الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شمشون انتحاري

صبحي حديدي

2006 / 9 / 19
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


تصدر دار النشر الإنكليزية Canongateسلسلة هامة ومبتكرة بعنوان "أساطير"، تسعى فيها إلى إعادة قراءة بعض أبرز الأساطير والشخصيات الأسطورية ذات الطابع الكوني من جانب أوّل، وذات الصلة برموز كبرى صانعة لأقدار البشرية ومسارات المخيّلة الإنسانية من جانب ثانٍ. وقد عهدت الدار بهذه المهمة إلى عدد من كتّاب العالم، أو ترجمت أعمالهم إلى الإنكليزية حيثما توفّرت تلك الأعمال مسبقاً واندرجت في معايير السلسلة، بينهم النيجيري شينوا أتشيبي، والكندية مارغريت أتوود، والروسي فكتور بيليفين، والبريطانية كارين أرمسترونغ، والياباني ناتسو كيرينو، والأرجنتيني توماس إيلوي مارتينيز، والكرواتية دوبرافكا أوغريسيتش...
والسلسلة ترفع شعاراً رئيسياً هو الحاجة إلى إعادة سرد الحكاية، ثمّ تقتبس جملة متطابقة في المغزى مع هذا الغرض، للسينمائي الإيطالي الكبير فدريكو فيلليني: "أنا في الجوهر متفائل لأنّ كبرى أساطير الإنسانية، أي حال الشخص الذي يروي حكاية لشخص آخر، لن تضمحلّ سريعاً. ولسوف يتوفّر على الدوام مَن يشعر بالحاجة إلى سرد أفكاره وأحلامه أمام صديق". وبهذا المعنى، على سبيل المثال، أعادت أتوود سرد حكاية الشخصية النسائية الأبرز عند هوميروس، أي بنيلوب زوجة عوليس، ليس على سبيل إعادة الإنتاج التي تطوّر، في قليل أو كثير، ما قاله سارد الإغريق وأعظم شعرائها؛ بل في التنقيب المعمّق عمّا لم يقله، جاهلاً أو متجاهلاً، لأسباب شتى. وثمة ما يدهش حقاً في هذا الغوص إلى باطن الحكاية الأمّ، تبرّر بالفعل العنوان الباذخ الذي اختارته أتوود لكتابها: "البنيلوبياذا"!
ولأنّ العهد القديم لا يمكن أن يغيب عن سلسلة كهذه، لاعتبارات ثقافية ودينية واستهلاكية جلية، فإنّ الدار ترجمت من العبرية عملاً للروائي الإسرائيلي دافيد غروسمان بعنوان "عسل الأسد"، يتناول شخصية البطل العبراني شمشون، من زوايا عديدة جديدة ومختلفة عن المألوف، ولعلها مخالفة للتنميط الراسخ في التوراة. إنه أقرب إلى أوديب صريع الأقدار المحتومة المكتوبة سلفاً، منه إلى رجل الخوارق الجبّار الذي انتزع العسل من جوف الأسد وأعمل في أهل غزّة بطشاً وأحرق زروعهم وكرومهم. وغروسمان يبرع تماماً في التفكيك النفسي لشخصية شمشون، من خلال التحليل المتأني المستفيض لخطّ صراعه المركزي بين المصير المسطّر سلفاً، والمسار الذي تختطه الأهواء والوقائع.
ولا يفوت غروسمان أن يتوقف مراراً عند كلّ تفصيل توراتي يمكن أن يُقرأ على نحو مختلف أو مخالف، فيحمل قسطاً من الدلالة حول الراهن. وضمن هذه الروحية، ولأنه من أوائل القائلين بأنّ الإمعان الإسرائيلي في نكران الحقّ الفلسطيني سوف يسفر عن جملة تشوّهات عضوية قد تهدّد وجود الدولة العبرية، يخلص غروسمان إلى مآل صاعق يسير على لسان شمشون، في السطر الأخير من الكتاب: "فلتَمُتْ روحي كما عشتُ على الدوام: وحيداً، دون أن أكون قريباً حقاً من أيّ روح، وسط الغرباء. فلتَمُتُ روحي، إذاً، وسط الفلسطينيين"!
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإنّ المرء يستعيد قراءة أخرى معاصرة لشخصية شمشون، أتحفنا بها هذه المرّة الحاخام الإسرائيلي إليتسور سيغيل، حين دعا إلى تنفيذ عمليات انتحارية يهودية ضد الفلسطينيين، عملاً بمبدأ "الشهادة" الذي استنّه شمشون، وليس اقتداء بالعمليات "الإنتحارية" التي ينفذها الفلسطينيون. وفي مقال بعنوان «التضحية بالنفس من أجل الربّ» كتب الحاخام يقول: «الإنتحار في زمن الحرب حلال إذا كان هدفه نصرة إسرائيل، والمتطوّع لأداء مثل هذه العمليات سوف يكون في عداد الأبطال والشهداء».
والحاخام سيغيل هو المسؤول عن هداية أرواح اليهود في مستوطنة تابواه، التي تحتل إحدى هضاب الضفة الغربية منذ عام 1967، وتقطنها أغلبية من غلاة اليهود المتدينين، وبينهم بصفة خاصة أتباع الحاخام الأشهر مئير كاهانا، ممن يشكلون اليوم مجموعة «كاهان حيّ». ومن الطريف أن يقتبس سيغيل شخصية شمشون لحضّ اليهود على بذل دمائهم دفاعاً عن إسرائيل، رغم أن لهذه الشخصية مآثرها الدموية الكبرى ضدّ الفلسطينيين، وأهل غزّة خصوصاً. ذلك لأنه، بين جميع قضاة إسرائيل، الأكثر خضوعاً للملذات، والأضعف إيماناً بعهد الربّ كلما اتصل الأمر بشهوات الجسد. فكيف، إذاً، يضمن الحاخام سيغيل أن لا تفلح إحدى حفيدات دليلة في إغواء شمشون المعاصر هذا، بحيث يدلي لها بأسرار الحزام الناسف الذي يلفّه حول جسده وهو في طريقه إلى أحد أسواق رام الله أو الخليل أو نابلس أو بيت لحم، قبيل تفجير نفسه؟ ومن جانب آخر، لقد كان شمشون أسير الفلسطينيين حسب العهد القديم، فمَنْ هو اليوم الأسير، ومَنْ الآسر؟ مَنْ هو المحتل، ومَنْ ضحية جرائم الاحتلال؟
والعهد القديم يروي أن بني إسرائيل «عادوا يعملون الشر في عيني الرب، فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة»، وأن امرأة منوح العاقر، والدة شمشون، تلد هذا الطفل الإعجازي ليكون نذيراً للرب ويتولى تخليص إسرائيل من يد الفلسطينيين. أيكون الحاخام في موقع مَنْ يفترض وقوع إسرائيل في الأسر الفلسطيني؟ أم هو يقول ضمناً إن إسرائيل عادت إلى الشرّ القديم الذي استوجب غضب الرب، ويستوجب بالتالي مجيء شمشون؟ واستطراداً، وفي العودة إلى قراءة غروسمان، هل يتوجّب أن يحيا شمشون وحيداً لكي يموت هكذا أيضاً، وسط الفلسطينيين؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #ترامب يهدي #بايدن أغنية مصورة و النتيجة صادمة! #سوشال_سكاي


.. التطورات بالسودان.. صعوبات تواجه منظمات دولية في إيصال المسا




.. بيني غانتس يهدد بالانسحاب من حكومة الحرب الإسرائيلية


.. صحفيون يوثقون استهداف طاي?رات الاحتلال لهم في رفح




.. مستوطنون ينهبون المساعدات المتجهة لغزة.. وتل أبيب تحقق