الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شريط -أوهام- أوشباب اليوم والأحلام الموؤودة

إبراهيم العثماني

2022 / 6 / 29
الادب والفن


مقــــــدّمة:

أصبح واقع الشّباب المعطّل عن العمل مادّة خصبة تُغري السّينمائيّين الهواة بالإقبال عليها وتحفزهم إلى النّهل من معينها الثرّ ومقاربتها من زوايا مختلفة. وقد أنجز شبّان هواة أشرطة تطرّقت إلى أكثر من مسألة بأسلوب فنّي متميّز يختلف من شريط إلى آخر.
وقد استهوى هذا الواقع نادي السّينمائيّين الهواة بسوسة فكانت النّتيجة شريطا موسوما ب"أوهام" للمخرج ناجح شواري (جويلية2005) عالج من خلاله وضعا قوامه الإحباط والفشل، وبطلاه شاب وشابّة جمعتهما الدّراسة والحبّ والأحلام، وفرّقتهما البطالة فكان الانفصال وكانت القطيعة، وبين البداية والنّهاية مسيرة طويلة امتزج فيها الحلو بالمرّ والأحلام بالأوهام والحبّ بالفشل.

أحـــــــــــــــــداث لشّــــــــريط:

تفاعلت ثلاثة عناصر لتسهم في نجاح هذا الشّريط هي صوت راوية شجيّ ومؤثّر، وصورة حزينة لشاب وشابّة محبطين، وموسيقى هادئة تُشنّف الآذان وتُطرب الأسماع وتُخفّف من آلام النّفوس المتعبة. فالرّاوية تروي الأحداثَ، والصّورُ تترجم كلامها والموسيقى ترافقهما. وأوّل مشهد يقدّمه الشّريط هو صورة فتاة ذات"وجه كأنّه الصّبح في الحسن" تظلّله كآبة دكناء وتغشيه سحائب حزن سوداء بدت شاردة البال وهي واقفة أمام النّافذة ترنو إلى الأفق البعيد. وقد نقلت الرّاوية (هدى الصغير) ما يعتمل في نفس البطلة (إيمان الصغير) وما يدور بخلدها، وأكّدت أنّها تنظر إلى الدّنيا من خلال نفسها القلقة المأزومة أي تحاكم العالم الخارجي انطلاقا من عالمها الدّاخلي. وقد وقفت البطلة أمام النّافذة تستعيد تفاصيل صداقتها الفاشلة وتستحضر لحظات حبّها الخائب. فقد تعرّفت إلى صديقها (سيف الدّين غديرة) في الجامعة وجمعتهما الدّراسة والمحبّة، وتوطّدت علاقتهما هناك وتدعّمت بعد تخرّجهما في الجامعة. وقد وظّف المخرج صورا رومنطيقيّة للتّعبير عن لحظات سعيدة لا تُمحى عادة من ذاكرة العشّاق: مواعيد ولقاءات وخِلوة في حديقة عموميّة تقع قبالة بحر أزرق ممتدّ، حبّ وهمس وغزل وحديث عن المستقبل، وحلم بحياة قوامها الوئام والسّعادة، حياة يعكس صفاءها لباس الفتاة: قميص أبيض بياض نفوس العشّاق الطّاهرة البريئة، وتنّورة (jupe ) حمراء حمرة المحبّة الّتي تفيض بها قلوب المتيّمين. عاش المحبّان لحظات لا تُنسى وزّعا خلالها وقتهما بين الجلوس في الحديقة والجولان في ساحات المدينة وأنهجها، وأرادا أن يتوّجا هذا الحبّ بالزّواج، ولعلّ لسان حالهما كان يقول: سيُثمر زواجنا نسلا صالحا وذريّة مفيدة ستنفع البلاد والعباد.
وقرّرا تذليل الصّعوبات لتحقيق هذا الحلم المنشود، وأوّل عقبة كأداء اعترضتهما ووجب تذليلها هي العمل. فلا زواج قبل الشّغل، ولا حياة بدون شغل يوفّر المال ويحفظ الكرامة ويبعث الطّمأنينة في النّفس. وبدأت رحلة البحث عن العمل فكانت رحلة شاقّة مضنية. وقد تفاعل الصّوت مع الصّورة لترجمة وقائعها وإبرازعذاباتها، وتكرّرت المشاهد المعبّرة عن هذا البحث الدّؤوب، فكلّما التقيا كتبا مطالب وأرسلاها إلى مكاتب الشّغل والشّركات وعرّفا بشهائدهما (الأستاذية في الإعلاميّة وأيّ أستاذيّة !)، وإن تصفّحا الصّحف ركّزا على الإعلانات المتعلّقة بمواطن الشّغل، وإذا ما جلسا في مقهى من المقاهي عكست ملامحُهُما وأفعالهما التّوتّر والقلق: قهوة تُشرَبُ وسجائرُ تُحرقُ ومنفضة تملأ بأعقاب السّجائر. وهكذا دواليك: طرق لكلّ الأبواب واستعمال لكلّ الوسطاء، وإصرار على توفير الشّغل وتشبّث بالأمل لكن أضحى ذلك البحث لهثا وراء سراب خلّب.
وتُعلمنا الرّاوية أنّ اليأس بدأ ينتابهما وأخذ يتسلّل إلى نفسيهما تدريجيّا دون أن يفصحا عن ذلك وُيعلما بعضهما البعض. وهكذا بدأت علاقتهما تتأثّر بهذا الوضع وتُصاب بالفتور، وقرّرت البطلة عدم الرّدّ على المكالمات الّتي تتلقّاها. وقد كشف لنا أحد المشاهد تردّدها لمّا كان الهاتف يرنّ بجانب فراشها، وما إن أخذته حتّى وضعته بقوّة فكادت تكسّره بل إنّ الصّورة نقلت لنا مرّة أخرى وبالتّوازي مشهدين متباينين. فلمّا كان الشاب (سيف الدّين غديرة) في محلّ هاتف عمومي يخاطبها كانت جالسة على السّرير تستمع إلى رنّات الهاتف وتفرك يديها وقد بدت مضطربة مرتبكة ثمّ قرّرت، في آخر المطاف، عدم الردّ على هذه المكالمة.
ثمّ كانت بداية النّهاية والصّورة أصدق إنباء من الكلام. فقد جلسا في حديقة عموميّة فوق مقعد واحد صامتين كأنّ لسانيهما انعقدا ينظران في اتّجاهين مختلفين، فلا هوتملّى وجهها الصّبوح، ولا هي تفرّست في وسامته الجذّابة، وبقدر ما كانا قريبين كانا بعيدين، استرق كلاهما النّظر إلى الآخر في غفلة عنه وما إن التقت عيونهما الحزينة حتّى استدارت بسرعة. مشهد معبّر مؤثّرينبئ بقرب انفصام هذه العلاقة سيتدعّم في لحظة لاحقة بنزع البطلة القلادة الّتي زانت جيدها والإلقاء بها فوق الطّاولة، قلادة آية من آيات الحبّ ورمز من رموز الالتزام ومقدّمة لحدث أهم في حياتها. وهكذا تُتوّج هذه العلاقة بالفشل ويختفي الشابّ من حياة هذه الفتاة وتبدأ البطلة فصلا جديدا من حياتها. فقد ظلّت تجوب الشّوارع والأنهج المزدحمة بالمارّة وحيدة كئيبة تجرّ أذيال ا لخيبة. وهذه الأماكن الّتي مرّت بها والمسافات الّتي قطعتها جيئة وذهابا هي الآن شاهد على آمال توؤد وأحلام تُجهض وخيبات تتعاقب وانكسارات تتوالى. وبدت البطلة على"قلق كأنّ الرّيح تحتها" تضيق بها الأنهج ولا تسعها الأزقّة، هائمة على وجهها شاردة الذّهن شاخصة البصر، وجه شاحب فقد تورّده وقدّ ممشوق ثقُلت خطاه، لا شغل يملأ وقتها ولا حبيب يدغدغ مشاعرها ويرافقها في رحلة الحياة وأنّى لها ذلك وقد أضحى التّنائي بديلا من تدانيهما وناب عن طيب ا للّقاءات وحُلو المواعيد التّجافي والفراق بل إنّ الزّمن الّذي طالما أسعدها أنسا بقرب حبيبها قد عاد يُحزنها مثنى وثلاث ورباع.
ويُختمُ الشّريط بمشهد عميق الدّلالة. فقد وقفت البطلة في مفترق الطّرق حائرة لا تدري أيّ وجهة تتّخذ، فالخيبة تلفّها واليأس يطوّقها والحبيب هجرها والبطالة أمامها والفراغ وراءها. وهكذا أصبحت حياتها دورانا لا ينتهي وشجا يبعث شجا وفراغا يُسلِمها إلى فراغ.

خاتــــــــــمة:

هكذا نجح المخرج ناجح شواري في تشخيص وضع مأسوي يعيشه شباب تونس اليوم بطريقة فنية تعتمد التّلميح وتتجنّب التّصريح، تشير بطرف خفيّ إلى المسؤول عن هذا الوضع دون أن تسمّيه وتؤكّد أنّ هذا الشّباب اُبتلي بزمن فظّ يحرمه من الزّواج ويحكم عليه بالعقم، ويدفعه إلى الموت البطيء ويهدّد المجتمع بالانقراض والفناء، ومن ثَمّ يُدين الشّريط هذا الزّمن اللّعين الّذي لا يقدّر علما مستحدثا حارت البريّة فيه وفكّ مغالق المجهول، ولا يُجلّ علماء قرّبوا المسافات واختزلوا الأزمنة وقلبوا المعطيات، ولا يُسعد شبابا جمع بين طرفي الجمال والعلم وطمح إلى رفعة شأنه وطمع في هناء عيشه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع