الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل أصبحت تافها...؟

ادريس الواغيش

2022 / 6 / 14
الادب والفن


مدارات: هل أصبحت تافها...؟
بقلم: ادريس الواغيش
لم يكن انضمامي إلى شبكة وسائط التواصل الاجتماعي (Social Media) من يوتيوب، فايسبوك وواتساب ترفا، وإنما جاء طواعية، هي التي لم أكن أعرفها قبل بداية الألفية الثالثة. لم أكن من السباقين ولا المتهافتين عليها، ترددت كثيا قبل أن أفعل، ومع مرور الوقت ألفتها وأصبحت واحدا من روادها المخلصين. حدث ذلك في البداية بحجة تبادل الأفكار والمعلومات، والبحث عن المعرفة الجادة والهادفة. لم يخطر في بالي أنني سأداوم عليها وأصبح واحدا من المدمنين مثل ملايين البشر عبر العالم.
حين دخلت إلى عوالمها كنت منتصرا ومزهوا بثقافتي، كان هدفي الاستمتاع بمقطوعات موسيقية شرقية وغربية راقية والاستماع بمقاطع خالدة من أغاني أم كلثوم واسمهان وعبد الحليم وفيروز ونجاة الصغيرة وغيرها في الشرق كما في الغرب، وبما يقابله من جمال موسيقي وأغاني طربية للفنان عبد الهادي بلخياط والموسيقار عبد الوهاب الدكالي ونعيمة سميح ولطيفة رأفت على الضفة الأخرى التي تقابلها غربا وجنوبا في المغرب.
أسافر في شبكتها إلى أقصى غربة في طفولتي وأقساها، وها أنا اليوم على أبواب كهولتي، حين كان التجوال صباحا ومساء وسط أدغال الغابات القريبة من بلدتنا في أرياف تاونات وعرصاتها وجنانها من أهم طقوسنا اليومية. نغازل الطيور في علياء ربيعها وبين أغصان الأشجار، وهي ترمم أعشاشها وتطعم فراخها أو تعلمها دروسا أولية في الطيران وتدرسهم أبجدية الغناء، وتفادي مكر الإنسان وفخاخه المنصوبة والنيل منها برمية حجر.
كنت أتفرج على جمال الطبيعة وسحرها وغرائبها وغرائبيتها مع أفلام ناشيونال جيوغرافيك الوثائقية، تستهويني لقطات الكاميرات وسحر عدساتها، وهي تجوب الشرق والغرب، وأنا أستحضر في كل ذلك جزءا من أسرار الطبيعة في محيط قريتي "أيلة" وجبالها ووهادها.
كنت مسكونا دائما بما هو ثقافي نبيل وراقي في دواخلي، وأحرص على الحفاظ عليه والتشبث به ما استطعت، شديد الحذر حين أضع رجلي في غابة يختلط فيها المتجانس والغير متجانس والصالح والطالح. أشعر بالضجر وأنا أتناول فطوري في الصباحات الماطرة بالمقهى وسط ضجيج لا أول له ولا آخر وتركيبة بشرية متنافرة: سائقو سيارات الأجرة، ناقلو البضائع، مياومون، موظفون، مأجورون ذكورا وإناثا يناقضون بعضهم في أذواقهم واهتماماتهم. أجد بعضهم غارقا في سماع قراءات قرآنية أو أغاني شعبية صاخبة لا تليق بأجواء الصباح، وآخرون يعيدون سماع تسجيلا صوتيا لمقابلة كروية سابقة في الزمن، يقدمها واصفون رياضيون مبحوحي الصوت، وسكيتشات هزلية يقدمها فكاهيون شبه مشهورون. لا أحد منهم ينصت لأحد كأنهم في عوالم منعزلة، تفرق بينهم ملايين الأميال وغلافات جوية سميكة.
الغريب أن الكل يقبل بالآخر في اختلاف واضح لم يكن يقبل به أحد من قبل في مجالات أخرى. مشهد درامي بالمقهى يحتار السوسيولوجيون في تفسيره. الناس يستمتعون بأصوات هواتفهم المرتفعة وضجيجها في غياب تام للسماعات، رغم أنها موضوعة إلى جانبهم على الطاولات.
نادل المقهى يؤدي وظيفته اليومية المعتادة، يلبي طلبات زبائن الصباح الباكر وقد ألفوا وجوه بعضهم، وتعودوا على ملامحها. تسرق نظرة خاطفة إلى النادل، تجد عينيه مركزتان على شاشة تلفاز المثبت بالحائط وأذنه ملتصقة بسماعة هاتفه. وضع سيتغير بعد أن يتوافد الزبائن الرسميون من عاطالين وممتهني الرصد بعد طلوع الشمس، وتمتلىء المقهى عن آخرها بكل تناقضاتها اليومية. كنت أتضايق سابقا من مثل هذه المشاهد، أستبدل مقهى بأخرى، ولكن أجد نفس الأجواء تقريبا، ويكون استبدال النادل وأجواء مقهى ألفتها مجرد مضيعة للوقت وإكراها للنفس.
ومع مرور الوقت أصبحت واحدا منهم، أقبل بأي شيء وبكل شيء. في ظل زمن طغت فيه التفاهات على الأرض وفي البر والبحر ، وصرنا كلنا عبيدا لهذه الوسائط. أصبحت مثلهم، وقد تنازلت طواعية عن صفة المثقف والقارىء والكاتب. أصبحت بدوري أتحسس هاتفي في جيبي أول ما أجد نفسي داخل المقهى، بدل أخذ كتاب من محفظتي وتصفح محتوياته. هكذا بت أقرب إلى الدهماء وعامة الناس، أنتمي إلى هؤلاء العبيد الذين استهوتهم التكنولوجيا الحديثة وغررت بهم واستعبدتهم. أعاني مثلهم من سطوة التفاهة ووسائط التواصل الاجتماعي وما تقدمه من رداءات، لكن كيف حصل لي ذلك؟ وهل صرت فعلا إلى هذه الدرجة تافها..؟ لا أعلم..!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال