الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-عمار علي حسن- وهو ينظر من -ألف نافذة لغرفة واحدة-

طارق سعيد أحمد

2022 / 7 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


مدهش، أن يجذبك عنوان كتاب، خصوصا وإن كنت تشبهني، محاط بسلسلة جبال صغيرة من الكتب تنمو صعودا وتمتد بالتوازي مع جدران غرفتك الصغيرة.
ناهيك أنه كتاب للأديب والمفكر السياسي "عمار علي حسن" حيث الوعود بكتابه راقية مصفاة وقانصة لما ترمي له في سياق لغوي يتجدد مع كل عمل للكاتب.
الآن، وسويا، نثني غلاف الكتاب، أو بالأحرى نستعد للإقلاع على نفس الطائرة التي يجلس على أحد كراسيها الملاصقة للنافذة "عمار" لنبدأ رحلة تجوب العالم شرقا وغربا، ابتدأها الكاتب قبل أن تنتهي إلى كلمات وفقرات تنضح بتجارب أسفار داخل كتاب "أدب رحلات" معنون بـ "ألف نافذة لغرفة واحدة" جذبني في دهشة.

طبيعة وطبائع أو العالم عاريا
هو العنوان الأول في كتاب "ألف نافذة لغرفة واحدة"، أزاح "عمار" به زخرف العالم وأعاده إلى عناصره الأولى "الطبيعة في مواجهة الطبائع –الإنسانية- أو الذوبان فيها" كآلية تفاعل بينهما العالم/ الإنسان، باستدعاء العالم قبل أن يرتدي الزمان أثواب العصور أو عاريا كما كان.
بهذه الحيلة تخلص "عمار علي حسن" من العادات والتقاليد الثقافية التي اكتسبها الإنسان، ومن ثم جردها إلى حدود الطبائع الإنسانية لضرورة البحث عن المشتركات الإنسانية بين البشر وخصوصا المسافرين.
"في المطارات، لا سيما في الليالي الباردة أو الصباحات الغائمة، بوسعك أن تدرك من وجوه الذين يجلسون في انتظار إقلاع طائرة، أو يمضون إليها مسرعين، من فيهم يسعى وراء معرفة، وذلك الذي يهرب من واقع مرير إلى آخر ربما يكون أشد مرارة، دون أن يعلم، وقد تدرك أيضا أولئك الذين يمشون في ثقة نحو أعمال تنتظرهم في بلاد هناك، وغيرهم ممن يسافرون إلى فرص غير سانحة، لكن الأمل يحدوهم في اقتناصها".
يبدأ من هنا، عند اللحظة الفارقة بين عالمين لإنسان واحد، عالمه الأول، يدفعه دفع إلى الآخر، هنا في رقعة المطار المسحورة، وتبدأ عملية استدعاء العالم القديم بحرق أثواب عصوره وقت ذوبان الدوافع لكل مسافر من هنا إلى هناك حيث العالم الآخر الجديد... والغامض أيضا.
يبدأ من هنا "عمار" رحلته بالأحرى أسفاره التي فاز بحكيها في كتابه -محل القراءة – الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار السويدي للنشر والتوزيع والفائز بجائزة ابن بطوط لأدب الرحلة.. فرع الرحلة المعاصرة، وبالتالي حمل لقب "سندباد".

نافذة باريس أو مدينة الجن والملائكة
باريس كانت الرحلة المنتظرة لإطلاق شرارة الإقلاع، والأولى في قائمة الأسفار، منذ أن ترسبت حالة "إبراهيم عبد الله"- أو بالأحرى أداء الفنان نور الشريف التمثيلي- بالكامل داخل كيان –عمار الطفل- حتى التشبع أو التطابق بعدما حفظ تتر مقدمة مسلسل "أديب" وقال فيه الشاعر الكبير "عم" سيد حجاب:
"لا مرسى، لا عنوان
ولا قلة للعطشان
وتهت بين السماء والأرض يا إنسان
فيه حاجة جوه عروقي مخنوقة
لها طعم جرح الملح...". إلى آخره، ولحنها الموسيقار عمار الشريعي، وغناها بصوته الجليل المطرب محمد الحلو.
وحين استقبله مطار "شارل ديجول" –رقعة المطار المسحورة في الجانب الآخر- كان يحمل داخله –أي عمار- باريس طه حسين التي رسمها ونثر فيها شخوصه ليحيا عالمها بطل روايته "أديب" والذي قال عن الشخصية الحقيقية للرواية "إبراهيم عبد الله" بأنه كان الأنبغ بين طلاب البعثة كلهم، وأنه لو عاش لصار كاتبا وشاعرا عظيما.
لم يفقد الكاتب توازنه إثر صدمة حضارية غالبا ما تصدم أكثر المسافرين إلى أوروبا، بل كان سفره –من ريف المنيا- إلى القاهرة الأقرب لهذا المفهوم وقت دراسة الكاتب في شبابه بالجامعة. يذكر "عمار" أن القاهرة كانت تداعب خيالات باريس في رأسه، حيث التماثل المعماري بينها وبين باريس، وخصوصا منطقة وسط البلد التي استقر فيها الكاتب فيما بعد وإلى الآن، ذاكرا أيضا مقولات لكتاب كانوا يكتبون في زمن طه حسين أنهم تمنوا أن تصبح شوارع باريس نظيفة مثل شوارع القاهرة!.
لكن لم يبحث "عمار" في شوارع باريس عن جمال الطبيعة الخلابة والبنايات الشاهقة وروعة النساء أو تذوقهم، بقدر البحث في خرائط وجوه "الناس" ومحاولات الإجابة عن الأسئلة الكبرى الدائرة في الرأس. مثل ما الفرق بين الحب هنا وآخر هناك؟

رجع بعيد أو نافذة على إسطنبول
"كل بلاد الناس سواء لمن يبحث عن الجمال في النفوس والمناظر، لكنها لا تكون كذلك لمن ينبش في ذاكرته، فبعضها مستقر كأنه جبل، وبعضها عابر كأنه سحاب، في المقام تجيد وطنك وإن امتدت أرضه، وقسي أهله، وفي الترحال تكون بلاد الناس التي مهما تفهمت فيها، فلا تغنيك عن التراب الذي نبتت فبه جذورك".
لم تبدأ رحلة إسطنبول حين اتخذ "عمار" مكانه في طائرة الخطوط الجوية التركية إلى مطار مصطفى كمال أتاتورك، إنما بدأها مع القارئ قبل 400 عام من الآن، تحديدا في عام 1517، حين فتحوا العثمانيين مصر، بعد عام واحد من هزيمتهم السلطان الغوري في موقعة مرج دابق، وقتله تحت سنابك الخيل، ثم شنقهم خليفته طومانباي، كما علم من المناهج الدراسية وقتذاك في نهاية المرحلة الابتدائية.
"لكن الكتب الدراسية لم تحدثنا عن خاير بك، المملوكي الذي صار عينا لبني عثمان حتى سماه المصريون "خاين بك". ثم يسرد الكاتب المحذوف من التاريخ أو المسكوت عنه، حتى يصل إلى حقل جده الضيق وهو يجلس منصتا إلى غناء خالته الصغرى وهي تشدو بغنوة قد استقرت في الموروث الشعبي المصري، وكان يرددها معها دون أن يعي معناها كليهما. وكانت –أي الغفوة - عما أفسده الاحتلال العثماني حينما كانوا يجمعون كل الصناع المهرة ويأخذونهم أولا بأول ليسهموا في بناء بلادهم هناك في الأستانة.
كان هدف الرحلة هذه المرة مناظرة وصفها الكاتب بأنها غريبة ولم تخطر على باله، أقامتها جامعة سقاريا بين ممثلين للتيار الديني وآخرين للتيار المدني في مصر عقب ثورة 25 يناير –المجيدة- واحتدام التنافس بين الطرفين.
لكن، جل ما كانت تبحث عنه عين الكاتب النقوش والرسوم والمشغولات التي تركها الصناع المصريون في البنايات، والطائرة تهبط على مهل وأوشك الاحتكاك بالأرض، ينقبض التاريخ وينبسط في ذهن الكاتب وهو يسرد تفاصيل رحلته إلى إسطنبول. وأيضا طفولته كانت تتلاشى لتعود وتعود لتتلاشى بين الحين والآخر بوصفها بوصلة للترحال وصاحبة سلطة ما في اختيار الرحلة القادمة.

أهلا بك في بلاد الشروق الباهر
في هذا البلد السابح على فضيلة السلام الاجتماعي، يقيم الكاتب مقارنة سريعة بين إندونسيا ومصر، في الستين سنة الأخيرة" سوكارنو يماثل عبد الناصر، حيث الاستقلال والبناء والعدل الاجتماعي والأحلام العيضة والاستبداد السافر والمقنع، وسوهارتويضاهي مبارك حيث التبعية والعجز والفساد والطغيان والترهل، الأول قامت ضده تظاهرات تطالب بالإصلاح في عام 1998 فأسقطته وبقي نظامه، لكن إصرار الناس على تحصيل الأفضل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول الثمار ثورة كاملة، لا سيما بعد الخروج التدريجي للجيش من الحكم، أما الثاني فقامت ضده ثورة عظيمة عام 2011 فسقط أيضا وبقي نظامه يلتف عليها ويسعى في إجهاضها، لكن الحكم على النتائج النهائية والكلية ليس الآن بأي حال من الأحوال ".
كان في جاكارتا المؤتمر"الإسلام. الدولة والسياسات"، المدهش أن"عمار" كسر عادته الأدبية، هنا في أندونيسيا وهمش المكان تماما رغم إنه كاتب "مكاني" بامتياز إن جاز الوصف، وصب الرحلة في مسافة تحدها القضايا المشتركة بينها وبين بلده –مصر- ومن الجانب الآخر تقف حدودها عند مؤتمر، كان سبب في سرد حدوتة كان بطلها منذ البداية شخصية المسلم السوي غير الملوث بأفكار محمولة على الدماء، معللا ذلك –الكاتب- بدخول الإسلام أندونيسيا عن طريق التجارة وتبادل الثقافات، وليس فتح بالسيف أمثال أغلب الدول الإسلامية.

ترى من نافذة "ضباب وألفة "
ورأس وليام والاس وهي تتأرجح على جسر لندن والغربان الجائعة تغرس مناقيرها في العنق المذبوح لتلتقط بعض رزقها من لحم رجل كان يريد أن ينعم بنو وطنه بالحرية، هذا الرجل الأسكتلندي الذي جمع حوله القرويين والرعاة والهواء وحقق بهم انتصارات على جيش ملك الإنجليز في القرن الرابع عشر.
يتذكر الكاتب تاريخ إنجلترا الاستعماري الذي طال الكثير من البلاد ضمن خطتها في تكوين إمبراطورية لا تغيب الشمس عنها، لينتهي شروده بابتسامة وقت دخول طائرة ستنقله خلال ساعات إلى قلب إنجلترا.
عابرا بتاريخها الأسود في مصر بجلاء أراضيها من الجنود والسلاح تاركين بذور التطرف تنمو في أرض طيبة، وهناك على أراضيها لا بد من أن تتراءى أمامك وجوه بعض المنتمين إلى" السلفية الجهادية "على اختلاف تنظيماتها وبعض القطبيين.
كانت رحلة إنجلترا تلك الأكثر قربا وعمقا من "عمار" الطفل/ الباحث في الشؤون الإسلام السياسي/ والأديب/ المناضل، وعجنت بأبيات شعر كما عجن الكاتب أسفاره السابقة، وما إن انتهيت منها وارتحلت مع الكاتب في الرحلة القادمة لكن بقي في حلقي مرارة، لم يمنعها ذكر الكاتب لمسرحيات شكسبير وجورج برنارد شو وتوماس هوبز، وغيرهم.


ماكينات لها أرواح
قالت له عمته: انتظرناه بالشوم .
والحديث كان عن"هتلر"، توقعت هذه الرحلة وأنا أقرأ آخر سطور في رحلة إنجلترا، حيث التسلسل الدرامي لتاريخ مصر الاستعماري لا مفر منه، لكن لا بأس، وعد عمار القارئ بأنها رحلة سعيدة، والهبوط سيكون في مطار" فرانكفورت ".
تتزامن هذه الرحلة مع وصول حكم الإخوان إلى حكم مصر، وكانت المناقشات تدور حول قضية" الدين ومدنية الدولة "، كان نصيب "السندباد" قلاية راهب قديم داخل كنيسة استضافت الفوج كله، بها سرير كأنه خرج من جدارها، كان ينام عليه الراهب منذ قرون، وبجانبه رف من الكتب باللغة الألمانية وواحد فقط باللغة الإنجليزية، راح يقرأ منه" السندباد المصري عمار علي حسن "على مهل خلال الأيام التي قضاها هناك، في عالم الزاهد الثائر الطيب العابر للأديان غاندي.


تنتصف هنا الأسفار، ولكن ما زال السندباد في ترحال بين التاريخ والواقع والطفولة والأدب واكتشاف العالم، وهذا لا يتطلب أن تغادر مكانك بجسدك، فتجارب الكاتب هنا، وإن كانت في سياق أسفار شرقا وغربا.
لكن، الرسالة المطمورة للقارئ ليست في أسفاره، والتي حكى عنها "السندباد"، بينما في عنوان الكتاب، الذي يبشر بأسفار إلى كل مكان في العالم وحضور وحلول في أي عصر من العصور حينما –فقط- تطل من "ألف نافذة لغرفة واحدة" بداخلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع