الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قماش أسود: حكاية الروح المتعبة

عبدالرحمن مطر
كاتب وروائي، شاعر من سوريا

(Abdulrahman Matar)

2022 / 7 / 22
الادب والفن


قد لاتبدو المفارقة مثيرة للاستغراب، أن تعيد جائزة غسان كنفاني للرواية، " قماش اسود " رواية الكاتب السوري المغيرة الهويدي، الى قائمة الاهتمامات، قراءة ومتابعة، في الحياة الثقافية السورية. إذ ان التقاطعات بين أدب غسان كنفاني، بعمق تجربته الإبداعية، وأهميتها، مع " قماش اسود " كنص سردي هو الأول لكاتب شاب، هي تقاطعات كثيرة، وغنيّة على مستويات متعددة، يمكنني أن أشير إليها في ثلاث نقاط اساسية، هي: الموضوعات التي تتناولها الرواية التي بين أيدينا اليوم، أولاً. وفي أسلوب الكاتب، ثانياً. وفي لغته ثالثاً، وما بينهما من مدى زمني: نصف قرن من غياب غسان كنفاني، بحضوره الدائم، مع رواية جديدة، تقدم تجربة جديدة في الكتابة الإبداعية.
لسنا بصدد الذهاب الى مقارنة في النتاج الادبي، بين كنفاني والمغيرة، ولكن، بنية النص السردي، وموضوعاته، تفرض هذه المقاربة الانطباعية، والتي أثارت انتباهي، بمجرد الدخول في عالم " قماش أسود " على خلفية جائزة غسان كنفاني، بما يمثله أدبه من مكانة هامة عربياً، وعلى نحو خاص أثيرة، ومؤثرة في تجربتي الأدبية والسياسية، الى درجة كبيرة.
ملامح وإحالات
تنشغل "قماش اسود" بطرح موضوعات أساسية في حياة الناس، وهي قضايا النزوح، والمنفى، والتهميش، يضاف إلى ذلك التنمر، والعنف ( المادي والمعنوي). وبغض النظر عن المجتمع المحلي الذي يسرد الهويدي في النص حكايته، فإن تلك القضايا، هي سمات أساسية في أدب غسان كنفاني، والذي تناول في أعماله الروائية والقصصية، إشكالية الإنسان الفلسطيني، الذي تعرض – ولا يزال - الى العنف المسلح، والى التهجير القسري، ومن ثم يضطر الى النزوح، والعيش في المنفى، بمرارة مشبعة بأحلام العودة.
قماش أسود، هي حكايات الناس، أهل البلاد المنكوبة، والروح الإنسانية المعطوبة بفعل الحرائق التي أنهكتها. من حرائق المجتمعات المحلية بتقاليدها وأعرافها، الى حرائق الحروب، بكل مافيهما من أطراف وأسباب. العامل المشترك في كل ذلك هو الإنسان بوصفه ضحية لكل تلك الأحداث والممارسات، ونتاجاً للسياسات التي تهدم، وتدْحَل، وتحرق كل شئ.
تسرد الرواية أحداثاً، قد لاتكون متخيَلَة بالضرورة، في حيز جغرافي محدد، واقعي ومعروف هو الرقة، وفي زمان محدد أيضاً، أضحى جزءاً من تاريخ المنطقة اليوم، وفي ربع الساعة الأخيرة لسيطرة داعش، وطردها، بالتزامن مع بروز سلطة احتلال جديدة يشير إليها الراوي صراحة: قسد، التي تحلّ مكان داعش. وتصور المعاناة القاسية التي تعيشها الجماعات المحلية الصغيرة، المهمشة، في ظروف كهذه، جراء سياسات القمع والتجويع، في ظل الحرب، من قبل جميع الاطراف المنخرطة فيها.
في النص الروائي يشير الكاتب الى ثلاثة أطراف رئيسة متسببة ومنتجة للحرب، وما ينجم عنها. ويعتني بتفاصيل صغيرة، مهمة، في حياة قرية، تعاني من وطأة سيطرة داعش، ومن سلطة قسد، وآلة النظام الأمنية والعسكرية.
دلالات النص السردي
المرأة
تسجل المرأة حضوراً خلاّقاً ومؤثراً في الرواية، ليس فقط عبر آسيا ونسرين، باعتبارهما شخصيتي العمل الأساسيتين، بل من خلال طرح قضايا تتصل بالمرأة بصورة مباشرة. ونعني علاقتها بالمجتمع الذكوري المهمّش، والذي يفرض تهميشا مضاعفاً على المرأة، ويحرمها من جميع حقوقها، ، وخصوصية تلك العلاقة في ظل القمع والإرهاب والحرب، وما تعكسه تلك الظروف على الحياة العامة من قهر وعوز شديدين.
وعلى الرغم من انتماء بطلتي العمل لبيئتين اجتماعيتين مختلفتين ( الريف والمدينة)، ومن مستوى تعليمي وثقافي مختلف أيضا، فإنهن يتعرضن لحالات متشابهة الى درجة كبيرة، من العنف، والتنمر، كلٍ في بيئتها، ومن ثم لاحقاً في القرية الصغيرة النائية، على ضفاف الفرات. حيث تتعرض نسرين الخريجة الجامعية الى الإعتداء الجسدي من قبل شقيقها، الضابط الموالي للسلطة، وهو هنا يحيلنا برمزيته، الى السلطة القامعة، وإلى عنفها اللامحدود، في مواجهة الموقف، او حرية التعبير، التي التزمت بها " نسرين ". كما تتعرض الى الاستغلال والتهميش، في كنف والد زوجها المختطف.
بينما تتعرض آسيا لظروف إجتماعية قاسية، متخمة بالتنمر بوصفها امرأة، بصورة أولى، وسلعة، وإلى النبذ في مجتمعها المحلي بسبب خروجها على المألوف. لم تتغير تلك الممارسات ضد المرأة، بين أزمنة ثلاث – إن جاز التعبير – زمن القمع والقهر لما قبل ثورة 2011، ومن ثم زمن سلطات الأمر الواقع من الميليشيات المسلحة، الى داعش، وقسد، دون تفريق بينهم، في نظرتهم الى المرأة، وفي انتهاج سياسات التهميش والعنف والتنمر. يضاف إلى ذلك، رحلة النزوح والتشرد، التي تتعرض لها في القرى والمدن.
تكريس الرواية للسرد، في قضايا تتصل بالمرأة، وأن تأخذ المرأة مكانة الراوي، هو أمر يُحسب للكاتب، كما اختياره الإضاءة على جوانب مهمة، في حياتنا القلقة والمضطربة، في زمن الحرب والنفي والتشرد.
قماش أسود، ملوّن
لم يأت اسم الرواية من العمل الذي كانت تقوم به نسرين، خياطة " لباس المرأة الأسود " فحسب، إذ أن دلالة اللون الأسود، تتجاوز هذه النظرة المحدودة، الى أفق مفتوح، يشير الى ظلامية القهر والقمع الذي تتعرض له المرأة بصورة عامة من المجتمعات الذكورية - كما أشرنا آنفاً - عبر أزمنة مختلفة، على الرغم من التحولات والتغيرات السياسية والاجتماعية. كما أنه دالٌ بصورة وثيقة على عهد داعش، التي فرضت اللون، العباءات، بوصفها زيّاً شرعياً للنساء لامجال للمخالفة فيه. كما هو لون رايتها التي رفعتها في سماوات منطقة الرقة، وفرضت سلطتها على الناس باسمها. فيما يشير بوضوح " القماش الملون" على حقبة قسد، دون اختلاف في صورة القهر والتهميش، او الاحتلال.
وفي كلتا الحالتين تدل مفردة " القماش " الى بسط السيطرة، وفرض الهيمنة المسلحة، على المجتمعات المحلية، التي أُخضعت بالقوة للتنظيمات المسلحة، أياً كانت صورتها وانتماءتها.
مقومات النص وبنيته
عالج المؤلف قضايا الرواية الأساسية، بلغة جميلة، بسيطة، وهادئة، بعيداً عن اللغو والثرثرة، في عالم يمور بالقمع، والمحرمات في كل شئ، بما فيها الكلام. لذا جاءت الرواية أمينة ومخلصة في إبراز قيمة اللغة، وفي دورها في النسيج الروائي، وعبر شخصيات رئيسة محدودة، هي آسيا ونسرين، ويوسف وأبي كريم. وبذلك لم نشهد زحاماً او كثرة في الأصوات والشخصيات في النص، وهو في الاصل يسرد حياة مجموعة بشرية محلية صغيرة. متمكناً من السيطرة على ادوارها، وعلى إدارة الصراعات من حولها، فيما بينها، ومعها من شخصيات أخرى. وبذلك نجد سرداً هادئاً منتظماً للأحداث، على الرغم من قسوتها وشدتها، بكل ما فيها من تشرد وموت، وعنف قاتل.
لقد قدم المغيرة الهويدي، رواية مهمة من حيث الموضوعات الأساسية التي طرحها، والأفكار التي تناولها عبر شخصيتيها نسرين وآسيا. ولعله من المهم القول بأن الرواية إذ تتخذ من الرقة وأريافها مسرحاً لأحداثها، فإنها تتجاوز حدود المكان، الى جميع الأمكنة التي خضعت لسلطة داعش في سوريا والعراق. فالظروف الاجتماعية، وما تعرضت له تلك المنطقة من أحداث مهولة، هي واحدة، مشتركة ومترابطة، والمعاناة الإنسانية، والآلام الناجمة عنها، هي نفسها. وليس ثمة تفريق في انتهاج سياسة التهميش والعنف بين أصحاب الرايات : سوداء وملونة.
قماش أسود، هي صوت المتعبين في هذه الحروب، صوت الضحايا، الذين لاتزال حكاياتهم مفتوحة الجروح على ضفاف الفرات، في المعتقلات، وفي كل مكان يرزح تحت نير الإحتلال. وصوت الغائبين المغيبين، الذين لاتصل رسائلهم.
إنها رواية استحقت - بجدارة – جائزة الشهيد غسان كنفاني.
_______________________
المغيرة الهويدي – قماش أسود / منشورات تكوين / الكويت – بغداد 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث