الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نغم راجح … عصا ناير… وقلبُ الفقي

فاطمة ناعوت

2022 / 6 / 12
الادب والفن


كيف تصفُ بالكلمات رائحةَ زهرة الياسمين، أو طعمَ ثمرة البرتقال أو صوت طائر الوقواق؟! مستحيل! رسمُ الجمالِ بالكلمات صعبٌ لأن اللغةَ قاصرةٌ. لابد من مشاهدة الجمال وتذوقه وسماعه. كيف ترسمُ بالكلمات لوحةً لـ"فان جوخ"، أو قطعة لـ"تشايكوفسكي"؟ مستحيل. عليك أن تكتب: اذهبْ إلى متحف جوخ بأمستردام وشاهد بنفسك زارعي البطاطس وقمح آرل، وتوجّه إلى دار الأوبرا وأنصتْ بنفسك إلى صوت الجمال هناك. لا شيء بوسعه وصف الجمال، إلا مشاهدة الجمال والإنصات إلى وقعه.
لهذا فأنا أمام مُعضلة صعبة إذْ أحاول منذ أيام الكتابةَ عن الحفل الباذخ الذي حضرناه الأسبوع الماضي في "دولة الأوبرا المصرية" على شرف الجمال والموسيقى والحب. أما الموسيقى فهي مقطوعاتٌ آسرة من تأليف الموسيقار الرائع: "راجح داوود" وقيادة المايسترو الجميل "ناير ناجي" وعزف "أوركسترا أوبرا القاهرة". وأما الحبُّ فهو قلب المفكر الكبير "د. مصطفى الفقي".
لا شيء أغلى من قطعة من الموسيقى يُقدّمُها إنسانٌ لإنسان. نحن، البشر العاديين، نتهادى بالموسيقى. فأرسلُ إلى صديقتي مقطعًا من باليه "بحيرة البجع"، ويهديني زوجي أغنيةً لعبد الحليم، ونُهدي أمهاتِنا " ست الحبايب" بصوت فايزة. نحن هنا "سُعاةٌ ومراسيلُ" ننقلُ "الجمالَ" من مكان إلى مكان؛ حتى ترِقَّ قلوبُنا وتصيرَ الحياةُ أكثرَ عذوبةً. لكن "صناعةَ الجمال" وإهداءَه شيءٌ آخر. أن تُهدى مؤلفاتك الموسيقية إلى عزيز، فهذا يُعيدنا إلى زمن الأرستقراطيات حيثُ الموسيقى تُظلِّلُ المدنَ وتُعمِّرُ القلوب. أهدى "بيتهوڤن" سيمفونيته السابعة إلى الكونت "موريتس ڤون فريس" أحد رُعاة الموسيقى في النمسا. وأهدى قبل ذلك سيمفونيته الثالثة إلى "نابليون بونابرت" حينما رأى فيه الفارس الداعم لقيم الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والعدالة، وحين صنع من نفسه إمبراطورًا عدل "بيتهوڤن" عن الإهداء. وإذن كانت الموسيقى، وسوف تظلُّ، العُملةَ الأغلى يُقدمُها الموسيقارُ إلى رموز تصنعُ الحياةَ الأفضل. أعادنا الموسيقارُ "راجح داوود" إلى تلك اللحظة الراقية؛ حينما قرر إهداء باقة من مؤلفاته إلى "د. مصطفى الفقي" تقديرًا لمشواره الوطني الرفيع وقيادته المتحضرة لمكتبة الإسكندرية، وحصولها على جائزة الشيخ زايد في عيد ميلادها العشرين هذا العام ٢٠٢٢.
عَظُم المُهدِيِ والمُهدَىَ إليه. الُمهدَى إليه هو الدكتور "مصطفى الفقي" الذي علمنا كيف نقرأ الماضي لنعرفَ معالمَ المستقبل. الحكّاء العظيم الذي يُشَرِّحُ أوصالَ التاريخ ويشرحُ أعقدَ الظواهر السياسية والاجتماعية بأسلوب يسْرٍ مرحٍ. فالتاريخُ ليس أحداثًا ومواقفَ ومعاركَ ومصالحَ ومواءماتٍ. بل هو: دالٌّ ومدلولٌ ودلالة. لا شيء يحدثُ عَرضًا. فالأحداثُ تجري وفق منظومة دقيقة من التراتبية والتوافقية والسببية. مثل نظرية "أثر الفراشة"؛ حيث الأجزاءُ تؤثرُ وتتأثر ؛ فتُغيّرُ الكلَّ. لو وقع أمرٌ في الشرق الأدنى، تجلّى أثره في الغرب الأقصى، وإن صدَعَ شأنٌ في جنوب الأرض، سُمِع له وجيبٌ في شمالها. العالمُ المترامي يُشبه أوركسترا متناغم/متصارع يعزف كونشرتو تتبدّلُ نوتتُه على مدار اللحظة. يُغرِّدُ الكمانُ بعذوبة، فيردُّ عليه النايُ بحزن، يزأرُ التشيللو بصلافة، فتُقرعُ الطبولُ مُهدِدةً بغضب، وينفخ الأوبوا بجنون، فيُدندنُ الهارْبُ بحكمة، فتردُّ الماريمبا ساخرةً من الجميع، وهي تُرسل ابتساماتها إلى الدُّفّ لكي يضبطَ إيقاعَه على النغم الجديد.
وأما المُهدي فهو الموسيقارُ الذي برع في رسم "الفكرة" على نوتة النغم. "راجح داود" في موسيقاه التصويرية بالأفلام والدراما، يعرف كيف "يُحضِّرُ" وجدانَ الُمشاهِد حتى يتأهّلَ للحدث. الموسيقى التصويرية عند "راجح داوود" ليست خلفية للمشهد، بل هي خيوطٌ أساسية من نسيج المشهد، لو اِستُلَّ منها خيطٌ؛ تداعى العمل وتفكك.
وهنا أعود إلى المعضلة: كيف أصفُ بالكلمات صوتَ الڤيولين، الفلوت، الكلارينيت، أو التشيللو؛ بين أصابع الأوركسترا؟ كيف أرسم صوت "الأرغن" يعزف عليه "راجح دوود" بنفسه في مقطوعة "بسكاليا" التي وضعها موسيقى تصويرية لفيلم "الكيت كات" عن رائعة "إبراهيم أصلان": “مالك الحزين" وإخراج العظيم "داوود عبد السيد"؟! كيف أرسمُ بالكلمات العصا النحيلة في يد المايسترو "ناير ناجي"، ترتفعُ لتلتقط "جواباتِ" النغمات من حناجر الآلات الموسيقية، وتهبطُ لتضع "القراراتِ" في قلوب الجمهور الذي ملأ مقاعد المسرح الكبير بقاعته ومقصوراته؟ كيف تصفُ الكلماتُ "رسائلُ البحر" على ضربات الماريمبا والتشيللو والبيانو، وإيقاعات "نصرُ السماء على الطبول والجيتار، و"عصافير النيل" على وخزات القانون الشرقي الموجعة، و"ترنيمة الصلاة الأخيرة" على أنين الكلارينيت وصدمات التشيللو؟ كيف أرسمُ "تقاسيم" راجح داوود" على خفقات الأوتار والفلوت؟ كيف أرسمُ "رقصة الفلوت المرحة" التي استلم فيها المايسترو "راجح داوود" العصا ليقودَ الأوركسترا وتكون قطعة البون بون في نهاية الحفل، وهي المقطوعة الراقصة التي تعزفها كثيرًا ساحرةُ الفلوت، الفنانة "إيناس عبد الدايم"، وزيرة الثقافة الجميلة.
شكرًا على ليلة من وراء العقل قضيتُها في دولة الأوبرا المصرية على شرف الحب والجمال والموسيقى.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الغناء في الأفراح.. حلال على الحوثيين.. حرام على ا


.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب




.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ


.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش




.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا