الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدود الأبدية

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 6 / 8
الادب والفن


ركيولوجيا العدم
العودة المحزنة للقفص الزجاجي
١٤٨ - رواية الفناء والخلود

ذا عُرض علينا الخلود على ظهر الأرض، فمن سيقبل هذه الهدية الحزينة ؟ يتسائل جان جاك روسو في روايته إميل. سيمون دو بوفوار تحكي قصة ريمون فوسكا الرجل الذي قبل هذه الهدية المسممة.

تخبرنا هذه الحكاية الفلسفية لسيمون دو بوفوار" Tous les hommes sont mortels الصادرة في ١٧ ديسمبر ١٩٤٦، "كل الناس فانون" عن ملحمة فوسكا، الأمير التوسكاني القادم من القرن الثالت عشر، حيث أجتاز السنين والقرون وعاصر الأحداث والثورات، حتى وجد نفسه ذات يوم جالسا على كرسي طويل في ساحة هوتيل في مدينة فرنسية صغيرة. حيث يلتقي ريجين، الممثلة المسرحية، وهي شخصية جميلة أنانية، عبثية ، يتآكلها الحسد والطموح والخوف من الإندثار، وتري أنها يمكن أن تكتسب الخلود من خلال إبقاء صورتها محفورًة في ذاكرة فوسكا. ومع ذلك، انتهى بها الأمر بخيبة أمل مدمرة، عندما أدركت في حلمها أنها ليست سوى "قطعة من العشب". ذلك أنه بعد أن حز فوسكا رقبته بشفرة الحلاقة ليثبت لريجين عدم إمكانية الهروب من الحياة وأنه محكوم عليه بالأبدية، أصبحت ريجين أكثر تعلقا بفوسكا، وأرادت أن تكرس حياتها لحب هذا الإنسان الذي يعتقد بأنه لا يستطيع أن يموت، لقد أدركت أنها يمكن أن تجعل نفسها خالدة بدورها في ذاكرة فوسكا اللامتناهية. هي تريد من فوسكا أن ينقذها من الموت والنسيان، وفوسكا يريد أن تنقذه من الليل واللامبالاة والوقت الذي لم يعد يمر أو يتدفق. الخلود الذي حلم به كل إنسان، من جلجامش إلى فاوست إلى دوريان جراي، أصبح مجرد كابوس طويل مظلم بلا نهاية. غير أنه وجد الحل كما يبدو في حبه لريجين وتعلقها به، حيث عرضت عليه كتابة مذكراته، غير أنه غير مبال بالأشياء التي تهتم بها، كانت تود منه القيام بأشياء عظيمة معًا، وتعرض عليه كتابة مسرحية تساهم في تكوين مجدهم المشترك، ولكنه كانت لديه مشاريع مغايرة تماما، إيجاد عمل بسيط، عمل لا يتطلب خبرة مهنية ولا يلزمه بالتفكير. وهنا تصاب ريجين بخيبة الأمل، تتأسف لرؤيته أصبح رجلاً مثل الآخرين، لدرجة أنه قال لها ذات مساء "أشعر بالسعادة". لاشك أن الأمر يتطلب الكثير من القوة، والكثير من الشجاعة، أو الكثير من الحب للاعتقاد بأن أفعال الإنسان مهمة وأن الحياة تفوق الموت. فوسكا يبدو أكثر واقعية من ريجين، فهو انعكاس لحالة الإنسان في قلقه الأبدي ومحاولته الدائمة ليكون إلها، وهو أيضا دليل لإثبات النظرة الوجودية للكون والمجتمع، النظرة التي تدعم تفوق الوجود البشري على أي جوهر آخر. خلود فوسكا يمنعه من أن يكون إنسانا كما أن وجوده يمنعه من أن يكون إلها، لأن كل الوجود عرضة للموت والفناء وهذا الوعي الإنساني بنهايته الحتمية هو الذي يجعل اللحظات التي يعيشها ثمينة للغاية وهذا سيحفزه على الانخراط في العمل والعيش بشكل كامل عواطفه مع العلم أنه محكوم عليه بالفناء، وهو ما وصفه ألبير كامو بـ "سعادة سيزيف".
رواية "كل الناس فانون"" هي رواية خيالية fantastique لأن الإكسير السحري يجعل الشخصية الرئيسية خالدة لإنقاذ مدينته ، كارمونا، ويبدو واضحا أن سيمون دو بوفوار سمت بطلها بإسم فوسكا Fosca من منطلق الرغبة في أن يبدو قريبا من اسم Faust، الشخصية الأسطورية التي كانت ترغب في إرضاء أحد التطلعات الأساسية للبشر وهي الوعي والمعرفة. لكن فاوست الجديد لا يتضور جوعًا للمعرفة بل للعمل، ويسعى إلى فعل ذلك من أجل سعادة البشر.
لذلك يمكن أن تكون الرواية خيالًا مأساويًا وأن تجد صدى لدي الرومانسيين والعدميين.
وهذه الرواية هي قصة فوسكا الرجل الذي اختار خداع الموت، ومع ذلك فإنّ رغبته في الخلود مدفوعة برغبته في إدراك المثالية المجردة للإنسانية، فلا يتشد فوسكا الخلود للهروب من غموض الجسد والتجسد، كما أنّ قراره مدفوع برغبته في إنقاذ العالم، عالمه الذي يعيش فيه، ويعتقد أنّ الزمن هو عدوه الذي يجب القضاء عليه أولا طالما أنّ وقته محدود، وهو يعتقد أنّه إذا ضمن الوقت الكافي فسيتمكن من أن يحقق مشاريعه الإنسانيًة بنجاح ويؤمنها من الفشل. يدرك فوسكا مع ذلك أنّه خلافًا لاعتقاده الأولي، أن الوقت عدو لا يمكن القضاء عليه، الوقت يبقى عدوا شرسا حتى في حالة الخلود والحياة الأبدية، عندما يمتد أمامه إلى ما لا نهاية ويرفض أن يمر. ولم يحن الوقت لأنّه يحتاج لتأمين رؤيته بل يحتاج إلى التزام الآخرين، ولا يوجد مقدار من الوقت يمكن أن يؤمن ذلك، وبصفته الخالدة يواجه فوسكا حتمية الفشل الذي يطارد البشرية، وعلى عكس البشر الذين يواجهون قيود الوقت ويتعاملون مع إخفاقاتهم بشغف يصبح فوسكا مشلولًا، فاللامبالاة بالحياة تحل محل شغف الحياة. في النهاية يكتشف الحقيقة الجوهرية للعمل الأخلاقي من قبل حفيده المنقول لأجيال عديدة أرماند، ومن خلال إدراك أنّ المستقبل ملك للآخرين الذين قد يتولون أو لا يتولون مشاريعه، كما يلزم أرماند نفسه بالإمكانيات الملموسة للحاضر، ويتجسد شغفه في جاذبيته للآخرين وليس في هدف مجرد مهما بدا ظاهريًا من شأنه أن يحرم الأجيال القادمة من حق تقرير مصيرها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف