الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السبهلله (20|)

محمد أبو قمر

2022 / 6 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


المفارقة المستحيلة هي أن من اتخذ قرار حرب اكتوبر العظيمة وتحمل وحده مسئولية نتائجها في موقف بطولي وتاريخي هو نفسه من اتخذ قرار الانقلاب علي الشعب ووضعه أمام مصير مظلم ليس له فيه اختيار.
كان الرجل جريئا وشجاعا وفارسا وهو يتخذ أشرف قرار في التاريخ المصري لتحرير الأرض واسترداد كرامة أمة كاملة ، لكنه هو نفسه من وضع بنفسه كل شروط الهزيمة الحضارية التي ألمت بالشعب الذي أحبه ووثق فيه ومنحه التفويض الكامل ليصنع السلام وحمله علي الأكتاف حين ناصبه العالم العربي كله العداء.
في عام 1967 كنّا قد تلقينا هزيمة قاسية ، 80% من معدات وأسلحة جيشنا تم تدميرها ، ومن كل بيت كان شهيد لا يعرف أهله هل تم دفنه أم مازالت جثته في العراء تنهشها الكلاب ، عشرات الآلاف من الشباب المصري راحوا ، واحتل العدو سيناء بالكامل ووقف علي حافة قناة السويس التي تعطلت فيها الملاحة ، كان الأمر أشبه بأننا كشعب قد تلقينا طعنة نافذة في كرامته.
كان الشعب حزينا ومجروحا ولديه إحساس جارف بالمهانة ، لكنه لم يفقد عقله ، لم يستطع العدو النيل من وعيه ، كان العدو قد تمكن من الاستيلاء علي جزء من أرضه ، لكنه لم يتمكن من المساس بإرادته ، وفي الوقت الذي كان العالم كله بمراقبيه وساساته ومحلليه ينتظرون انهيار هذا الشعب وانقسامه وانقلابه علي نفسه وتمزق وحدته ، في الوقت الذي انتظر العالم كله شيوع الفوضي في ربوع مصر وسقوط هذا الوطن بحيث لا تقوم له قائمه بعد هذه الهزيمة ، في هذا الوقت كان كل بيت أُستشهد فيه جندي يقدم جندي آخر ويوصيه بأن ينتقم لوطنه المجروح ولأخيه الذي أستشهد وألا يعود من الجبهة إلا بعد استعادة الأرض التي تمثل العرض والشرف لكل مصري ومصرية.
كان الفرق هائلا بين أن تنكسر في معركة حربية وأنت مازلت تملك إرادتك ووعيك وقدرتك العقلية التي تمكنك من استيعاب ما حدث لك ثم ترد الصاع صاعين ، وبين أن تتعرض لهجمة دينية يستخدم الأوباش المهاجمون فيها سلاح الخرافة وأكثر ما في التراث الاسلامي من خطاب بائد ميت فتتحطم إرادتك ويغيب عقلك ويذوب وعيك فلا تعود قادرا حتي علي فهم ما حدث لك .
بعد الانكسار في يونيو لم يكن الذين توقعوا نهاية الوجود المصري لم يكونوا يعرفون ما الذي يدور بين المصريين في ذلك الوقت ، كانت موارد مصر تكاد تكون معدومة ، ومع الحزن والانكسار كنّا نحصل علي رغيف الخبز بالكاد لكن أحدا منّا لم يكن يشكو أو يتذمر ، كنت طفلا حينذاك ، ورأيت في حارتنا عم جورج بائع الحبوب وهو يعطي لأم محمود بائعة الخضار في الحارة بعض الأرغفة وهو يقول لها : دول زيادة عن حاجة عيالي لفيهم في حتة قماش لغاية ما ينزل ابنك سالم أجازه من وحدته ، وكانت أمي ترتق أفرول الجيش لأخي لأنه تمزق في التدريبات وهي تقول له : ما تطلبش منهم أفرول تاني سيبهم يشترولك بتمنه رصاص للبندقية .
لم يكن أبي يتعامل مع عم سمعان الحلاق علي أنه رجل مسيحي ، ولم تكن عائلة عم رمزي تتعامل معنا علي أننا عائلة مسلمة ، أنا نفسي لم أكن أعرف معني أن يكون الشخص مسلما أو مسيحيا ، كنّا في الأعياد نتبادل الكحك والحلوي ، كان عيد القيامة في حارتنا مثل عيد الفطر ، وكان عيد الميلاد مثل عيد الأضحي ، وفي أمسيات شهر رمضان كانت عوائل الحارة كلها تتجمع لنسمع حكايات أحمد وميخائيل وابراهيم ومحمود عن عمليات عبورهم للقناة ليلا وعودتهم بأسير أو أسيرين من جنود العدو.
في صباح يوم 20 سبتمبر 1969 دخلت حارتنا عربة عسكرية محملة بالجنود ، ومن بين زحام أهل الحارة الذين تجمعوا حول العربة شاهدت الجنود وهم يحملون تابوتين كل منهما ملفوف بالعلم المصري ، وسمعت الضابط وهو يقول لأبي أن محمود ابن بائعة الخضار وميخائيل ابن عم جورج قد استشهدا في إحدي العمليات علي الضفة الشرقية للقناة ، لكنني لم أستطع معرفة أي التابوتين يحمل محمود وايهما يحمل ميخائيل .
تسلم أهل حارتنا التابوتين في صمت ، وأطلق الجنود النار عدة مرات متتالية في الهواء ، ثم أدي الضابط التحية العسكرية لأهل حارتنا ، وكانت العربة تزمجر وهي تنطلق خارجة من الحارة.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا