الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامح من الأزمة الروسية -الأوكرانية الراهنة : بذور و مقدمات

محمد عبد الشفيع عيسى

2022 / 7 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


الأزمة الروسية – الأوكرانية محصلة فى حقيقتها للتفاعل بين أمور عدة يتقدمها إصرار عنيد من المجموعة الغربية بالقيادة الأمريكية على إعادة نفعيل سياسة " الأحلاف العسكرية"، ممثلة فى محاولة إعادة الروح للكيان فاقد الحياة تقريبًا خلال العقد الأخير وخاصة فترة ولاية دونالد ترامب للإدارة الأمريكية-الجمهورية (2017-2021). وكان أن نهض "الجناح المتعسكر" من إدارة بايدين – (الديموقراطية)، لينفخ الروح فى " منظمة اتفاقية شمال الأطنطى " – ناتو.
و لما كانت وظيفة أى حلف عسكرى، مواجهة وردع عدو مفترض، ولو باستخدام القوة المسلحة، إن لزم الأمر، فلذلك كان من الطبيعى أن يسعى مشروع الحلف المستعاد إلى بعث روحية العداء المستفحل فى المواجهة مع عدو " قديم-جديد "؛ ليس باختلاقه، فهو قائم بالفعل منذ نهايات الحرب العالمية الثانية (1945-.. )، ولكن بإعادة توظيفه بعد أن انتهى مبرر وجوده بسقوط الحلف (الآخر-العدو) الذى كان ، في مطلع التسعينات، وهو " حلف وارسو" السوفيتى المنهار.
و كانت الفرصة التى جرى اهتبالها غربيًا لبعث الروح فى الجسد، هى استخدام دولة "أوكرانيا" - إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق – "مخلب قط" ، إن صح التعبير، لمحاولة تقويض الكيان الروسى المُصغر، الوارث للكيان السوفيتي الكبير. فإن لم يمكن تقويضه فإضعافه بما لا يسمح له أن يكون ندّاً أو أن يصير عدوًأ قويًا ".
ولما كان للغرب تجربة ناجحة نجاحًا مبهرًا فى إسقاط الدولة السوفيتية العتيدة في مطلع التسعينات من القرن المنصرم، فلذلك كان النموذج ماثلاً أمام قيادة روسية مستوعبة الدرس القديم، ممثلة في فلاديمير بوتين، ساعية إلى عدم السماح بتكرار ما جرى فى ظرف جديد.
آنئذ فكر، و سعى، الطرف الأمريكى إلى محاولة إدخال "مخلب القط "الأوكرانى عضوًا فى التحالف العسكرى، ومن ثم اتخاذه مدخلاً لبعث سياسة الأحلاف من جديد، بنفخ الروح فى حلف ليس أمامه حلف آخر أو أحلاف ، ولكنه وحيد، فى مواجهة عدو بل وأعداء عديدين .
وسرعان ما فهم الطرف الروسى "اللعبة" فحاول مقاومتها سياسيًا ودعائيًا، وقدم جملة مطالب أمنية للطرف الآخر الذى رفضها كما هو متوقع، ليضع القيادة الروسية فى موقع "الدفاع الهجومى" الذى لا خيار أمامه سواه، عن طريق استخدام القوة لمنع الاحتمال الطارىء، فكان تطبيقًا للقول السائر (لابد مما ليس منه بدً). ووقعت الواقعة فيما أسماه الطرف الروسى بالعملية العسكرية الخاصة، تلك النى بدات بالغة الطموح وانتهى بها الأمر، فى ظل تعثر عسكرى روسى نسبى، إلى محاولة الإطباق على إقليم بعينه كمدخل لتفتيت الكيان الأوكراني، (إقليم "دونباس") .
هكذا وقعت "ضربة مزدوجة" ذات أثر بالغ فى مسار النظام (أو "اللانظام") الدولى : فمن ناحية، أتاح ذلك التطور للقيادة الروسية، من جديد، ادّعاء أن ما تسميه عمليتها العسكرية تقوم على تطبيق -غير مبرَّر تماما في الحقيقة- لحجة "الأمن القومي". ومن ناحية أخرى، إن ذلك اتاح للغرب إمكانية العمل على استعادة سيرة (الأحلاف العسكرية) أو (التكتلات المسلحة) في العصر الحديث للقارة الأوربية و ما حولها، بعد غياب زهاء قرن ونصف قرن، أى منذ "الحرب السبعينية" تقريبا، و التى انتصرت فيها (ألمانيا أو –بالدقّة-"بروسيا بسمارك")على (فرنسا نابليون الثالث) ( 19 يوليو 1870-10 مايو 1871) ، حين أعلنت الأولى قيام ألمانيا الموحدة من قصر فرساى فى قلب باريس. ومذْ ذاك انبعثت ألمانيا قوة اقتصادية وعسكرية قلبت، إلى حدّ بعيد، الموازين الدولية –الأوربية السائدة لعدة قرون، لمّا كانت بريطانيا وفرنسا "بيضتىْ الميزان " دون منازع. واستطاعت الدبابات والمدفعية الألمانية أن تعيد تشكيل صورة المنظومة الدولية المقسمة أخيرا، و قبيل الحرب العالمية الأولى، بين قطبين : مجموعة دول "الوفاق"-بريطانيا وفرنسا و روسيا ، و مجموعة دول "التحالف الثلاثي"- تركيا و ألمانيا والنمسا. ذلك حتى اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى في 28 يوليو من عام 1914 على إثر مقتل وليّ عهد النمسا فى مدينة سراييفو، مستمرة حتى 11 نوفمبر 1918.
انتهت الحرب رسميا عام 1919 بعقد اتفاقات فرساى برعاية معنوية فحسب من الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون، ومن ضمنها معاهدة الصلح (المُذِلّة) مع ألمانيا، لتعقبها فترة قلقة أُسميت فيما بعد " فترة بين الحربين" لمدة عشرين عامًا (1919-39) و منتهية باندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية على إثر قيام (هتلر-ألمانيا) بغزو بولندا. ظلت الحرب سجالا عالميًا ستة أعوام بين المعسكرْين : (المحور) :الألمانى - الإيطالى – اليابانى؛ و (الحلفاء): ممثلين أخيرًا فى الغرب الأوربي -الأمريكي والسوفييت. وع لى وقع "الإذلال الألمانى" مرتين، عقب كلّ من الحرب العالمية الأولى و الحرب العالمية الثانية، أقيم نظام دولي جديد حقا، بعد 1945، قيل له (نظام ما بعد الحرب)، لم يسبق له نظير في العصور الحديثة.
كانت القاعدة التشريعية –التنظيمية للنظام الدولي المنبجِس ميثاق و منظمة "الأمم المتحدة" لعام 1945، وقاعدته السياسية-العسكرية ، تعادل تقريبي لقوة الردع العسكرية والسياسية بين القطبين البازغين في طرفين متقابليْن شرقًا وغربًا: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. و إن ظل التفوق الاقتصادي النسبي يميل بشدة تجاه القطب الأمريكي ذي ثلاث شعب: الولايات المتحدة و أوربا الغربية و اليابان، كتجسيد لما يسمّى "المركز الرأسمالي الثلاثي".
و ظل هذا هو الحال حتى سقوط القطب الثانى السوفيتى عام 1991 بعد سجال طويل، وليقوم من بعده نظام مؤسس على هيمنة "القوة العظمى الوحيدة" -الولايات المتحدة- منذ ذلك العام وحتى الآن .
و لقد ورثت "القوة العظمى الوحيدة" منظومة دولية كاملة من الحقبة التي سبقتها (جاهزة تقريبا)، حاولت تكييفها (على مقاسها)، باستخدام القوة العسكرية (أعمال الحرب والتدخل العسكرى والغزو التى بلغت ذروتها فى الغزو المزدوج للعراق وأفغانستان 2001،2003. و كذا بالهيمنة الاقتصادية على قاعدة من التفوق التكنولوجى المقارَن إزاء كلّ من أوروبا واليابان، وما يسمى "الإمبريالية المالية –النقدية" وفق نسيج متجانس ذى قماش متين مكون من هيمنة الدولار، والنظام المصرفى الأمريكى ونظام التحويل المالي –"سويفت"، و من التعَمْلق النسبي الساحق للشركات عابرة الجنسيات ذات المنشأ الأمريكى بالذات، وفي عقر دار أوربا الغربية بالذات.
وعلى الطريق الطويل لتكوّن و تعمْلق ""القوة العظمى الوحيدة" خلال مرحلة (1990- ..) ومن قبلها مرحلة القطبية الثانية (1945-1990) ، استطاعت تلك الدولة الإطاحة بالاتحاد السوفيتى ومعها و قبلها، وبُعَيْدها مباشرة، أطاحت كذلك بالتفوق التكنولوجى اليابانى ( Japan as No.1) خلال التسعينيات. بل أطاحت الولايات المتحدة أخيرا بالمشروع الأوروبي التوحيدى بعد اكتماله عام 2000 باعتماد "العملة الموحدة" (يورو) و بالسوق الواحدة أيضا Single market. وخلال عقد قلِق، وقعت الأزمة المالية العالمية 2008-2009 لتطيح بدورها بالاتحاد النقدي- المالى البازغ (منطقة اليورو) (أنظر جوزيف ستجلتز، اليورو، كيف تهدّد العملة الموحدة مستقبل أوروبا، ترجمة أ.مجدي صبحي، سلسلة "عالم المعرفة"، جزءان، سبتمبر و أكتوبر 2019) . و من بعد ذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية –"القوة العظمى الوحيدة Lonely Super Power قد تربعت على عرش الاقتصاد والعسكرية و الديبلوماسية العالمية دون منازع طوال عقد و نيّف حتى الآن، عدا منازعة اقتصادية محقة من جانب الصين، و ندّية نووية، استراتيجية وخاصة تكتيكية، من جانب روسيا.
هكذا إذن سقط الغرماء الثلاثة واحدا تلو الآخر عبر حقبة لا تتجاوز ثلاثين عامًا (الاتحاد السوفيتى- اليابان – أوروبا الموحدة) لتجىء الأزمة الروسية – الأوكرانية الراهنة ربما علامة على انبثاق حقبة دولية جديدة بدورها، ربما حقبة انفراط عقد المنظومة الدولية كلها، أو انبثاق قاعدة سياسية – اقتصادية – عسكرية جديدة لا تحكمها قوة عظمى وحيدة، و إنما قوة أو قوى معلومة أو غير معلومة .
ومن عجب في ضوء كل ما سبق، أن يتنادى الأوربيون يقودهم الأمريكيون، بمشروع ضم أوكرانيا– "مخلب القط" –إلى الاتحاد الأوروبي، الذى لم يعد قائمًا فى الحقيقة، إلا حطامًا..!، بل و "منطقة اليورو" أيضا - فعلام الجلَبَة ، ولم تلك الضوضاء إذن ؟ و أليس في الإعلام الدولي و عالّم الديبلوماسية العالمية رجل رشيد..؟
هذا، وما يزال في الجعبة حديث سوف نسميه "الدروس غير المستفادة من الأزمة الروسية-الأوكرانية الراهنة" على صعيديْن: التكنولوجيا مقابل الأنْسَنة، والانتشار النووي مقابل الحرب الكونية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟