الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحضر برائحة النتانة

سامر أبوالقاسم

2022 / 7 / 23
الادب والفن


ليس حشد الدعاية ما ينقصنا، فما عادت مثيرة للاهتمام. أسئلة تستمر معلقة على ذمة حرب أثقلت كاهل مواطنين لم يتعافوا بعد من تداعيات صراعات وأزمات وجائحات طيلة عقود من الزمن، وأخرى في الانتظار داخل قاعات التوافق على صيغة لاستحضار الحس الجمالي والإنساني في فن العيش.
ها هي ذي المدينة تحتضن عشوائية وبداوة ورداءة، ليصبح تدريب الأطفال خارج أسرهم ومدارسهم أبعد عن قيم المواطنة، وأميل إلى الاستقواء خارج أية قواعد رادعة أو زاجرة، وأرضخ لإعادة إنتاج أجيال لا أدوار مستقبلية لها.
ومع ما تنتجه التجمعات الكروية من عنف وممارسات همجية، وما يقوم به عالم المخدرات والمخدرين والمهلوسين من تصرفات متوحشة، وما يمارسه المغالون والمتطرفون من سلوكات عدوانية، وما تقترفه المؤسسات من أخطاء جسيمة، يتساءل المرء مرة أخرى: هل هي حرب غير محسوبة العواقب، أم أنها حتمية لا مهرب منها، أم هي خيارات مؤذية على رؤوسنا حطت أضرارها ومستقبحاتها؟
فلا الأسرة ولا المدرسة العمومية ولا مدارس البعثات الأجنبية ولا المدارس الخاصة ولا التعليم العتيق ولا الكتاتيب القرآنية ولا المساجد ولا خطب الجمعة ولا الأحزاب ولا النقابات ولا الجمعيات قادرة على إصلاح هذه الأعطاب الشاملة والمستدامة داخل رقعة المدينة. وعلى ما يبدو، فالقادم لا يشبه إلى حد ما غيره، ولا أجوبة لأزماته خارج منطق التاريخ والجغرافية.
تتعاظم المشاكل وتتكاثر، وتتفشى الأوبئة والأمراض، وتستفحل التداعيات، فيضيق العيش بالإنسان كما ضاق بالناس، ويتعايش مع خطابات زرع الأمل، ويمني النفس بتأهيل حضري للمدن وتحسين لمشهدها وتقوية لجاذبيتها، ويجزم مع نفسه أن أي تطور لا يمكن توقعه إلا بالحسم الميداني على الأرض.
عشوائية واقع المدينة لا توازيها أو تتفوق عليها سوى تلك الفوضى الإدارية داخل المؤسسات، التي برزت كفاءتها السحرية في جعل التجاوزات مصدرا للدخل وفعالية تمويلية لا غنى عنها في الحياة المهنية، وأبانت عن كعبها العالي في إرباك أحدث أنظمة التخطيط العمراني وفي تعطيل مفعول أرقى قوانين ردع المخالفين والمتجاوزين، وفي العبث بكل الإجراءات والتدابير الإصلاحية، لتتحول بذلك إلى خطر داهم ومهدد لكل أشكال الحياة المدنية.
لا يشعر الإنسان إلا كمن ابتلعته رمال متحركة، أو قفز من سفينة غارقة في أعماق المحيطات، ولم يجد منفذا لإسدال الستار على هذه اللوحة السريالية، ولا فكاكا من كماشة الشعور بالفشل والضمور.
هي خيبات حولت الناس إلى جموع هائمة في تخبط وضياع، وأفقدتهم الإحساس بمستقر للكيان والقلب والجوارح، وأقنعتهم بالتنازل عن المكابرة والمعاندة، وأرشدتهم إلى البحث عن ترياق مأمول لسم التحولات الجذرية المتسارعة والمخاطر المحدقة والتهديدات المتلاحقة.
تعددت التوصيفات لكن الواقع البائس واحد؛ وبدل القضاء على دور الصفيح أصبحت المدينة ذاتها ملاذا غير لائق، وأصبح العيش فيها عشوائيا، والهروب إلى إقامات الحظوة مكلفا.
وصار الإنسان محتارا بين اختيار صمت مريب أو انتفاض عجيب. فما أضحى مسموحا بإعادة إنتاج شروط الإعاقة في الحياة، خاصة وأن الدموع تعجز عن دفع الشقاء عن الناس.
نبتت الأسواق العشوائية في الشوارع، وصال الباعة المتجولون في الأحياء والأزقة وجالوا بحميرهم وبغالهم، وطغى على المشهد العام المتسولون، وتحولت فضاءات المساجد إلى أسواق صلواتية بعد أن كانت أسبوعية، وانتشر الحمق والتسكع والتشرد، وأضحت القمامات تعقد ولائم بحث عن "الصالح" للاستهلاك والاستعمال من بقايا طعام أو لباس، وتلوثت الفضاءات المدرسية، وتأثثت واجهات الشوارع بدكاكين لبيع الأضحيات.
وقبل أن تتغير المدينة بشكل جذري، كانت فضاء للاندماج في التحضر ومجالا للارتقاء بميول الإنسان، لكن سيطرة أوهام الماضي والتمسك بأشباح ما قبل الغزو غير كفيلين بتوضيح رؤية الحاضر ويؤكدان أن لا وجود لشيء مستقر للأبد سوى ما تمارسه بعض الكائنات من تداول في مجال تدبير الأمور.
وبعد أن كانت العشوائيات قرينة للكثافة والتفاوتات والزحام والتلوث والفوضى، أصبحت بفعل فاعل هيكلا يسائل الانتظام والعصرنة والتحضر، ويتساءل عن حال الحقوق والحريات والممتلكات والفضاءات العمومية، ويبحث عن معالم الإحساس بالأمن والاطمئنان.
وبعيدا عن المؤسسات والإطارات وتعداد المنجزات، وحده الإنسان يظل حبيس الشعور بالإذلال، إذ قد يتصدق على متسول مفتول العضلات تجنبا لتغوله وشره، وقد يخصص أجرا لحارس السيارات تفاديا لأذاه.
وبدل الركون لمقومات التمدن، يصبح متيقظا لعنجهية من يبرز حضورهم في الأماكن العمومية من أصحاب السوابق العدلية وحاملي العصي والهراوات والسيوف، المخدرين والهائجين المعتدين على الناس والممتلكات وقوات الأمن ذاتها.
وبفعل الخوف، لم يعد اللجوء إلى التستر على المجرمين داخل البيوت مستغربا، ولا دعمهم في المحاكم والسجون باستغلال علاقات أو نفوذ أو دفع رشاوي ممنوعا.
فلا اهتمام بالإنسان وتطوره، ولا حرص على الأطفال لتمثل قواعد السلوك وضبط النفس بالقدر المطلوب للارتقاء. فالمدينة أصبحت تسرق البسمة من وجوه الأطفال، وبعض الحدائق العمومية انقرض والآخر يحتضر، والموعود بإقامتها لن تظهر إلى حيز الوجود إلا على هيئة عمارات سكنية مكتظة بالسكان.
يحدث اليوم ما يخشى البعض الحديث عنه، إذ تحولت المساحات الخضراء وفضاءات الترفيه إلى أحياء وأزقة ضيقة، ممتلئة بالقمامات والأكياس البلاستيكية الملقاة على الجنبات والمشتتة في كل الأرجاء، واستبدلت الروائح المحببة بأخرى كريهة لا يمكن تحملها من فرط عفونتها.
وعجت العمارات والأحياء بالسكان، وما صار سائدا سوى اصطدامات واقتتال ومشاجرات ومشاحنات وملاسنات على مرأى ومسمع من الصغير والكبير.
وما لا حضور له ولا وجود هو ما يمكن أن يسمح للأطفال بالترفيه وتفجير شغبهم واستيعاب حركيتهم والاستمتاع بلحظات لعبهم، كما يفعل أبناء أصحاب الإقامات المحروسة بالمال أو السلطة أو هما معا.
فما جدوى القوانين في واقع ينغص حياة الناس اليومية من خوف على الأبناء من الدهس بالسيارات والدراجات النارية والعربات المساقة بواسطة الدواب في الشوارع والأزقة؟ وكأن صواريخ وقاذفات مدافع الخصوم أصبحت على حدود تحركات البشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا