الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج

محمد عادل زكى

2022 / 6 / 11
الارشيف الماركسي


ملخص
في هذا المقال استبدل نظرية نمط الإنتاج، بعد نقد أسسها الأيديولوجيّة، بفَرضيةٍ تعتمد على الوَعْي النَّاقد بقوانين حركة النَّشاط الاقتصَادي للبشر عَبْر التَّاريخ الملْحَمي لتطورهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ. فَرضيّةٌ ترى أن الرأسماليَّة (الَّتي هي خضوع النشاط الاقتصاديّ في المجتمع لقوانين حركة الرأسمال) هي القاعدة الَّتي تعمل عليها جميع النُّظم الاجتماعيَّة، بغض النَّظر عن (مَدَى) تطور قوى الإنتاج السَّائدة، وبغض النظر عن (شكل) علاقات الإنتاج المهيمنة. الأمر الَّذي يتيح لنا إعادة فهم طبيعة جميع المذاهب، وحقيقة كل النَّظريات والنُّظم الَّتي أفْرَغَت العِلم الاقتصَاديّ من مضمونه الاجتماعيّ وجرَّدته من محتواه الحضاريّ، ثم استخدمته كوسيلة قهر وإخضاع، لا أداة للوَعْي والحرية.
مقدمة
نَظَرية نمط الإنتاج من أهم النَّظريات الَّتي تضرب بجذورها في عمق عِلم الاقتصَاد السّياسي، وهي مُشبَّعة، بطبيعة الحال، بالمركزية الأوروبيَّة. المركزية الأوروبيَّة الَّتي تؤرّخ للعالم، وللنشاط الاقتصاديّ للإنسانية بالتالي، ابتداءً من تاريخ أوروبا! ونطرية نمط الإنتاج ليست عقيدة راسخة لدى التيارات المهيمنة في حقل اليسار فحسب؛ بل أيضًا، وربما في المقام الأوَّل، سائدة وبقوةٍ لدى رجال التَّاريخ العام، ومؤرّخي الفكر الاقتصاديّ! وفي سبيل نقد نظرية نمط الإنتاج سوف أَسير ثلاث خطوات مَنهجيَّة، أتعرَّف، في الأولى، إلى قوانين حركة الرأسمال كخطوةٍ فكريّة لازمة لفهم طبيعة نقد نظرية نمط الإنتاج، ثم أشرح، في الثَّانية، مَفاهيم وأسُّس نظريّة نمط الإنتاج، وفي الخطوة الفكرية الثَّالثة أقدم فرضيتي الَّتي تَستبدل نظرية نمط الإنتاج بقوانين حركة الرأسمال.1
أولاً: قوانين حركة الرأسمال
على مستوى البدء في النشاط الاقتصاديّ في ظل الإنتاج الرأسماليّ2، لا بُد وأن نبدأ من النقود، وسنرمز لها بالحرف (ن)، وهي الَّتي تمثل الرأسمال3 النقدي. فلكي نشتري سلعة، وسنرمز لها بالحرف (س) من أجل مُبادلتها أو استعمالها استعمالًا استهلاكياً أو إنتاجيًّا، يتعين أن يكون تحت تصرُّفنا مقدارٌ مُعيَّن من (ن)؛ فمن أجل شراء كمية معينة من الفاكهة: لأكلها، أي الشراء بقصد الاستهلاك المباشر. أو: لإعادة بيعها، أي الشراء بقصد البيع. أو: لتصنيعها، وبيعها كأحد أنواع المربَّات مثلًا، أي الشراء بقصد الإنتاج، فيجب أن يكون تحت تصرفنا (ن). والرأسمالي، على هذا النحو، لديه دومًا، عبر تاريخ النشاط الاقتصاديّ للإنسانية، ثلاثة اختيارات:
- أن يشتري سلعة بسعرٍ منخفض، ويعيد بيعها بسعرٍ مرتفع.
- وإمَّا أن يُنتج/ يُصنّع السلعة بدلًا من أن يشتريها منتَجة/ مصنَّعة.
- أو أن يقوم بإقراض نقوده إلى شخصٍ آخر أو مؤسّسة ما، لأجلٍ محدَّد، وفي نهاية مدة القرض يحصل على نقوده مضافًا إليها الفائدة. ويمكننا أن نُلحِق بهذا الاختيار جميع عمليات الصرف المتعلّقة بالمضاربات الماليّة والاتجار في النقود.
الصيغ الثلاث لقانون الحركة
ولنبدأ من الشراء بقصد البيع. فبائع الفاكهة يذهب إلى المنتج المباشر، الفلَّاح، كي يشتري منه الفاكهة (س)؛ بقصد إعادة بيعها بثمن أكبر من الثمن الَّذي اشتراها به؛ وذلك لكي يحصل على أصل نقوده الَّتي بدأ بها تجارته، بالإضافة إلى الربح. ولسوف نرمز لما يُسمى الربح بالرمز (Δ) الَّذي يشير إلى التغيُّر، ارتفاعًا وانخفاضًا، في النقود (ن). وإذا جرَّدنا جميع عمليات البيع والشراء المتتالية والمتعاقبة من كل ما هو ثانويّ وغير جوهري، واستبعدنا كذلك تكاليف التداول، الَّتي لا تزيد القيمة، فسنحصل على قانون حركة الرأسمال الَّذي يحكم هذه العملية وهو (ن -- س -- ن + Δ ن). ويَجب هنا أن يكون لدينا الوَعْي بالتفرقة الآتية:
- التَّاجر الَّذي يتوقف دوره عند شراء السلعة وإعادة بيعها بقصد الربح النَّقدي، سيكون ربحه مُشتقًّا من ربح الرأسمالي الصناعي. ولا تُعد جميع المصاريف الَّتي ينفقها هذا التَّاجر على الأجور والأدوات... إلخ، رأسمالًا، إنما هي محض تكاليف تداول يقتصر دورها على مجرد تحقيق، لا خلق، الربح المحدَّد سَلفًا في حقل الإنتاج.
- أمَّا التَّاجر الَّذي يقوم، بالإضافة إلى دوره كَمَنفَذ لبيع منتجات الرأسمال الصناعي، بأعمال أخرى كالتعبئة والتغليف... إلخ (كصناعة مستقلة)، فهو يُنتج قيمة وقيمةً زائدة في حقل هذا النشاط تُضاف حسابيًّا إلى قيمة السلعة.
والأصل العام لربح التَّاجر على هذا النحو لا يعني أن القيمة الزائدة لا يمكن أن تنشأ، وفقًا لقانون القيمة، في حقل التجارة. بل يمكن أن تنشأ عن تخزين السلع وشحنها ونقلها... إلخ. ولكن عملية النقل، مثلًا، لن تزيد في قيمة السلعة نفسها، هي فقط تزيد القيمة في حقل خدمة النقل. وبالتالي يمكن (حِسابيًّا) ضم القيمتَين عند حساب القيمة الإجماليَّة للسلعة حينما تُطرح في السُّوق.
وحينما يُقرر هذا التَّاجر أن يُنتج السلعة بدلًا من شرائها بقصد بيعها، أي حينما يُقرر تاجر الفاكهة أن يتحول إلى رأسمالي يُنتج مربى الفاكهة، سوف يحدث تغييٌر طفيف في صيغة قانون الحركة. فصديقُنا التَّاجر، الَّذي تَحوَّل إلى رأسمالي صناعي، سوف يُحول رأسماله النقدي (ن) إلى رأسمالٍ إنتاجي. فيقوم بشراء الفاكهة والمواد الحافظة... إلخ، والَّتي تمثل مواد العمل (م ع)، ثم يشترى الآلات اللازمة لصنع المربى وتعبئتها، والَّتي تمثل أداة العمل (أ ع)، ثم يشتري قوة العمل (ق ع) الَّتي يبيعها العُمال الأجراء. وحينما تكتمل لدى الرأسمالي الأجزاء الَّتي يتكون منها رأسماله الإنتاجي الَّذي يتألَّف من قوة العمل، ومواد العمل وأدوات العمل، وسنطلق على مواد العمل وأدوات العمل مصطلح وسائل الإنتاج (و إ)، يأمر عُماله بمعانقة آلاتهم المحبوبة من أجل الإنتاج! من أجل تحويل الرأسمال الإنتاجي إلى رأسمال سلعي. وحينما يخرج المنتوج، السلعي، يُوجّهه الرأسمالي إلى السُّوق لبيعه ويحصل على (ن) + (Δ ن)، أي يحول رأسماله السلعي إلى رأسمال نقدي مرة أخرى بقصد تجديد إنتاجه من خلال دورة رأسمالية جديدة يتحول في مرحلتها الأولى الرأسمال النقدي (ن) إلى رأسمال إنتاجي (ق ع + و إ) ثم في المرحلة الثَّانية يتحول الرأسمال الإنتاجي إلى رأسمال سلعي (س) وفي المرحلة الثَّالثة يتحول الرأسمال السلعي إلى رأسمال نقدي مرة أخرى. وهكذا في كل دورة للرأسمال. وكلُ ذلك يجري من خلال قانون حركة الرأسمال (ن -- [ق ع + و إ]-- س-- ن + Δ ن).
ولكن صديقنا تاجر الفاكهة الَّذي قرر أن يتحول إلى رأسمالي صناعي، على ما يبدو أنه يفكر الآن في أمرٍ ما، وهو يشاهد العُمال يطبخون الفاكهة ويضيفون إليها المواد الحافظة، ويرى آخرين يعلّبون المربى أو يضعون المنتوج النهائي على سيارات النقل المتجهة إلى السُّوق. ويُحدّث نفسه: لِمPاP لا يستخدم رأسماله في استثمار مختلف مثل صديقه الَّذي يَجني أرباحًا ربما أكبر منه بالمضاربة المالية! لمPاP لا يتاجر في النقود بيعًا وشراءً! عندئذ سوف يتحول تاجر الفاكهة من رأسماليّ صناعيّ إلى رأسماليّ ماليّ. وحينئذٍ سيكون قانون حركة الرأسمال هو (ن -- ن -- ن + Δ ن). فصديقُنا سوف يقوم بعمليات الصرف، أي شراء وبيع النقود (ن) بالنقود (ن) وما يتعلق بهذه العمليات من عمليات الإئتمان، كما كان يفعل في القدس قبل الميلاد.
قوانين الحركة4 الَّتي تحكم الإنتاج والتوزيع في المجتمع عبر تاريخ النشاط الاقتصادي تتبدَّى إذًا في ثلاث صيغ:
- قانون حركة الرأسمال التجاري (ن -- س -- ن + Δ ن).
- قانون حركة الرأسمال الصناعي (ن -- [ق ع + و إ] -- س -- ن + Δ ن).
- قانون حركة الرأسمال النقدي/ المالي (ن -- ن -- ن + Δ ن).
علاقات التناقض
وفي إطار قوانين الحركة تبرز علاقات التناقض على عدة مستويات:
- فهي، مثلًا، تبرز أولًا، على مستوى عملية الإنتاج؛ فالطابع الاجتماعي للإنتاج يتناقض مع الملكية الفردية لوسائل الإنتاج.
- كما تبرز، ثانيًا، على مستوى علاقات الإنتاج؛ فليس الصراع بين العامل، مالك قوة العمل، والرأسمالي، مالك وسائل الإنتاج، بل أيضًا بين العامل والآلة؛ فهما في صراع دائم وينفي أحدهما الآخر.
- وتبرز، ثالثًا، على مستوى توزيع المنتوج الاجتماعي؛ إذ تسعى كل طبقة مشاركة كانت أم غير مشاركة في عملية الإنتاج إلى الاستحواذ على أكبر نصيب من هذا المنتوج.
- كما تبرز، رابعًا، حين تجديد الإنتاج؛ فإنفاق الربح في تجديد الإنتاج البسيط أو على نطاقٍ موسَّع، يتناقض مع إنفاق الربح استهلاكياً.
- كما تبرز، خامسًا، على مستوى أدق وحدة في عملية الإنتاج وهي السلعة؛ فمبادلة السلع بالسلع أو بالنقود، يتناقض مع استعمالها أو استهلاكها... إلخ.
وهكذا تبرز دومًا علاقات التناقض ولا تكف عن دفع التطور وتشكيله على الصعيد الاجتماعي، حتَّى تطيش الأرض بعيدًا عن مدارها.
الطبيعة الحقوقية لعلاقات التبادل
عالجنا أعلاه قوانين الحركة، بصفةٍ خاصة قانون حركة الرأسمال الصناعي، بمعزل عن الطبيعة الحقوقية للعلاقات الجدلية بين مكوناته؛ وذلك لأهمية التعرُّف إلى هذه الطبيعة بشكلٍ مستقل. فلقد ذكرنا أن الرأسمالي يقوم بتحويل نقوده إلى وسائل للإنتاج، وقوة عمل. أي أنه يتبادل مع مالكي قوى الإنتاج سواء أكانوا ملَّاكًا لمواد العمل أم لأدوات العمل أم لقوة العمل. فهو يعطيهم النقود ويأخذ منهم في المقابل منتجاتهم. ولكي نعي الطبيعة الحقوقية للعلاقة بين مكوّنات قانون الحركة أي الطبيعة الحقوقية لمبادلة النقود بمواد العمل، ومبادلة قوة العمل بالنقود، ومبادلة النقود بأدوات العمل؛ فيجب الذهاب أبعد من النظر إلى عملية تحوُّل النقود إلى وسائل للإنتاج كمجرد عمليات للتبادُل بين وحدات من النقود ومواد العمل وأدوات العمل وقوة العمل، إلى تحليل طبيعة علاقات التبادُل ذاتها. فالتبادُل، على مستوى العلاقات الحقوقية، ليس هبة، إنما هو مُعاوضة يأخذ من خلالها كل طرف مقابلًا لما أعطاه. فالمشتري يُعاوض المبيع بالنقود، والرأسمالي يعاوض بالنقود قوة عمل العامل. والعامل يعاوض قوة عمله بوحدات النقود... إلخ. يجب هنا أن نميز بين الطبيعة الحقوقية لفعل التبادُل، والحكم التشريعي للتبادل الَّذي يعتريه عيب من عيوب الإرادة. كما نميز، من جهةٍ أخرى، بين التنظيم الاجتماعي المهيمن، والقاعدة الَّتي تحكم النشاط الاقتصادي على الصعيد الاجتماعي:
- فالتبادُل، حقوقيًّا، هو معاوضة يأخذ من خلالها كل متبادل مقابلًا لما أعطاه، وذلك بغض النظر عن الحكم التشريعي أو الموقف الأخلاقي. فقانون حركة الرأسمال الحاكم للتبادُل على صعيد النشاط الاقتصادي، لا يعنيه، بحال أو بآخر، هل المبادلة بين (ن) و (ق ع)، أو بين (ن) و (و إ) تمت على نحوٍ عادل وقانوني أم لا. فقانون الحركة لا ينشغل حين انطباقه لحكم علاقة التبادُل بأي عيب قد يشوب الإرادة؛ فقد يستغل، أو يُكره، أحد الأطراف الطرف الآخر، وقد يُدلس عليه، أو يغشه، ومع ذلك لا يتأثر أداء قانون الحركة ويظل يحكم العلاقة؛ لأن الحكم التَّشريعي أو حتّى الموقف الأخلاقي، لا يعني قانون الحركة؛ فبطلان التبادُل أو فساده للإكراه أو للغش... إلخ، لا يعطل قانون الحركة ولا يؤثّر في طريقة عمله.
- ولأن قانون حركة الرأسمال يحكم علاقات التبادُل، ذات الطبيعة التعاوضية، بغض النظر عن الحكم التشريعي أو الموقف الأخلاقي، ويمثل على هذا النحو القاعدة الَّتي تعمل عليها جميع النظم الاجتماعية، فهو لا يعنيه، بحالٍ أو بآخر، هل عبدٌ يعاوض سيدًا، في مقابل شربةِ ماءٍ وكِسرة خبز. أم قنٌّ يعاوض إقطاعيًّا لقاء جزء من المحصول. أم عاملٌ مأجور يعاوض رأسماليًّا مقابل الأجر. إن الوَعْي بهذه الطبيعة الحقوقية سيكون حاسمًا في إعادة طرح وتصحيح نظرية نمط الإنتاج، وبالتالي إعادة طرح مفهوم الرأسمالية (الَّتي هي خضوع الإنتاج والتوزيع في المجتمع لقوانين حركة الرأسمال).
ثانياً: مفاهيم وأسس نظرية نمط الإنتاج
نمط الإنتاج -- كمصطلح يعود إلى ماركس -- يقوم على ركيزتين: علاقات الإنتاج، وقوى الإنتاج. أما علاقات الإنتاج، وهي الروابط الحقوقية الَّتي تحكم عملية خلق السلع والخدمات على الصعيد الاجتماعي، فقد تكون، وفقًا لماركس، وتراثه:
(1) عبوديَّة (بين العبد والسيد) في المجتمع العبوديّ، وتؤسَّس بالتالي على حق السيد في "قهر" عبده؛ إذ لا أهلية قانونية للعبد الَّذي يُعد من قبيل الأشياء الَّتي قد يرى صاحبها استغلالها أو التصرف فيها بالبيع مثلًا، أو حتّى التخلص منها بإعدامها!
(2) إقطاعيَّة (بين القن والإقطاعي) في المجتمع الإقطاعيّ، وتؤسَّس بالتالي على التبعية. فالقن "تابع" للأرض، وحينما تنتقل ملكيتها، بالميراث مثلًا، إلى سيدٍ آخر ينتقل القن أيضًا مع انتقال ملكية تلك الأرض إلى السيد الجديد.
(3) تعاقديَّة (بين العامل المأجور والرأسمالي) في المجتمع البرجوازيّ المعاصر5، وتؤسَّس على تلاقي الإرادات "الحرة" القادرة على إحداث أثرٍ قانونيّ معين؛ فالعامل بما يملك من إرادةٍ شارعة يظهر في السُّوق كطرف حُر من أطراف العقد6 P-- عقد العمل-- في مقابل الرأسمالي الَّذي يملك هو الآخر إرادة شارعة، ومن خلال التلاقي بين الإرادات طبقاً للقاعدة الَّتي تقضي بأن العقد شريعة المتعاقدين ينعقد العقد، وهي قاعدة تفترض سلفًا، وبالتصادُم مع الحقيقة والواقع، تساوي طرفي العقد وعيًا وقوةً وسلطة!
وعلى هذا النحو، لا يوجد ما يمنع وجود عدة علاقات إنتاج تعمل جنبًا إلى جنب في المجتمع الواحد؛ فقد تسود علاقات إنتاج عبودية إلى جانب علاقات إنتاج تعاقدية كما رأينا في آثينا أو روما 7، وقد تسود علاقاتُ إنتاجٍ إقطاعية في الريف؛ وتعاقديةٌ حرَّة في المدينة كما في فرنسا في القرن السابع عشر.8
أما الركيزة الثانية، أي قوى الإنتاج، وهي الأشياء الَّتي تُستخدم في عمليات تجديد الإنتاج الاجتماعي، أي وسائل الإنتاج وقوة العمل. فهي على هذا النحو حاضرة دومًا، وإن كانت بمستوياتٍ مختلفة من التطوُّر، في جميع علاقات الإنتاج (عبوديَّة، وإقطاعيَّة، وتعاقديَّة) كما في بابل وآثينا وروما وبغداد وقرطبة... إلخ9 ولكنها لن تؤدّي في تصور ماركس، وتُراثه من بعده، دور"الرأسمال" إلا، وفقط، مع المجتمع البرجوازي الأوروبي المعاصر!
والآن، فلنلاحظ جيدًا: لقد تمت نسبة مصطلح نمط الإنتاج العبودي (بعد اختزال التنظيم الاجتماعي بأسْره، وعنوة، في ظاهرة العبودية بشكل انتقائي وتحكمُّي) وكذلك مصطلح نمط الإنتاج الإقطاعي إلى علاقات الإنتاج (دون أي مبررٍ علمي، أي دون سبب لتغليب علاقات الإنتاج كي يُنسب إليها نمط الإنتاج في المجتمع) ونسبة مصطلح نمط الإنتاج الرأسمالي إلى قُوى الإنتاج (أيضًا دون أي سببٍ علمي، أي دون مبرر لتغليب قوى الإنتاج هذه المرة كي يُنسب إليها نمط الإنتاج في المجتمع)10
ولكي يتحدد المجتمع الرأسمالي المعاصر، وبالتالي يمكن إسقاط الرأسمالية11P ثوريًّا، في مذهب ماركس وتراثه؛ كان يتعين إبراز ظاهرتَي بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السُّوق كظاهرتَين غير مسبوقَتين تاريخيًّا!P Pمع استمرار تأكيد نفيهما في المجتمعات السَّابقة على الرأسمالية الأوروبية! وعلى ما يبدو أن تلك هي الوسيلة الوحيدة الَّتي مكَّنت ماركس، وتراثه من بعده، من الادّعاء بأن الرأسمالية لا تعرفها المجتمعات السَّابقة عليها تاريخيًّا، وبالتالي هي نظامٌ اجتماعي طارىء، ومن ثَم يمكن إسقاطه!
والتصنيف على هذا النحو المذكور أعلاه يؤدّي في إطار علم الاقتصاد السّياسي دورًا غاية في الخطورة من جهتَين؛ فهو:
(1) يَحول دون التغلغل في عمليتَي الإنتاج والتوزيع من أجل الكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لهما على الصعيد الاجتماعي. فهو يُقدّم -- على صعيد علاقات الإنتاج -- الشكل الخارجي لعلاقات التنظيم الطبقيّ (القهر والاستعباد)، مع الخلط بينها وبين علاقات التنظيم السّياسي (التبعية والإقطاع)، وبينها وبين غلاف علاقات التّنظيم الحقوقي (سلطان الإرادة)12 يُقدّم سطح التنظيم الاجتماعي والسّياسيّ. وبالتالي يقدم الشكل الظَّاهري لعلاقات التوزيع. وابتداءً من الانشغال (بشكل) التنظيم الاجتماعيّ والسياسيّ، أو بـ (شكل) المركز القانوني أو الطبقي للمنتج المباشر أو مالك وسائل الإنتاج تأثرًا، بلا سند عِلمي، بالظواهر الاجتماعية الأكثر بروزًا، أي تأثرًا بالعبودية والوضع الطبقي للعبيد في العالم القديم، وبالإقطاع ومركز القن في العالم الوسيط، وبمبدأ سلطان الإرادة وخضوع العامل المأجور لسلطة الرأسمال في العالم البرجوازي المعاصر، يجري طمس قوانين الحركة ودورها الحاسم في تشكيل القاعدة الَّتي تعمل عليها جميع النظم الاجتماعية في العالم السَّابق على الرأسمالية الأوروبية؛ حيث يفترض التصنيف أعلاه شفافية وسطحية علاقات الإنتاج في العالم السَّابق على الرأسمالية الأوروبية، وانعدام ظاهرتَي بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السُّوق بقصد الربح؛ فالسيد في العالم العبودي يملك العبد بما يتضمنه من قدرة على العمل. ولا أهلية للعبد ولا إرادة! نعم ينتزع السيد فائضًا من العبدِ، ولكن طبيعة هذا الفائض، وبالتالي مصدره وتوزيعه، لا يحتاج، كما تزعم نظرية نمط الإنتاج، إلى علم يفسّره؛ لأن القهر واضح والظلم فادح والاستعباد سيد الموقف! فالفائض يُنتزع انتزاعًا بالحديد والنار! ويتم، بالتالي، الانتهاء نظريًّا إلى انتفاء الدَّاعي لظهور العلم الاجتماعي المنشغل بالكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع في هذا المجتمع؛ فهي قوانين غير موجودة بالأساس!
وفي المجتمع الإقطاعي لا يختلف الأمر وفق نظرية نمط الإنتاج؛ فالقن، كتابع ذليل يأتي في آخر التدرج الطبقي، يعمل قهرًا في أرض سيده الإقطاعي، ولا يملك من أمره شيئًا، فهو يفلح أرض سيده ويعصر الكروم في معاصره ويطحن الغلال في طَوَاحينه ويدفع بالفوائض إلى مخازنه وخزائنه! ولا ضرورة على هذا النحو أيضًا، كما تدَّعي نظرية نمط الإنتاج، تستدعي ظهور العِلم الاجتماعي الَّذي يكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع في هذا المجتمع!
والواقع تاريخيًّا أن الفوائض كانت تُنتزع، باستخدام العنف والقوة والتسخير، من العبيد والأقنان في بعض الأحوال، وليس دائمًا وعلى طول الخط، ولا يصح عِلميًّا تعميم ظاهرتَي القهر والانتزاع بالقوة، بل يجب البحث عن القوانين الموضوعية الَّتي حكمت الإنتاج والتوزيع وبالتالي الاستئثار بالفائض من قِبل السادة ملَّاك العبيد أو كبار ملَّاك الأرض في الأحوال، وهي كثيرة وشائعة، الَّتي كان العبيد والأقنان يعملون جنبًا إلى جنب بجوار العُمال والمزارعين الأجراء، ويخضعون لنفس القواعد الحاكمة لعمل الأجراء على صعيد عملية الإنتاج.
ويجب أيضًا، وربما من باب أولى، البحث عن هذه القوانين الموضوعية في أحوال انتزاع الفائض الاجتماعيّ بالقهر والقوة؛ وصولًا إلى القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع عَبْر تاريخ النشاط الاقتصاديّ للبشر، أيًّا ما كان شكل التنظيم الاجتماعي/ السّياسي، وأيًّا ما كان الوضع الطبقيّ للمنتج المباشر أو المركز القانونيّ لمالك وسائل الإنتاج، وأيًّا ما كان مستوى تطور قوى الإنتاج ذاتها.
(2) يُستخدم هذا التصنيف "عبودية – إقطاع – رأسمالية" أيديولوجيًّا من أجل ترسيخ وجود نظام سياسي قائم، ومحاولة إثبات (علمية وحتمية!) مجيء نظام سياسي معين للمزيد من خداع الجماهير! وقد ساهم خلفاء ماركس، أكثر منه، بفاعليةٍ شديدة في ترسيخ هذا الوضع الأيديولوجي.
فلقد رأى ماركس بقدرٍ أو آخر أن مراحل التَّاريخ الإنساني تبدأ، وفق المركزية الأوروبية، من المشاعية البدائية وتمر بالعبودية والإقطاع ثم الرأسمالية، وعليه، يصبح علم الاقتصاد السّياسي عند ماركس هو علم نمط الإنتاج الرأسمالي، إنما ابتداءً من نظريته في نمط الإنتاج13 الَّتي تستند إلى شفافيَّة علاقات الإنتاج وانعدام الرأسمال كظاهرة في المجتمعات قبل الرأسمالية حيث الإنتاج في الغالب من أجل الإشباع المباشر! يتلقف خلفاء ماركس هذه النظرية كي يؤسسوا/ يسوّقوا للشيوعيّة (عِلميًّا!) على أساس أن (العِلم) يقول ذلك! فمن البدائية تخرج العبودية، ومن العبودية يخرج الإقطاع، ومن الإقطاع تخرج الرأسمالية، ومن الرأسمالية، مرورًا بالاشتراكية، تخرج الشيوعية! الأخيرة إذًا قادمة (علميًّا) لا محالة! ويصبح عِلم الاقتصاد السّياسي لديهم، على هذا النحو، هو عِلم أنماط الإنتاج! أفضت نظرية نمط الإنتاج إذًا إلى"أدلجة" العلم.14
حقًّا، كم هو مضلّل ذلك الخطاب الأيديولوجي المسوَّق ضد الرأسمال، والَّذي يحصر الرأسمالية في ذاك الرجل البدين مشعلًا غليونه وهو يرقب عماله من شرفة مكتبه بمصنعه، ويمنّي نفسه بالأرباح الطائلة الَّتي سوف يجنيها باستغلال عماله. تكمن أزمة هذا الخطاب المضلل في شخصنته للنظام الرأسمالي وحصر النضال في الثورة ضد كبار ملَّاك المصانع والأراضي، بل وضد الأغنياء بوجهٍ عام! وهو ما استتبع فشل جميع حركات التحرُّر ابتداءً من إعادة إنتاج شخص المستغِل، أو تغييره الشكلي، دون مواجهة علميّة حقيقية قادرة على خلق المشروع الحضاري لمستقبل عادل رحيم.
فعلى الرغم من أن قوانين حركة الرأسمال تحكم آداء مصانع جنرال موتورز كما تحكم آداء أحقر ورشة لصنع أربطة الأحذية في أحط أحياء القاهرة، كما حكمت مصانع بلاد الغال ودور الطرَّاز السلطانية، طالما تم استخدام العمل المأجور بقصد الإنتاج من أجل السُّوق، فإن أكبر خدعة تم تسويقها لاغتيال عقول الشباب هي أن الرأسمالية الَّتي يجب مقاومتها والثورة ضدها لا تتجسَّد إلا في ذلك الرجل الرأسماليّ المستغل/ الجشع، والَّذي قد تتعارض مصلحته مع النظام السّياسي. النظام السّياسي الَّذي كان يستمد وجوده من خِداع الجماهير أيديولوجيًّا. تلك الشخصنة هي المسئولة عن الفشل التَّاريخيّ لجميع محاولات فهم قوانين الحركة15 الحاكمة للإنتاج والتوزيع على الصعيد الاجتماعيّ، ومن ثم الإخفاق الدَّائم في تجاوزها.
مظاهر ارتباك نظرية نمط الإنتاج
ويتأكد ارتباك وتناقض نظرية نمط الإنتاج بالشكل الَّذي قُدّمت به من قِبل ماركس، وتراثه من بعدِه، في الآتي:
(1) هَبْ أن علاقة الإنتاج في مجتمع ما، عبودية أو إقطاعية، وقوى الإنتاج رأسمالية16 فكيف يمكن، وبدون تحكُّم، ووفقًا لنظرية نمط الإنتاج، تصنيف نمط الإنتاج في هذا المجتمع؟ ولماذا نقول إن المجتمع عبودي (بالنظر إلى علاقات الإنتاج)؟ ولا نقول إن المجتمع رأسمالي (بالنظر إلى قوى الإنتاج)؟ أو العكس؛ فنقول إن المجتمع رأسمالي (بالنظر إلى قوى الإنتاج)؟ ولا نقول إن المجتمع إقطاعي (بالنظر إلى علاقات الإنتاج)؟
(2) في بعض عمليات الإنتاج الاجتماعي قد تكون أحد أجزائها قائمة على علاقة إنتاج إقطاعية أو عبودية، وأحد أجزائها الأخرى قائمة على علاقة إنتاجٍ تعاقدية حُرَّة! فنفس السُّؤال: ما هو نمط الإنتاج في هذه الحالة؟
(3) وفقًا لنظرية نمط الإنتاج سوف تتطور قوى الإنتاج مع المجتمع البرجوازي المعاصر، حتَّى تبلغ المستوى الَّذي يجعلها تَتَحوَّل من مجرد وسائل إنتاج لمنتجات تُستخدم في الإشباع المباشر إلى رأسمال! فالسُّؤال الَّذي لا تعرف له أبدًا إجابة عند نظرية نمط الإنتاج هو: ما هو، عِلميًّا، "مستوى التطوُّر" الَّذي يُحدّد هل وسائل الإنتاج بلغت مرحلة الرأسمال أم لا؟17
ابتداءً من تفرقتنا بين شكل التنظيم الاجتماعيّ (عبوديّ/ إقطاعيّ/ برجوازيّ) وبين قوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع داخل هذا التنظيم الاجتماعيّ. وانتهاءً برفضنا لنظرية نمط الإنتاج بالحالة الَّتي هي عليها وبالشكل الأيديولوجيّ الَّذي قُدّمت به، نستبدل نظرية نمط الإنتاج، بعد تصحيحها، بقوانين الحركة وصولًا إلى القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع على الصعيد الاجتماعيّ عَبْر تاريخ النشاط الاقتصاديّ أيًّا ما كان شكل التنظيم الاجتماعيّ/ السّياسيّ. وأيًّا ما كان الوضع الطَّبقيّ للمنتج المباشر أو المركز القانونيّ لمالك وسائل الإنتاج. وأيًّا كان مستوى تطوُّر قوى الإنتاج ذاتها.
ثالثًا: من أنماط الإنتاج إلى قوانين الحركة
حينما نفحص قوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع في آثينا في القرن الأول قبل الميلاد، أو في روما في القرن الرابع بعد الميلاد18، سنجد أن علاقات الإنتاج لم تكن عبوديةً صرفة كما تشيع نظرية نمط الإنتاج، بل وجدت علاقات الإنتاج التعاقدية الحرة إلى جانب علاقات الإنتاج العبودية القائمة على القهر، وكانت علاقات الإنتاج العبودية نفسها ذات مستويات مختلفة من الشدَّة والاستغلال.
بل ويمكن القول بأن علاقات الإنتاج العبودية كانت نسبيًّا ضعيفة وقليلة وفي إطار الأعمال المنزلية أو الأعمال الَّتي لا تتطلب مهارة، وذلك بالنظر إلى سيادة علاقات الإنتاج التعاقدية الحرة في الورش والمعامل وعلى ظهور السفن... إلخ.
وبالتالي لا نجد أي مبرر علمي لاعتبار نمط الإنتاج آنذاك عبوديًّا دون اعتباره تعاقديًّا حرًّا! ولا يبدو لنا نسبة نمط الإنتاج آنذاك إلى العبودية إلا تحكميًّا دون أي سبب علميّ.
وأما قوى الإنتاج، في آثنيا وروما أيضًا19، فلم تكن من قبيل المنتجات الَّتي كانت تُستخدم في الإشباع المباشر، كما تُوحي لنا أيضًا نظرية نمط الإنتاج، بل كانت، على الرغم من تَدّني مستواها التقني نسبيًّا، سلعًا مُعدَّة للطرح في السُّوق، كما كانت تقوم بدور الرأسمال. هذا بالطبع إذا كنا نتحدث عن الإنتاج والتوزيع في المجتمع، أما إذا كنا نتحدث عن الظاهرة الاجتماعيَّة الَّتي كانت منتشرة في المجتمع الآثينيّ أو الرُّومانيّ آنذاك، فيمكن أن نعدد مجموعة من الظواهر منها الأوليجارشيَّة أو الأرستقراطية أو العبودية... إلخ، ولكن دون أن تنسحب أي ظاهرة منهم على الإنتاج والتوزيع على الصعيد الاجتماعي لتدمغهما باسمها وصفتها. وإن تم ذلك، وقد تم فعلًا على يد نظرية نمط الإنتاج، فسوف يتم إخفاء القوانين الحاكمة للإنتاج والتوزيع في المجتمع، وفي أفضل الأحوال سيتم اختزالها في العبودية، ويصبح المجتمع ميتًا لا حراك فيه؛ فلا تبادُل ولا نقود ولا أسواق ولا إنتاج ولا توزيع... إلخ، إنما عبيد يلبُّون رغبات أسيادهم الَّذين يرتدون أفخر ثياب العصر ويتزينون بأثمن جواهر الدهر، فيقدّمون لهم الطعام والشراب (لا يُقال لنا أبدًا من أين أتى هذا الثياب وتلك الجواهر!) وحينما يَسأم منهم السَّادة يلقون بهم إلى الضواري في مشاهد مأساوية كما يحدث في أفلام هوليوود!
ومع المجتمع الَّذي تسيطر فيه مؤسّسة الحكم، ومعها النُّخب الاجتماعيَّة والدينية، على الأرض، فتمنحها لمن تشاء وتنزعها ممن تشاء، أو تسخّر فيها مَن تشاء، سواء أكانت ممثلة تلك المؤسسة الحاكمة في الملك أم اللورد أم الخليفة، يبدأ إخفاء القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع في المجتمع في نفس اللحظة الَّتي يَختزل فيها النشاط الاقتصاديّ في علاقات الإنتاج الَّتي تكون بين السَّادة الإقطاعيين والأقنان عبيد الأرض، وكأن المجتمع يخلو من أصحاب المهن والأجراء والحِرفيين ويخلو من علاقات الإنتاج بينهم. كما يخلو من التبادُل والسلع والتراكم والنقود والربح والأجور... إلخ، بل ويخلو من الإنتاج والتوزيع نفسهما!
المجتمعات العبودية والإقطاعية إذًا تقدَّم، وفقًا لنظرية نمط الإنتاج ذات المركزية الأوروبية، كمجتمعات تعيش على الاكتفاء الذاتي وتُنتج من أجل الإشباع المباشر، وبالتالي لا ترى النظرية أي أهمية لظهور العلم المفسر لظواهر الإنتاج والتوزيع في هذين المجتمعين! فلا صعوبة في فهم المجتمع العبودي بالكيفية المطروح بها على أساس السيد الَّذي يمتلك العبيد الَّذين يلبون رغباته ثم يلقون حتفهم بين فكُوك الأسود. ولا صعوبة كذلك في فهم المجتمع الإقطاعي بالكيفية الَّتي قدم بها وفقًا لنظرية نمط الإنتاج، فالإقطاعي في قصره والأقنان في أكواخهم وعششهم والمخازن تعج بالحنطة والشعير، والأقبية تمتلىء بالجعة والنبيذ. وبالتالي لا توجد أيُّ مشكلةٍ تستدعي الكشف عن القوانين الموضوعية للإنتاج والتوزيع بواسطة علمٍ اجتماعيّ!
ولأن التقديم الأيديولوجيّ لأنماط الإنتاج على نحو ما رأينا أعلاه يأتي على نحوٍ مضلل، ويهدر ما هو ثابت تاريخيًّا، ويفضي إلى أدلجة العلم وتسييسه، فسوف نستبدل نظرية نمط الإنتاج، بحالتها الراهنة، بقوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع على الصعيد الاجتماعي، مع إعادة النظر في الطبيعة الحقوقية للعلاقات الجدليَّة بين مكونات قوى الإنتاج الاجتماعي في كلٍ من التنظيم الاجتماعي العبوديّ، والتنظيم الاجتماعي الإقطاعيّ، وذلك على النحو التالي:
(1) الاعتداد بقوانين الحركة، وهي معيارٌ ثابت، في تحليل النشاط الاقتصاديّ عَبْر تطوره يؤدّي إلى رؤيةٍ هيكلية/ تجريدية للتَّاريخ الاقتصاديّ للعالم وحاضره. رؤية لديها الوَعْي الناقد بأن عمليات إنتاج السلع والخدمات الَّتي تتم في إطار النظم الاجتماعيَّة على اختلاف أشكالها وخصائصها الموضوعية تأتي دومًا خاضعة لقوانين حركة ثابتة، هي قوانين الحركة الثلاثة. الَّذي يتبدَّل هو الشكل. المظهر. فحينما نُحلّل، ابتداءً من قوانين الحركة، الإنتاج والتوزيع في المجتمع الَّذي تنتشر فيه ظاهرة العبودية ويكون التنظيم الاجتماعي قائم على أساس منها، فسنجد القوانين الثلاثة، قوانين حركة الرأسمال، حاضرة دائمًا أيًّا ما كان شكل علاقات الإنتاج، وأيًّا ما كان مستوى تطور قوى الإنتاج. فمالك العبد في سبيل إنتاج الخمر من أجل السُّوق، يقوم بإطعام عبده (أجر عينيّ) ويأخذ منه قيمة زائدة مع السلع الَّتي ينتجها.20 في هذه اللحظة، لحظة إنتاج معادل القيمة والقيمة الزائدة تحدث المعاوضة، كعلاقة حقوقية، يأخد العبد مأكله الَّذي يمده بالطَّاقة الضرورية (قيمة قوة عمله) ويقدّم في المقابل، ووفقًا لقانون حركة الرأسمال، عملًا زائدًا.21
وحينما نُحلّل، ابتداءً من قوانين الحركة كذلك، الإنتاج والتوزيع في المجتمع الَّذي تنتشر فيه ظاهرة الإقطاع: فيمكننا أن نُحلّل نموذجَين:
النموذج الأول: حيث الإنتاج من أجل الإشباع المباشر كما طرحه ماركس وروزا، حيث ينعدم التبادُل وهو ما يمثل استثناء تاريخيًّا مُستقًى من إمبراطورية شارلمان!22 فلقد كتبت روزا:
"في القرون الوسطى، نجد أن الفلاح الصغير في مزرعته، تمامًا مثل العاهل الكبير في أملاكه، يعملان تمامًا ما يودان الحصول عليه عن طريق الإنتاج. غير أنه ليس في الأمر من سِحر: فالإثنان إنما يريدان سد حاجات الإنسان الطبيعية من الغذاء والشراب والثياب، وبعض شؤون الحياة الأخرى. أما الفارق الوحيد فهو أن الفلاح ينام على القش، بينما المالك العقاريّ الكبير ينام على فراشٍ من ريش النعام، والفلاح يشرب إلى المائدة بيرة أو شيئًا يشبهها، بينما يشرب المالك الكبير خمورًا ثمينة. إن الفارق الوحيد يكمن في كمية ونوعية المواد المنتَجة. بيد أن أساس الاقتصاد وغرضه الَّذي هو سد الحاجات البشرية، يظلان أنفسهما. مقابل العمل، الَّذي ينطلق من هذا الهدف الطبيعي هناك نتيجته الواضحة. وهنا، مجددًا، في عملية العمل نفسها، ثمة فوارقُ عديدة: فالفلاح يشتغل بنفسه، أو برفقة أفراد أسرته، ولا يحصل من ثمار العمل إلا على ما توفره له قطعة الأرض الَّتي يملكها، أو حصته من الأرض المشاعية. ولكن سواء أعمل كل فلاح لنفسه برفقة عائلته، أم عمل الجميع معًا لحساب السيد الإقطاعي بقيادة العمدة أو المشرف الملكي، ليست نتيجة هذا العمل سوى كمية معينة من وسائل العيش بالمعنى الواسع للكلمة، أي بالضبط ما يحتاجه الفلاح للعيش أو تقريبًا بمقدار ما يحتاج لهذا العيش. بإمكاننا طبعًا أن ندير مثل هذا الاقتصاد في كل الاتجاهات وأن ننظر إليه من كل جانب، وسنجد أن لا سِر فيه ولفهمه نحن لا نحتاج لأي علم خاص ولا لأبحاث عميقة".
ولكن، تنسى روزا أن تقول إن هذا المجتمع يجهل النقود! كما تنسى أن تقول إنه يعيش بمعزل عن العالم؛ ولذلك، وبالتبع، تنسى أن تقول إن الخمور الثمينة الَّتي يشربها العاهل، والملابس الحريرية المذهبة الَّتي يرتديها، والسُّرر الوثيرة الَّتي ينام عليها، كلها من صنع المنتجين في الإقطاعية ولم يتم جلب بعضها من فارس أو بغداد أو بلاد الغال وربما من سهول المغول! والحقيقة التاريخية أن الاتخاذ من إمبراطورية شارلمان نموذجًا لنمط الإنتاج الإقطاعي هو من قبيل اتخاذ الاستثناء قاعدة وتعميمها، فإمبراطورية شارلمان تمثل لحظة استثنائية نرى فيها اقتصاد الإمبراطورية المقدسة أقرب ما يكون إلى اقتصاد الإشباع المباشر وليس الإقطاع. فقد حكم شارلمان في فترة تدهورت فيها الحالة الاقتصادية في جنوب فرنسا وإيطاليا بعد أن سيطرت الأساطيل الإسلامية على حوض البحر المتوسط، وازدادت غارات قبائل الشمال. في ظل هذه الظروف تدهورت أمور التجارة وساءت أحوال التجّار، وبالتالي لم تعد هناك طبقة تنافس كبار الملَّاك في الريف. ومع التحوُّل إلى الاقتصاد الزراعيّ، بغية الاكتفاء الذَّاتي، خضع الكثير من الفلَّاحين الأحرار إلى نظام رقيق الأرض الَّذي آخذ في الانتشار. وحتى العبودية اتسع نطاقها فترة من الوقت نتيجة لحروب الكارولنجيين ضد القبائل الوثنية. وعلى الرغم من ذلك لا تعكس صورة روزا لهذا المجتمع حقيقته؛ فلقد وجدت الأسواق، والسلع، والأثمان، والنقود، والمضاربات،... إلخ، حيث عمل شارلمان على تدعيم التجارة الدَّاخلية وتنظيمها؛ فبسطت الدولة حمايتها على الأسواق، ووضعت نظامًا دقيقًا للموازين والمقاييس والأثمان، ومنعت المضاربات على المحاصيل قبل حصادها، وحافظت على ثبات قيمة النقد،... إلخ. الاتخاذ إذًا من إمبراطورية شارلمان، كحالة استثنائية، مِثالًا ثم تعميمه لا يمكن قبوله إلا ابتداءً من قبول المركزية الأوروبية نفسها!
فهذا النموذج على هذا النحو لم يُقدَّم تاريخيًّا بشكلٍ أمين، وتم اختزاله في الإنتاج من أجل الإشباع المباشر. وعلى الرغم من أن هذا التصوُّر يحتوي على جانبٍ من الحقيقة إلا أنه يُخفي الجانب الآخر، الأهم والأشمل والأعم والأخطر، والَّذي يُثبت وجود التبادُل والإنتاج من أجل السُّوق، وإن جاء الأمرَان، أي التبادُل والإنتاج من أجل السُّوق، في حدودٍ ضيقة، فذلك ليس بسبب قوانين الماديَّة التاريخيَّة، كما شاعَ بتوهُّم، بل بسبب الأوضاع السّياسيَّة المضطربة في البحر المتوسط آنذاك.
أمّا النموذج الثاني، حيث الإنتاج من أجل السُّوق كما يُطرح في واقع التكوين الاجتماعي الإقطاعي في فرنسا، فهو، في الحقيقة، يمثل نموذجًا واضحًا لنمط الإنتاج الرأسمالي ليس على صعيد الحِرف والصناعات المختلفة في المدينة فحسب، بل وعلى صعيد النشاط الزراعي في الريف. إذ في هذا التنظيم الاجتماعيّ/ السّياسيّ (الإقطاعي) تتجلى علاقات الإنتاج في المعاوضة بين مالك القدرة على العمل ومالك وسائل الإنتاج. كما تتجلى قوى الإنتاج، ابتداءً من معاوضة قوة العمل بالأجر العيني أو النقدي، كرأسمال يتم استخدامه في إنتاج السلع من أجل السُّوق بقصد الربح. قد يختلف شكل الصانع آنذاك أو صاحب المهنة كالطبيب والمحامي، كما يختلف شكل السلعة أو طبيعة الخدمة، ولكن تظل قوى الإنتاج، والعلاقات الجدليَّة بين مكوناتها، خاضعة لقوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع على الصعيد الاجتماعيّ.
(2) الاستناد إلى قوانين الحركة في فهم وتحليل طبيعة النشاط الاقتصادي وتطوره التاريخي، يجنبنا الخلط الشَّائع بين التنظيم الاجتماعي/ السّياسي/ الطبقي السَّائد على الصعيد الاجتماعي (العبودي، أو الإقطاعي، أو البرجوازي)، وبين علاقات وروابط إنتاج السلع والخدمات الَّتي تقوم دومًا على المعاوضة بين العبد والسيد، والقن والإقطاعي، والعامل المأجور والرأسمالي.23
(3) الاستناد إلى قوانين الحركة في فهم وتحليل تاريخ النشاط الاقتصادي وحاضره يجنبنا التصنيفات التعسُّفية الَّتي تسلَّلت إلى علم الاقتصاد السّياسي، كمصطلحات: البرجوازيّ الصغير! والبرجوازيّ الكبير! وكبار الحِرفيين وصغارهم!... إلخ، فجميع هذه التصنيفات لا تقوم في الواقع إلا على أفهامٍ ملتبسة وتصوراتٍ انطباعية ورؤًى تحكُّمية دون أسّس موضوعية ثابتة أو واضحة، وكان هدفها المركزيّ خداع الجماهير!
(4) حينما أنسب نمط الإنتاج إلى ظاهرة الرأسمال، فأقول: نمط الإنتاج الرأسمالي؛ فإنني أنسبه إلى قوانين حركة الرأسمال بما تتضمنه، داخليًّا، من روابط الإنتاج، وليس إلى تطور قوى الإنتاج من محض أشياء إلى رأسمال. وبالتالي يُصبح نمط الإنتاج الرأسمالي24، في مقابلة نمط الإنتاج البدائي/ المعاشيّ، هو نمط الإنتاج الَّذي يمثل القاعدة الَّتي تعمل عليها النُّظم الاجتماعيَّة المختلفة سواء أكان هذا التَّنظيم عبوديًّا أم إقطاعيًّا أم برجوازيًّا معاصرًا. وأيًّا ما كان مستوى تطوُّر قوى الإنتاج الاجتماعي، وأيًّا ما كان الوضع الطبقي أو المركز القانوني للمنتج المباشر ومالك وسائل الإنتاج.
خاتمة
ربما التساؤل الواجب طرحه هنا الآن هو: لماذا لم يظهر الاقتصاد السّياسي إذًا كي يكشف، كعِلم، عن القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع في المجتمع؛ طالما أن النشاط الاقتصاديّ على الصعيد الاجتماعيّ كان، وفقًا لفرضيتي الَّتي برهنت على صحتها، خاضعًا دائمًا لقوانين حركة الرأسمال منذ أن غادر الإنسان مملكة الحيوان؟ الواقع أن المحرك المركزي لنشأة العِلم هو الكشف عن القانون الموضوعيّ الحاكم للظاهرةP الاجتماعية بوصفها (شيئًاPP) (مهيمنًا) يملك نفوذًا (مُستَقلًّا) عن أفراد المجتمع25. Pولم يكن للاقتصاد السياسي، كعلم اجتماعي، أن يظهر لكي يفسر الظواهر محل انشغاله إلا بتزامن هيمنة تلك الظواهر، وتضافرها، مع تطلع الذهن الجمعي إلى التعرُّف إلى القوانين الموضوعيّة الَّتي تحكمها. ولأن الذهن الجمعي عبر تطورنا الاجتماعيّ كان خاضعًا، في مرحلةٍ تاريخية أولى، للذهن الميثولوجيّ والذهن الفلسفيّ. ثم، في مرحلةٍ تاريخيّة ثانية، للذهنية الفقهية وللذهنية اللاهوتية؛ فإنه لم يتمكن من الوصول إلى تلك القوانين الموضوعيّة إلا حينما تحرَّر، في مرحلةٍ تاريخية ثالثة، من سطوة تلك الذهنيات على يد الذهنية العِلمية. ولذا؛ ظهر علم الاقتصاد السّياسي كي يكشف عن خضوع الإنتاج والتوزيع في المجتمع لقوانين حركة الرأسمال لا في عالمنا الرأسمالي المعاصر فحسب، بل في عصور أقدم وعهود أبعد. ظهر كي نعرف من خلال أدواته الفكرية أن الرأسماليّة (الَّتي هي خضوع النشاط الاقتصاديّ في المجتمع لقوانين حركة الرأسمال) هي القاعدة الَّتي تعمل عليها جميع النُّظم الاجتماعيَّة، بغض النَّظر عن (مَدَى) تطور قوى الإنتاج السَّائدة، وبغض النظر عن (شكل) علاقات الإنتاج المهيمنة. وبالتالي نفرق، بوَعْي، بين شكل التَّنظيم الاجتماعيّ السَّائد، بما يتضمنه من تنظيم سياسي، وبين قوانين حركة الرأسمال الَّتي تهيمن على ظواهر الإنتاج والتوزيع داخل هذا التنظيم الاجتماعي أو ذاك.




الهوامش والحواشي
--------------------
نشر هذا المقال بمجلة العلوم الاقتصادية بجامعة الجزائر، يناير 2022.
(1) يعتمد هذا المقال بصفة مركزية على الفرضية التي قدمتها في كتابي نقد الاقتصاد السياسي، انظر: محمد عادل زكي، نقد الاقتصاد السياسي، طبعة هنداوي، القاهرة، 2021. والكتاب متاح بصيغةpdf على الإنترنت:
https://www.hindawi.org/contributors/72970313/
(2) يعني الإنتاج الرأسمالي لدى بوهم بافرك (1851-1914) وعن صواب، أحد أمرَين: إما إنتاج السلع بالرأسمال المكون من مواد العمل والآلات؛ أي إنتاج السلع بالسلع، وإما خضوع عملية الإنتاج لسيطرة صاحب الرأسمال الخاص.
"The expression Capitalist Production is generally used in one of two senses. It designates either a production which avails itself of the assistance of concrete capital (raw materials, tools, machinery...),´-or-a production carried on for the behoof and under the control of private capitalist undertakers. The one is not by any means coincident with the other. I always use the expression in the former of these two meanings" .E. Böhm-Bawerk,The Positive Theory of Capital (London: Macmillan.1888), p.236.
(3) مع أوائل القرن الثالث عشر، ظهرت في غرب أوروبا كلمة الرأسمال، وكانت تستخدم بشكل عام لتدل عن الثروة المكنّزة، أو مبلغ من المال أو مقدار دين أو سلفة أو أصول تجارة. انظر:
Fernand Braudel, Civilization Materielle, Economie et Capitalism, XVe-XVIIIe siècle, Vol II (Paris: Librarie Armand Colin, 1979), p.557.
أي أن مستوى ظهور الكلمة حتى هذه الفترة التاريخية المبكرة كان مستوى حقل التداول. إذ لم يكن يوجد أي ارتباط بين كلمة الرأسمال وأي كلمة بشأن عملية الإنتاج. ويتعين أن ننتظر مجيء الآباء المؤسسين لعلم الاقتصاد السياسي حتى ينتقل مستوى ظهور الكلمة من مستوى حقل التداول إلى مستوى حقل الإنتاج؛ حينما تأخذ الكلمة في التبلور على يد مفكري القرن الثامن عشر، فروبرت ترجو (1727-1781)، وهو من عظماء الطبيعيين، يعرف الرأسمال بأنه:"قيم متراكمة". انظر:
"These accumulated values are what we name a Capital".R. Jacques Turgot, Reflections on the Formation and Distribution of Wealth (London: E. Sprag, 1898), p.56.
ومع جيمس مِلْ (1773-1836) تأخذ الكلمة في الابتعاد عن كونها مجرد لفظ يعبر عن مبلغ من النقود، إلى اعتبارها مصطلحًا يعبر عن عملية إنتاج كاملة تعني إنتاج السلع بالسلع من أجل السُّوق. فلقد رأى جيمس مِلْ أن الرأسمال:"سلعة معدَّة لإنتاج سلعة". أما ريكاردو فقد رأى أن الرأسمال: "هو ذلك الجزء المستثمر من ثروة الدولة في الإنتاج والَّذي يتألف من الغذاء والكساء والأدوات والمواد الخام والآلات". ويعرفه مالتس (1766-1834) بأنه:"رصيد الأمة الموظف في الإنتاج وتوزيع الثروة أو هو ثروة متراكمة تجني الأرباح بالإنتاج". انظر:
Malthus, Definitions in Political Economy (London: John Murray, 1827), p.92.
ويحرز جان باتست ساى (1767-1832)، في إطار التصور العام للكلاسيك، تقدمًا حينما يعتبر أن الرأسمال، المنتج، يتضمن المباني والآلات والمواد الخام ووسائل معيشة المنتِج، بالإضافة إلى النقود نفسها. انظر:
J.B.Say, A Treatise on Political Economy (Philadelphia: Lippincott, Grambo & Co, 1855), p.59.
أما جون ستيوارت مِلْ (1806-1873) فقد ذهب إلى تعريف مصطلح الرأسمال بأنه:"المخزون المتراكم من إنتاج العمل".
J. S. Mill, Principles, cit, op, p.328.
ورأى سيسموندي (1773-1842) أن الرأسمال هو:"قيمة تضاعف نفسها باستمرار بواسطة الإنتاج". وهكذا نقترب من الصياغة النهائية الَّتي سوف يعلنها ماركس للكلمة على أساس من أن الرأسمال ليس مبلغًا من المال أو النقود، إنما هو علاقة اجتماعية من جهة، ووسيلة إنتاج من جهة أخرى. حيث تتحول وسائل الإنتاج مع المجتمع البرجوازي إلى رأسمال يستخدم في إنتاج السلع من أجل السُّوق بقصد الربح. وسوف يعتبر ماركس هذه الصفة حاسمة في تحديد أسلوب الإنتاج في المجتمع المعاصر. ولعل التطور الَّذي لحق استخدام كلمة الرأسمال، لغةً ومصطلحًا، وانتقال استخدام الكلمة من مستوى حقل التداول إلى مستوى حقل الإنتاج، قد جاء نتيجة عدة عوامل تضافرت على صعيد الواقع، منها تبلور الصناعات الحديثة وهيمنتها في غرب أوروبا، وبالتالي سيادة الإنتاج المتزايد من خلال الآلة من أجل السُّوق بقصد الربح، بالإضافة إلى تأزم الصراع الطبقي في حقل اقتسام المنتوج الاجتماعي بين كبار ملَّاك الأراضي (الريع) والرأسماليين (الربح) والعمال (الأجر) كصراع بين طبقات اجتماعية متناقضة في حقل التوزيع. وعلى صعيد الفكر صار الانشغال الجوهري متركزًا في حقل الإنتاج المادي للسلع، في محاولة لتقديم إجابة عن سؤالين محددين بدقة: السؤال الأول: كيف تزيد ثروات الأمم؟ وهو سؤال يتعلق بالإنتاج، وليس التداول. والسُّؤال الثاني: ما هي القوانين الموضوعية الَّتي تحكم اقتسام هذه الثروات بين أعضاء المجتمع المنتج لها؟ وهو سؤال منشغل بالتوزيع. وعليه، سيصبح من المستقر في اللغتين الإنجليزية والفرنسية اعتبار كلمة الرأسمال، كمصطلح، معبرة عن الثروة أو وسائل الإنتاج الموظفة في الإنتاج من أجل الربح أو العائد. نخلص إلى أن المعنى الَّذي سوف يقدمه الاقتصاد السياسي للرأسمال، وفقًا لاعتبارات واقع فرض هيمنته، هو المعنى الَّذي سوف تعتمده اللغة الإنجليزية وكذا الفرنسية، انظر:
Henry Higgs, Palgrave s Dictionary of Political Economy (London: Macmillan and Co., Ltd, 1929), p. 217-23. Petit Larousse (Paris: Librairie Larousse, 1977), p.165-6.
ولذا سنجد موسوعة كولومبيا تذكر:"في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يعد الرأسمال العنصر الثالث من عناصر الإنتاج مع العمل والأرض". انظر:
The Columbia Encyclopedia (Columbia University Press, 1959), p.347.
ولكن فات الموسوعة الشهيرة أن توضح، لأن هذا مهم، أن اعتبار الرأسمال عنصرًا من عناصر الإنتاج إنما جاء بعد جهودٍ كبيرة من قبل مفكري الاقتصاد السياسي بشأن"العمل المنتج" و"الثروة". فالاقتصاد السياسي، كما علمنا، يعرّف العمل المنتج بأنه: "العمل الذي ينتج الثروة"، ومن ثم يعد العمل غير المنتج للثروة عملًا غير مُنتج على الإطلاق. وتجد الثروة مصدرها، في التصورات الأولى لرواد علم الاقتصاد السياسي، مثل وليم بتي وريتشارد كانتيون، في أمرَين، أولهما: الأرض"كمصدر لجميع الثروات"، وثانيهما: العمل، الَّذي"ينتج هذه الثروة"، أو وفقًا لعبارة وليم بتي المعروفة:"العمل أبو الثروة والأرض أمها". ويصبح من الضروري الانتظار مائة عام تقريبًا حتى يتم اعتبار الرأسمال مصدرًا ثالثًا على يد مالتس؛ إذ اعتنق مالتس التصور الكلاسيكي الَّذي يرى مصدر الثروة في الأرض والعمل كمصدرين أساسيين، وأضاف الرأسمال على أساس أن العمل والأرض في حاجة إلى الرأسمال، لأنه كما يقول:"ضروري من أجل إنتاج الثروة؛ فيمكن من ثم اعتبار الرأسمال مصدرًا ثالثًا للثروة"!P Pولقد أضاف البعض من رجال المعاجم، إلى أشكال الرأسمال، المعرفة المنتجة من خلال البحث العلمي، انظر:
D. Greenwald, Encyclopedia of Economics (N.Y: McGraw-Hill Co., 1982), p.112.
ولقد صار من المستقر، لدى فقهاء القانون المدني، والقانون التجاري كذلك، أن الرأسمال لم يعد معبرًا عن مبلغ من النقود وإنما صار:"يشمل الأشياء المادية، منقولة أو عقارية، والأشياء المعنوية، كالحقوق الشخصية، ومحال التجارة، والملكية الأدبية، وحقوق المؤلفين، وشهادات الاختراع". انظر: محمد كامل مرسي، شرح القانون المدني، تنقيح محمد علي سكيكر، ومعتز كامل مرسي (الإسكندرية: منشأة المعارف،2005)، ج2، ص510. ولدى الأستاذ السنهوري ما يطابق ذلك تقريبًا، فنجد في الوسيط:"أن الرأسمال قد يكون نقودًا أو أوراقًا مالية أو منقولات أو عقارات أو حق انتفاع أو دينًا في ذمة الغير أو اسمًا تجاريًا أو شهادة اختراع أو عملًا أو غير ذلك مما يصلح أن يكون محلًّا للالتزام". انظر: عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، تنقيح أحمد مدحت المراغي (الإسكندرية: منشأة المعارف، 2004)، ج5، ص 195. وقارب:"... الرأسمال هو كل ثروة تعود على صاحبها بفائدة أو من شأنها العودة بدخل أو ريع على مالكها... أو كل ثروة لا تستعمل في الاستهلاك المباشر، وإنما تستخدم من أجل جعل إنتاج الثروات أكثر وفرة أو أيسر". انظر:
A. Lalande, Vocabulaire Technique et Critique De la Philosophie (Paris: Librairie Félix Alcan, 1926), pp.94-5.
(4) وقوانين الحركة تلك لا تحكم النشاط الإنتاجي الهادف للربح مع النظام الرأسمالي المعاصر فحسب، إنما حكمت النشاط الإنتاجي عبر تاريخ البشر سواء سواء أكان في بابل قبل الميلاد أم في القدس في القرن الأول أم في روما في القرن الثالث أم في بغداد في القرن العاشر الميلادي، فقوانين الحركة، بصفة خاصة قانون حركة الرأسمال الصناعي، لم تتشكل اليوم، ولا خلال الـ 300 عام الماضية، إنما تعود إلى عصور أبعد وعهود أقدم. وعلى سبيل المثال يمكننا أن نقول، ربما مع الكثير من التجاوز؛ لأن الاختلاف ليس كبيرًا، أن الأمر أقرب ما يكون إلى مقارنة بين مصنع لإنتاج ورنيش الأحذية في القاهرة ومصنع لإنتاج السيارات في طوكيو. فقانون الحركة واحد. الَّذي يتغير الشكل. شكل العامل. شكل الآلة. شكل المصنع. شكل الإدارة. شكل التنظيم الاجتماعي السائد، أو النظام السياسي المهيمن. ولكن يظل قانون الحركة (ن -- [ ق ع + و إ ]-- س -- ن + Δ ن) هو قانون الحركة الحاكم لمصنعي القاهرة وطوكيو. بيد أن مفكري الاقتصاد السياسي، ابتداءً من هيمنة المركزية الأوروبية، لم يتمكنوا من الذهاب أبعد من أوروبا القرون الوسطى!
(5) يجب أن نفرق هنا بين علاقة العامل بصاحب العمل قبل العقد، وبعده. فلا إلزام على العامل بإبرام العقد، فهو ظاهريًّا حُر يبرمه أو لا يبرمه. هو حر أن يعمل أجيرًا أو لا. ومن هنا كانت العلاقة تعاقدية حرة. أما إذا أبرم العامل العقد التزم بكل أحكامه. وقد اهتمت التشريعات البرجوازية المعاصرة مثل: قانون العمل السوري رقم 91/1959، والإماراتي رقم 8/1980 والأردني رقم 8/1996، والمصري رقم 12/2003، والعراقي رقم 37/2015، بتحديد مفهوم كلٍ من: العمل، والعامل، وصاحب العمل، والأجر، والمنشأة، وعقد العمل. كما انشغلت تلك التشريعات بتحديد الحقوق والالتزامات المتقابلة وبيان مصادر الحق وأحكام الالتزام وقواعد الإثبات وحدود الجزاءات والعقوبات وتعيين الاختصاص القضائي... إلخ.
(6) في البداية، تحالفت البرجوازية المعاصرة مع الملك في سبيل إقصاء الارستقراطية الإقطاعية، ثم انقلبت على الملك وأعدمته مع حاشيته ورجال بلاطه. ولأنها ترفض أي قيود على حركتها في الداخل والخارج؛ فقد بحثت عن شكل أو آخر من أشكال التنظيم الاجتماعي الَّذي تستطيع أن تباشر نشاطها من خلاله، واختراقه إذا لزم الأمر. ولذلك تبلور التنظيم الاجتماعي، الَّذي تتستر من ورائه البرجوازية المعاصرة، القائم لا على عمل العبيد، ولا على الإقطاع، وإنما على المؤسّسات المفترض حيادها! فيصبح النظام الاجتماعي هو التنظيم الاجتماعي المؤسّساتي، لا العبودي ولا الإقطاعي، ودون خلط بين التنظيم الاجتماعي وقوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع في إطار هذا التنظيم الاجتماعي.
(7) قمت بالبرهنة، بشكل موسَّع ومطول وكاف، على هيمنة قوانين حركة الرأسمال في مجتمعات العالم القديم والعالم الوسيط في كتابي نقد الاقتصاد السياسي، ومنعًا للتكرار أحيل القارىء إلى الفصل الرابع من الباب الثالث.
(8) انظر على سبيل المثال:
Francois Quesnay, Tableau Economique (Paris: A L Institut National d Etudes Démographiques, 2005.)
(9) نقد الاقتصاد السياسي، الباب الثالث، الفصل الرابع.
(10) أن نسبة مصطلح نمط الإنتاج الرأسمالي إلى قوى الإنتاج له ما يبرره، ربما في الوعي لا في العلم، على الصعيد الاجتماعي فقد ظهرت في أوروبا الابتكارات الهائلة كمًا وكيفًا وكانت جميعها بمثابة تثوير لوسائل الإنتاج، الَّتي استخدمت كـ (رأسمال) وهو ما أدَّى إلى تطورات غير مسبوقة نسبيًّا في الصناعة، وتغيرات نوعية حادة، وعنيفة أحيانًا، في المجتمعات الأوروبية الغربية المعاصرة بأسرها."فالبرجوازية، في غضون سيطرتها الطبقية الَّتي لم يَكد يمضي عليها قرن من الزمن، خلقت قوى منتجة تفوق بعددها وضخامتها ما أوجدته الأجيال السَّابقة كلها مجتمعة. فالآلة، وإخضاع قوى الطبيعة، واستخدام الكيمياء في الصناعة والزراعة، والملاحة البخارية، وسكك الحديد، والتلغراف الكهربائي، واستصلاح أراضي قارات بأكملها، وتسوية مجاري الأنهار لجعلها صالحة للملاحة، وبروز عوامر كاملة من الأرض. أي عصر سالف كان يتصور أن مثل هذه القوى المنتجة كانت تهجع في صميم العمل المجتمعي". انظر: ماركس، وإنجلز، البيان الشيوعي. عزو نمط الإنتاج إلى الرأسمال إذًا لم يكن إلا تأثرًا بالظاهرة البارزة اجتماعيًّا على صعيد النشاط الاقتصادي، دون سبب علمي.
(11) الَّذي ابتكر مصطلح "الرأسمالية" هو الألماني سومبارت (1863-1941)، كرد فعل لتبلور مصطلح "الاشتراكية". انظر:
Werner Sombart, The Jews and Modern Capitalism, Translated by M. Epstein (Kitchener: Batoch Books, 2001).
هو إذًا مصطلح حديث، وسياسي في المقام الأول. انظر: أريك هوبسباوم، عصر رأس المال، ترجمة مصطفى كرم (بيروت: دار الفارابي، 1986)، ص9. وباختصار:"إن كلمة الرأسمالية هي مصطلح سياسي ولم تظهر بوضوح في المناقشات ذات الطابع السياسي إلا في بداية القرن العشرين، من حيث هي العكس الطبيعي لكلمة اشتراكية". انظر:
Fernand Braudel, Civilization Materielle, Economie et Capitalism, XVPeP-XVIIIPeP siècle, Vol II (Paris: Librarie Armand Colin, 1979), p.557.
ولقد استخدم كلٌ من لوي بلان (1811-1882)، وجوزيف برودون (1809-1865)، كلمة الرأسمالية قبل سومبارت، ولكن كان استخدامًا من قبيل التوصيف العابر لفئة تستأثر بالأموال الطائلة، أو فئة مَن يمتلكون الأرض. ولا نجد لدى الكلاسيك ذكراً لمصطلح الرأسمالية، فهو بوجه عام غير موجود عند سميث أو ريكاردو، أو غيرهما من كبار مفكري الكلاسيك، حيث كان انشغال هؤلاء منصبًا على تحليل نظام تهيمن عليه الظواهر المتعلقة بالرأسمال دون أن يكون في أذهانهم رأسمالية المجتمع؛ لأن الروابط الاجتماعية لم تكن تحللت والعلاقات الشخصية لم تكن تهاوت كليًّا بعد! أما ماركس فقد استخدم الكلمة أيضًا لكنها ظهرت، كمصطلح، خافتة في رأس المال؛ إذ لم يعره ماركس الاهتمام، ولم يستعمله كمصطلح له خصوصية، وكان يستخدم دومًا مصطلح نمط الإنتاج الرأسمالي للتعبير عن عملية الإنتاج الَّتي ترتكز، لا على عمل العبيد أو التنظيم الاجتماعي الإقطاعي، وإنما ترتكز على وسائل الإنتاج الَّتي تحولت إلى رأسمال. وقوة العمل الَّتي صارت محلًّا للبيع والشراء.
(12) يعني مبدأ سلطان الإرادة، وفق المفاهيم البرجوازية، أن الإرادة، بوصفها التصميم الواعي على أداء فعل معين، قادرة على أن تنشئ التصرف القانوني، وتقبل بوعي الآثار الَّتي تترتب عليه. وهذا المبدأ على هذا النحو ذو شقين: يتعلق الشق الأول منه بالشكل، وهو مبدأ الرضائية الَّذي يجعل الإرادة وحدها مجردة عن أي شكلية كافية لإنشاء التصرف. فكل ما هو مطلوب أن يصدر تعبير عن الإرادة وهذا التعبير يكون بأي صورة، فقد يقع باللفظ أو بالكتابة أو حتّى بالإشارة، كما يجوز أن يكون ضمنيًّا. أما الشق الثاني فيتعلق بالموضوع، ومقتضاه أن تكون الإرادة هي صاحبة السلطان في تحديد آثار التصرف. ومن جهة التأصيل الفقهي يمكننا القول بأن الإرادة الحرة هي الَّتي تهيمن على جميع مصادر الالتزام. وهي تتجلى قوية في العقد. فالمتعاقدان لا يلتزمان إلا بإرادتيهما. ولا يلتزم أحد بعقد لم يكن طرفًا فيه، كما لا يكتسب أحد حقًّا من عقد لم يشترك فيه. فالعقد إذًا يرتكز على الإرادة، بل هو محض إرادة خالصة. وعقد العمل، على هذا النحو، بين العامل المأجور والرأسمالي يخضع لنفس المفاهيم وعين التطبيقات. في مبدأ سلطان الإرادة، انظر: السنهوري، الوسيط (1/56).
Planiol, Ripert Et Boulanger, Traite Elementaire de Droit Civil de Marcel Planiol, Obligations - Contrats - S retés réelles, éd. Nouvelle refondue par Georges Ripert, avec le concours de Jean Boulanger, L.G.D.J. Paris, 1943. pp.143-55.
(13) ولم يكن ماركس يهدف، في تصوري، من وراء برهنته التاريخية على هذا النحو إلى أكثر من إثبات تأثير تطور قوى الإنتاج في صوغ وتطوير علاقات الإنتاج.
(14) انظر مثلًا: أبالكين وآخرين، الاقتصاد السياسي، ترجمة سعد رحمي (القاهرة: دار الثقافة الجديدة،1987)، ص54. ولدى نيكيتين في كتابه المدرسي:"إن الاقتصاد السياسي هو علم تطور علاقات الإنتاج الاجتماعية... إن الاقتصاد السّياسي علم تاريخي... علم طبقي، علم حزبي... فهل زوال الرأسمالية وانتصار الشيوعية أمران محتمان لا مناص منهما؟... يجيب الاقتصاد السياسي البرجوازي بالنفي طبعًا ما دام يمثل مصالح النظام الَّذي أمسى كابحًا للتطور... والمحكوم عليه بالهلاك... إن أهمية الاقتصاد السّياسي الماركسي اللينيني تقوم في كونه يسلح الطبقة العاملة... بمعرفة قوانين التطور الاقتصادي... ويتيح للشغيلة أن ينفذوا بنجاح المهام الَّتي تواجههم... إن الاقتصاد السياسي الماركسي اللينيني يبين في أي اتجاه يجب أن يسير بناء الاشتراكية والشيوعية...". انظر: بيوتر نيكيتين، أسس الاقتصاد السياسي، ترجمة إلياس شاهين (موسكو: دار التقدم، 1984)، ص11-13. ويعد أستاذي د. محمد دويدار من أبرز المفكرين المصريين الذين تبنوا تعريف الاقتصاد السياسي كعلم لأنماط الإنتاج. انظر: محمد حامد دويدار، مبادىء الاقتصاد السياسي (الإسكندرية: دار الفتح للطباعة والنشر، 2018)، ص287-328. وهو ما رفضه د. سمير أمين:"عندما يصف محمد دويدار الاقتصاد السياسي بعلم أنماط الإنتاج فإنه يخلط... بين اقتصاد ومادية تاريخية". انظر: سمير أمين، قانون القيمة والمادية التاريخية، ترجمة صلاح داغر (بيروت: دار الحداثة، 1981)، ص10. هامش.
(15) ويبدأ الفشل في الفهم مع عدم الوعي بأن عملية الإنتاج، عند أعلى درجات التجريد، لا يعنيها كثيرًا شكل القائم بها، فهي لا تعبء هل تمت على يد أحدب نوتردام أم على يد داعرة سلافية!
(16) أو أن (الإقطاعيين) يستخدمون (العبيد) في الزراعة، من أجل بيع المحصول في (السوق) لتحقيق (الربح) النقدي!
(17) ولو كان هذا المستوى يتحدد بمدى استخدام أدوات العمل ومواده في الإنتاج من أجل السُّوق، فلا شك في أن المجتمع البابلي سيكون رأسماليًّا. ولقد كان كذلك فعلًا.
(18) انظر مؤلفنا: نقد الاقتصاد السياسي، الباب الثالث، الفصل الرابع.
(19) انظر مؤلفنا: نقد الاقتصاد السياسي، المصدر نفسه.
(20) لا تظهر هذه القيمة الزائدة في حساب الأرباح إلا بعد أن يعود جزءٌ منها أدراجه لتعويض الرأسمال المسلَّف في سبيل شراء العبد. والجزء الآخر يستولي عليه مالك العبد كربح. ولذا يجب أن تكون درجة شدة العمل عند أعلى مستوياتها.
(21) كما يستقطع القن مطعمه من المحصول، ويعطي سيده قيمة تفوق قيمة قوة عمله. أو كما يأخذ العامل المأجور ثمن مأكله الَّذي يمده بالطاقة الضرورية اجتماعيًّا (قيمة قوة عمله) ويعطي رب عمله، الرأسمالي، قيمة تفوق قيمة قوة عمله. فالعبد والقن والعامل، على صعيد تكوين القيمة والقيمة الزائدة، جميعهم، يعاوضون مالك وسائل الإنتاج (مواد العمل وأدوات العمل)، فالعامل المأجور يعاوض بالثمن (بيعًا) أما القن، أو العبد، فيعاوض بالعين (مقايضةً). ثم يحدث التناقض على الصعيد الاجتماعي بين الثمن/ البيع، والعين/ المقايضة؛ كي يتغلب البيع مع عدم اختفاء المقايضة. علاقة الإنتاج هي إذًا علاقة (معاوضة) تتخذ شكل المقايضة مع العبد والقن. والبيع والشراء مع العامل المأجور. لُب العلاقة الحقوقية إذًا المعاوضة، أما شكلها الخارجي فهو القهر أو العقد.
(22) انظر: روزا لولكسمبورج، ما هو الاقتصاد السياسي؟ ترجمة إبراهيم العريس (بيروت: دار ابن خلدون، 1977)، ص168.
(23) فالسبب الأساسي للتناقض في مذهب موريس دوب على سبيل المثال، الَّذي اعتنق تصور ماركس في أنماط الإنتاج، هو الخلط بين التنظيم الاجتماعي/ السياسي وقوانين الحركة الحاكمة للنشاط الاقتصادي في هذا التنظيم الاجتماعي/ السياسي. انظر:
Maurice Dobb, Studies in the Development of Capitalism (London: Routledge, 1947).p24-9.
فلقد رأى دوب أن الرأسمالية نمط إنتاج تالٍ للإقطاع، والإقطاع نمط إنتاج تالٍ للعبودية. والعبودية نمط إنتاج تالٍ لنمط الإنتاج المشاعي، ولكنه يعود فيقول، في تطور الرأسمالية، أن الرأسمالية كانت موجودة دائمًا في جميع مراحل التاريخ! ولا يصل أبدًا، على هذا النحو إلى المعيار العِلمي الَّذي يمكن معه الحكم (طالما أن الرأسمالية موجودة دائمًا، كما قال، في جميع أحقاب التاريخ) بأن المجتمع رأسمالي، أم إقطاعي، أم عبودي! والواقع أن الرأسمالية (الَّتي هي خضوع الإنتاج والتوزيع في المجتمع لقوانين حركة الرأسمال) كانت دائمًا القاعدة الَّتي عملت عليها جميع النظم الاجتماعية، الَّتي تشكلت عَبْر الحركة الملحمية للتَّاريخ والمجتمعات، بغض النظر عن شكل التنظيم الاجتماعي، وبغض النظر عن مدى تطور قوى الإنتاج داخل هذا التنظيم الاجتماعي.
(24) حيث مبادلة/معاوضة القدرة على العمل بما يسد الرمق، وحيث الإنتاج من أجل السُّوق بقصد الربح.
(25) انظر مؤلفنا: نقد الاقتصاد السياسي، الباب الأول، الفصل الثاني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم


.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة




.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.


.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة




.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال