الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مع أول خيوط الفجر

ايناس البدران

2006 / 9 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


اقسم اني رأيتهم والناس الذين انضموا الي فيما بعد رأوهم ايضا، واشاروا بأصابعهم المرتعشة رغم الدخان الكثيف اليهم، كنت ادور بعيني بحثا عن التفاصيل الاخيرة والريح هوجاء تعدو خلفي في كل اتجاه.. وددت لو اجوب بروحي بحثا عن شيء ما، لمحت حمائم ظلت طريقها الي القباب المشطورة واناس تبعثرت اجسادهم، بعضهم انسل ليختبيء في الزوايا وذاب البعض الاخر خلف ظلال المآذن المبكرة.
لطالما احببت صوت الاذان يسكب في اذني كرحيق سلام سماوي.. جدتي كانت تقول بأن صوت المؤذن يبعد الشرور ويطرد الشيطان، لذا استغربت حين اتوا بجثته بعد يومين من اختفائه ممثلا بها من مشرحة الطب العدلي!
كان زوجي يقود مركبته المتهالكة بحذر من يروم اجتياز الكثير من العوارض والمتاريس بنجاح، قال لي مطمئنا:
- سيصبح كل شيء علي ما يرام. فتبادلنا الابتسام حين لمحت رتلا قادما فهتفت فيه -تنح جانبا انحرفت المركبة بسرعة صوب الطريق الترابي- مر الرتل المكون من أربع آليات ضخمة غريبة الشكل من جانبنا دون ان يعيرنا التفاتا لكنه اثار زوبعة من تراب خانق.
حاولنا التظاهر ان كل شيء علي ما يرام كانت الدروب تعدو خلفنا هربا من قيظ الظهيرة الذي كان يشوي كل جزء يناله منا.
حاولت بشجاعة منهكة -لكثرة ما استحضرتها- ايقاف خلجات اليأس داخلي وشهقات الحزن في احشائي متجاهلة الاشواك المغروزة علي جانبي الطريق والابواب الموصدة دوننا والتي يدور خلفها لغط كثير.
اشحت حينها بوجهي كي لا يري زوجي ترقرق الدمع في عيني، لكنه اطلق زفرة حري كأنما قرأ افكاري والقي بعقب سيجارته الاخيرة الي حيث تتدحرج بقية الاعقاب، ومع ذلك كان علينا المضي في طريقنا حتي النهاية متأملين تفادي كل الاحتمالات المرعبة.
اغمضت عيني حين انعكس فيهما بريق ماضٍ كشظايا المرايا بعدها غطي اللون الترابي الكامد علي كل الالوان.
كطفلة تطارد الفراش حاولت اقتناص لحظة انبعثت من بين اكوام الذكريات المبعثرة، صورة رائقة لعصفورين منتشيين بحلمهما الصغير تحت زخات مطر ربيعي، كم حاولت بعدها ايجاد تفسير معقول لكل ما يجري حولي من جنون، ما اكثر ما تداخلت الاشياء في رأسي واختلطت شأنها شأن اللوحات السريالية التي يفسرها كل بطريقته دون ان يعلم احد علي وجه الدقة ما قصده الرسام.
بعدها فكرت ان اجمع ما تبقي مني في حقيبة لألقي بها في يم غربة بلا قرار، ولكن ما جدوي تغيير الامكنة مع نفس استوطنها الحزن، سيكون مجرد تغيير للون العذاب ليس الا.
وتساءلت في سري ببلاهة لماذا تأكل القطة ابناءها؟ ولماذا استوطن هذا الالم الرهيب رأسي وجذور رقبتي؟
قررت ان اطلب من والدتي -حال وصولي البيت- ان تدعك رقبتي بزيت حبة البركة ففيها دواء لكل داء الا السأم، كان ذلك قبل ان يرتفع رأسي ككرة في ملعب ليحلق فوق ارجاء المدينة المتعبة الممتدة افقيا علي مرمي البصر. كانت عيناي تدوران تبحثان عن جواب لسؤال محدد ذكرتني به مقولة (اعرف عدوك) فتساءلت في سري من عدوي؟ صار السؤال يتردد صداه يعلو رويدا فيكاد يصيبني بالصمم، من عدوي؟ كأنني اعيش كابوسا احاول ان اتذكر استنتج احك رأسي بأصابعي كعادتي كلما هممت في التفكير، حين اكتشفت بأن كفي قد بترت، تلفت بحثا عن ذراعي الاخري فاذا بها تطير هي الاخري فتهبط ليتلقفها زوجي قبل ان تهوي الي الارض وكان ينقل بصره بذهول بين الارض والسماء.
صراخ امرأة يعلو فوق تفكيري بهستريا.. حقا لم اكن مواظبة علي الصلاة الا اني اجتنبت الكبائر، عدا بعض اللمم، وختمت القرآن كذا مرة. ولكن لماذا اتحدث هكذا كأنني مت، هل مت حقا؟ لمحت رجالا تبكي وقططا تتقيأ دما قبل ان تزحف مختفية لتمتصها الازقة المظلمة، وبدأ رأسي يعلو اكثر، ثم لمحت من بعيد بحيرة طبريا وطفت حول المسجد الاقصي، رأيته غاصا بملائكة يرجمون الشياطين بالحجارة، بكيت اذ لولا كفي المقطوع وذراعي لانضممت اليهم، ورغم ذلك صرت اناولهم قدر استطاعتي.
مع الغروب كانت الاذرع منهمكة ما بين المعاول وتراب الارض، رأيت وجه ابي كئيبا شامخا وجسده النحيل كشجرة تشيخ، عندها قررت العودة الي البيت فوجدت ابني الصغير بلا عشاء في يده كتاب ويدندن بأنشودة لم اتبينها.
صرت اهيم علي وجهي اتوحد بالذرات حتي السابح منها في فراغ.. مع اول خيوط الفجر. رأيتهم يخرجون من بين شقوق العتمة كالنبوءة، كقناديل البشارة.. شعرت بتراب الارض يحتضن اضلعي، يهدهد عظامي بحنو.. اغمضت جفني واستسلمت لنوم عميق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجات.. مقارنة بين الأمثال والأكلات السعودية والسورية


.. أبو عبيدة: قيادة العدو تزج بجنودها في أزقة غزة ليعودوا في نع




.. مسيرة وطنية للتضامن مع فلسطين وضد الحرب الإسرائيلية على غزة


.. تطورات لبنان.. القسام تنعى القائد شرحبيل السيد بعد عملية اغت




.. القسام: ا?طلاق صاروخ ا?رض جو تجاه مروحية الاحتلال في جباليا