الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات الصبا..ولاتبرّجن تبرج الجاهلية.. ـ17ـ

مهند البراك

2022 / 7 / 31
الادب والفن


انتقلنا الى الكاظمية التي كنّا في السنوات السابقة نزور مراقدها المقدسة في ايام الزيارات و في ليالي الجمعة او عند مجئ اقاربنا من الفرات للزيارة فقط، و بقدر ما كانت الكاظمية مجهولة لنا نحن الصبيان . . كانت جذّابة من خلال ما كنّا نسمع من احاديث الكبار و العوائل و النساء و مايرووه من احداث و قصص تأريخية و معاصرة عن بطولات و مواقف وطنية لأهلها الشجعان . .
كانت حيطان شوارعها آنذاك تشهد على وجود صراعات سياسية حادة هناك، مما مكتوب عليها بالبوية الحمراء و غيرها من وسائل الكتابة على الجدران، فكانت مزدحمة بالشعارات و المطالبات و النداءات، مثل :
" الحياة و الحرية للبطل منذر ابو العيس و رفاقه الشجعان" ، " السلم في كردستان "، " نطالب بحل عصابات الجَتَه في كردستان" (الجيم بثلاث نقاط، و كانت عصابات كردية شكّلتها و قادتها استخبارات الزعيم لمواجهة الثورة الكردية، و هي غير الجاش)، " اطلقوا سراح السجناء السياسيين" . . و كانت كتابات اخرى بالاسود ممسوحاً عليها بانواع مختلفة من البوية بحيث لايمكن قرائتها، تركّزت على ماهو مستل او محرّف من آيات القرآن او من فتاوي على رأسها فتوى الحكيم (الشيوعية كفر و الحاد) التي زادت الصراعات هناك حدة . .
كان بيتنا الجديد حديث البناء مكوّناً من صالة و غرفة طولانية مقسمة الى غرفة ضيوف و غرفة طعام، غرفة نوم الوالدين و غرفة في الطابق العلوي لمنام الاولاد و البنات، كانت تقابلها غرفة لم يكتمل بناؤها و قفلت بابها . . و للبيت حديقة امامية جميلة لابأس بكبرها و حديقة خلفية صُممت لزراعة خضروات بيتية، عملنا و خاصة مفيد و محمود في احد جوانبها بيت خشبي صغير له باب للمرور و صارت لتربية الدجاج و مصدراً للبيض . .
و كان البيت واحداً من بناءٍ تؤم سكن في البيت الثاني منه نقيب متقاعد (ابوسلام) و عائلته الكبيرة، و كان قد شارك بفاعلية في حرب فلسطين و قيل انه كان آمراً للمقاومة الشعبية في الفرات الاوسط و في الديوانية تحديداً، و قد احيل على التقاعد اثر حل المقاومة الشعبية و احالة مئات من الضباط اليساريين على التقاعد . .
كان البيت يقع في المنطقة المبنيّة حديثاً الممتدة من جنب (معهد الزهراء المهني للبنات) المطل على ساحة الزهراء عند رأس جسر الأئمة . . و تمتد المنطقة الى بيت قائمقام الكاظمية و (متوسطة الكاظمية للبنين) و الى جنب (ثانوية الكاظمية للبنات) . . و كان عدد من شوارعها لايزال غير مبلّط بعد لكونها منطقة جديدة، و نظراً لكونها جديدة ساعدنا ذلك على اقتناء تلفون لوجود عدد من كابلات التلفونات غير مشغولة.
كانت الكاظمية آنذاك ملجأً للعوائل اليسارية و الديمقراطية الهاربة من انواع الملاحقات و الاعتداءات للعناصر المتطرفة كما مرّ، اضافة الى عوائل الضباط الديمقراطيين المحالين على التقاعد لأسباب سياسية كما جرى الحديث، فكان في محلتنا يسكن اضافة الى النقيب ابو سلام الذي اشتغل بالمقاولات، الرائد سامي (ابو عماد) الكردي من اهالي السليمانية المحال على التقاعد و الذي فتح دكاناً لبيع المواد المنزلية باسعار متهاودة قابلاً بالبيع بالدين وفق سجل و بتسديد شهري الذي كان مساعدة كبيرة لذوي الدخل المحدود . . اضافة الى النقيب الكردي المتقاعد من السليمانية ابو سولاف . . وكانت تسكن خلفنا الفنانة المعروفة (ناهدة الرماح) مع عائلتها و اطفالها، اضافة الى وجوه معروفة لفئات متنوعة في المجتمع البغدادي آنذاك . .
و قد فرحت كثيراً لإمكاني استخدام الدراجة الهوائية للتجوّل و التعرّف على المدينة، التي كانت وسيلة لقضاء الوقت و التسوّق و شراء الحاجات الضرورية للبيت، اضافة الى التجوّل بدافع الفضول و حب المعرفة و الإطلاع على المدينة و مرافقها، المدينة التي كانت تشدّني اليها اكثر . .
الكاظمية مدينة كبيرة تشمل حواري و محلات قديمة كمحلة القطانة و الشيوخ و الدبخانة الى المحلات و الحواري القديمة المطلة على شارع المحيط القديم، و اضافة الى قِدمْ بيوتها، فإن طراز بناء بيوتها و زخارفها اضافة الى انواع الروايات عنها و عن اهلها و مهنهم، كان يشير الى مدى تأريخيّتها و دورها الهام الإجتماعي و السياسي و التأريخي في عموم البلاد . .
اضافة الى انها احتوت على مناطق و محلات جديدة منذ تواريخ متنوعة . . من المحلات الواصلة بين شارع الفجر الممتد من رأس الجسر العتيق و معمل فتاح باشا و مستشفى حماية الاطفال في باب الدروازة و المتفرع منه الى تانكي الماء، و الى ضفاف النهر . . و البيوت الجميلة الاخرى المطلة على كورنيش الكاظمية بين جسر الائمة من المنتزه الحديث لأمانة العاصمة (منتزه 14 تموز) و مدرسة دجلة الإبتدائية النموذجية و مديرها المربيّ الذي اشتهر اسمه في المجالات التربوية و الإجتماعية السيد (جعفر سلماسي) . . الى ساحة الشاعر (عبد المحسن الكاظمي) .
اضافة الى منطقة النواب ثم الدباش و الحرية و الشعلة . . و شوارعها الرئيسية المكتظة دوماً بالناس و بانواع السيارات المتنوعة الاحجام و سيارات الحمل و الحافلات . . بمزاميرها التي تصم الأذان احياناً، حيث انواع المعامل الصغيرة و الورش و المهن الضرورية و الفيترية و الفنادق الصغيرة، و فروعها الجانبية التي تبدأ بمحلات الخضروات و الفواكه و الحلويات، و المكتظة بانواع مئات و آلاف البيوت الصغيرة . .
و قد لعب وجودي كطالب في (متوسطة الكاظمية للبنين) التي كنت فيها من الطلبة المتفوقين، لعب دوراً كبيراً في تكوين صداقات مع طلاب متنوعين من المتوسطة و مع عوائلهم بمساعدتي الدراسية لأبنائهم و زيارتهم، اضافة الى وجود مفيد و محمود في (اعدادية الكاظمية للبنين) قرب تانكي الماء، في وقت كان يمكن فيه القيام بصداقات واسعة لطيبة اهل الكاظمية و روحهم الإجتماعية، و يمكن لأن عدد كبير منهم كانوا من عوائل ديمقراطية مسالمة في الحياة العامة لايتدخلون بالاصل و الفصل، و يشعرون بأهمية الصداقات و دورها في نمو الصبيان و علاقات العوائل التي تقوم بحمايتهم من اوساط ضارة في ذلك الزمن الذي احتدم فيه الصراع السياسي و صار يتخذ ابعاداً عنيفة كما سيأتي . .
و اضافة لغالبية العوائل الطيبة، يمكن ان تشاهد انواع من عوائل اخرى و انواع اخرى من العلاقات، منها عائلة تركمانية طيّبة صديقة لجيراننا، ارتفعت في يوم ما اصوات شجار عنيف طغى عليه صوت الأب القليل الظهور و هو يصيح :
ـ و شنو يعني . . هي عشيقتي و انت زوجتي ؟؟ احنا نعيش سوا لأننا عايشين قصة حب، حب كبير اوصلتني به الى مسؤول قسم في معمل الطحين . .
و عائلة من اصول تركية من اسطنبول كان الاب رياضي الجسم مدرس رياضة ولاعب بوكر دولي، استفاد من البوكر ليحسّن دخله الشهري، تزوجت ابنته من شاب فرنسي تعرّفت عليه في مسبح الـ (واي. ام. سي. اي.) الواقع في السعدون و هاجرت لتعيش معه في باريس . . و كان الابناء و خاصة جعفر، كانوا معنا زملاء في الصف طلاباً مؤدبين و اصدقاء اوفياء، استمرت صداقتنا الى نهاية الستينات بعد ان انتقلوا الى بيت ورثوه من جدتهم في شارع 52 . . حيث ازدادت صداقتنا وثوقاً بعد ان جمّعتنا مقاومة الكاظمية لإنقلاب شباط الاسود . .
و من الطرائف التي مررت بها، ما حدّثني به اياد الذي كان احد ابناء عوائل المنطقة في نهار كنّا ندرس فيه معاً، حين قال لي ان مصاريف الكهرباء تضاعفت عندهم بشكل غير معقول و انهم رفعوا شكوى الى ادارة كهرباء المنطقة التي اجابتهم بعد تدقيق القوائم (انها صرفياتكم وفق القوائم الاصولية الموجودة عندنا و عندكم بعد قياس الكهرباء و اننا استبدلنا جهاز القياس بجهاز جديد رغم ان القديم كان يعمل بشكل منتظم، اكراماً للحجّي الوالد) . .
و قال انهم (طلبوا منّا تدقيق ذلك من خلال قياس التأسيسات التي يمكن انها تسرّب الكهرباء، او هناك من يسرق منكم الكهرباء بعمل (جطل)، هو يستهلك الكهرباء و انتم تدفعون المصاريف . . و نبّهنا الى انهم بعد التدقيق، لاحظوا انه تتضاعف عندكم الصرفيات في الصيف فقط، هل تستخدمون اجهزة تبريد متطورة عالية الصرف ؟؟ و طبيعي لم تكن عندنا مثل تلك الأجهزة و لكن . . )
وقال،( ذات ليلة صيفية و كنّا ننام في السطح، اشتد الحرّ و سكنت فيها الريح و نشط (الحرمس) الذي لم يدعنا ننام من قرصاته و طنينه، كنت احاول النوم في الصالة و افتح المبردة في الاسفل . . نزلت الدرج و تفاجأت بأن هناك ضوء في الاسفل . . فأخذت حذري و اخذت انزل الدرج دون احداث ضجة حاملاً عصا جديّ و كانت المفاجأة . . رأيت جدتي فاتحة الثلاجة الكهربائية على مصراعيها و نائمة عندها !! . . و صاحت :
ـ ها اياد شكو عندك بنص الليل نازل جوّه ؟؟
ـ نزلت من الحر حتى افتح المبردة و انام في الصالة . .
ـ تفتح المبردة ؟؟ و ماتحسب المصاريف ؟؟ هاي المبردة تصرف صرف بس الله يدري شكد، يجوز هاي قوائم الكهرباء المرتفعة منها . . آني بالصيف كل مايزيد الحرّ افتح الثلاجة و انام عدها و هي هادئة و ماتصرف هالصرف . . !! )
و بينما كنا نضحك على السالفة . . سمعنا الجدة و هي تصيح بصوت عالي :
ـ ولج (فرقد) بدّلي الدشداشة مالتج . . هسه الناس شتكول علينا ؟؟
ـ بيبي آني رايحة الى بيت اختي و لابسه عباية و دا تشوفين . .
ـ ولج عليّ آني !! بدّلي الدشداشة البرلون الشفافة . . هاي حتى لباسج الاسود مبيّن منها . . مكصوفة الركبة آني جنت بعمرج سويّت العجايب، عبالج بس انتي تدوّرين مغامرات، جنت امشي بدشاديش كبل الشفافة و افتح العباية . . لعد شلون كدرت اقفص جدّك اللي جان عنتر زمانه بحزامه الخمس اصابع و خنجره !! بس انت بعدج زغيّرة على هالسوالف . . افتهمتي ؟؟ ولج جيراننا قالت انت من تمشين صحيح لابسة عباية لكن نص كفشة راسك طالعة و دائماً فاتحتها! كذب ؟!
و كانت النكتة الكبيرة التي صادفناها انا و اياد و نحن في الشارع، هي النقاش الحاد بين المحامي الشايب ذي الجلباب و السترة، السيد اسود مع ابنه في الشارع :
ـ ولك شنو انطيك يوميّة ؟؟ مو هسه انطيتك ؟؟
ـ لأ يابه انت انطيت اخويه اليومية !!
ـ و لك انت ابن من ؟؟
ـ آني ابن مليحة . .
كان المحامي متزوجاً من ثلاث نسوان و بنى بيته الكبير ذا الطوابق الثلاثة الواسعة لتكون كل زوجة و اطفالها في طابق معزولة عن الأخريات و مشاكلهن . . و لكن بعد ان كبر سنه و اثر الحاحه في الجنس صار عنده بنات و اولاد كثيرين، من عمر الجامعة الى اعمار الروضة و كان ينسى اسمائهم و يختلط عليه هذا الولد من اية امرأة منهن، و تختلط عليه الأسماء التي كان يدققها يومياً في وثائق النفوس في جرارات مكتبه حيث كان يعمل محامي و دلاّل بيوت . .
و لابد من القول بانه مما يجلب الانتباه روح التضامن الاجتماعي و المحبة و تداخل القرابات بين اهالي الكاظمية و محبتهم للعوائل و للساكنين الجدد الهاربين من العنف و الضغوط السياسية التي كانت تعاني منها محلات و حواري بغداد آنذاك . .
كانت متوسطة الكاظمية اضافة لكونها مؤسسة تعليمية، الاّ انها كانت مكاناً للتعارف و للصداقة، حيث غمرت جوّها روح التسامح و المحبة، الاّ انها ضُربت ضربة كبيرة عندما نقلت وزارة التربية مديرها اليساري المربي المعروف (عبد الجليل مطر) ـ ابن عم الضابط المناضل سعيد مطر ـ و استُبدل بمدير جديد عنيف اطلق عليه الطلبة لقب (عريف عودة) عريف عودة مداوم اليوم، عريف عودة طلع، عريف عودة خابر الأمن . .
حتى نسينا اسمه الحقيقي، لمطاردته و إخباره رجال الأمن عن الطلبة اليساريين الناشطين في المتوسطة ليعتقلوهم، رغم انهم لم يُثيروا مشاكل تعكّر سير الحياة في المتوسطة و لكن كوقاية كما كان يقول . . و كانت قمة صلاته الغير محترمة تلك، اعتقال الأستاذ و الوجه الديمقراطي الأستاذ (الحداد) لنقاش سياسي دار في غرفة المدرسين . .
و في اعمارنا تلك كان مايشغل تفكيرنا موضوع الغرب واوروبا بدعاياتهم الجذابة و افلامهم الملوّنة الجميلة و سياراتهم الفارهة و منتوجاتهم فائقة الجودة كما انتشر بين الناس كـ (احسن حذاء هو انكليزي و بالعامية ـ قندرة كلاصية ـ )، اضافة الى الأنطلاق اللامحدود والأختلاط و غزو الفضاء و غيرها دون ذكر للروس السوفيت بافلامهم الحربية و انتصاراتهم على النازية و تحريرهم للعديد من الشعوب و انجازاتهم و نجاح رائد الفضاء (غاغارين) و قبله الكلبة (لايكا) . .
مما ادخل في عقولنا اننا لانعرف شيئاً عن عالمنا بفعل السياسة الحكومية و التطرف بالدين و بسلطة الأخلاق المحافظة . . و كان ذلك و غيره يثير عندنا روح الفضول الى معرفة ماهو التحرر، هل هو انقلابات عسكرية و هل هو بالقوة و الجيش فقط ؟؟ و ماهو دور الدين ؟؟ . . و لماذا لدينا ذلك الكبت الإجتماعي . . هذا عيب و هذا حرام ؟؟ و من هم في عليّة المجتمع و الحضرة الدينية يعيشون علاقات في الظلام شئ و في النهار شئ آخر، اليس هذا نفاق، و لماذا يلجأ الناس الى النفاق . . ؟؟
كان العديد ممن في اعمارنا هناك، ابناء عوائل من التجّار و الكسبة و من الباحثين عن مهارات و مهن لتكون خير سند لهم في حياتهم فيما لم يجدوا وظيفة حكومية او صاروا في اعمار المتقاعدين، اضافة لأبناء من عاشوا على التجارة بانواع و درجات متنوعة، و كانوا مستعدين لأنواع المغامرات كمغامرة ابن عائلة البياع ابن المتوسطة في مساعدة خاله الذي حصل على امتياز شاحنات المرسيدس، و انكب على سياقة الشاحنات من برلين الى بغداد عبر تركيا، و كان يحدّثنا عن الحياة الخيالية هناك قياساً بحياتنا، و الصديق فائق الذي كان يُعدّ اوراقه للهجرة الى اميركا ليحقق حلمه في ان يصبح طيّاراً مدنياً و ان الدول الإشتراكية لاتسمح بالهجرة اليها . . في وقت لم تكن فيه معاهد لإعداد و تخريج الطيارين المدنيين في العراق . .
و كانت تتشكّل صداقات متنوعة بين الشباب الصغار، كان لولبها مفيد و محمود، للقيام بسفرات او للسباحة في النهر صيفاً او للقيام بفعاليات كفعاليات التمثيليات الفنية التي كانت تُقام في بيت كاشي و كانت من اعداد و اخراج الطالب (قاسم الملاك) الذي صار فناناً مسرحياً بارزاً بعدئذ في البلاد . . و كانت العوائل تشجّع ابنائها على تلك الفعاليات التي تملأ فراغ الشباب و تبعدهم عن تيار السياسة الجارف الذي كان يهدد باكتساح الجميع . . كانوا يريدون من ابنائهم ان يدرسوا ويتخرجوا و تصبح بأيديهم مهناً ليؤمنوا عليهم من مخاطر الضياع و العوز . .
و فيما كانت تتزايد اعداد العوائل اليسارية الهاربة الى الكاظمية . . اعتاد وجوه محلة " بستان الشيخ حسين" ان يلتقوا في مساءات الخميس على الجمعة الصيفية في بيت التاجر (الدهوي) الذي كان معلما و ترك التعليم و عمل على مساعدة والده و تعلّم صنعته و صار تاجر حبوب ووجهاً معروفاً في مناطق الفرات بحكم انتمائه العائلي في مناطق الشامية.
و ازدادت مكانته الإجتماعية لكونه كان من نشطاء مجالس السلم التي انتشرت في تلك السنوات في عموم مناطق العراق، والتي كانت تدعو الناس الى العمل من اجل الإبتعاد و الخروج من الأحلاف العسكرية ومن اجل اتباع سياسة عدم الأنحياز . . بعد ان عرفت الناس وبشكل واسع اهمية البلاد للأقتصاد الدولي و كم هي ثرية، اضافة لما حصل اثر ثورة ثموز 1958 من انزالات عسكرية في المنطقة . . رغم حزن الناس على مقتل الملك الشاب فيصل الثاني . .
و كان مجلس التاجر الدهوي الذي اعتادوا ان يكنوه بـ (الشيخ) ينعقد عادة في حديقته الواسعة الملاصقة لمبنى المدرسة المتوسطة، الحديقة ذات عطر الشبوّي الذي كان يفوح عند الغروب، حيث يعمّر الموقد المبني من حجر بإيقاد الفحم لإعداد الشاي والقهوة والأركيلة للضيوف والتي كان يشرف عليها احد عمّاله المهرة . .
و كان الوالد و صديقه حكوّمي من المداومين على حضور مجلس الشيخ الأسبوعي بعد تقديم المحامي كاظم الطائي لهما للمجلس، لتبادل اخبار اوضاع البلاد و تطوراتها و مناقشة الأفكار و لمناقشة الأساليب الأحدث في التعامل مع الابناء الشباب في تلك الظروف، و من ذلك المجلس الاسبوعي تعرّف الوالد على دائرة اوسع من العوائل التقدمية المعروفة، و كنت مرافقاً لوالدي في ذلك المجلس و اسمع و افكّر بما يقولوه و يناقشوه . .
في وقت كانت الكاظمية فيه تعيش اوقاتٍ متوترة متنوّعة، من تزايد التعرّض للسافرات والتعرّض لهن بحجج عدم ضبط الحجاب، ومن تزايد الشعارات المخطوطة على الحيطان التي كان يتصدّرها شعار فتوى المرجع الاعلى الحكيم (الشيوعية كفر والحاد)، وملصقاته بصورته البادي فيها بملابسه وعمامته الدينية السوداء ، اضافة الى الملصقات الداعية الى الحجاب والى ضرورة التمسك به ورقع نصوص (وَقَرْنَ في بيوتِكنّ ولاتبرّجْنَ تَبَرّجَ الجاهلية الأولى . .) ناسين عن عمد بانها قيلت في القرآن الكريم بحق نساء النبي في سورة الاحزاب، و ليس بموقف الإسلام من حق عموم النساء . .
و من جهة ثانية تزايد كتابة الشعارات على الحيطان، المطالبة بـ " السلم في كوردستان " وبـ " اطلاق سراح ابناء الموصل الأحرار" والمطالبة بـ " عدم تنفيذ احكام الأعدام بحق المناضلين الأبطال " ممن قاوموا انقلاب الشواف في الموصل . .
و تفجّرت تلك التعبئة المحمومة و ابتدأت بمعاداة حقوق النساء و التعبئة بـ (نجاستهن) بحادث حدث لأول مرة في الكاظمية حين القى ملثم بدشداشة سوداء، حجراً كبيرأً على زائرة اوروبية كانت تزور الكاظمية و ارادت رؤية ضريح الإمامين الكاظمين و قد التزمت بالتحجب بملابس طويلة و شال على رأسها و نظارات سوداء كبيرة غطّت وجهها، و لحسن الحظ لم يسقط الحجر عليها و انما سقط جنبها، فيما تفاجأت هي و صرخت صرخة مدويّة جمّدت اصحاب المحلات و الزائرين ليروا ماذا يحدث . . كانت الزائرة برفقة سيدتين كريمتين عراقيّتين متلفعتين حتى الوجه بعبائتيهما و معهم اطفال . .
و انتبه الجميع الى ظهور جماعة بملابس سوداء قطعوا الشارع الموصل الى الحضرة الكاظمية ، و ميّزوا ان اغلبهم كانوا من شباب سيئ السمعة و الأخلاق وكانوا يصيحون بـ :
(و لاتبرّجوا تبرّج الجاهلية الاولى) و كان احدهم متلفع ببيان السيد محسن الحكيم (الشيوعية كفر و الحاد) . . و صاح آخر (يمنع مرور الكفّار بأمر المرجعية !!)، فيما همس الناس بعضهم لبعض (هذولة جماعة محمد ابن الشيخ ـ او شيخ محمد ـ) . .
و فيما كانت تنتشر بين الناس اخبار، عن ان تلك العصابات الدينية تعود الى محمد ابن شيخ مرجعية الكاظمية، الذي حمل رتبة ملازم كهدية من استخبارات الزعيم على (مواقفه الوطنية) و بقي و استمر على صلة و تنسيق معها، الأمر الذي زاد من خوف الناس منه و من عصاباته . .
فإن ذلك الحادث فاجأ الحضور و عموم اهل الكاظمية، الذين كانوا يرحّبون باهتمام الاوربيين بثقافاتنا و تأريخنا، و ان تلك الزيارات كانت مفخرة لأهل الكاظمية ان اوربيين يأتون الى رؤية و تسجيل و نشر مقدّساتنا، و ينزلون في فنادق المدينة و يأكلون في مطاعمها، و يحضرون ما يقام من شعائر حسينية فيها . .
في ظروف تزايدت فيها مجاميع الملثمين الذين كانوا يأتون ليلاً الى المقاهي مهددين اصحابها باغلاقها ان سمعوا اصوات موسيقى واغاني تنبعث من داخلها، وكان اصحاب المقاهي يتجنبون تلك الأعتداءات بدفع مبالغ مالية كبيرة لهم كخاوات لتفادي الأعتداء على المقاهي، التي تم الأعتداء على عدد منها بلا ايّ نقاش، بتكسير ابوابها ومحتوياتها بالهروات الثقيلة لأنها ملتقى شيوعيين، او بحرقها والأعتداء بالضرب على اصحابها، و وصل الحال ببعضهم الى حافة الموت . . .
وكان كل ذلك يجري بعلم، بل وحتى تحت انظار الشرطة التي لم تكن تحرّك ساكناً الاّ اذا أُحرجت بالأنفضاح، فكانت تقوم بشكل مسرحي بمحاولات اتصال يمكن انها كانت وهمية، وكان موقفها المشين ذلك يتكرر . . لدى رؤيتها مجاميع من الأشقياء و الساقطين الذين كانوا يلقبوّن بـ (جماعة الشيخ)، الذين تصدىّ قسم منهم لطالبات متوسطة قريش وثانوية الكاظمية للبنات و اعتدت عليهن بالضرب بحجة كونهن سافرات او ان حجابهن خليع، حُلّ قسم كبير منها بدفع خاوات عالية !!
حين كانت المدرستان تشغلان بناية واحدة جنب مغسل الموتى (المغيسل) !! الذي كان يغص بلا انقطاع بالمشيّعين وبالموامنة المرافقين، و بدعواتهم عسى الرب يرسل الميت الى الجنة !! وسط صراخ ونحيب كان يصمّ الأذان في اغلب الأحيان وفي اغلب الأيام .
وفي فجر يوم صيفي وفي احد ازقة المدينة القديمة في حي " القطّانة " . . استيقظ الأهالي عند صلاة الفجر على صيحات :
ـ الله واكبر . . الله ينتقم من الظالمين !!
ـ الكفّار قتلــــــــــــــــــ . . وني !
و عند خروج عدد من ساكني المحلّة، وجدوا الشيخ " سيد لطيف " مضرّجاً بدمه ميّتاً . السيد الذي كان من رجال الدين المعروفين في الكاظمية بتأييده للإجراءات الديمقراطية وللأصلاح الزراعي ولقضايا الفقراء والكادحين، والذي كان من نشطاء منظمة انصار السلام . .
الإغتيال الذي ادىّ الى استنفار شباب الكاظمية و خاصة الشباب اليساري والديمقراطي، حيث بدأوا بتسليح انفسهم بالسكاكين وبوكسات الحديد، ومن تمكّن بالأسلحة النارية ايضاً لمواجهة مجاميع العصابات التي بدأت باستفزاز الطلبة من اعضاء (اتحاد الطلبة العام) الذي جمّد علنيته مكتب الزعيم، وبالأعتداء عليهم بالضرب المبرح الذي كان يصل حد الموت في حالات عديدة. بعد ان تطورت قضية فرض الحجاب و مكافحة التبرج، الى تشكيل فرق تهاجم السافرات وتهاجم بيوتهن و اطفالهم بتلك الحجة، فيما كانت تستهدف عوائلهم بالذات، انتقاماً من أب او زوج او اخ لم يسايرهم . . (يتبع)

31 / 7 / 2022 ، مهند البراك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة