الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية ( تسلسل 2)

بهار رضا
(Bahar Reza)

2022 / 7 / 7
الادب والفن


الأنا التي استخدمها في كتابة هذا النص تناسبني، هي لا تعنيني شخصياً بالضرورة، ولكنها وبكل تأكيد تعني كل امرأة تسكنني ، كما إن شخصيات هذه الرواية هي من وحي خيالي، وإن وجدت في الواقع فبمحض الصدفة لاغير.
أهدي هذه السطور إلى كل امرئ حر...
القصص تطهرنا.
أرسطو

بعد أن قطعنا أنا وسيارتي الصغيرة مسافة ليست بقصيرة نصارع فيها الريح والمطر الغزير، وصلت إلى عيادة طبيبة الأسنان اليس مورتنسن، لم يتسلل لي ذلك الشعورالذي عشته اليوم السابق ، احساسي اليوم شبيهاً بإحساس أليس وهي تدخل بلاد العجائب،إذ انتقلت بخطوة واحدة أشبه ما تكون بقفزة رشيقة، من الجو الماطر والطقس العاصف إلى عالم هادئ مشبع برائحة المطهرات.
كانت العيادة مصممة على شكل حرف التاء بالانجليزية، على جهة اليمين كانت غرفة الطبيبة حيث تتردد منها أصوات خافتة لماكنات العناية بالأسنان، وإلى اليسار كانت غرفة المطبخ والتي ظهرت منها مساعدة الطبيبة إثر جلبة صوت الجرس التي أحدثها غلقي للباب. كانت مساعدة الطبيبة امرأة جميلة ممتلئة القوام في بداية العقد الثالث من عمرها، حييتها معرفة بنفسي مترجمة مراجع الساعة الواحدة وقد جئت مبكرة فقط للتأكد من عنوان المبنى، وبأنني سأبحث عن مقهى في الجوار حتى يحين الموعد، إلا إن المساعدة قالت بأن المراجع المذكور قد جاء بالفعل هو مبكراً الآخر وبسبب الجو الماطر فمن الممكن أن يتأخر المراجع الذي يفترض بأن دوره يسبقه وهذا سيمكننا من الدخول عند الطبيبة قبل الموعد، ثم دعتني بصوت مخملي إلى المكوث في صالة الانتظار الصغيرة التي كانت مقابل باب المدخل وهي تشير إلى طاولة نصف دائرية في نهاية الصالة وضع عليها أقداحاً من الورق المضغوط وظروف قهوة سريعة التحضير وكاباشينو وشاي بنكهات متعددة.
"تفضلي، هنالك مشروبات ساخنة، من المؤكد بأنك في حاجة إليها الآن".. قالت مساعدة طبيب الأسنان.
لم أتردد في قبول الدعوة، شكرتها وأنا في غاية سعادتي بعدم عودتي إلى المدينة المقرفة، حيث سيكون حالي هناك كورقة من أوراق الخريف الصفراء في سمائها، اتجهت إلى الطاولة التي أشارت إليها مساعدة الطبيبة وجنبها ماكنة لتبريد وتسخين المياه حتى قبل أن أخلع معطفي الخريفي القصير، أخذت قدحاً من تلك الأقداح الورقية وفتحت ظرفاً من القهوة سريعة التحضير وأفرغت محتواه في القدح وملأته بالماء الساخن، فعلت ذلك بنصف تركيز، فثمة إحساس ينتابني بأن هناك من يطلق عصافيراً وطيوراً مغردة تكاد أن ترفعني من حذائي الرياضي لتحثني على التحليق، تلك العصافيركانت تشتت تركيزي وتفقدني التوازن بالفعل، بحثت عن مصدر ذلك الإحساس الميتافيزيقي، وإذا به جالس على الأريكة الحمراء الوحيدة في المكان، كان الحائط النصفي والذي أصبح خلفه الان قد حجب رؤيتي له عند دخولي المكان، لم يتسلل لي ذلك الشعورالذي عشته اليوم السابق، أي الشعور بالاشمئزاز واللاحيلة الذي عشته مع ذلك الرجل المقعد على الكرسي المتحرك، الذي كان يشبه سمكة عيد شم النسيم بسحنته، كأنه قدد بنيران الحروب التي اشتعلت في بلاده وكتب له البقاء حياً، رجل اليوم يعتمر قبعة تريكو سوداء ويرتدي كنزة طبعت عليها علامة أديداس، كان ينظر الى حذائي الرياضي بشوق ولد يترقب من خلف زجاج نافذة غرفته دولاب هواء متلئلئ في مدينة الملاهي ليلة صيف ندية، لم تكن نظرات هذا الرجل تشبه نظرات رجل الأمس عظيم الحجم فاقد البصر، نظرات هذا الرجل خفيفة كجناحي فراشة فسببت لي بعض الارباك، وكي أداري أمر ارتباكي من إعجابه بحذائي الرياضي سألته إن كان يرغب بتناول مشروب ساخن، ليجيبني بحركة طفولية وهو يهز رأسه يميناً وشمالاً بالنفي، كتمت ضحكتي وحملت كوب القهوة ووضعته على الطاولة المقابلة للأريكة، فعلت هذا بعد أن دفعت مجموعة المجلات المفتوحة على صور نساء نصف عاريات والتي كانت مبعثرة بصورة عشوائية على الطاولة، من الواضح بأنه كان يلهو بها، خلعت معطفي ووضعته على الأريكة التي جمعتني به، خلعت معطفي ووضعته على الأريكة حاجزاً بيني وبينه، منذ تلك الأيام التي كنت استقل فيها حافلات النقل العمومية في طهران وأنا أفعل هذا الأمر في ذهابي وإيابي، وما زالت عندي عادة وضع ما بين يدي من أشياء بيني وبين الرجال الأفغان ليكون سوراً يحميهم، حتى وبعد حفنة من السنوات وآلاف الأميال التي تفصلني عن ذلك الزمان والمكان الذي عشت فيه كابوساً في النور، ما زال هذا السلوك يستوطنني كرد فعل لا إرادي.
كانت تلك الأجسام الضئيلة تسقط من تلك البناية متعددة الطوابق لترتطم بالأرض على هيجان الشارع، فقد كانت المنطقة تعج بالرجال والنساء الساخطين، وهم يهتفون " اقتلوهم،قطعوهم، احرقوهم..."، للحظات تصورت بأنها دمى عرض الملابس، تطالب الناس بحرقها لأنها تجسد أجساد النساء ليتضح لي بعد اصطدامها بالأرض وتهشمها بأنها أجساد تعود لعمال أفغان يعملون في حفر آبار الصرف الصحي وقد اتهم واحد منهم بالتحرش، فقد ادعت إحداهن أن أحد أولئك العمال قد تحرش بولدها فتسببت في سخط المجاميع، فجاء العقاب جماعي، لم يفكر الإيرانيون بتناقص عدد العمال فقد كانت الحرب في أفغانستان مشتعلة مما يعني أن هناك مئات لا بل آلاف من الأفغان الذين سيتركون حقولهم وأريافهم البسيطة ومدنهم العريقة ومقاعد دراستهم ليصبحوا لاجئين يعملون في مهن يأنف الإيرانيون من امتهانها، ومنها مهنة حفر آبار الصرف الصحي، تلك الحادثة التي لم تطبع في الصحف، طبعت في وجداني وغيرت سلوكي وعفويتي، كنت في طريقي لشراء بعض الأغراض يومها ولم أعثر إلا على هذه الحادثة، التي جعلتني اكتسب هذه العادة.
أخذت مكاني على الأريكة بظهر مستقيم وأصبحت وجهاً لوجه مع حكايتي الجديدة، أحسست وانا أنظر إلى وجه الرجل بأنني أتصفح كتاب مغامرات مليء بالتجارب المثيرة، فمنذ أن كنت صغيرة وأنا مأخودة بالاستماع للحكايات، وأنا مدينة بهذا السحر لسطح دارنا في ليالي الصيف البغدادية ولجدتي وأختي التي تكبرني بخمسة أعوام والتي كان الكتاب جزءاً من كفيها، فالقصص التي تروى على مسامعنا في الطفولة تحيي فينا تجارب الآخرين وقد لا يكون هذا الإحياء في خوض التجربة ذاتها، لكنه يحرك فضولنا ويلهمنا شيئاً من الخيال ما يمكننا من استحضار المشاعر المرتبطة بتلك التجربة، وبهذا تساعدنا في أن نسكن أرواح الآخرين متقمصين حس التعاطف، وقد لا يجعلنا حس التعاطف أناساً افضل، ولكن بعض الدراسات أثبتت بأن عشاق الأدب يجتازون اختبار نظرية العقل بشكل أفضل من غيرهم، وتعتمد نظرية العقل (Theory of mind) على الحس الإدراكي الذي سيمكننا من استباق ما سيقدم على فعله أي شخص وبمن فيهم أنفسنا، فمثلا إن التقينا بإنسان حزين ونحن في قمة الفرح فسيلهمنا ذلك الحس بأن نتجنب إظهار سعادتنا أمامه أو قد يختار ذلك الحزين العزوف عن إظهار حزنه ليشاركنا فرحنا صورياً، ومن جانب آخر تعلمنا رواية القصص بأن نروي حكايتنا وعندها نترك الآخر يلقي نظرة في اعماقنا، فنحن بذلك نعبر في اللاوعي عن رغبتنا في اكتشاف انفسنا، ونستمتع بالتعرف على ما نفكر فيه ونشعر به من خلال الحديث عن تجاربنا، وفي كل مرة نحكي إحدى قصصنا نجعل منها صورة ثلاثية الأبعاد، نجردها من كونها حدث لتصبح فكرة مطروحة للنقاش، صورة بإمكاننا العودة إليها وتغيير ألوانها فنجعل جوانبها المظلمة مشرقة، إنه عمل يشبه عمل المعالج النفسي.
كانت إحدى حكايات جدتي من الحكايات التي كنت أتمنى أن أصبح بطلتها.. حكاية مالكة الحمام.. وهي تتحدث عن تاجر واسع الثراء له أربع بنات يحبهن حباً جماً، في أحد الأيام جمع التاجر بناته الأربع وأخبرهن بأنه بصدد السفر لأداء حج بيت الله الحرام وبأنه يود أن يسمع من كل واحدة منهن ما ترغب بها من هدية يجلبها لها معه عند عودته، طلبت كل منهن هدية ثمينة، إلا البنت الصغرى التي كانت شديدة التعلق به وتحبه جداً فلم تود أن أن تحمله عبئاً في سفره الطويل، فاكتفت بأن تطلب منه وردة بيضاء، سافر الأب وأنهى شعائر الحج واشترى طلبات بناته الثلاث ولكنه نسي طلب البنت الصغرى، صعد الأب السفينة ولكن حدث أن السفينة لم تبحر رغم كل محاولات القبطان والطاقم، فضلت السفينة جاثمة كحجر في حفرة، فالتفت القبطان على المسافرين وقال لهم بأن السبب في إخفاقه يكمن في أن أحد المسافرين قد قطع عهداً ولم يف به، وقد يكون هذا العهد يتمثل في هدية نسي أن يشتريها، عندها تذكر الأب طلب ابنته الصغرى، فطلب من القبطان أن ينزل إلى اليابسة ليبحث عن زهرة بيضاء من أجل ابنته حتى تتمكن السفينة من الإبحار.
في المدينة، أخبره الناس بأنه يوجد في ضاحيتها بستان واحد فقط فيه زهور بيضاء، وهذا البستان يحرسه أسد ينطق كالبشر. ذهب الأب إلى البستان وتكلم مع الأسد متوسلاً أن يسمح له بأخذ زهرة بيضاء لابنته، وافق الأسد على طلبه ولكنه اشترط عليه أن يزوجه ابنته هذه بعد مرور سنة، فكر الرجل بأن الأسد لن يتمكن من الإبحار والوصول إلى مسكنه، فقطع له عهداً بتزويجه ابنته الصغرى دون تردد وأخذ الزهرة وعاد إلى السفينة وهو مطمئن بأنه من المحال أن يصل الأسد إليهم، وأبحرت السفينة وعاد الرجل إلى بناته اللواتي فرحن بعودته وبالهدايا التي جلبها لهن.
وبعد سنة، وبينما كان الأب جالساً في ديوانه ظهر الأسد أمامه وطلب منه أن يفي بوعده ويزوجه ابنته الصغرى، توسل الأب إلى الأسد بأن يأخذ أي ثمن يشاء مقابل أن يتنازل عن الزواج إلا إن الأسد أصر عليه بأن يفي بوعده. ذهب الأب بكل حزن لابنته الصغرى واخبرها عن الوعد الذي قطعه مع الأسد مقابل تلك الزهرة وبأن الأسد جاء وهو مصر على الزواج منها، وحتى لا تضع البنت أباها في موقف الناكث بالعهد وافقت على الزواج من الأسد. وفي ليلة عرسها وعندما دخل الأسد عليها وما أن وقعت عينيه في عينيها حتى سقط جلد الأسد من عليه ليظهر من تحته شاب وسيم، وتبين لها بأن عريسها أمير غضبت عليه ساحرة كانت قد عشقته ولم يبادلها العشق فمسخته إلى أسد طوال النهار ولا يعود إلى هيئته البشرية إلا عند أفول الشمس. وطلب منها الأمير أن تقطع عهداً بان لا تتحدث عن هذا الأمر لأي إنسان وتحت أي ظرف كان، لأن عاقبة ذلك ستكون الفراق, عاشت العروس مع الأسد ليال جميلة، إلا إن أخواتها كن ينغصن عليها سعادتها بتعييرهن إياها لزواجها من أسد ومطالبتهن إياها أن تتركه، أتعبها الأمر فأفشت إليهن سر زوجها الأسد الأمير فأشرن إليها بأن تحرق جلد الأسد كي تنتهي معاناته ففعلت ذلك، ولكن ما أن أحرقت الأخت الصغرى جلد الأسد حتى تحول زوجها هذه المرة إلى طير التقط إزارها وطار مختفياً عنها بعيداً، بقيت هي تبكي زوجها نادمة تلوم نفسها على نقضها للعهد الذي قطعته له بأن تصون سره مما تسبب في فقدها له، ثم عاهدت نفسها على أن تبحث عنه وتلتقيه وتعينه على الخلاص من اللعنة، فكرت كثيراً بطريقة تتبعها للبحث عنه فلم تجد طريقة مناسبة، فخطر ببالها أن تبحث في قصص الناس وأخبارهم عسى أن تتوصل من خلال إحداها لطريقة مناسبة تعينها في البحث عن حبيبها، فقررت أن تفتتح في السوق حماماً للنساء وأن تطلب من المستحمة بدلاً من المال أن تروي لها قصة أو موقف مقابل ثمن الاستحمام عسى أن تجد في الحكاية خيطاً يقودها إلى حبيبها، بالفعل فتحت الحمام وكانت النساء تروين لها القصص مقابل الاستحمام، حتى أخبرتها امرأة في أحد الأيام بانها عاشت أغرب أمر في حياتها عندما تعثرت بسلم وسقطت في فناء بيت كبير مهجور، وأثناء ما كانت تستجمع قواها لتهم بالنهوض جاءت مجموعة من الطيور ومعها شال حريري وهي تنوح بصوت واحد (دار ديوار، من هو صاحب هذه الخشخشة والإزار)، وبدأ أحد الطيور بالبكاء إلى أن تعب ونام هناك.
وجدت البنت الصغرى في هذه القصة الخيط الذي سيرشدها لحبيبها وأيقنت بأنه هو ذلك الطائر الحزين، فعرضت على تلك المرأة الحمام هدية لها وثمناً فقط مقابل أن ترشدها لذلك السلم، وبالفعل حدث ذلك ووصلت إلى السلم ونزلت من خلاله للفناء والتقت بأميرها الذي بقدومها بطلت عنه لعنة السحر وعاد إلى هيئته الطبيعية ومملكته وعاشوا حياة رغيدة بعد أن قررا ان لا ينقضا عهداً قطعاه مهما كانت الظروف.
تحققت أمنية طفولتي وها أنا ذا أستمع لقصص الآخرين وأدخل عوالمهم، ليس تطفلاً بل بدعوة ورجاء منهم، أظن أن أمنية الطفولة التي كانت تجعلني شريكة في هذه اللعبة هي بدافع العقل الباطن، أنا على يقين بأن الغوص في مستنقع الآخر، جدوله، بحيراته، سيمكننا من رؤية انعكاس صورتنا في تلك المياه، ومن يدري على ماذا سنعثر هناك ، ربما سنعثر على ذلك الجزء من أنفسنا البعيد عن نقاط النظر، ذلك الجزء الذي يقع في المنطقة العمياء.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??