الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضيفٌ على الرُوزنامة: جمال عبد الرحيم ـ مَا نَاتِجُ مُصَاهَرةِ العَرَبِ والزَّنْجِ؟!

كمال الجزولي

2022 / 6 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


ضيفٌ على الرُوزنامة
جمال عبد الرَّحيم
(اقتصادي وأديب وباحث)


مَا نَاتِجُ مُصَاهَرةِ العَرَبِ والزَّنْجِ؟!

الإثنين
ورَّطني الأستاذ كمال، صاحب هذا المتكأ الباذخ الجمال! فاجأني ذات مساء، طالباً أن أكون ضيفاً على روزنامته الأسبوعية، فزرع فيَّ ربكة، وخوفاً، من تحمُّل مسئولية أن أكون صنواً له، وهو من هو: الأديب الشاعر، القانوني الضليع، المُثقَّف الموسوعي، الكاتب المُجوِّد لصنعته، والمُفكِّر مُتَّسع الرؤية، جريء الرأي من غير تهور.
يكفي أن كمالاً هو مؤلف السِفر الاستثنائي في نوعه: «عَتُودُ الدَّوْلَة: ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟!»، ذلك الذي ساح فيه بنا في عوالم الفلسفة، والقانون، والفقه، والسياسة، والأدب، مُستلهماً الحكمة حتى من الحكايات الشعبية! والحق أقول، إن كمالاً لم يكتفِ في سفره هذا بمعالجة معضلة العلاقة بين الدين والدولة فحسب، بل انتقل بنا إلى ساحة أكثر اتساعاً وهي مسألة علاقة الدين بالحياة في مجملها، مُجلياً في ذلك أصالة «فقه المصلحة»، وجدارته بمعالجة قضايا عصرنا؛ ذلك الفقه المنسي في زوايا التاريخ، بسبب طغيان أهل النقل على أهل العقل.
لقد شرَّفني الأستاذ كمال، من قبل، بأن قدَّم لكتابي «فصل الدين عن الدولة – مشروع رؤية لفك الاشتباك»، الصادر مطلع هذا العام عن دار المصورات، فأصبحت ورطتي مضاعفة، إذ كيف يجوز لي أن أعتذر عن ضيافته، بعد كل ما غمرني به من حسن الصنيع، وسخاء الفضل؟!
اللهم اشرح لي صدري، ويَسِّر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، وأنت المستعان.

الثلاثاء
يعتبر تفسير آيات القرآن الكريم، من أكثر العلوم الإسلامية تعقيداً، وهو أمر يؤكده التعارض الكثيف بين المفسرين في مقاصد ودلالات النص القرآني. فعلى الرغم من أنهم، لأجل إدراك معنى العبارة القرآنية المحددة، يولون اعتباراً كبيراً، في كثير من الأحيان، لأسباب النزول، أو ما تسميه المناهج الغربية «سياق الحال Situational Context»، إلا أنهم كثيراً ما يغالون في الأخذ بظاهر الكلام «السياق اللغوي» باعتباره المعنى المباشر الذي يريد الخالق، جلا وعلا، توصيله إلينا، وفقاً لما سنبينه لاحقاً.
يُشار إلى العالم اللغوي البريطاني جون روبرت فيرث (1890م - 1960م)، باعتباره أوَّل من حاول تأسيس نظرية لغوية كاملة في موضوع السِّياق، حيث تقدم برؤية جديدة لمفهوم الدَّلالة في علم اللغة الحديث. فالجُمَل، عنده، تكتسب دلالاتها من خلال «سياق الحال»، حيث أن المعنى المعجمي لألفاظ الخطاب المقصود، كلِّ على حدة، غير كافٍ لادراك المعنى. وعلى ضوء هذه النظرية، ﻓإن اﻟﺪﻻﻟﺔ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ للمعنى تفترض تحليل البناء السردي للخطاب، ذلك الذي يتكون من فقرات وجمل وألفاظ مترابطة، بحثاً عن قرائن لفظية ومعنوية ذات أثر في تحديد الدلالة، مع النظر في العلاقة بين الفقرات، والجُمَل، والمفردات، التي تسبق أو تتلو العبارة المطلوب تحديد معناها.
سبق نظرية البريطاني فيرث انتباه العلماء والمفسرين المسلمين، قبل عدة قرون، لأهمية السياق في إدراك المعنى. فابن تيمية، مثلاً، يرى ضرورة أن «يُنْظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه، وما يبين معناه من القرائن والدلالات، فهذا أصل عظيم مهم نافع، في باب فهم الكتاب والسنة» (مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 2004م، ج 6، ص 18). أما ابن قيم الجوزية فيقول: «الألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له» (إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار ابن الجوزي - الدمام، ط 1، ج 2، ص 385)؛ ومثل ذلك كثير.
لقد لجأ أولئك العلماء لاستخدام «سياق الحال» في تفسيرهم للآية الكريمة: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»، حيث أن السياق اللغوي سيعني عدم جدوى الرسالة المحمدية، باعتبار ألا فائدة من دعوة الرسول (ص) لهم بالإسلام، وهو ما لايمكن تصوره بالطبع. لذا استخدم الطبري «سياق الحال» في تفسيره لها، بقوله: «هذه الآية نزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله (ص)، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد (ص) وتكذيبِهم به» (تفسير الطبري، دار هجر للطباعة والنشر- القاهرة، ج 1، ص 258).
على عكس الموقف من الآية السابقة، ونسبة لانتقائية العلماء والمفسرين الناتجة عن انحيازات فكرية وسياسية، لجأوا للتفسير الحرفي، بدلاً عن التفسير السياقي، لآيات الحاكمية المشهورة بسورة المائدة، ومنها: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ». فعلى الرغم من أن الآيات من 41 وحتى 50 التي تقع «آيات الحاكمية» في نطاقها تمثل وحدة سردية مترابطة، فثمة اتفاق بين المفسرين في أنها نزلت في جماعة من اليهود جاءوا للرسول (ص) ليحكم في خصومة بينهم، وفق ما جاء بكتابهم التوراة.
وبسبب الانحيازات التي أشرنا إليها تم تجيير هذه الآيات لتخدم فكرة مركزية لدى القوى المحافظة، وهي أن هنالك نظام حياة كامل لإدارة كل شئون الناس، وأن المسلمين ملزمون بتطبيق هذا النظام «الشريعة الإسلامية»، باعتباره أمراً ربانياً، مستخدمين في ذلك قاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، والتي اصطنعوها اصطناعاً لتبرير الأخذ بالمعنى الحرفي للكلمات بدون النظر لسياق ورودها، لأن المعنى الحرفي هنا يخدم فكرتهم، حتى لو كانت دلالته في ذلك السياق تشير لشيء آخر!
باستعراضنا لآيات «الحاكمية» هذه وإخضاعها للتحليل من خلال السياقات المختلفة التي وردت فيها، وبالتحديد «سياق الحال» وسياق عادة المتكلم، يتضح لنا جلياً انتقائية المفسرين والعلماء ومفارقتهم لمناهجهم نفسها. فسبب نزول هذه الآيات، كما أوضحنا، يرتبط بلجؤ جماعة من اليهود للرسول (ص) ليقضي بينهم في قضية تخصهم، حيث يقول ابن كثير، مثلاً: «الصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه» (تفسير ابن كثير، دار طيبة للنشر - الرياض، ط 2، ج 3، ص 113). الجدير بالذكر أن أمر قضاء الرسول (ص) بينهم كان اختيارياً، طبقاً لما جاء بذات السورة: «فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» (المائدة/42). كما أن القرآن يؤكد أن النبي (ص) سيحاكمهم بكتبهم، وذلك بقوله في ذات السياق السردي: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (المائدة/47).
ذلك شأن «سياق الحال»، أما «سياق عادة المتكلم،» فإن عبارة «حكم» وردت باشتقاقاتها أربع عشرة مرةً في الوحدة السردية المشار إليها وكلها تشير للتقاضي، وفي ثلاثة منها تشير بوضوح لوجود مُتخاصمين مطلوب الفصل فيما يدور بينهم من نزاع، مثالاً لذلك: «فإن جآؤوك فاحكم بينهم»؛ فلو كان السياق سياق حكم بمعناه السياسي لكان التعبير يأخذ النمط «أحكمهم» وليس «أحكم بينهم». أكثر من ذلك فإن القرآن الكريم، استخدم كلمة «حكم» باشتقاقاتها، بمعنى الفصل في النزاعات، في كل مواضع ورودها، مثل قوله تعالى: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (البقرة/113).

الأربعاء
حواء السودان ولود! عبارة اقتحمت ذهني حال انتهائي من الاطلاع على كتاب فريد، وهو «الأصداء العالمية للثورة المهدية» من تأليف محمد المصطفى موسى وإصدار «دار المصورات بالخرطوم». تتبدى فرادته من جملة وجوه، أحدها يتعلق بالقدرات العالية للمؤلف نفسه، الذي تقول سيرته الذاتية بأنه تخرج في كلية الطب بجامعة جوبا عام 2005م، وشد بعدها الرحال للمملكة المتحدة ليعمل جراحاً بمستشفياتها، ثم ليتخصص في طب الأسرة والمجتمع، علماً بأنه كاتب قصص له أعمال مكتوبة، إضافة لاسهامات منشورة عبر الوسائط المختلفة، في مجالات الأدب والتاريخ والقصة القصيرة.
ذهلت، حقيقة، أن تخرج من بين أصابع ذلك الطبيب الجراح الشاب ما يمكن وصفه بطفرة في الأبحاث الخاصة بالثورة المهدية ما حدا بعبد الله علي ابراهيم للتصفيق له مطوَّلاَ، وتقديم عمله بستة عشر صفحة، نجتزئ منها: «هذا كتاب رحب الجناب، لم نر به أصداء المهدية في العالم كما لم نرها من قبل وحسب، بل عرَّى زيف دعوةٍ ذات طنان معنا لعقود وهي (إعادة كتابة التاريخ)»، مُردِفاً: «جاء هذا الكتاب بالحسنيين في علم التاريخ: فتح وثائقي وفتح في زوايا النظر للمهدية. ووطَّن المهدية في تاريخ عالمي عريض، بينما انكفأنا به في العقود الأخيرة الى حكاية مغرقة في محليتها لا قيمة لها».

الخميس
كلما ضاق الحبل على رقاب إنقلابيي الإنقاذ، في وجهيها البشيري والبرهاني، كلما زاد النواح على السيادة الوطنية، وكلما ارتفع سقف نسيانهم لفعائلهم، حيث المجتمع الدولي في عرفهم هو فقط من تتوجه إليه طائراتهم، شرقاً وشمالاً!
أما المجتمع الدولي الحقيقي الذي نرى أن تتوجه صوبه ثورتنا، للدعم والمساندة، فهو ذلك الذي بذل تعاطفه الصادق مع الثورة السودانية، سواء على مستوى نخبه السياسية، أو منصات الرأي العام لديه. وهو تعاطف أملته عليهم سلمية الثورة وثبات جماهيرها ووضوح أهدافها. لقد ذهب تأييد ذلك المجتمع لثورة السودان بعيداً، حيث تجلى ذلك في عودة السودان لذلك المجتمع الدولي في وقت قياسي، وفي تدفق المساعدات المالية والسياسية على الحكومة المدنية، كما تجلى أيضاً في موقفها القوي ضد الانقلاب الذي بلغ مستوى أن تنذر الولايات المتحدة قادته بالعقوبات الشخصية!
بدون شك، فإن السياسة الخارجية لدول هذا المجتمع الدولي محكومة بمصالحها كمحدد أساسي، وفي هذا نراه يغض النظر عن الكثير من الأفعال السيئة لبعض حلفائه، بيد أن ذلك لا يلغي دعمه للقيم والمبادئ الإنسانية الرفيعة. من ضمن مؤكِّدات ذلك، دور حلف الناتو في ردع الصرب بالبوسنة وكوسوفو، رغم أنه لاتوجد للحلف مصالح حيوية في تلك المنطقة تستدعي التدخل العسكري حينها.
خُذ مثالاً آخر، منقولاً عن صحيفة «The Wall Street Journal» بتاريخ 15 ديسمبر 2021م حيث أن إدارة بايدن في طريقها لوضع ثمانية شركات صينية كبرى، من ضمنها أكبر شركة لصناعة الطائرات المسيرة في العالم، بسبب أدوارها في الرقابة الصينية الجماعية على مسلمي الصين. هل سمع أحدكم إدانة للصين من أي دولة «إسلامية»؟!

الجمعة
يُحار المرء، لدرجة الذهول أحياناً، من مقدار التناقضات التي تعجُّ بها عقول الإسلامويين، وهي تناقضات كفيلة بتفجير يافوخ الشخص الطبيعي!
دفعني لهذا القول صدور رأيين فقهيين متناقضين، بينهما مسافة أيام قليلة، منسوبين لمفكر الإنقاذ الأول، أمين حسن عمر. فبجرأة بالغة طلب الرحمة للشهيدة شيرين أبو عاقلة، مبرراً ذلك بأنه: «لا يوجد نص قرآني ولا حديث يمنع من الترحم على أهل الأديان الأخرى ممن لا يعادون الإسلام، والدعاء بالرحمة من أعمال البر التي لم يُنه عنها»، بينما نجد ذات الأستاذ يهاجم المحبوب عبد السلام، متمنطقاً سيف قاعدة «الولاء والبراء» التي من أهم بنودها أَلَّا يستغفر المسلم لأهل الكفر والشرك، ولا يترحم عليهم؛ ولا يشاركهم الاحتفال بأعيادهم؛ ولا يهنئهم بها؛ ولا يمدحهم أو حتى يبدأهم بتحية الإسلام «السلام عليكم» .. فتأمل!

السبت
يتسم تاريخ السودان في الفترة الممتدة بين انهيار مملكة مروي على يد مملكة أكسوم الحبشية عام 350م، وانهيار دولة علوة الكوشية على يد حلف «الفونج والعبدلاب» عام 1500م، بالغموض الشديد، وغياب المعلومات الموثقة التي يمكن الاستناد إليها لتوضيح مستوى العلاقة بين سكان السودان والعرب في الفترة التي أعقبت انهيار دولة مروي. فتدفق العرب، مثلاً، على السودان، وفقاً للنور حمد، وقع بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر، حيث: «كانت القبائل العربية الرعوية تتسرب إلى السودان (تحديداً جهينة وقريش) وأصبحوا يتكاثرون حتى رجحت كفتهم على كفة السكان الأصليين» (العقل الرعوي - في استعصاء الإمساك بأسباب التقدم، ص 68). لكننا نجد التناقض المفضي للغموض معبَّراً عنه حتى لدى النور نفسه، حيث يؤكد، في موضع من كتابه، أن دولة علوة سقطت على يد تحالف «الفونج والعبدلاب» (ص 71)، بينما يشير في موضع آخر، إلى أن دولة علوة سقطت على أيدي تحالف «الفونج والقواسمة» (ص 170)! وذلك رغم إشارته السابقة، إلى أن أكبر القبائل العربية التي نزحت إلى السودان، هي قبيلتي «جهينة وقريش» (ص 161).
فمن أين، ومتى، أصبح «القواسمة والعبدلاب» المعبرين عن التواجد العربي بالسودان؟ ليس هذا فحسب، فهناك حقائق أخرى غائبة عندما ننظر للقبائل الهجينة التي من المفترض أن تكون قد تكونت نتيجه التصاهر بين القبائل العربية والسكان النوبيين؛ حيث، وكمثال، متى، ومن أي جذر، من تلك القبائل العربية الكبيرة، نشأت القبائل الهجينة، التي يشار إليها بأنها عربية، كالشايقية والجعليين والبديرية والكواهلة، وغيرهم كثر؟ هل مجرد تزوج عرب جهينة بأميرات نوبيات ينقل الارث تبعا للطريقة النوبية لابناء الاخوات (راجع ص 68)، وهو رأي قال به ابن خلدون في مقدمته، واستند إليه الكتاب، هل هذا كافٍ لإنشاء أمة كاملة؟ لقد تزوج الكثير من الخلفاء الأمويين والعباسيين من فارسيات وروميات، فلِمَ لَمْ يؤدِّ ذلك إلى تشكيل قوميات جديدة؟
تطرح فرضية نزوح القبائل العربية بشكل يؤدي إلى تغيير جذري في مواصفات العرق السوداني، أسئلة كثيرة، لا أعتقد أن هنالك إجابة جاهزة عليها، فلماذا لم يعطِ المؤرخون العرب في تلك الفترات وزناً يذكر لهجرات العرب للسودان، رغم تفصيلاتهم الكثيرة فيما يخص كل جوانب الحياة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفارس؟ ما هو الحجم السكاني للأجناس التي كانت قائمة بالسودان حينها مقارنة بالوافدين العرب، حتى يمكننا قبول فكرة وجود انصهار واسع النطاق بالسودان؟ أين اختفت تلك القبائل الكبيرة (جهينة وقريش) وهي تمثل القبائل الأكثر عدداً؟
ما أوردنا أعلاه يؤكد أن الهوية الوطنية المتسقة للسودان لم تتشكل بعد، وذلك لمجموعة من الأسباب، بيد أنه ينبغي التأكيد على أن تمسك شمال السودان ووسطه، وبعض غربه، بالعروبة يلعب دوراً سلبياً في تقدم السودان، حيث، وكمثال، ذلك الأثر الواضح في تعميق صراع الموارد في دارفور، الناتج عن إضفاء «الطابع الهُويوي» عليه.
إضافة لأسئلتنا أعلاه، هنالك الكثير من الأسئلة التي يحتاج المُنَافحون عن «عروبة» شمال ووسط وبعض غرب السودان للإجابة عليها، علماً بأنني أرى أن المسألة لا تعدو كونها مجرد رباط عاطفي فرضته المحبة البالغة لدى مسلمي السودان لآل بيت الرسول (ص)، وهو أمر تعكسه المدائح النبوية وغيرها من أدبيات الصوفية، ويؤكده الحرص الشديد على ربط خيط قرابتهم بسبطي الرسول (ص)، أو بعمه العباس. من هذه الأسئلة التي تطنُّ في أذنيَّ كلما انفتح نقاش حول قضية الهُوية المشار إليها:
لماذا لا يوجد في المملكة العربية السعودية، مثلاً، والتي لم تحتك سكانياً، بالأعراق الأخرى، أثر لقرابات تمتد إلى فترة النبوة؛ مع العلم بأن تاريخ الجزيرة العربية للفترة التي أعقبت الدولة العربية الإسلامية الأولى شمله التوثيق، بما لا يقارن مع السودان؟
صاحَبَ تاريخ الفتوحات الإسلامية هجرات بشرية ضخمة، وصلت حتى نهر السند وآسيا الوسطى شرقاً، وأسبانيا غرباً (تلك التي مكثوا فيها قرابة زهاء الثمانية قرون)، ولم يسجل التاريخ حالات احتكاك مؤثرة، يمكن أن ينتج عنها جنس هجين، والدليل على ذلك احتفاظ الأسبان والإيرانيين والأتراك والبنغال، وغيرهم، بهُويتهم العرقية بدون أيِّ إدعاءات أخرى؛ فما الذي يدفع العرب للتصاهر مع «زنوج» السودان، علماً بأن العرب، وبشكل عام، مهتمون بـ «نقاء» دمائهم، خاصة، وأن مكانة «الزنجي» في المخيلة العربية تشوبها نزعة الدونية؟
هناك فرضية غالبة لدى «عرب» السودان، مبنية على أساس أن سكان مناطق الشمال والوسط والغرب كانوا «زنوجاً»، تحولوا لـ «عرب» بالمصاهرة، بل أن إحدى أكبر قبائل السودان، الجعليين، انحدرت من صلب رجل واحد هو عرمان الجعلي العباسي الهاشمي القرشي! لكن، لدحض هذا الزعم، دعونا نفترض أنه كان هنالك 100 ألف من «الزنوج» في المنطقة التي استقر بها عرمان هذا، 50 ألف إمرأة و50 ألف رجل، ولنفترض أن عرمان هذا تزوج أربع «زنجيات». تبقى بالتالي 49,996 إمرأة، من المفترض، نظرياً، ولغرض التبسيط، أن يكن تزوجن من 49,996 رجلاً، فأين ذهبت هذه الكتلة الهائلة التي من المفترض أن تكون قد نتجت عن هذه الزيجات؟
بافتراض أن هنالك هجرات عربية، ذات شأن يذكر، للسودان، كانت من التأثير بحيث أدت لتغيير جوهري في التركيبة السكانية، لماذا انحصر تصاهر العرب مع «الزنوج» فقط على العباسيين وآل الرسول؟ أين أحفاد أولئك العرب الآخرين الذين من المفترض أن يكونوا قد تصاهروا مع «زنوج» السودان؟
أرى، ولإزالة اللبس، أن نأخذ برأي النور حمد بأن التاريخ الحقيقي يجب ان يتأسس على بحوث الانثربولوجيا والاثنوغرافيا وليس السرديات الكتابية والشفاهية وحدها، وأرى من جانبي أن خرائط الجينوم البشري، البالغة الدقة، يمكن أن تساعد كثيراً في الإجابة على مثل تلك الأسئلة.

الأحد
التقى المتنبِّي برجل قبيح المنظر، فسـأله عن اسمه، فأجاب: زيتون! فقال له يداعبه: «سمُّوكَ زيتوناً وما أنصفُوا/ ولو أنصفُوا أسموك زعرورا
إن فـي الزَّيتونِ زيتـاً يُستضـَاءُ بهِ/ وأنتَ لا زيتاً ولا نورا»!
لكن المتنبِّي لم يدرك أنه، بقوله اللاذع هذا، وقع لقمة سائغة على لسان ألذع منه، حيث فاجأه زيتون بقوله:
«يا لعـنةَ اللهِ صُـبَِي عـلى لِحـيـةِ المتـنبـِّي
لو كان المتنبِّي نبيَّاً فلا شكَّ أن القردَ ربِّي»!

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص