الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتجهم الكردي

بديع الالوسي

2022 / 7 / 2
الادب والفن


(شيروان) هو الأبن الأصغر للسيد الجليلي ، اما عن اخاه الأكبر فقد مات في حرب العصابات ، كذلك الاخ الآخر فقد تحول إلى مهرب وانقلبت به الشاحنة ومات في الحال . بعد ذلك بسنة ، هرب شيروان من البيت حيث حامت حوله الشبهات بانتهاكه شرف احدى العذراوات الفاتنات . وقيل ايضا ان مختار تلك القرية قد اقسم من انه سيتتبع اثره ، وحيثما سيجده سيطلق عليه النار .
ربما لذلك اختفى شيروان وظلت تلك الشائعات تطارده ، حتى صارت مع الوقت هاجسا ً ً لا يمكن الافلات منه ، تاركتا ً على ملامحه التجهم .
بعد النزوح الهائل للكرد وصل الى مخيم للاجئين في تركيا، بعدها حالفه الحظ ان يصل إلى فرنسا آملا ً ان يعيش حياة جديدة ، وها هو الان لا يستطيع ان يفتح عينيه بسهولة ، متناسيا هزائمه ، منتظرا زوجته ليقول لها : ان فرساً ابيضا ً يحوم حولي ..

************************

لكم ان تتخيلوا نوع الحياة التي عاشها في باريس ، لكن ما حدث له اليوم خارج عن ارادته ..
ليل تموزي رائع كانت اضواء المدينة لا تقل روعة ، بعد ان تجاوزت الساعة الحادية عشر ليلا ً ، وحين ترك المطعم الذي يعمل فيه كمنظف للصحون وخدمة للزبائن . خرج الى الشارع غير متوقع جسامة المفاجآت التي ستحيق به . كان متجهما ً كعادته بسبب هذا الصداع الذي جعل من قواه تضطرب منذ اكثر من شهر . وبخطوات مترنحة مضى نحو مكان الباص ، وفكر و فكر ولم يستطع الإجابة على ذلك التساؤل : الى متى أحتمل كل هذه المعاناة ... ؟

في نفس الوقت ، كانت زوجته تستمع الى موسيقى كردية ، فهي الاخرى تعاني من الحنين إلى الوطن . لكنها كانت رائقة المزاج في تلك الليلة ، واحتاجت بعض الوقت من التفكير كي تقول هذه الجملة : انت زوج صالح يا شيروان لكنك ساذج ايضا ً .
ومدت يدها الى علبه الشكولاتة ، وكانت مندهشة واستيقظت حواسها وهي ترى ما يعرضه التلفاز من لقطات مروعه عن مصرع ثور هائج ، غير مصدقة ان كل ذلك يحدث في بلد متحضر .
في ذلك الوقت ، كان اطفالهما الأربعة ينعمون بأحلام لا تعكرها فداحة ما سيطالهم من حيف .

لم ينسَ شيروان ما قاله له الطبيب النفسي : أنتبه ، ان كل حركة تحدث موجة او فعل او حدث او فجيعة . وبينما هو يحاول عبور الشارع للحاق باخر باص ، وما ان وضع قدمه اليمنى على حافة الاسفلت حتى استدار ببصره يسارا ً …

غلب النعاس على زوجته ربما لذلك تثاءبت وهي تقول : لماذا كل هذا التأخير ؟ . وبما انها لا تحب الانتظار ، فقد حاولت التواصل معه عبر الهاتف المحمول ..غير انه لم يرد كما في كل مرة . بدأت تساورها الظنون ، وقررت ان تؤنبه على فعلته الشنيعة .

اما ما حدث للمتجهم فقد كان اعظم ، ولم يتوقع ان ضوء السيارة الساطع يفقده توازنه ، وبدل ان يجلس على الرصيف ، تقدم وهو يترنح ولم يعد يقوى سوى على الصراخ .

لم يصل شيروان الى بيته ، وبالرغم من الازعاج الذي طال زوجته ،فقد اغلقت التلفاز وظلت تنظر من الشباك مصغية الى الصمت وهي تردد : يا الهي ، كيف لا يعرف ان الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل ؟

المحظر الخاص بتلك الواقعة دون َ فيه التالي : على إثر دهس بسيارة سوداء ، تعرض المدعو شيروان الجليلي الى صدمة ادت الى احداث شرخ في جمجمة الرأس …

وهي في تلك اللحظات المجبولة بالقلق طالها الضجر ولم يهدء لها بال ، لكنها صعقت في الساعة الرابعة فجرا ً ، حين ابلغها احد رجال البوليس : ان زوجك في حالة تتطلب حضورك فورا ً.... .
يا له من خبر .. قالت الزوجة .
بدأت ترتجف ، الخوف جعلها ضحية صراع لم تمر به من قبل ، لكنها ايقظت طفلهما البكر ذو الثلاث عشر ربيعا ً ، وبكلمات مضطربة حاولت ان تفهمه : ان ابيك في المستشفى ، ومن الضروري ان اسرع لمعرفة ما حل بنا من مصيبة .
تعثرت عشرات المرات بخطواتها الى ان وصلت المكان المعني ، شعور بالقرف والوهن جعلها تردد : يا الهي ، اطرد عنا ساعة النحس .
في المستشفى اجريت له الاسعافات الضرورية ، وما ان استيقظ من غيبوبته ، حتى اعترته نوبة من البكاء دفعته ان يسأل الممرضة : لم أمت أذن ؟
حين وصلت الزوجة لم تحملها قدماها ، وصارت تتوسل لرؤيته ، اقتنع الطبيب وتعاطف معها ، لكنه أمر الممرضة : من حقها رؤيته عشر دقائق لا غير .
لا تعرف لماذا طلبوا منها ارتداء ذلك الثوب ابيض و الحذاء الطبي ، و قادوها عبر تلك المتاهة التي انتهت باب موصد ، ما ان ولجت الصالة حتى تفاجأت غير مصدقة ما ترى .
تركتها الممرضة بعد ان لفظت تلك العبارة المقتضبة : شجاعة طيبة، .
ومع ان الوقت كان يحاصرها ، لكنها مع ذلك ، وفي تلك اللحظات من الشقاء ، ظلت واقفه فاغرة الفم وهي ترى شيروان مغمض العينين كالقتيل .
لا تدري ماذا تفعل ، حتى ان رغبتها الى البكاء قد تعطلت ، لكنها تجرأت وسألته بصوت خفيض : كيف تعرضت لهذا الحادث ال ... ؟
عادت الممرضة لتقول لها : اجلسي فهو بحاجة للحديث معك .
حينها فتح شيروان عينيه وقال جملته المثيرة للاستغراب : في الغيبوبة رأيت فرساً... .
جلست في ارتباك ، وبيدها المرتعشة قبضت على رسغه ، عسى ان تطرد غيمة التجهم المرسومة على وجهه ، اوعله يتشبث على نحو افضل بالحياة الجميلة . قالت له مشجعة وكأنها تريد ان تذكرة بالأطفال الذين هم الان بانتظاره ، فليس من الإنسانية ان تجهض احلامهم . .
جهاز تخطيط القلب كان يحدث صوتا رتيبا ً، كما ان الأرق كاد يفوت عليهما فرصة هذا اللقاء الضروري ، وهي تنظر الى راسه المعصوب بشاش ابيض ملوث بالدم تذكرت بداية حكايتها في الهجرة وكيف ساقها الوهم كي تكون اسيرة البيت والعيش تحث ثقل خواء الغربة . ربما كل ذلك امتزج مع رائحة الخطر . نعم ، جف لعابها كأنها لم تستفق بعد من احساسات الصدمة ، كانت حذرة وتحاول نسيان كل الخلافات التي بعثرت اجمل ايام حياتهما .
لكن ما ان سمعت شيروان يسألها يصوت واه ٍ: هل لديك ما تودين ان تقوليه لي ؟ .
حتى شعرت بموجة من الطاقة الايجابية لتستجمع كل قوتها وتقول له : ستستعيد عافيتك ، وسنحاول ان نكون زوجين رائعين .
كانت تراه غارقا ً حد الغياب في تجهم كريه ، لكن شفتاه تحركتا بهمس بالكاد يسمع : رائعين ! هذا يعني اننا لم نكن كذلك ؟.
بعد 15 سنه من العيش المشترك ، ظن ان الوقت قد حان كي يلتقط انفاسه وفاجأها بهذا السؤال المؤجل ، كما انه ما عاد يهتم لزعلها ، كمن صار وجها ً لوجه امام غضب لا يمكن تجاهله و ما عاد مجالا ً لكبته.

ما زال الاطفال ما زالوا يغطون في نومهم ، لكن وجل الطفل البكر على مصير والده جعله يبكي من العذاب ، وصار البيت موحشا بالنسبة له ، حتى ان كابوسا ً افزعه اثناء تلك الاغفاءة ، التي تمخضت عن رؤيته لرجل مشنوق تحت وابل من المطر .

في هذا الصباح الباكر ، داهم الجزع قلب الزوجة ، وكان القدر يتطلع اليها وهو يحاول مناكدتها ، كل ذلك جعل قلبها يفيض بسؤال يشبه نقيق الضفادع : هل تحبني بصدق ؟
فجأة ً نظر الى عينيها مباشرة ، لا يعرف لماذا تخيلها قبيحة بنظراتها التي ذكرته بخداع الثعالب ، هز راسه قليلاً ، وشعر ان هذا التساؤل محض هراء .
وحسم امره لمواجهة الموقف وفضل عدم الخنوع هذه المرة .
ـ انا لا احب من يلوث شرفي .
ـ ماذا ؟
ـ هل تنكرين ذلك ؟
وبدل ان تجهش بالبكاء ، لم تنبس باي كلمة ، لكنها طأطأت راسها ، وشعرت كإن قلبها يرمى في جُب عميق . اما هو فقد سحب الشرشف مغطيا راسه ، متجاوزا كل الاحتمالات ، متنعما ًبارتياح غريب .

بعد دقيقتين دخلت الممرضة وبصوت حاسم ابلغتها : انتهت الزيارة مدام .
اما الزوجة فقد ظلت في حيرة من امرها ، اردت ان تقول له كلمة وداع ، لكنها خرجت كمن اطلق عليها عيارا ً ناريا ً ،كانت هذه الزيارة درسا ً قاسيا ً جعلها مكفهرة الوجه ، تمنت ان تعود وان تسأله الصفح ، لكن طوال طريق عودتها ظلت تردد : آه ، لا اكاد اصدق ما يجري ، كيف سمح لنفسه ان يتفوه بذلك ؟.

وما ان دخلت بيتهم حتى استنشقت شهيقا ً عميقا ً واحتضنت اطفالها .. لكن الابن البكر ظل ينظر لها بتجهم لان اباه لم يورثه غير ذلك .....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد