوة نفسية من نوع آخر، وهي القوة النفسية للتجاوز ووقف الاستقطاب السياسي وآثاره المستمرة في البلاد، لكي تقوم بإرداتها النفسية الخاصة بالقيام بعملية "تحول طوعي" في مسار النظام السياسي المصري، والانتقال به من "دولة ما بعد الاستقلال" والفرز حسب الولاء والتنخيب الزائف، إلى "دولة المجتمع الفعال" والفرز الطبيعي والفصل بين حقائب الدولة الوزارية وبين مؤسسات الجيش النظامي، وتصعيد الكتلة الجامعة للمجتمع المصري التي تؤمن بطيعتها بمستودع هويتها وتدافع عنها في السياسات الخارجية، وتضبط السياسات الداخلية.
وذلك "التحول الطوعي" سيحتاج لإرادة نفسية من حديد تفوق بأضعاف القوة النفسية السابقة للصراع السياسي من الإدارة السياسية الحالية للبلاد، هي قوة التخلص من "الأسر النفسي" لرواية الصراع الأبدي ورد الفعل لها، والتصالح مع المستقبل وتجاوز اعتبار الذات وتجربتها الخاصة مركزا للكون تجر خلفها مصير وطن وأمة بأكملها، لكنه هو السبيل الوحيد الصحيح أمام البلاد، كي لا يكون الهدف من الحوار الوطني هو مجرد تحقيق توافق مرحلي لعبور أزمة الانسداد في السياسات الداخلية والتيه في السياسات الخارجية..
وسيكون ذلك شاقا للغاية على الإدارة السياسية الحالية لأنه تم بناء شبكة من علاقات "الدعم النفسي" ذات مستويات متعددة عامة وخاصة، تزكي رواية الصراع الوجودي وديموتها وتحجب رؤية الواقع والشعور بالذنب تجاهه، وتمنح الشعور بالتطهر والتأمين والمباركة على كل خطوة كانت صحيحة أم خاطئة، وهذه الشبكة عادة ما تتصف بالحميمية والذكريات المشتركة والمواقف الجامعة والدعم المتبادل وغواية المشترك الاجتماعي والمهني والثقافي والإنساني..
لكنه قدر الرجال أن تختبر معادنهم فرادى وليس جماعة، وما السياسة والمجال العام إلا قدرة على ضبط النفس وتدريبها في طريق الحياة الطويل والصعب.
ذلك لأن اللحظة التاريخية الحالية شديدة الخطورة للغاية وتتطلب المبادرة بحزمة سياسات خارجية يقوم عليها رجال أوفياء شداد، يملكون المرونة وسعة الحيلة للتعديل فيها ومواجهة المستجدات بسرعة خاطفة ودقة فائقة، وهذه السياسات الخارجية يجب أن تضبط السياسات الداخلية ليتكاملا بوصفهما قوة ناعمة وقوة خشنة في الوقت نفسه، من هنا لابد من التصالح مع مشروع الثورات العربية لأنها مصدر القوة الناعمة الوحيد في مواجهة الصعود الروسي والأوراسية الجديدة، وفي مواجهة الهيمنة الأمريكية، أو إجمالا يمكن القول إن مشروع الثورات العربية هو البديل الحضاري الوحيد للمسألة الأوربية ومركزيتها القديمة، ومحاولة إعادة إنتاجها التي تجري حاليا في العالم.

2- تأسيس لحظة تاريخية مفصلية وليس توافق سياسي مستنسخ
إذن في ظل السياق السابق وعلاقة المعارضة المصرية التقليدية باللحظة التاريخية العالمية وبل بلحظة الثورة المصرية في 2011م، يمكن القول إن مخرجات هذا الحوار قد تندرج في إطار مقولة عامة وهي: بناء توافق سياسي لعبور تحديات اللحظة الحالية، تحت شعار "الجمهورية الجديدة" في مقابل تمرير بعض المطالب الظرفية او تدويرها للمعارضة المصرية التقليدية.
وهو يشبه التوافق الذي تم إنتاجه في مرحلة ما بعد 30 يونيو لإزاحة نظام الإخوان المسلمين، وعمل دستور لجنة الخمسين وتوظيف اليسار والليبرالية والناصريين (والسلفيين على الهامش)، والذي سبقه في مرحلة ما بعد 25 يناير التحالف مع الإخوان في استفتاء مارس 2011 لعمل التعديلات الدستورية وإلى ما قبل ترشح الإخوان للانتخابات الرئاسية.
هنا لابد من الصراحة في استشراف المستقبل والنظر إلى مساراته؛ إذا كان ما يبحث عنه الرئيس السيسي والإدارة السياسية الحالية هو بناء توافق سياسي مع المعارضة المصرية التقليدية، فسوف يجده كما وجده من قبل!
لكن هل في هذه الحالة نكون قد رفدنا الجماعة المصرية ووجودها العام المهدد في حضوره العالمي والإقليمي والمحلي بشيء ما! أعتقد أن هذا الطريق سارت فيه الجماعة المصرية من قبل مرارا، واكتشفنا نهاية الطريق المسدود الخاص به في كل مرة.
إذن ما المفترض أن يكون عليه حوار الجماعة المصرية برمتها لتبحث في ازمتها الوجودية والمخاطر المحيطة بها في اللحظة التاريخية الراهنة.

3- التصالح مع المطالب الشعبية والبديل الغائب لـ"المشترك المجتمعي"
أو يمكن طرح السؤال بطريقة أخرى: هل من وجهة نظر ثورية تقدم تصوراتها للحوار الوطني الذي دعى إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي! ولو كانت هناك من وجهة نظر ثورية تبحث عنها مطالب ثورة 25 يناير 2011م، فما هي وجهة النظر تلك وتصورها للحظة التاريخية العالمية الحالية ببعدها الأقليمي وتصورها المحلي؟ والتي تتجاوز بنية دولة ما بعد الاستقلال سلطة ومعارضة، وبشكل تدريجي وسلمي بديلا عن "الدورات المستمرة" من الانسداد السياسي.
كانت المطالب الشعبية والشعارات المطروحة من ثورة يناير وتحديدا في الـ 18 يوم الأولى واضحة، قبل تسْييس ميدان التحرير وتفجير التناقضات واستقطابات المعارضة التاريخية وتوظيفها، كانت شعارات الميدان واعية ومستقلة عن كافة تيارات المعارضة يمينا أو يسارا رد الفعل للصراع مع المسألة الأوربية، والتمترس حول الذات العربية وفرق الدين السياسي أو الاستلاب للذات الأوربية مع اليسار والليبرالية، وكان الحشد الشعبي العام في الميدان يرفض أي شعارات حزبية على منصات ميدان التحرير، إذن فوعي الثورة المصرية الفطري كان يتجاوز المعارضة التقليدية وشعاراتها.
وكانت مطالبه واضحة تجاه الآخر الدولي ودفعه للوراء وهو ما ظهر في عدة فعاليات، كما أن العديد من التصورات الدولية؛ اعتبرت الثورات العربية ومنها الثورة المصرية هي لحظة عالمية جديدة تستلم "الدورة الثورية" الإنسانية وإلهامها العالمي من الذات الأوربية وموجة صعودها القديمة، واعتبروها سردية تتجاوز مركزية الصراع بين الماركسية القديمة والليبرالية المهيمنة، ببحثها عن طريق جديد تشقه لنفسها.
إذن كانت الثورة المصرية وشعاراتها مستقلة عن المعارضة التقليدية وبريئة من التوظيف والاستقطاب السياسي الذي تم بعد ذلك، وكانت تقدم لحظة عالمية جديدة بمفصلية ثقافية مركزية كامنة جديدة شبهها الغرب بثوراته المركزية الأشهر، حينما سماها "الربيع العربي" قياسا على ثورات "ربيع الأمم" التي ظهرت في أوربا، كان الغرب أكثر وضوحا في تصوره للثورات العربية بانها تستلم لحظة الإلهام التاريخي من الذات الأوربية، وتتجاوزها وتطالب بلحظة عالمية جديدة.

4- خطاب 25 يناير كمركز وخطاب عالمي وإضافة للأمن القومي
يبدو واضحا للعيان أن مصر اختبرت كل البدائل السياسية وتوظيفها عدا بديل واحد، قد يكون هو الوحيد القادر على رفد السياسات الخارجية لمصر ومواجهة إعادة إنتاج المسألة الأوربية في أشكال ثقافية جديدة مع صعود روسيا ومشروع "الأوراسية الجديدة"، وفي الوقت نفسه ضبط السياسات الداخلية وفتح ثغرة في الحائط السياسي المسدود الآن، وهو البديل الثوري ومطالب ثورة 25 يناير الأساسية والتصالح معها وتقديمها باعتبارها إضافة للأمن القومي المصري والعربي، وباعتبارها مركز بناء القوة الناعمة في السياسات الخارجية لمصر والوطن العربي، ومنح الأولوية للسياسات الخارجية على السياسات الداخلية الاستقطابية وتجاوز رواية الصراع والاستقطاب الأبدي التي يروج لها المستفيدون، ويزينون حالة "الأسر النفسي" التي تحيط بالإدارة السياسية الحالية ويزكونها بكل السبل.
إذ تطرح هذه الرؤية تصورا حضاريا وثقافيا جديدا لمشروع مصر والذات العربية الذي خرج في القرن الحادي والعشرين وفي ثوراتها في العقد الثاني منه، باعتبار هذه الثورات فرصة حضارية سانحة لـ"استعادة الذات" العربية بدلا من كونها مصدرا للاستقطابات السياسية، وتجاوز "فرضية التوقيف" أو الجدل النظري والعقلي المجرد –واستقطاباته الأيديولوجية يمينا ويسارا- الذي ساد عربيا في القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة.
وباعتبار تلك الظرفية هي لحظة تاريخية مفصلية قادرة على إعادة تشكيل مصر والذات العربية وخطابها بالاستناد للواقع ومطالب الجماهير التي تجاوزت قضايا الجدل النظري التي أوقفت الذات العربية عن الحركة (كرد فعل للمسألة الأوربية واستقطاباتها القديمة).
وذلك من خلال تصور جديد للتاريخ البشري تطرحه الوثيقة باعتباره يقوم على "دورات ثورية" كبرى تستعيد "القيم الإنسانية العليا" وتجددها على فترات متباعدة، وأن الذات العربية (ومن ضمنها مصر) في القرن الحادي والعشرين حققت شروط استلام تلك الدورة، لتمتلك الدافع النفسي لظهور "مفصلية ثقافية" رافعة تتقدم لبناء التحديث وعمل "تراكم حضاري" جديد، وذلك شرط الالتفات للتفسير الجديد الذي تطرحه هذه الرؤية للتاريخ البشري بوصفه سلسلة من "الدورات الثورية" ومفصلياتها الثقافية الكبرى.
بما يؤدي إلى تحول "الثورات العربية" ومن ضمنها المصرية إلى "مشترك مجتمعي" جديد تتفق عليه الشعوب العربية، بعيدا عن الاستقطابات السياسية والأيديولوجية القديمة والراهنة وتعتبره طوق النجاة لها وجسر العبور الآمن للمستقبل، في ظل التدافعات العالمية الحالية ومحاولة إعادة إنتاج "المسألة الأوربية" وتهميش الذات العربية وتفكيك وجودها، وتفجير التناقضات في "مستودع هويتها".
إذ تنظر هذه الرؤية لاحتمالية ظهور "نظرية إنسانية" ومعرفية وثقافية جديدة عربيا لتواجه المتغيرات العالمية الراهنة، تمنحها اسم: "ما بعد المسألة الأوربية"، واستشراف ممكنات الدور الكامن للذات العربية فيها، خاصة مع ما يمكن تسميته بـ"مفصليتها الثقافية"، التي ظهرت مع مشروع الثورات العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بمجموعة الأطر والاتجاهات الثقافية العامة ومؤشراتها التي ارتبطت بها بوصفها "مفصلية ثقافية" جديدة، تواكبت مع عدة ظروف مساعدة وصلت ذروتها مع: جائحة كورونا و"صفقة القرن" ومخلفاتها، وموضوع "سد النهضة" واحتمالاته وآثاره الممتدة، وغزو روسيا لأوكرانيا وتبعاته الذي قد يراه البعض محاولة لإعادة إنتاج "المسألة الأوربية" في أشكال واستقطابات ثقافية جديدة، ذلك في لحظة عالمية شديدة التدافع تبحث فيها الإنسانية عن مقاربات للخروج من الأزمة الراهنة وحالة الانسداد التي وصلت إليه.

سادسا: استخلاص المباديء الأساسية الثمانية للتحول الطوعي
بعد الاستعراض السابق لمسار الجماعة المصرية والذات العربية ككل وسياق الاستقطابات التاريخي إرث القرن الماضي، وصولا للحظة المفارقة وظهور حلم الثورات العربية، فإنه لاستعادة "المشترك المجتمعي" وتجاوز الاستقطابات السياسية يمينا ويسارا وتجاوز البنية السياسية لدولة ما بعد الاستقلال، والرد على اللحظة التاريخية العالمية في علاقتها بالإقليمي والمحلي، تقترح هذه الرؤية المغايرة مبادئ أساسية عامة وأطر بديلة للجماعة المصرية ككل للاتفاق عليها.
وهي تشبه وثيقة مبادئ دستورية أساسية عامة وفلسفة جديدة للجماعة المصرية والذات العربية ككل، وليست تصورات تقف على تفاصيل الانسداد الحالي وأعراضه، إنما هي تذهب مباشرة لسبب المرض وجذره إذا بعلاج السبب والجذر، تختفي الأعراض ويتبدل حالها تدريجيا، من هنا تصلح المبادئ القادمة لأن تكون أسسا دستورية جديدة لمستقبل الدولة المصرية والمشترك المجتمع، دون انتصار متخيل لفصيل على فصيل، إنما هي تنتصر للحظة التاريخية المفصلية وتؤكد على أهمية الالتفاف حولها، واعتبارها سردية عربية جديدة تصلح لظهور تاريخ جديد لمصر وللذات العربية.

1- إرساء مبدأ "التحول الطوعي" لدولة ما بعد الاستقلال تدريجيا:
وذلك عبر الفصل بين مؤسسات الجيش وبين الحقائب الوزارية للدولة تدريجيا، وضبط التوصيفات الوظيفية للجهاز الإداري ليتم شغلها عبر "الفرز الطبيعي" وليس عبر "التنخيب الزائف" والولاء السياسي الاستقطابي، وضبط مميزات "الدمج والتكسين" في الجهاز البيروقراطي للدولة لتنتقي أفضل العناصر.
2- إرساء مبدأ الثورة كلحظة تاريخية عالمية وإضافة للأمن القومي المصري والعربي:
وذلك بالتأسيس إلى أن التاريخ هو عبارة عن "دورة ثورية" تنتقل من جماعة إلى أخرى عبر التاريخ في حراك مستمر، وأن "الدورة الثوربة" العالمية التي استلمتها الذات الأوربية في "ثورات ربيع الأمم" استنفذت نفسها وفكرتها المركزية التي قدمتها الذهنية الجرمانية والتفوق العنصري الجرماني وأنهم ذروة التاريخ و"نظريته المطلقة" سواء ماديا مثاليا مع ماركس والشيوعية (الجدل الذي يعلي من المادي بشكل مثالي) أو مثاليا ماديا مع هيجل الرأسمالي (الجدل الذي يعلي من المثالية بشكل مثالي).
وأن الدورة الثورة حققت شروط الانتقال للذات العربية بصفتها "ثورة قيمية" تتجاوز العنصرية والمادية الجرمانية، ووتجاوز وهم النظرية المطلقة والصراع الحدي بين ورثة هيجل الرأسمالية وورثة ماركس، وأنه فقط بالالتفاف حول اللحظة التاريخية للثورات العربية يمكن للذات العربية أن تمتتلك القوة الناعمة القادرة على يناء التحديث والتراكم الحضاري الجديد للعالم، وتجاوز وهم المسألة الأوربية.
3- إرساء مبدأ ما بعد المسألة الأوربية في خطاب السياسات الخارجية والدولية:
يقوم مبدأ ما بعد المسألة الأوربية على جانب للفعل وجانب لرد الفعل، جانب الفعل هو ظهور خطاب مركزي عربي جديد يؤكد على ظهور محلة جديدة في التاريخ الإنساني تستعيد التقييم الاتفاقي العالمي لفكرة "القيم" والمبادئ بعيدا عن التمثلات المادية للحضارة الأوربية/ الجرمانية (عند ماركس وهيجل وورثتهما على السواء).
وجانب رد العل يقوم على الدعوة لتجاوز إرث المسألة الوربية وآثاره الجانبية التي تشغل العالم، ودعوة الذات الوربية لتحمل مسئوليته في هذه المرحلة الانتقالية، وذلك باعتبار الصهيونية أثر جانبيا للمسألة الاوربية، وباعتبار العنصرية السوداء والأفروسنترك وحضورها في ملف سد النهصة أثرا جانبيا للمسألة الأوربية، وباعتبار ان الصراع الجديد بين الأوراسية والأطلسية هو رد فعل لوهم التفوق النظرية المطلقة الأوربية، وأن خلاص العالم يكمن في اعتراف الطرفين بانهما ليسا مركز العالم، والدعوة لنشر فكر ما بعد المسألة الأوربية عالميا.
4- إرساء مبدأ تجسير المسافة بين الجمهورية الجديدة و"المجتمع الفعال":
قطعت الإدارة المصرية الحالية شوطا طويلا في بناء العاصمة الإدارية الجديدة والربط بينها وبين ما عرف بـ"الجمهورية الجديدة"، من ثم لابد من تجسير المسافة بين الشكل الجديد للبيروقراطية المصرية وإعادة إنتاج العلاقات القديمة لدولة ما بعد الاستقلال، وبين "المجتمع الفعال" الذي يقوم على "الفرز الطبيعي" وضبط صلاحيات "الدمج والتسكين" السياسية، وهذه النقطة من أهم المبادئ التطبيقية الأساسية لتجاوز دولة ما بعد الاستقلال.
5- إرساء مبدأ مصر كـ"دولة صاعدة" وقلب لـ"حاضنتها التاريخية" ومستودع هويتها:
عودة مصر إلى تحمل مسئولية "مستودع الهوية" العربي وامتلاك متطلبات الدفاع عن المستودع بطبقاته المتجاورة والمتعايشة، والبحث مجددا في الوصول لفلسفات جديدة للمتن العربي ومساراته، بعدما غرقت البلدان العربية فيما سبق في التركيز على فلسفات الهومش وتفجير تناقضات المجتمع العربي وتحويله إلى جزر منعزلة كل منها يدعي أنه مركز الكون، وذلك عبر خطاب جديد يتعلم من أخطاء الماضي ويتجاوز الاستقطابات والعقد الأيديولوجية القديمة.
وذلك في تصور جديد لصعود الذات العربية وتجاوز "المسألة الأوربية" عبر فرضية دور القلب التاريخي الحامل لحاضنته الثقافية ومستودع هويتها، وفق ما يمكن تسميته بمبدأ "مصر كدولة صاعدة"، لأنه من خلال دراسة حالة "أنماط التدافع الحضاري" التاريخية في المنطقة والعالم، يمكن الخروج بفرضية للحراك الحضاري في معظم الحواضن الثقافية المختلفة والمتنوعة بالعالم عبر التاريخ، وهي فرضية: "دور القلب الحامل لحاضنته الثقافية"، أي أن الحواضن الثقافية الموجودة في العالم يكون لكل منها مراكز رافعة ومؤثرة عبر التاريخ، تؤثر وتتأثر بها.
6- إرساء مبدأ مركزية المفصلية الثقافية العربية وتجاوز أيديولوجيات الاستقطاب القديم:
إعادة تعريف العقيدة السياسية (الأيديولوجيا) وتجاوز الوهم الثقافي والسياسي بأن العقائد السياسية كانت حكرا على القرن العشرين رد الفعل للمسألة الأوربية في أيديولوجيات اليسار الماركسي واليمين الليبرالي أو أيديولوجيات فرق الدين السياسي والإخوان، والتأسيس لظهور أشكال سياسية جديدة من الأشكال السياسية تعتقد في محورية اللحظة التاريخية للثورات العربية ومفصليتها الثقافية والسياسية الكامنة التي تجاوز اليمين واليسار العربيين، وفتح الطريق لظهور مثل هذه الأشكال السياسية الجديدة بعيدا عن الاستقطاب السياسي وتوظيفه، وآليات التشويه والاستقطاب.
7- إرساء مبدأ تفعيل "الحاضنة الجغرافية" وتجاوز "المدبولية الاقتصادية"
ربط التنمية العمرانية والتوسع في بناء المدن بطبيعة "الحاضنة الجغرافية" اقتصاديا، وليس بصفة التنمية العمرانية مجالا منعزلا للاستثمار وتنمية الموارد بما يخدم الجماعة المصرية ككل ويعزز من قوتها، ليرتبط التوسع العمراني بالجغرافيا الاقتصادية لمصر، فيرتبط بالتمدد الزراعي الجديد وإنشاء المدن الحاضنة لهذا التمدد مثلا، ويرتبط بالتنوع الاقتصادي للمدن المصرية وجغرافيتنها بحيث تقام المدن على أنشطة اقتصادية وإنتاجية وتعدينية وزراعية، ولا يتحول التوسع العمراني والنمية العقارية إلى مصدر منعزل عن التنمية العلية للنشاط الاقتصادي في مصر.
8- إرساء مبدأ ضبط "التراتب الجماعي" وأولوية مفاهيم الأمن القومي على مفاهيم الأمن السياسي:
حال اعتماد مفاهيم تعظيم القوة للمجتمع المصري ستنضبط علاقات الأولوية للسياسات الخارجية على السياسات المحلية وتناقضاتها، وسينضبط الهرم السلطوي في مصر ليستعيد الأمن القومي المصري أولويته في بناء السياسات العامة في مصر، وستنضبط بشكل تلقائي معايير بناء "التراتب الاجتماعي" في مصر، و"الفرز الطبيعي" لأفضل العناصر الموجدودة بها، وسيحسم الصراع بين فرز "الأمن السياسي" في التصعيد حسب الولاء السياسي أم حساب الكفاءة والوطنية! وستم توحيد معايير الجهاز الإداري والبيروقراطي، هل تحتاج مصر "للأفراد المبادرين" المبدعين وتصفهم بتعظيم قوة مصر وفق مفاهيم تعظيم القوة والأمن القومي، أم ستطاردهم مصر وتصفهم بـ"الأفراد الإثاريين" حسب مفاهيم الأمن السياسي!








تعريف مختصر بالكاتب
https://alantologia.com/blogs/blog/8707/details?fbclid=IwAR3WPNXSOf2e6eG47UFjeNzQxYat4VkO8KUhGKUYbuKDrPGFJ6QKYdSxuJ8




مقالات منشورة للكاتب تناولت الإشارة للأفكار الواردة في الرؤية ببعض التفاصيل في حينه:



مقالات في "الجمهورية الجديدة"
- الجمهورية الجديدة بين البناء والإدارة والإنتاج والثقافة
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=736745
- الجمهورية الجديدة.. بين دولة ما بعد الاستقلال والمجتمع الفعال
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=726051
- التوصيف الوظيفي والعاصمة الإدارية الجديدة لمصر
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=635837
- نحو برنامج بيانات موحد للموارد البشرية بالحكومة
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=661708

مقالات في "السياسات الخارجية" والداخلية
- السياسات الخارجية المصرية.. ومتطلباتها الداخلية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=725975
- الحصار وتوافيق وتباديل النموذج المصري في السياسات الخارجية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=725763
- السياسات التنموية بين المراكز والأطراف.. مصر والإمارات أنموذجا
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=725726

مقالات في استشراف "الأوراسية الجديدة" وتأثيرها على مصر والعرب
- الأوراسية الجديدة وأثرها على مصر: عودة الخطاب الأثيوبي المتشدد
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=731163
- أزمة الذات العربية بين الأوراسية والأطلسية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=727840
- الأوراسية الجديدة والثورات العربية: قرارات 25 أكتوبر بالسودان أنموذجا
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=739068
- العرب وإعادة إنتاج المسألة الأوربية: المسيحية الشرقية والغربية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=726476
- روسيا والسد الأثيوبي: عودة المسألة الأوربية في شكلها الديني
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=726189

مقالات في أزمة سد النهضة ومواجهتها
- مقاربة ما قبل السلام وما دون الحرب: مواجهة الحجز الثاني لسد أثيوبيا
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=713229
- سد أثيوبيا وتنويع محفظة السياسات الخارجية لمصر وفق أمنها القومي
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=714084
- هل يمكن أن تؤسس مصر لنظام عالمي جديد في أزمة السد!
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=725075
- مرجعية الذهنية الصهيونية للخطاب الأثيوبي ضد مصر
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=720228
- أثيوبيا ومصر: بين سياسات المسألة الأوربية، وما بعدها
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=716860
- ما وراء السد: السياسات المصرية بين محور التطبيع القديم ومحور الاستلاب الجديد
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=715508
- مواجهة التكتيكات الصهيونية للأثيوبيين بمفاوضات سد النهضة
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=684947
- سد النهضة وأزمة القوة الناعمة والسياسات الخارجية لمصر
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=682930

مقالات في صفقة القرن ومواجهتها
- ورقة استشرافية: سردية كبرى بديلة لمصر لعبور المأزق الحضاري
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=691687
- مصر بين صفقة القرن وخطاب الاستلاب: محددات، ومتغيرات، وبدائل
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=695309
- من التطبيع إلى الاستلاب: صفقة القرن والخضوع لرواية الآخر الصهيوني
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=692976
- خطاب الاستلاب: بين الحرب بالوكالة والهيمنة بالوكالة
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=694662
- في تفسير الاستلاب للصهيونية: بين الدوافع الدينية والعلمانية والسلطوية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=693396
- تفكيك الذات العربية: بين السلب الخشن والاستلاب الناعم
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=691451
- مصر والفرصة الحضارية البديلة: بين الازدهار والاضمحلال
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=668715
- مصر بين صفقة القرن وسد النهضة و سياسة حافة الهاوية لترامب
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=667112
- ترامب وسياق صفقة القرن
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=663751
- توصيات المواجهة العربية لصفقة القرن
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605856

في تصورات الأمن القومي المصري وأولويته:
- الأمن القومي المصري ودور الحاضنة الفكرية الرافعة
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=651992
- الثورة كإضافة ناعمة للأمن القومي المصري
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=663322
- الأمن القومي وخطورة تغييب الثقافة الذاتية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=648727
- الثقافة كأمن قومي ومعركة حمو بيكا
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=620309
- دولة ما بعد 30 يونيو: كيف يضبط السياسي الأمني أو العكس؟
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=641637

في تصورات مصر كدولة صاعدة وما بعد المسألة الأوربية:
- مصر كدولة صاعدة: اشتراطات ما بعد المسألة الأوربية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=675185
- انتفاضة أنصار ترامب وعالم ما بعد المسألة الأوربية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=704933
- انصار ترامب وأعداؤه: تفجر تناقضات المسألة الأوربية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=705745
- أثيوبيا ومصر: بين سياسات المسألة الأوربية، وما بعدها
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=716860
- أفغانستان: فرضية التفكك والانسحاب للمسألة الأوربية ونقاط احتكاكها
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=728606

تصورات في ضبط السياسة الثقافية لمصر
- اليوم العالمي للكتاب: بين الناشر القومي لمصر والسياسة الثقافية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=676056
- جمال حمدان: بين تياري الخصوصية الثقافية والتنميط الثقافي
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=674293
- فلسفة المشترك الثقافي: نحو مدرسة لدراسات ثقافية عربية مقارنة
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=741830
- مصر وإعادة تدوير المتاح الثقافي
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=640308
- الثقافة المصرية ومراكز الأبحاث والترجمة المتكاملة
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=562661








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك


.. إسرائيل -مستعدة- لتأجيل اجتياح رفح بحال التوصل -لاتفاق أسرى-




.. محمود عباس يطالب بوقف القتال وتزويد غزة بالمساعدات| #عاجل


.. ماكرون يدعو إلى نقاش حول الدفاع الأوروبي يشمل السلاح النووي




.. مسؤولون في الخارجية الأميركية يشككون في انتهاك إسرائيل للقان