الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهاربون من الاستبداد، والهاربون من الجوع والموت البطيء

فارس إيغو

2022 / 7 / 28
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


إنّ الكارثة التي تصيب بلدان ومجتمعات منطقة الشرق الأوسط من أفغانستان إلى المشرق العربي، وما حدث في أثر ثورات الربيع العربي والثورات المضادة التي تحالفت فيها أطراف اختلفت على كل شيء، واتفقت على شيء واحد هو القضاء على الأمل الديموقراطي الذي انبعث عام 2011، هذا التحالف الذي قادته روسيا وإيران وضم عدد من دول الخليج العربي، أدى إلى تحويل الربيع العربي إلى دمار هائل وضحايا بمئات الآلاف، وتمكن أخيراً مع الرئيس قيس سعيّد من زعزعة الأمل الوحيد الباقي المتمثل في ثورة الياسمين في تونس.
اليوم، نشهد في الشرق الأوسط، تحوّل خمس دول إلى دول فاشلة، مع انسداد أفق الحلول السياسية فيها، ونقصد سورية واليمن وليبيا والصومال وأفغانستان (بعد استيلاء طالبان عليها وعودة الأمور على ما كانت عليها قبل 2001)، وثلاث دول هي في حالة عدم استقرار وانهيار اقتصادي و بنى تحتية متهالكة، هي لبنان والعراق والسودان، وفئة ثالثة من الدول تعاني من صعوبات اقتصادية وانسداد أفق المستقبل، هي إيران ومصر والجزائر.
أمام هذا المشهد الكارثي نحن أمام ضرورتان يتحتم إيجاد الحلول الملائمة لهما لوقف النزيف أولا، ولإعادة إحياء الأمل في مستقبل أفضل، وهما على ترابط في العديد من النقاط، هاتان الضرورتان هما: حتمية الإصلاح الشامل (السياسي والاقتصادي والديني والاجتماعي) بالنسبة لدول منطقة الشرق الأوسط، وضرورة إيجاد طرق ذكية لحل مشكلة اللاجئين التي يمكن أن تتفاقم أكثر وأكثر في السنوات القادمة، حلول تبقي السكان قريبة من مدنها وبلداتها وقراها، وتبقي الأطر والنخب التقنية والمهنية والفكرية بعيدا عن الخروج والهجرة إلى الغرب بشكل أساسي وتركيا، وفي نفس الوقت يمكّن دول الغرب لامتصاص المهاجرين في الداخل الذين يعانون من مشاكل كثيرة في الحصول على العمل والاندماج والانصهار في الثقافة الغربية المفرطة الحداثة بالنسبة لمجتمعات الشرق الأوسط.
إن الإصلاح الشامل في بلدان الشرق الأوسط لم يعد رفاهية، هو أن نكون أو لا نكون والثالث مرفوع كما يقول أرسطو، أو حتى لا يوجد أي حل ثالث ممكن أو حتى توفيقي بلغة إصلاحيي عصر النهضة العربية. الإصلاح الشامل هو أمل في الحياة أو التشرد والنزوح والتهجير والموت البطيء للملايين. قد نتواسى بالنصوص الدينية بالقول: إن أرض الله واسعة، وهي قد تكون واسعة وقابلة للتضامن مع البشر الهاربين من الاستبداد، وهم بأعداد لا تتجاوز المئات أو الآلاف في حدود قصوى، كما كان عليه الحال الأمر منذ السبعينيات حتى نهاية التسعينيات. ولكن اليوم يجري الحديث عن شعوب بكاملها تريد الهجرة من هذه المنطقة المسماة بالشرق الأوسط إلى تركيا كمحطة أولى (وأحيانا نهائية بالنسبة للبعض)، ومن ثم إلى الغرب وليس إلى ديار الله الواسعة، إلى الغرب حصرا! فهل نتصور أن الغرب سيستمر في قابلية الضيافة والاستقبال كما نظّر بصورة ((هلوسية)) فيلسوف الضيافة جاك دريدا (الفلسفة المثالية قد تصبح هلوسة وجنون أحياناً)؟ الإمارات الأولى السيئة قد بدأت بالظهور، ليس فقط من الأحزاب اليمينية في الغرب لا بل من أوساط يسارية، وأوساط أخرى تتحكم بالسلطة كانت إلى وقت قريب ((هجروية)) متطرفة (أقصد تيار الوسط الليبرالي الراديكالي)، وحتى هناك علامات تمرد على القانون وشغب وعراقيل وتخريب من البيروقراطية والدولة العميقة في تركيا وبلدان الغرب. أما عن الرأي العام فهو قد بدأ منذ سنوات في الغرب يتحدث بصورة تصدم الحياء أحيانا عن عالم الاعتماد على المساعدة والحصول على مصادر للدخل من دون عمل، والمقصود معروف كتلة المهاجرين والمقيمين حيث تبلغ حجم البطالة والعمل الأسود في أوساطها أرقام عالية، ولا أريد الحديث عن الرأي العام في تركيا فالأمور هناك تفقع الحياء، ووصلت إلى حالة التمرد والفتن في بعض المناطق. وحتى لو افترضنا أن الأمور بقيت مثالية، وأن منظمات المجتمع المدني التي تعمل مع اللاجئين والبابا فرانسوا هما الذين يهيمنان ولو رمزيا على الوعي والضمير للفرد في الغرب، وأن رسالتهما مستمرة في الحض على الاستقبال غير المشروط، وأن الناس بقوا على أصول الضيافة التي يقترحها دريدا بلا وعي سياسي يميّز الكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع في الغرب، أقول لو افترضنا كل ذلك (وهي افتراضات غير واقعية ومستحيلة التحقق)، فإن المؤسسات في الغرب وبقايا الدولة الاجتماعية والقطاعات الخدمية فيه ستنفجر وتتوقف عن العمل في حال استمرار تدفق الملايين إلى الغرب، وسوف يؤدي ذلك إلى بدايات من الشغب والفتن في الشارع تفضي في النهاية إلى الحروب الأهلية.
باختصار، لا يمكن للهجرة أن تكون حلا، ولا حتى جزء من الحلول لمآسي الشعوب التي تعاني مشاكل انهيار الدول والحروب الأهلية في الشرق الأوسط نتيجة تعنت السلطات في رفض الإصلاح والفوضى الاجتماعية التي يخلقها الانفجار السكاني في هذه المنطقة. وما حصل منذ أيام في تركيا من خلال خطف عشرات الشبان السوريين على الحواجز الأمنية وإخراجهم قسرا إلى المناطق التي يسيطر عليها ما يسمى الجيش الوطني والحكومة المؤقتة دليل كبير على ما ينتظر اللاجئين في المستقبل القريب.
والهجرة نفسها عملية ظالمة في حالات الحروب، والحروب الأهلية بالخصوص. لماذا يصل البعض إلى ((الألدورادو)) الغربي والتركي، ويحرم الملايين والملايين من الذين لم يختاروا البقاء في المخيمات طوعاً، ولا في بيوتهم الخالية من أي شروط العيش كالماء والكهرباء، وحيث الدخل الشهري لا يصمد إلا لعدة أيام على الأكثر. نعم إنها عملية ظالمة، وتحتاج منا لا إلى التفكير لأنه في كثير من الحالات يتميّز بالأنانية بل، بالتأمل الوجودي العميق المتجرد من الأنانية ـ التي يتصف بها الإنسان بالفطرة ـ هذا التأمل قد يحثنا إلى هذا التساؤل: لماذا أتمتع بخيرات اللجوء المادية ومواطنيي يعيشون الأمرين في الوطن أو، في المخيمات بالنسبة لمن فقدوا حتى بيوتهم أو القدرة للعودة لبيوتهم.
علينا منذ الآن التفكير من خلال مؤسسات الأمم المتحدة والدول الدائمة في مجلس الأمن ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل في الإغاثة في إيجاد حلول ذكية تحاول توطين اللاجئين في مناطق حدودية آمنة ومؤمنة فور اندلاع الحروب الأهلية. لا أعرف لماذا لم يفكر المجتمع الدولي في هذا الحل الغير المكلف إذا استثنينا قضية التأمين العسكري لهذه المناطق وحمايتها من الطيران والقصف المدفعي (وهو أمر لا نستخف به أبدا). ولكن، بالرغم من صعوبة تأمين هذه المناطق الآمنة على الحدود، يبقى هذا الحل هو الأقل كلفة والأكثر إنسانية لمعالجة مآ سي الحروب الأهلية وحروب الاستبداد للبقاء في السلطة في الشرق الأوسط وغير الشرق الأوسط، والتي لن تتوقف غداً، ولا بعد غد، لا بسبب الحروب العسكرية فقط بل، بل حروب المناخ المنتظرة، والانفجار السكاني في بلدان لا تتوفر فيها للغالبية من السكان دخلاً يزيد عن دولار واحد في الأسبوع.
نقول في الأخير، إنّ الإصلاح الشامل بالنسبة لبلدان منطقة الشرق الأوسط هو حياة أوموت، أن نكون أو لا نكون كما صرخ يوما شكسبير عن طريق إحدى شخصيات مسرحياته. والإصلاح الشامل يتطلب أن تعي السلطات الحاكمة التي تعتقد أنها بعيدة عن الزلزال الذي حدث في المنطقة عام 2011 أنه ما زال أمامها بعض الوقت لتجنب الخراب الذي يمكن أن ينتج عن ثورات الحرية والكرامة، وأقصد بكلامي دول الخليج العربي على الخصوص.
وبعد أن وصفنا جوهر العقبة الرئيسة للإصلاح الشامل والمنظّم في السلطات الاستبدادية النهابة، فمن الضروري أن ننوّه إلى أن الإصلاح يتطلب من المطالبين فيه (وهم كل المتضررين من هذا الوضع الكارثي)، وخاصة من المعارضين أن يغيّروا في أفكارهم، وعندما نقول أفكارهم، لا نقصد أفكارهم السياسية فقط، بل حزمة الأفكار كلها التي أصبحت بالية، من المستوى السياسي إلى المستوى التديني مرورا بالأسرة الكبيرة العدّد والمجتمع، فمن المستحيل أن نسير في الإصلاح الشامل مع هذه الأفكار التالفة التي يشييّعها العديد ممن يسمون بالمفكرين أو السياسيين السيئين، ويرددها ببغائيا الملايين ممن لم يقرأوا إلا كتابا واحدا في حياتهم.
نحن لسنا ضحايا أقدارنا بقدر ما نحن ضحايا أفكارنا، وضحايا من يزرعون في رؤوسنا هذه الأفكار الفاسدة التي لا تنتج سوى الانسدادات والتعصب الأعمى، والتي تنعكس في سلوكياتنا وأفعالنا أو أفعالنا الخاطئة.
فلا ننتظر أي خلاص إذا لم تنتظم أمورنا بصورة عقلانية وعملانية تتميزان بالمرونة، ونعرف أخيراً كيف نراكم الأصدقاء ونقلل الأعداء، وهو أمر ممكن عندما نضع لائحة تتضمن من هم الأعداء، ومنهم الخصوم ومن هم الأصدقاء، ومن بين الأعداء التمييز بين من هم الأكثر خطرا، ومنهم الأقل خطرا، ومن علينا أن نتناسى عداءهم للحظات تاريخية.
لحين ذلك، لا يمكن بقاء أمور اللاجئين الهاربين من الاستبداد، والهاربين من الجوع والموت البطيء، دون حلول دولية ذكية، ومنها الحل الذي أطرحه في مقالتي، والذي يتطلب أولاً إرادة سياسية دولية، وسرعة في التحرك، والتعاون بين دول مجلس الأمن الدائمة العضوية، وأظن أن الدول الغربية لن تقف عقبة أمام مثل هذا الحل كونها دفعت لتركيا ستة مليارات دولار لاحتواء اللاجئين لديها، وهو مبلغ كبير للبدء بإسكان اللاجئين من الشرق الأوسط على الحدود في بيئاتهم الثقافية والجغرافية الخاصة، وفي شروط دنيا تحافظ على الكرامة الإنسانية واستمرار مؤسسات أساسية مثل المدرسة والمستشفى والحماية الأمنية التي سوف تكون هي العقبة الكبرى، ولكن مع غياب أي حلول أخرى، فإن هذا الطرح هو الوحيد القادر على إنقاذ الناس، وأيضاً إبقاء شعلة من أمل على بناء المستقبل لتلك الدول التي تعاني ويلات الحروب الأهلية والدمار التي تخلفها.
وربما، تكون المجتمعات الجديدة على الحدود هي المجتمعات المدنية الأمل، والتي ستغزو بالمعنى الإيجابي المناطق الداخلية كما غزت أوروبا الغربية بحضارتها وأنظمتها السياسية الحرة دول أوروبا الشرقية، وأسقطت نظمها بطريقة سلسة وسلمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام