الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توطين البداوة في قلب تمدن غير مكتمل

سامر أبوالقاسم

2022 / 7 / 23
الادب والفن


ما الذي يمكن أن يدفع الناس إلى البقاء في مكان كل ما فيه يدعو لليأس والبؤس؟
ذاك هو السؤال الذي يتبادر إلى الذهن كلما ذاع نبأ وفاة حامل كانت على أهبة وضع مولودها دون أن تتمكن من الوصول إلى مستشفى، أو تعذر على تلميذ استكمال مساره الدراسي في المستويات الأولى من التعليم لهذا السبب أو ذاك، أو مات الأطفال والعجزة والشيوخ جراء موجة برد قارس دون التمكن من إنقاذهم لعدم التمكن من فك العزلة على المنطقة التي كست الثلوج طريقها، أو رفض شاب الاستمرار في الاشتغال بحقل أبيه وغادر بحثا عن عمل واستقرار، أو تطلع أحدهم للاستفادة من مميزات الحياة وسط المدينة، أو وقع شخص في مغريات العيش المتحضر.
ففي ظل وضع يتسم بكثرة الاحتياج، وقفت القرى والبوادي على حافة أزمات، وعانى أهلها من الفقر والهشاشة والتهميش، فتفتت الأراضي وتقسمت، وتوالت سنوات الجفاف، وقل المحصول، وصعب العيش في عزلة عن العالم.
وحيث الطرق وعرة والتزود بالماء والكهرباء شاق، وزيارة الطبيب منعدمة، وحضور المدرس متقطع، وسطوة المقدم والشيخ هي السائدة، ارتمى العديد من الناس في أحضان رحلة الهروب الجماعي من جحيم هذا العيش المقرف.
وفي أوضاع حيث الموت يطوق الناس من كل الاتجاهات، وحيث تم تجريدهم من كل مقومات اللياقة، وبعدما أصبحت المآسي تتكرر، وأضحى عدم الاكتراث هو العملة السائدة، وانغمس المضاربون والوسطاء في شراء الأراضي ومضاعفة الثروات ومفاقمة الآلام، صار الحل هو الهروب من بؤس كانوا لا يتصورون موتا إلا فيه، وحيث لا يمكن للمرء أن يشيح بنظره عن الفوضى التي تعم الأمكنة والفضاءات الشاسعة والفارغة.
وحيث يعيش الناس حياة الأموات، ويقاتلون من أجل سد الرمق وتوفير لقيمة العيش، ولا أحد يهتم بهم أو يساعدهم للخروج من المأساة، فقدوا سيادتهم على أنفسهم.
فمن قهر للأطفال والشباب، إلى إبكاء للرجال قبل النساء، إلى إهمال للعجزة والشيوخ وذوي الوضعيات الخاصة، إلى تضييق لخناق الوطن على أهله، إلى عصر الناس وقهرهم وكسر نفوسهم، ولفظهم إلى هوامش المدن تاركين الجمل بما حمل، ومقبلين على نهش عوامل أخرى لأجسادهم وعقولهم كما تنهش الضباع فرائسها.
اختطف جحيم الكاريانات عددا من الأسر التي ما كانت تصبو سوى إلى ضمان شغل وتحسين ظروف عيش، ليزج بها في صناديق قصديرية، هي أبشع بكثير من السجون التي لم تخطر على بال، وبها من العذاب ما لم تره عين، وفيها من الخروقات ما لم يسمع به مجلس من مجالس حقوق الإنسان.
في هذه الأحياء أينع ربيع العديد من الأجيال، وفيه أمضت شتاء عمرها القارس. وبين فصول وعقود توقف نبض الحياة، ولم تنعشه وعود المسؤولين؛ المعينين منهم والمنتخبين.
وفي هذه الصناديق تعرف جزء كبير من أبناء هذا البلد في فصل الصيف على مدلول النار التي وقودها الناس والحجارة، وفي فصل الشتاء على السيول الجارفة التي تغزو الأزقة الضيقة وتفيض على البيوت بما امتزج من مياه الصرف الصحي.
وحيث لا وجود لملاذ آمن، لا يمر يوم في هذه الأحياء دون وقوع مشاجرات بأسلحة بيضاء، يسقط خلالها جرحى وأحيانا قتلى، أما الكلام النابي والمشين فهو الرائج وسط الشباب الغارقين في هموم البطالة والتعليم المتدني والمخدرات. وكأنهم بمثل هذه السلوكات يفرغون تلك الشحنات المخزنة من الإحساس بالتمييز ضدهم والإذلال الذي يطالهم والشعور بالخجل من موطن إقامتهم.
هذه الخلطة المركبة من عوامل التعرية القاسية، ومساوئ تدبير السياسات العمومية غير التنموية، والعيش في ظل الحرمان والتهميش والحياة العشوائية، وفشل برامج السكن في السياسات الحكومية، وجموح الحلم بحياة الرفاهية، وتكريس واقع الفقر والأمية، تشكل وصفة سحرية لتبييض وتفريخ كل الممارسات الانحرافية.
يكاد يكون تاريخ المدينة هو تاريخ تحضر الإنسان، أما الهامش فلطالما تم اعتباره عورة المدينة المنكرة. أما في بلادنا فقد شاءت الأقدار أن المدينة أدغم هامشها بمتنها لتصبح كلها عورة. حيث انتشر المتسولون والمدمنون واللصوص والحمقى وعابرو السبيل وممتهنات الدعارة في الشوارع والأزقة كما في المقاهي والمطاعم، وحيث تكاثرت الشوارع الخلفية المتخصصة في ترويج الممنوعات.
وفكر أصحاب الحظوة في إنشاء إقامات من الطراز الرفيع، حيث يعيشون في إقامات تنعم بالخدمات وتستفيد من سيادة النظام وتتمتع بحماية قوات الأمن العمومية والخاصة من هجمات محتملة، وتخصص بمحيطها مساحات كأحزمة أمان ولو باجتزائها من ملك عام.
هكذا هي النهايات في كل الروايات والقصص، معقدة بتشعب بداياتها، ومتناقضة بتعدد شخوصها وأمكنتها وأزمنتها، ليصبح القارئ أمام واقع يشهد على إفراغ القرى والبوادي من قواها الإنتاجية الحقيقية، وتربص المضاربين المستولين على أراضيها، للانقضاض على أقرب فرصة لإلحاقها بالمدار الحضري للمزيد من الاغتناء.
وليصبح العيش بالمدينة على وقع تضخم سكاني سرطاني غير صالح للعيش المدني المتحضر، وليعلن الهامش حربه وانتصاره وفرض إيقاعه، وينتج بذلك هجانة غير متوقعة بين التحضر ونقيضه.
فالبيوت القصديرية أصبحت موضوع بيع وشراء، والبيت الواحد تشظى ليصبح متعددا للحصول على تعويض في إطار برامج القضاء على دور الصفيح.
وعلى الرغم من خروج بعض الأسر من عتبة الفقر، فقد ظلت ماكثة بهذه الأحياء للاستفادة من التعويض. وأصبح هناك من يطالب بشقة واسعة المساحة، وآخر بقطعة أرضية ذات طابقين أو ثلاثة، ليبحث عمن يتكفل بالبناء والحصول على مقابل.
ليبقى الله في عون دافعي الضرائب من موظفين ومستخدمين وفئات نشيطة تحت مقصلة ديون ورهون سكنهم الأساسي مدى الحياة. وهذا ما جادت به آخر صيحات موضة العدالة الاجتماعية.
وبموجب قانون خاص ينظم سير وجولان الدواب داخل المدينة، كانت السلطات المحلية في السابق تعترض الناس عند مداخلها، لمنع دخول الدواب إلى مدارها الحضري، بل كانت تفرض ذعائر على المتجاوزين والمنتهكين للقواعد والضوابط في هذا المجال. أما اليوم، فتبيت الناس في دور الصفيح مع عنزاتها وأبقارها وبغالها وحميرها، وتهيم بها في الشوارع والأزقة والدروب بحثا في القمامات وطلبا لجلب الرزق وبحثا عن قوت لعيالها.
كم مرة يصادف الإنسان عنزة أو بغلا أو حمارا يرعى فيما تم زرعه من عشب طبيعي أو اصطناعي بالمدارات الطرقية داخل المدينة؟ وكم من حادثة سير تسببت فيها قطعان من الأكباش أو الحمير أو البغال الهائمة بشوارع المدينة وأزقتها؟
ومن الناس من صاحبها معه إلى إقامات السكن الاجتماعي، فأصبحت هي الأخرى مجبرة على الصعود إلى الطوابق العلوية والسطوح، وتعودت على السهر والاستيقاظ متأخرة. ومن يدري؟ فقد تكون هي الأخرى ابتليت بالكافيين والتدخين وقضاء الأمسيات بالعلب والمراقص الليلية، وأشياء من هذا القبيل.
في السنوات الأخيرة، أصبحت قطعان من الدواب تغزو فضاءات المدينة بحثا عن الرعي في مساحاتها الخضراء وحدائقها العمومية المزينة بالعشب والزهور، واقتياتا من القمامات المنتشرة في شوارعها وأحيائها. وأضحت العربات المجرورة بالأحصنة والحمير بديلا عن وسائل النقل العمومي بكل أصنافها، ووسيلة للاتجار في الخضر والبقول واللحوم والأسماك وغيرها.
وصارت كذلك الإبل والأحصنة والبغال مكتسحة لأماكن الفسحة والترفيه والشواطئ والكورنيشات من أجل تقديم خدمة ركوبها من طرف المتنزهين والمصطافين، دون اكتراث لمخاطر انتقال الأمراض التي تحملها إلى الإنسان ولا للروائح المنبعثة مما ألقته من روث متناثر في كل الأمكنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا