الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية ملك بلا ترفيه.. جان جيونو

وليد الأسطل

2022 / 7 / 20
الادب والفن


تنبع رواية "ملك بلا ترفيه" A King Without Entertainment من قلق عالمي، أو ميتافيزيقي بشكل أدق. قلق، تشرحه جملة باسكال، التي أراها بمثابة تيار من الشك يغمر النص بأكمله: "ملك بلا ترفيه هو رجل مليء بالبؤس". وقال أيضا:"الصمت الأبدي لهذه المساحات اللانهائية يخيفني". أجد الجملتين متشابهتين على مستوى الروح .

لأن الكائن المحدود المؤقت، لا يطيق اللامتناهي، والأبدي، والعدم، يجب عليه أن يخفي هذه الحقائق بواسطة نظام تحويل متطور ودقيق بشكل متزايد.
كل شيء شَرَك، كل شيء يجب أن يخدع. إنه سؤال، في أعماق الوعي، حول حجب الكرة غير القابلة للكسر، بالأسود لجعل الحالة الشخصية محتملة. لذلك يجب على الإنسان، أياً كان، أن يجد في العالم، لكي يعيش، ويتمسك، ويدوم، وسيلة لنسيان واقعه الأساسي باعتباره شخصا فانيا، محاطا بالعدم الذي سيبتلعه في يوم من الأيام. وإذا لم ينجح، فسيصبح الوجود لا يطاق، لأنه محروم من المعنى والمادة. إنه فارغ. لذا فهو يسعى لملء الفراغ، الفراغ الداخلي الذي يهدد بامتصاص أي شكل من أشكال الوجود في العالم، وإدانة الحياة، ودفع الفرد إلى أقصى حدود التطرف. ينفعل كل واحد منا، ويمنح نفسه أهمية غير معقولة، يضعها بالكامل في عالم إجتماعي غير متماسك وعديم المعنى لينسى إدانته للعدم. فكما هو معروف لديكم: نهاية كل شيء، هو ما وعدت به كل البدايات.
عند بليز باسكال، الإيمان وحده هو الذي يجعل من الممكن مواجهة غياب الترفيه والتسلية. وحده الإيمان يمنح الروح القوة لمواجهة العبثية المطلقة لشرارة تنبثق من العدم، ثم تعود إليه على الفور، مرة أخرى. من دون إيمان، تملأ الروح العالم بالمحاكاة، بصور مزيفة، وتغطي جدران سجنها المؤقت بستائر، زاهية وملونة بقدر ما هي مزيفة، مصممة أن تجعل المرء ينسى ظلام العدم. إنها تفعل ذلك في الوقت الذي يناسبها، وهذا يقودها إلى الإفراط، إلى الإغراء، إلى الشر، الذي جوهره الملل.
حين يقترن غياب الإيمان بغياب التسلية، يسود الفراغ. وما الذي يمكن أن يكون فارغا، في العمق، أكثر من الروح التي تنكر دائما، أن الشر، هو المنتصر في هذه الحالة. دعوني أتوقف عن الحديث عن الايمان. إن ما يشغل اهتمام جان جيونو هو الشر، الشر غير المبرر، شر دون سبب، وبلا هدف. الشر كوسيلة للتسلية والترفيه.

يستمد جان جيونو من هذه الفكرة القوية والعامة، توضيحا خياليا إستثنائيا. قصة الملل الوجودي في أكثر أشكاله تطرفاً، رواية قاتمة، سوداء، تنبض في أعماقها حقيقة العدم التي لا تطاق. تبدأ الرواية بسلسلة من جرائم القتل التي ارتكبت خلال فصول الشتاء القاسية في أربعينيات القرن التاسع عشر في قرية صغيرة في جبال الألب. إن رواية ملك بلا ترفيه تقدم نفسها، في جزئها الأول، كرواية بوليسية، جذابة ومقلقة. وعلى الرغم من عدم توافر هذه النوعية من الروايات على قيمة أدبية عالية في أغلب الأوقات، إلا أن هذا الموضوع لديه كل شيء لإغواء وجذب انتباه القارئ؛ خاصة أن الرواية تحركها يد روائي فذ، بوتيرة ملحوظة، وبلغة متميزة، تتأرجح بين خطاب نموذجي خشن وشعر غنائي ذي مغزى.

تعكس طبيعة جبال الألب، التي كان يُحتفل بها في يوم من الأيام، ظلام العالم أيضا. يخفي خشب الزان المهيب في مرتفعاته العديد من الفظائع. لا يرى القارئ حول الحبكة الرئيسية ديكورا ودودا أو محايدا، ولكن ديكورا مساعدا للدراما. تصطبغ الطبيعة في الخريف باللون الأحمر الدموي، وفي الشتاء بكفن أبيض. أجمل الرموز تتعلق بمرور الفصول، وهكذا فإن الاحمرار التدريجي للأشجار المورقة حول القرية يعلن عن عودة القاتل، وولادة الخوف من جديد، وعودة الإرهاب.

لا يحتاج الكاتب إلى فحص الحالة الذهنية لشخصياته، فضربة فرشاة على الأشجار والجبال تكفي.

لأن القاتل يقتل مثل الصياد، يشعر القرويون بالرهبة الحيوانية التي تعيشها الفريسة. بهذا تستعيد الطبيعة كل قوتها المرعبة، التي، تخفيها الحضارة عادة. تشكل الأنفس جسدا واحدا مع الديكور.

يختفي الأفراد، لا أحد يجد آثارهم. نحن فقط الذين نعلم، حين تفشل إحدى هجمات القاتل، ونعلم أن وراء كل هذا إرادة منسقة، رجلا عنيف، ساديا، غير مفهوم. تدريجيا، يكتسب العمل زخما. تصل إلى القرية سرية درك بقيادة الضابط لانجلوا. قد لا يعرف القارئ ذلك بعد، لكن لانجلوا سيكون حجر الزاوية في الرواية، دافعها الحقيقي. إن رواية ملك بلا ترفيه، ليست رواية بوليسية، على الرغم من مظهرها، إنها عمل أدبي ميتافيزيقي يستخدم التحقيق الجنائي كذريعة. ينتهي البحث عن الجاني، يتم إلقاء القبض عليه بالصدفة، ومعاقبته، والرواية لم تنتصف بعد.

دعونا نعترف للحظة بما هو واضح: قد يصاب القارئ بخيبة أمل، فقد اعتاد على القصص الإجرامية التي يتغذى عليها الخيال الجماعي المعاصر بشراهة. إنه يتوقع كل تطور محتمل، إلا هذا، أعني انهيار الحبكة في ثلث الطريق. هل الخاتمة طويلة لدرجة أنها تمتد عبر مائة وخمسين صفحة؟ بالطبع لا. لكي يظهر بوضوح أن نيته في مكان آخر، عكس جيونو كل ما اتفقت عليه الروايات البوليسية: القاتل غير معروف للقارئ، ولا للشخصيات في الرواية، إنه وحيد وليس له علاقة بالقرية. كما أنه لم يتم التطرق إلى هويته الإجتماعية أو الثقافية أو النفسية. لأن كل هذا ليس مهما في الأساس. لا يوجد سبب ولا تفسير ولا أي شيء يأتي لدعم تحقيق الضابط لانجلوا. لقد خدمته الصدفة، التي كان من الممكن أن لا تخدمه أيضا. تدحرج النرد في اتجاهه، هذا كل ما هنالك. كل تلك الترسانة المؤلفة من الدوافع، والقرائن، والتحليلات، والمنطق و... إلخ، من شأنها في الواقع أن تزعج البساطة الميتافيزيقية للرواية. بعد أن حُرم القاتل من هويته، لم يُعرف إلا بالأحرف الأولى من اسمه، يظل القاتل في النقطة العمياء. لقد قَتَلَ وقُتِل.

بغض النظر عمن، وبغض النظر عن الوقت، وبغض النظر عن الكيفية، وبغض النظر عن السبب، تختزل الجريمة إلى بساطتها الأصلية، إلى طبيعتها الأساسية وغير المقبولة، إلى رعبها الرائع والبدائي. من المستحيل معرفة روح المجرم خارج السرد. إن القول إننا لا نعرف شيئا عن دوافع القاتل هو مع ذلك "خطأ" إلى حد ما. ففي بداية الرواية، أظهر لانجلوا أنه رأى واحدة، على الأقل: من خلال حماية القرويين بشكل ظاهر لحضور قداس منتصف الليل عشية عيد الميلاد، قدم لانجلوا للمجرم ما كان يبحث عنه "الترفيه" الشهير. يقول ذلك صراحة للكاهن. هل هذا يعني أن القاتل ارتكب جرائمه بسبب الفراغ؟ أن يكون، في الأساس، ملكا بلا ترفيه، مرتكبا للشر بسبب الملل أو من أجل اللعب؟ لا أعتقد أنه يمكنكم القول: بالتأكيد. يبقى هذا على مستوى الفرضية، لم يتم التحقق منه أو دحضه. يميل الجزءان الآخران من الرواية إلى إظهار أن هذا التفسير هو واحد فقط من بين تفسيرات أخرى، للملازم لانجلوا، لانجلوا الموجه في السرد لأن يكتشف تدريجياً الشقوق والطرق المسدودة. يركز الثلث الثاني من الرواية على قاتل آخر، أكثر "طبيعية" ولكن ليس أقل خطورة، ذئب مرعب يذبح ماشية القرويين، يلاحقه لانجلوا خلال مطاردة لا تُنسى، في مشاهد من جمال الشفق. أخيرا، يركز الثلث الأخير من الرواية على لانجلوا نفسه، على عدم قدرته على إيجاد السعادة في الصداقة والعمل والحب. لن ينقذه شيء.

تتسم رواية "ملك بلا ترفيه" بسرد غريب، يبدأ بتسليط الضوء على القضية، ويذهب إلى الماضي، ويعطي الأرضية لأحد الأشخاص، ويعود إلى الحاضر، ويعطي الأرضية لآخر، ويغادر مرة أخرى، ويمر من شخصية إلى شخصية، لينتهي بشكل غامض - في فقرة أخيرة - بلا إشارات سردية واضحة. من المتحدث؟ كثير من الناس. ماذا يقولون؟ أشياء كثيرة، ملتبسة، غامضة، غير مؤكدة. ليست الحقيقة السردية حكاية يسجلها شخص يتحلى بروح علمية، مستوعب لدروس سبق له أن تلقاها، والتي سيضعها في مكان السرد - والمخططات ذات الصلة - في سياق شرح النصوص. إنه لمن الأهمية بمكان ملاحظة من يتحدث وأن نلاحظ أننا في معظم الأحيان، لا نتمكن من التعرف عليه إلا بعد لحظة من التفكير، والرجوع إلى الوراء، وما إلى ذلك. يبدو أن هناك صوتا جماعيا، ذا تجسيدات متعددة، يعمل.

من ناحية أخرى، نعرف غريزيا من لا يتكلم. نحن نعرف من هو غريب تماما عنا: القاتل، الذئب، لانجلوا. يرسم السرد الدائرة نفسها حول القاتل والوحش ولانجلوا، مما يسمح لهم بالالتقاء معا، مما يشير إلى هويتهم العميقة، وهوية الجريمة والحيوية والانتقام (لأن لانجلوا لا يعشق العدالة قدر عشقه للإنتقام). يكمن دهاء الروائي بالكامل في هذا النظام السردي. لا يدخل الروائي وعي شخصيات معينة، إنه يخترق وعي الشر فقط - الذي هو بمثابة ثقب أسود - دون أن يوغل فيه. الشر هو فراغ، وغياب، وعدم شكل، لا يمكن محاصرته إلا بجدار مغلق من الكلمات. الشر هو أيضا الترفيه المطلق الذي يتم الإنغماس فيه عندما يبدو أن كل شيء قد استُهلِك.

في أحد المشاهد الأخيرة من الرواية، نجد لانجلوا، يلاحظ، صامتا ومنبهرا، دماء إوزة تتدفق على الثلج. إغراء مرضي، أليس كذلك؟ أخيرا، تسقط الأقنعة. تم الكشف عن المعنى العام للنص. لانجلوا منتقم، لا ينشد العدالة كما يفهمها البشر، ولكن كما يفهمها هو. بموافقة ضمنية من السلطات، يحرر نفسه من قواعد المجتمع، وإطاره المحدد، ومن إجراءاته، لإقامة عدالته الخاصة، على أساس معاييره الخاصة، وإدراكه الشخصي، وأسبابه الخاصة. المجتمع، الذي يجسده مدع عام طيب للغاية تجاهه، يتيح له القيام بذلك بسهولة. لكن المجتمع بهذا الفعل يخرق قواعده الخاصة. هناك عدالة إجتماعية تأخذ على عاتقها الأعباء العاطفية والأخلاقية للفعل القضائي والتنفيذ غير الشخصي للحكم، العدالة المهنية والمسؤولة، عدالة تضمن النظام والفضيلة، عدالة لا تقتل من تعتقد أنهم مذنبون ببرودة ودون محاكمة. باختصار، إن كل عدالة شخصية هي عدالة مجرمة. يؤدي الإنتقام، بالنسبة لأولئك الذين ينغمسون فيه، إلى نفس عواقب القتل غير المبرر. لانجلوا لا يأتي من أي طبيعة أخرى غير طبيعة القاتل السادي والوحش الخطير. إنه منحرف، وقاسٍ، إنه بطل خطير. إن شهيته تجاه الموت والدم والقتل، نفس الشهية غير المبررة التي لدى القاتل والذئب. إن ثلاثتهم من نفس الطينة. يرجع الإختلاف في الأمر إلى شيئين: لانجلوا ركن من أركان المجتمع - قاضيه الوحيد هو ضميره؛ يُظهر النص سقوطه - في حين يظل سقوط الذئب غير ممكن، ويظل سقوط القاتل مخفيا. وعلى الرغم من أن هذا السقوط يحدث في صمت، إلا أنه هو القوة الدافعة للرواية. بمهارة، يدين جيونو، في نفس البادرة، القاتل وقاتله، المجرم والمنتقم. ومع ذلك، يتم نقل هذا عبر سرد دقيق للغاية، لا ينحاز لأي طرف ولا يدين قبل كل شيء النظام الذي يتصرف من خلاله البشر.

يمارس الشر شكلاً من أشكال الجذب على لانجلوا لا يمكنه الهروب منه، فتكون النتيجة: الاستسلام الأكثر تطرفا والأكثر فورية والأكثر تحديدا. لم يعد يليق بالمنتقم أن يعيش حياة سلمية، حياة رجل مرتب ومتزوج، محاط بالأصدقاء والأقارب، أو، بتعبير باسكال، محاط بالترفيه. لقد توحش لانجلوا شيئا فشيئا. الدركي، الصياد، ضابط تطبيق القانون، هو أيضا قاتل! في البداية، سيتم التستر على جرائمه دائما، من خلال صداقته مع المدعي العام، وثقة السكان. فحين يغتال لانجلوا رجلا، تكون هذه الحادثة الخرق الأول للشرعية، ولتأطير المجتمع للعدالة، مصدر الدراما اللاحقة. لن يولي القارئ هذه المسألة اهتماما كافيا، لقد جعل منه السرد، من خلال الفن والعاطفة التي تنشأ عنه، شريكا لأهل القرية وللدركي في الرغبة في الإنتقام. إنه ينسى الطبيعة التي لا تغتفر للجريمة التي يرتكبها الدركي بدم بارد.

والآن، دعونا نتساءل: ألم يستسلم لانجلوا أمام إغراء الشر؟ هل يمكن أن يكون هذا هو أصل التغيير في سلوكه، الذي نلمسه كلما أوغلنا في الرواية أكثر؟ إن الضابط الذي اعتبره سكان القرية منقذهم، قد ارتكب جريمة قتل، هوت به إلى نفس مستوى أعدائه. هذا ما يبرر تطويقه السردي. إذا لم تعد الملذات البسيطة تكفيه، أفلا يجد متعته في ممارسته للشر؟ لم يعد الإختلاف على مستوى النوع، بل على مستوى الدرجة. لقد ضاع الرجل.

لانجلوا هو الملك بلا ترفيه في الرواية، الرجل غير المخَلَّص، المليء ببؤس باسكال. لانجلوا المحروم تدريجيا، من خلال دوره المنتقم، من كل روابطه الإنسانية، ومن كل تسلية. يعاني من روح الإنكار الفارغة من الداخل، يعاني من الملل، وهاجس العدم. وهو يحاول محاربة هذه الأشياء، وقع تحت إغراء الشر، هذا الترفيه الذي هو من "رتبة أعلى"، والذي لا يسمح لنفسه بالانغماس فيه دون أن يضفي عليه الشرعية عبر ما تُدعى بشكل غير صحيح العدالة، ومع ذلك فإنها ضرورية.

من خلال هذه الرواية المعقدة والساحرة، الغنائية والمعذبة، التي يظل طعم مغامراتها في النفس لفترة طويلة، ويظل حسها الأخلاقي لفترة أطول في الإعتبار، صنع جان جيونو، في رأيي، تحفته، التي أحسبها تكفي لتخليد اسمه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث