الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آليات السيطرة الامبريالية على الدولة السلطانية المخزنولوجية البطريركية ، ومجتمع رعايا أمير المؤمنين في الإمارة ( الشريفة ) .

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2022 / 8 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


بالرجوع الى القانون الدستوري ، والى القانون الدولي العام ، سنجد ان تعريف وعنوان الدولة ، يقتضي توفر مجموعة من الشروط التي قد نعتبرها قواعد ، هي وحدها من يضفي عنوان دولة على جماعة فوق جزء من التراب . وعند انتفاء هذه الشروط ، او انتفاء إحداها ، تفقد الجماعة التي تقيم فوق التراب ، او فوق جزء من التراب ، صفة وعنوان الدولة ، حتى ولو كانت تملك السلاح والقواعد العسكرية ..
ان هذه القواعد التي تحدد تلك الشروط في وصف الدولة ، تقف حائرة تائهة امام نوع من اشكال الدول ، كالدولة السلطانية المخزنولوجية الغارقة في الثقافة المخزنية ، وفي التقاليد المرعية ، والطقوس الغريبة وحدها اليوم في العالم . فعندما نقف امام الدولة السلطانية المخزنولوجية كدولة بطريركية ، كمبرادورية ، تقليدانية وليست محافظة ، ثيوقراطية ... والتي تتماهى وتدعي الديمقراطية ، وهي في الحقيقة ديمقراطية بتسمية صانعيها من الأشخاص ، كديمقراطية فلان وديمقراطية عِلان .. فإننا نصاب بالتوحد عندما نفهم حقيقتها كدولة عدو وتكره الديمقراطية ، وتعمد في حكم الرعايا على تقارير البوليس السياسي المليئة بالكذب ، وبالمغالطات الخسيسة لرمي الاحرار والشرفاء من المعارضين السلميين ، في سجون السلطان التي تصدر الاحكام باسمه وتنفذ باسمه ، والاعوان الذين يقومون بطبخ هذه المحاضر بمختلف انتماءاتهم هم اعوانه ..
وان تقرير منظمة حقوق الانسان الامريكية HRW الصادر مؤخرا ، ونرفع له القبعة ، لم يتطرق الاّ الى الجزء القليل مما يحصل في الواقع .. ولو لم تكن الدولة البوليسية بوليسية تنتصر الى تقارير البوليس السياسي الكاذبة ، هل كان لهذا الجهاز ، وللجهاز السلطوي ان يبعث من ينقر باب منزلي لطرح أسئلة تافهة مفضوحة ، مع العلم انني في اعتصام منزلي لمدة 71 يوما اخرج فقط للتبضع لنفسي وللقطط ، بسبب اعتداءات الجهاز البوليسي الفاشي ، والجهاز السلطوي في الشارع العام .. ان طبيعة هذه الدولة السلطانية المخزنولوجية والبوليسية ، وصاحبة الجهاز السلطوي القروسطوي ، ونظرا للحالة التي اوصلتنا اليها .. تدفع بنا ان نطرح السؤال ونتساءل عن :
ما هي الأسباب التي جعلت المغرب ، وهو البلد الزراعي ، حسب المعايير الاقتصادية والاجتماعية ، يتحول منذ بداية السبعينات الى بلد قروي ، ويصبح عاجزا عن انتاج ما يكفي لتغذية رعاياه ، وضمان العلف لماشيته ، حيث يستورد الغذاء وعلف الماشية من الخارج ؟ .
لماذا ظل المغرب ، رغم امكانياته البشرية ، وثرواته المعدنية ، ومحيطاته البحرية الشاسعة ، عاجزا عن ان يكون بلدا صناعيا ؟
من يسيطر وحده على فسفاط المغاربة ، وذهبهم ، وثروتهم وخيراتهم ؟
من يزيد غناه يوميا ثراء فاحشا ، وتقدر ثرواته بمليارات الدولارات ، ناهيك عن العقارات المكلفة والباهظة الثمن ، من فيلات ، وقصور داخل وخارج المغرب ، واراضي فلاحية شاسعة .. ومن اصبح فقيرا بالتفقير الذي ضرب حتى البرجوازية المتوسطة وما فوق المتوسطة ؟
هل مر هذا الوضع الشاد التخلف المجتمعي الشامل ، الى عجر بنيوي في نفوس ، وعقول ، واجسام المغاربة ، بما هي ذات مشلولة الفكر ، والفعل ، والإرادة ، وعشقهم العيش رعايا ، وليس بمواطنين ، وبشعب حر من المفروض ان يمتلك قوة وشروط تقرير مصيره ، في دولة ديمقراطية ترتكز على القانون ، والديمقراطية والمساواة " عدالة ، ديمقراطية ، مساواة " ..
بالطبع لا .. ان التاريخ قديمه وحديثه ، يعطي في العديد من جوانبه صورا مشرقة للمغرب وللمغاربة . فلقد كان المغرب في بعض فترات التاريخ ، قادرا على بناء الامبراطوريات ، وعلى انتاج اكبر العقول المفكرة ، شمولية وعمقا بالنسبة لعصرها ، كما كان قادرا على افشال العديد من محاولات الغزو الاستعماري المختلفة .. ثم حتى وهو في مراحل ضعفه وتفككه ، ظل يقاوم ولم يسقط قط في مخالب الحكم العثماني ، وحينما سقط في ايدي الاحتلال الكلونيالي الفرنسي بفعل خيانة السلطان وليس الشعب الذي قاوم قبل الغزو الكلونيالي الفرنسي ، واثناء الاحتلال .. كان العالم كله ، تقريبا قد سقط . ثم انه حينما سقطت المؤسسة السلطانية المخزنية ، وأصبحت تستعمل من قبل الإدارة الفرنسية لتمرير الظهائر الفرنسية باسم الطابع الشريف للسلطان عبدالحفيظ ، الذي جلب الاستعمار حين باع المغرب الى الفرنسيين ، مثلما باع السلطان عبدالعزيز سبتة ومليلية للإسبان بدراجة هوائية ، وهي نفس الخيانة ستتواصل بعد استقلال Aix-les Bains حين سيسلم المغرب الى الشركات الفرنسية ، قامت المقاومة المسلحة في الجنوب بقيادة الثائر الصحراوي احمد الهيبة ماء العينين ضد اتفاقية الخيانة / الحماية التي وقعها السلطان عبدالحفيظ ، وحينما سقطت هذه الأخيرة ، قامت مقاومة الشمال بقيادة عبدالكريم الخطابي ، وحينما تم اخماد المقاومة في البادية والجبال البربرية ، كان في نفس الوقت قد برز دور المدن بظهور حركة المقاومة المدينية المسلحة ، والنضال السياسي البوليميكي الموجه الى أمريكا واوربة الذي قادته ( الحركة الوطنية ) التي ناصبت العداء لجيش التحرير قبل سنة 1912 . وموقف علال الفاسي الرجعي والخائن من جيش التحرير مدون في كتابه الحركات الاستقلالية ..
فالإنسان المغربي بالتالي كذات ، لا ينقصه أي عنصر من عناصر المقاومة ، والفعالية ، والابداع . لكن ان ما ينقصه اليوم ، هو غياب القيادة الثورية الوطنية ، وغياب المشعل المضيء للطريق الصحيح .. فجميع الانتفاضات التي عرفها المغرب سواء في سنة 1965 ، و 1981 ، و 1984 ، و 1991 ، كانت وراءها دعوات للنزول الى الشارع ، من قبل من كانوا يعتقدون انهم وكلاء ممثلون للشعب .. رغم ان الشعب عندما نزل بكثافة ، تجاوز الشعارات البرجوازية ، وطعن بنزوله خيارات التفاوض على المناصب والمقاعد البرلمانية ، لأنه رفض ان يستعمل ككمبراس في تنفيذ مشارع ضيقة لأحزاب انتهازية وتضر به وبمصالحه الحيوية . ان الشعارات التي رفعها الشعب في كل هذه الهبّات كانت حول اصل الحكم ، ولم تكن حول ضفافه ، الشعارات التي رفعتها الأحزاب البرجوازية ..
واذن ، لمن يجب ان تعود المسؤولية ؟
هل للإمبريالية ؟ ام لعملائها بالداخل ؟
وبما ان العملاء هم كذلك مجرد عملاء اقزام ، ووكلاء للإمبريالية في تنفيذ برامجها ، ومخططاتها الضيقة في نهب وسرقة ثروات الشعوب المستضعفة ، فالحقيقة التي أصبحت بديهية الآن ، هي ان كل مظاهر تخلفنا المجتمعي ، ترجع في جوهرها الى سبب رئيسي بارز : السيطرة الامبريالية .. اكثر من عملاء الداخل المجندون لتنفيذ ولخدمة مخططاتها .
ومع ذلك ، اذا اردنا الدفع بمنطق تفكيرنا الى نهايته ، فسوف نكتشف ان عامل الامبريالية ( او الرأسمال العالمي ) لا يمكن ان يشكل في حد ذاته العامل الأساسي ، الحاسم في نهاية المطاف ، لتفسير واقع التخلف الراهن ، لأننا في هذه الحالة ، سنصطدم بتساؤلين ملحين ، لا مفر من الإجابة عنهما إجابة عقلانية و مقنعة ، وهما :
1 ) لماذا اخفق المغرب في صد الهجومات الرأسمالية العالمية ، بينما نجد اليابان ( مثلا ) قد نجح في ذلك ، رغم ان البلدين معا قد تعرضا لتلك الضغوط الأجنبية في نفس الفترة التاريخية ؟ .
2 ) ما هي العوامل المادية المجتمعية الداخلية ، التي سمحت للعامل الامبريالي الخارجي ان يفعل فعله في المغرب ؟ .
بدون الإجابة عن هذين التساؤلين ، تستحيل مواجهة السيطرة الامبريالية ، مواجهة راديكالية ناجحة ، لان التحرر من الامبريالية يستلزم ، اول ما يستلزم ، فهم الشروط المادية المجتمعية التي جعلت تلك السيطرة ممكنة تاريخيا .
1 ) تاريخ السيطرة الاستعمارية
للسيطرة الامبريالية على المغرب تاريخ ، وتاريخها يبدأ ليس سنة 1912 ابان توقيع اتفاقية الخيانة / الحماية ، مع الدولة السلطانية المنهارة ، بفعل ثورات القبائل البربرية التي رفضت الغزو الاستعماري القريشي لبلاد " تمزغا " . بل ولا حتى سنة 1906 بعد اتفاقية الجزير الخضراء . إنه يبدأ في منتصف القرن التاسع عشر ، عندما أدى الصدام العنيف بين الرأسمال الأوربي والمجتمع المغربي الذي لم يكن متخلفا ، الى فتح هذا الأخير امام التجارة الاوربية . أمّا الضربة القاضية التي حسمت ذاك الصراع نهائيا لصالح الغزو التجاري الأوربي ، فقد مثلتها تاريخيا الحرب المغربية الاسبانية ، المعروفة بحرب تطوان سنة 1860 .
بعد هزيمة المغرب في تلك الحرب ، يتم اثقال كاهله بالغرامات ، والتعويضات ، والديون ، التي اليها يرجع الأصل في وضع اللبنة الأولى التي عليها تأسست السيطرة الامبريالية لاحقا .
لقد كانت النتائج الاقتصادية والاجتماعية لتلك الهزيمة العسكرية المدمرة ، ذات ابعاد تاريخية ، أهمها :
1 ) خنق الفلاحين بالضرائب لحد الاستنزاف التام . وفي هذا الاطار ، يقول الطيب بليماني ، وهو زير للسلطان محمد بن عبدالرحمان لتلك الفترة ، في وثيقة شخصية ذكرها جرمان عياش في " جوانب الازمة المالية في المغرب بعد الحملة الاسبانية سنة 1860 " ما يلي : " لمّا اردنا قبض الضرائب المفروضة ، تبين لنا بان جزءا من الفلاحين قد فروا من القبائل بسبب بؤسهم " . ان فرار الفلاحين من أراضيهم نتيجة القهر الضرائبي الغير مطاق ، سوف يسمح ، ليس في تمكين أصحاب المال المغاربة من اهل المدن بالتسرب الى البادية ، وحيازة الأراضي هناك فحسب ، بل وللأوروبيين أيضا . فنواة المعمرين الأجانب الأولى بدأت منذ ذاك التاريخ سنوات قبل اعلان الحماية / الخيانة التي باع بمقتضاها السلطان العلوي عبدالحفيظ المغرب للكلونيال الفرنسي ..
2 ) فبعد عجز الضرائب الفلاحية عن تسديد الديون الضخمة ، وبعد عجز ضرائب التجار والحرفيين المستحدثة ، ( كان هؤلاء قبل ذاك التاريخ معفيين من الضرائب ، ولم يتم وضع ضريبة " المكوس " لذلك الغرض الاّ سنة 1861 ، التي ووجهت بحركة اجتماعية شعبية واسعة ، تمثلت في انتفاضة مدينة فاس الشهيرة ، وكذا في المواجهة المباشرة للسلطان الجديد ، الحسن الأول ، الذي طرح عليه مطلب الغاء " المكوس " كشرط لقبول بيعته ) .
فبعد عجز الموارد المحلية اذن ، لم يبق امام الدولة السلطانية ، وامام السلطان من خيار ، سوى اللجوء الى القروض الأجنبية . غير ان الانجليز ، المتمرسين جيدا في ميدان الغزوات التجارية ، سوف يستغلون الفرصة المتاحة ، ليفرضوا على الدولة السلطانية فتح حدودها على التجارة الاوربية ، مبررين ذلك بكون الضرائب الجمركية ستساهم في تمويل الخزينة ( جرمان عياش – المصدر السابق ) .
ان دخول بضائع الصناعة الرأسمالية الاوربية للدولة السلطانية ، بالكثافة التي اسستها حرب تطوان ، ستكون له ابعاد تاريخية كبرى ، كان ابرزها ، بداية انهيار الاقتصاد الطبيعي الفلاحي ..
قبل بيع السلطان العلوي عبدالحفيظ للمغرب بمقتضى عقد الحماية / الخيانة في مطلع القرن العشرين ، كانت اذن ، كل الشروط الممهدة اليها ، قد توفرت اثناء النصف الثاني من القرن السابق . هكذا ، تم ابرام سلسلة من الاتفاقيات التجارية مع مختلف البلدان الاوربية ( بريطانيا العظمى ، فرنسا ، المانيا ، إسبانيا ) ، وفتحت الموانئ الجديدة ، واصبح بنك طنجة يمثل منذ 1882 العديد من البلدان الاوربية ، التي كان لها محميون من اليهود المغاربة الذين يقومون بدور الوسطاء الماليين والتجاريين في مختلف المدن الكبرى ، بما فيها مدن الداخل ، مثل فاس ، ومكناس ، ومراكش ...
كذلك ارتفع عدد الجالية الاوربية في المغرب . فهذه الجالية التي لم تكن موجودة قبل تلك الفترة ، اصبح عددها في نهاية القرن يتجاوز 8000 شخص ( " المغرب في نهاية القرن التاسع عشر " جمال التباع ) ، هذا بالإضافة طبعا الى نواة المعمرين التي سبق ذكرها .
من هنا ، يمكن القول ، بان حرب تطوان ، قد مثلت من الناحية التاريخية ، مرحلة التمهيد التجاري الحالي لمرحلة لاحقة هي مرحلة التتويج السياسي – العسكري التي ستمثلها معاهدة الحماية / الخيانة في مطلع القرن العشرين .
ان المؤرخ المغربي الناصري الذي عاش تلك الاحداث في تلك الفترة عن قرب ، لم يكن في مستطاعه ، بطبيعة الحال ، ادراك كل الابعاد التاريخية التي ستنجم عن حرب تطوان ، الا انه رغم ذلك ، لم يفته تسجيل هذه الملاحظة التي لا تخلو من دلالة : " ان وقعة تطاوين / تطوان / هذه ، هي التي ازالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب ، واستطال النصارى بها ، وانكسر المسلمون انكسارا ، لم يعهد لهم مثله ، وكثرت الحمايات " ( الاستقصا . الجزء التاسع ) .
2 ) أسباب الهزيمة العسكرية في حرب تطوان / تطاوين
المجتمع الاسباني الذي خاض الحرب ضد المغرب في تلك الفترة ، لم يكن بعد قد اصبح مجتمعا برجوازيا قويا ، كما هو الشأن بالنسبة للبلدان الاوربية الرئيسية الثلاثة : بريطانيا العظمى ، فرنسا ، وألمانيا . بل كان لا يزال في أساسه مجتمعا اقطاعيا ، ومع ذلك انتصر على المغرب . لماذا ؟
ان نقاط القوة تلك تتجسد في :
1 ) الانقسام المجتمعي المتطور الذي يسمح ببروز طبقة اقطاعية قوية .
2 ) التطور النسبي لقوى الإنتاج يسمح بإنتاج فائض اقتصادي مهم نسبيا .
3 ) العلاقات الاجتماعية التراتبية بين الطبقات والفئات ، تسمح بتغلغل القيم الانضباطية داخل المجتمع .
4 ) وجود دولة مركزية في قمة الهرم ، يسمح بخلق بيروقراطية قوية قادرة على تعبئة وتوحيد كل الطاقات داخل المجتمع ، كما يسمح بتخصيص جزء من الفائض الاقتصادي لشراء الأسلحة الحديثة من الدول الرأسمالية المتطورة مثل بندقية " ساسْبو / Le fusil chasse peau " .
ان مجتمعا بهذا الشكل من التماسك والتطور ، رغم طبيعته الاقطاعية ، قادر ، ليس فحسب على الانتصار على مجتمع متخلف ضعيف . بل قادر أيضا على مقاومة وصد ما تقوم به دولة برجوازية قوية . ففي سنة 1812 مثلا ، كانت الدولة البرجوازية الفرنسية لا زالت في مرحلة فتوتها واندفاعها ، وكانت تتوفر على جيوش ضخمة وحديثة ، يقودها قائد عسكري عبقري ( بونابارت / Bonaparte ) ، لكن رغم ذلك ، استطاعت الدولة المركزية في روسيا القيصرية الاقطاعية ، تعبئة إمكانيات البلاد البشرية ، والمادية ، والطبيعية ، لإعطاب نقط القوة لدى الدولة الغازية المتفوقة ، وأجبرتها على الانسحاب .
ان هزيمة الدولة السلطانية امام اسبانيا في حرب تطوان ، لم تكن تعني ، بالنظر الى عواقبها التاريخية البعيدة ، مجرد هزيمة عسكرية تقنية ، يمكن تداركها في وقت وجيز . بل لقد كانت تعني ان وراء الهزيمة العسكرية ، توجد هزيمة أخرى اكثر عمقا وشمولا : انها هزيمة دولة سلطانية تقليدانية ومتخلفة ، وهزيمة رعاياها المسلوبين الإرادة ، وهزيمة مجتمع قبلي اكثر من متخلف ، امام مجتمع اقطاعي متطور ، يتهيأ للانتقال نحو الرأسمالية .

ان نقط ضعف المجتمع المغربي المتخلف الحاسمة ، التي حكمت ماضيه لقرون طويلة ، تكمن ، على الصعيد المادي ، في بنيته الاجتماعية القبلية المتخلفة المحافظة ، ودولته السلطانية الأركاييكية القروسطوية . ان الحضارة المغربية التي بلغت اوج تطورها في عهد الدولتين المرابطية والموحدية ، كانت هي نفسها ، رغم بريقها الخارجي ، حضارة هشة رخوية ، تفتقد الى القاعدة المادية الصلبة الراسخة . فلانها قامت على عائدات التجارة البعيدة ، نظرا لتحكم الدولة السلطانية المغربية / الإمبراطورية في الطرق الاستراتيجية لذاك العهد البائد ، ولأنها بالتالي لم تستند الى انقسام اجتماعي طبقي يسمح بظهور طبقة اجتماعية منتجة ، وبتطور قوى الإنتاج والتطور الكمي للفائض الاقتصادي – باختصار ، فلان مصدر الفائض الاقتصادي كان في أساسه خارجيا وليس داخليا . كانت الحضارة المغربية ، بالمقابل ، سطحية ، لم تستطع النفاد الى عمق البادية المغربية . هكذا ، فبمجرد ما انتهى دور تلك الطرق التجارية ، حتى انهارت تلك الحضارة الرخوة السطحية انهيارا كاملا . ( لنلاحظ بالمناسبة ان تاريخ تطور الحضارات الكبرى يخضع في خطه العام لحركتين مختلفتين . بالنسبة للحضارة القائمة على مصدر خارجي للفائض الاقتصادي ، تكون الحركة منقطعة ، بينما تكون متصلة في تلك التي تعتمد على المصدر الداخلي . ) .
ان هذا الواقع هو وحده يفسر الظواهر التالية :
1 ) ان التجار المغاربة ، الذين كانوا أقوياء في عهد الدولتين المرابطية والموحدية ، لم يتمكنوا من التحول الى طبقة منتجة ، بل انهاروا بانهيارها .
2 ) ان النخبة السلطانية المخزنولوجية التقليدانية التي أعقبت النخبة المنهارة ( العصبية القبلية المشاعة ) ، على رأس الدولة المركزية ، لم تكن لها روابط مادية اجتماعية تستند اليها . بل كانت نخبة فوق مجتمعية ، تستمد شرعيتها الأيديولوجية من نسبها السلالي ( الشريف ) .
3 ) ان المجتمع المغربي لم يكن مجتمعا تراتبيا ، يوحده الاندماج المجتمعي العضوي . بل كان مجزأً بين ثلاث مجموعات لا تربطها سوى روابط خارجية رخوة :
ا – المؤسسة السلطانية المخزنولوجية ، التقليدانية ، الطقوسية ، القروسطوية ، الذي يمتد نفودها او يتقلص على القبائل بحسب ميزان القوى المتغير . الاغارات لتحصيل الضرائب المختلفة ، والاستيلاء على غلة الفلاحين ..
ب – المدن القديمة ، ومنها التي تضم بقايا الحرفيين والتجار للعهد الامبراطوري ، والمستحدثة التي انشأتها الدولة المركزية المخزنولوجية السلطانية خلال فترات قوتها في بعض المناطق الاستراتيجية ، لإخضاع القبائل المجاورة ، والقبائل الثائرة على الدولة السلطانية ..
ج – البادية المغربية : وضمن هذا الواقع المجزأ ، تمثل البادية العمود الفقري للمجتمع المغربي المتخلف ، سواء من حيث نسبة السكان الطاغية ، او من حيث كونها المصدر الوحيد لإنتاج الفائض الاقتصادي .. وهنا ونظرا للتطورات التي حصلت كالجفاف .. أصبحت نظرية Remy Leveau " Le fellah marocain défenseur du Trôné " متجاوزة . لان الفلاح الذي كان يعمر البادية المغربية ، اضطرته سنوات الجفاف المتعاقبة ، الى مغادرة البادية والقرية الى هوامش المدن الكبرى ، حيث يسكن دور الصفيح ، واصبح الفلاح يدافع عن العرش من المدينة ، وليس فقط من البادية ..( الشباب الملكي ) .
ان تحليل أسباب التأخر والتخلف المجتمعي المغربي ، يبدأ اذن من تحليل طبيعة خلية الإنتاج الأساسية في البادية ، ابّان فترة الصدام بين الدولة السلطانية المخزنولوجية التقليدانية ، واوربة الرأسمالية في القرن التاسع عشر، والذي مثلت فيه حرب تطاوين / تطوان لحظته الفعلية الأولى .
3 ) الاسرة الابوية La famille patriarcale
يمكن رسم التنظيم الاجتماعي للبادية المغربية عشية الصدام مع اوربة ، على الشكل التسلسل التالي :
هناك أولا الأخس بلغة تشلحيت ( الاسرة الابوية ) ، ثم القرية ( مجموعة من الاسر ) ، ثم تاقْبيلت ( مجموعة من القرى ) ، ثم القبيلة ( مجموعة من تاقْبيلتات ) ، ثم الفدرالية القبلية ، فالكنفدرالية القبلية ، وأخيرا الدولة السلطانية المخزنولوجية التي تبسط نفوذها على عدد من الكنفدراليات القبلية .
ضمن هذا التسلسل ، تحتل تاقْبيلت على الصعيد السياسي ، النواة الأساسية . فهي ليست مجرد حلقة اجتماعية من حلقات المسلسل ، مؤطرة بنيويا الى هذا الحد او ذاك ، على غرار القرية او القبيلة مثلا . وانما هي تتعدى ذلك لتشكل بناء عضويا اكثر تماسكا وصلابة .. انها دولة مُصغّرة لها كل المقومات السياسية للدولة .. فواقع البادية المغربية كما كان ، في تلك الفترة التاريخية ، عبارة عن عدد كبير من الدويلات الصغرى المتجاورة مع بعضها ..
ان الاطار السياسي الذي تمارس من خلاله السلطة داخل مجتمع تاقْبيلت ، هو المجلس . ويتكون المجلس هذا من عشرة الى خمسة عشر عضوا ، يترأسه رئيس منتخب لمدة سنة . امّا مهامه ، فتتعلق بالسهر على تنظيم شؤون الإنتاج ( اصلاح الطرق وقنوات الري ، تحديد الحصاد وجمع المحصول ، وقطف الثمار ، واوقات الحرث ... الخ ) ، وشؤون الامن الداخلي ( البث في شكاوى السكان ، وزجر المخالفين بتحميلهم غرامات تذهب لصندوق المجلس لتمويل النفقات الحكومية ) ، والحسم في قرار الحرب ضد القبائل . انه ، اذا كان النشاط السياسي يمارس على صعيد تاقبيلت ككل ، فان النشاط الاقتصادي لم يكن يمارس سوى على صعيد وحدة انتاج مغلقة ، هي الاسرة الابوية La famille patriarcale .
ان الاسرة الابوية ( الاخس ) عبارة عن اسرة كبيرة ، تتكون من عدة افراد ينتسبون لعدة أجيال من سلالة أب واحد . هذه الاسرة التي قد تضم في نفس الوقت ، جيل الاب ، وجيل ابن الحفيد ، مع ما يترتب على ذلك من تكاثر الأشخاص ، ذكورا و اناثا ، والتي تقطن بيتا وحدا ، وتدير ملكية مشتركة .. تعتمد في نشاطها الإنتاجي على اقتصاد الكفاف الطبيعي . فهي اذن قادرة ، بسبب كثرة افاردها وتعاونهم ، على انتاج كل حاجياتها المعيشية الضرورية ، من أغذية ، والبسة ، وافرشة ، وسكنى .. الاكتفاء الذاتي .
ان هذه الاسرة التي تستطيع انتاج ما تحتاجه من مواد استهلاكية ، لا يشكل السوق بالنسبة اليها ضرورة حيوية . فالسوق هنا يلعب دورا ثانويا جدا ، وهي قد لا تلجأ اليه الا من اجل اقتناء بعض الأدوات الحديدية ، غير الضرورية على كل حال ، لأنها قادرة على انتاج ما يعوضها ، رغم خشونة وبدائية صناعتها الخاصة .
ان هذه الاسرة القائمة على الاكتفاء الذاتي ، المتروكة لقوانينها الداخلية المحضة ، غير قابلة للتدمير والتفكيك . ان التدمير في هذه الحالة ، لا يمكن ان يصدر الا عن عامل خارجي .. وليس أي عامل خارجي ، فالحرائق ، والجفاف ، والحروب مثلا ، يمكن تطويق اثارها المدمرة ، والحد من ضررها . ان العامل الخارجي الذي لا ينفع معه أي شيء ، هو البضائع الرأسمالية الغازية .
4 ) دور التجارة الاوربية في تدمير الاسرة الابوية
ان الاسرة الابوية ، رغم كثرة افرادها النسبية ، فهي لا تستطيع ذاتيا وموضوعيا ، الارتقاء سوى الى قسمة العمل الضعيفة والبدائية ، أي قسمة العمل بين الرجل والمرأة .
ان الصناعة الرأسمالية التي هي حصيلة تطور متقدم لقسمة العمل الاجتماعية ، هي بالتالي متوفقة بما لا يقاس على الصناعة الأسروية المتخلفة .
لذلك فحينما تتمكن البلدان الاوربية من رفع الحواجز السياسية ، التي تعيق دخول بضائعها الى المغرب ، وتستطيع بالتالي فتح البادية المغربية امام التجارة الاوربية ، فان الصناعة الأسروية الضعيفة ، ستجد نفسها وجها لوجه مع الصناعة الرأسمالية القوية .
وكما هو الشأن دائما في المواجهات غير المتكافئة ، كان بديهيا في هذه الحالة أيضا ، ان ينهزم الطرف الضعيف امام الطرف القوي .
ان الفلاح المغربي الذي ظل لقرون طويلة محميا وراء سور اسرته الابوية السميك ، سوف يكتشف فجأة ان المنتوج الرأسمالي ، هو اكثر جودة ، واقل كلفة ، وارخص ثمنا ، بالمقارنة مع منتوجه البدائي التقليدي . لذلك فالاستمرار في الاعتماد عليه ، اصبح في الشروط الجديدة ، امرا غير ممكن .
لكن كيف الحصول على النقود التي هي الشرط الضروري لاقتناء المنتوجات الصناعية الرأسمالية ؟ .
ان الوسيلة الوحيدة التي يمكن بواسطتها خلق النقود ، تكمن في تحويل منتوجاته الخاصة الى بضاعة موجهة للسوق . وبطبيعة الحال ، فهو ان اعتمد في ذلك على كل أنواع منتوجاته بدون تمييز ، فلن يجد من يشتريها منه ، لان لا احد سيقبل منتوجات متخلفة . فليس امامه اذن من سبيل ، سوى المنتوجات التي لا تنتجها الصناعة الرأسمالية .
ان تغلغل النقود في الحياة الاقتصادية للبادية المغربية ، كانت له عواقب اقتصادية واجتماعية بالغة الأهمية ، ابرزها :
1 ) تحويل الضريبة الفلاحية من ضريبة عينية الى ضريبة نقدية . فقبل حرب تطوان ، كانت الطريقة الوحيدة المعروفة لدفع الضريبة الفلاحية ، هي الطريقة العينية . لكن بعد الحرب اصبح الدفع العيني حالة استثنائية .
2 ) تشكل برجوازية تجارية مغربية ، مرتبطة بالمصالح الرأسمالية العالمية . لقد كانت هذه الفئة الاجتماعية الجديدة ، تلعب دور الوسيط بين البضائع الاوربية المصنعة ، ومنتوجات البادية المغربية .
3 ) ان تعاظم دور النقود داخل البادية المغربية ، وتزايد الحاجة اليه من قبل الدولة السلطانية المخزنولوجية ، واحتكاره من قبل التجار والمرابين .. كلها عوامل ستساهم في الضغط على الفلاحين ، وستدفع بفئات واسعة منهم للتساقط .
هكذا ، فبعدما كان منتوج الأرض وحده في البادية يشكل بضاعة ، أصبحت الأرض نفسها الآن بضاعة . فمنطق التجارة الرأسمالية لا يسمح للمنتوج ان يتحول الى بضاعة ، الا اذا حول معه في نفس الوقت ، المصدر ذاته الى بضاعة . وهكذا سيتمكن التجار المغاربة والمعمرون الأجانب ، من دك الاقدام الأولى في البادية .
فعندما اشتد الضغط الرأسمالي الأوربي على المغرب خلال منتصف القرن التاسع عشر ، كان واضحا اذن ، ان المغرب لا يتوفر على الأسس المادية للصمود ، وكان بديهيا ان مسألة الاستعمار الكلونيالي , مسألة لا ريب فيها ، وان الذي لا زال يعطلها ، هو فقط التناقضات والنزاعات بين البلدان الاوربية المتنافسة على استعمار البلاد .
فاذا كان المغرب قد عجز عن تطويق آثار هزيمة تطاون / تطوان ، ومقاومة الغزو التجاري الأوربي ، فسبب ذلك يعود الى انه لم يكن يتوفر حينئذ على نظام اجتماعي له سمات النظام الاقطاعي . ان نظامه الاجتماعي كان عشية حرب تطوان ، لا يزال في طور تشكل الارستقراطية القبلية التي " فاجئها " الغزو الرأسمالي ، قبل ان تنضج امامها الشروط الموضوعية والذاتية للانتقال الى مرحلة ارقى من التطور . أي تحول الارستقراطية القبلية الى طبقة اقطاعية .
ان الاعتقاد بان الهزيمة في حرب تطوان كانت مجرد هزيمة عسكرية تقنية صرفة ، سيدفع ببعض السلاطين المغاربة الى الاهتمام ، بإدخال بعض عناصر التحديث على الجيش ، بمعزل عن تحديث المجتمع ككل . هذا ما فعله محمد بن عبد الرحمان العلوي الذي كان سلطانا في فترة الحرب ، وما سيفعله الحسن الأول بشكل اكبر . لكن بدون جدوى .
5 ) تشكل ارستقراطية القبلية
في التطور التاريخي للمجتمع المغربي ، يجب اعتبار منطقتين جغرافيتين متميزتين ، رغم تشابههما البنيوي ، وتداخلهما السياسي ، في هذه الفترة او تلك من فترات التاريخ . هاتان المنطقتان هما :
1 ) المنطقة الخاضعة للسلطة السياسية للدولة السلطانية المخزنولوجية التقليدانية .
2 ) مناطق الثوار التي اطلقوا عليها تسمية بلاد السيبة . وكانت منطقة مستقلة عن منطقة السلطنة المخزنية .
1 ) المنطقة الأولى : لما تم الغزو العروبي القريشي الإسلاموي للمغرب ، كان اول اجراء مهم تحدثه السلطة الجديدة ، يتعلق بنظام الملكية العقارية في البادية .
ان هذه المِلكية التي كانت قبل الغزو ، توحد بين ركنيها الأساسيين . أي بين حق التملك الفعلي للأرض ، وحق التصرف والانتفاع بالغلة المستخرجة منها ، ستعمل بعد الغزو على الفصل بينهما . بهذا الاجراء سيتم تفويت الحق الأول للغزاة الإسلاميين في شخص الأمير ، مما سيمنحه سلطة دائمة على جميع الأراضي ، مع الاحتفاظ بالحق الثاني للفلاحين البرابرة سكان الأرض الأصليين .
ان هذا الاجراء الحقوقي الذي يحرّم اذن الملكية الخاصة ، من خلال ضرب الملكية الجماعية للقبيلة ، كان في نفس الوقت يشكل غطاء إيديولوجيا لخدمة ثلاثة أغراض سياسية رئيسية ، هي :
1 – ( الحق ) المفرط في انتزاع الضريبة من الفلاحين العاملين في ارض الأمير / امير المؤمنين .
2 – ( الحق ) في تشكيل ممتلكات خاصة بالدولة . أي الاستيلاد على أراضي المغاربة السكان الأصليين لتفقيرهم .
3 – ( حق ) اقتطاع بعض الأراضي من ممتلكات الدولة السلطانية الاميرية ألمخزنولوجية ، لمنحها لخدام الدولة آنذاك بشكل مؤقت وغير وراثي ..
ان ضريبة الخراج ، وهي الضريبة المفروضة جبرا على الفلاحين ، كانت شديدة الوطء بسبب ارتفاعها الكبير . غير انها من ناحية أخرى ، كانت مجرد ضريبة شخصية قائمة على التمييز بين الأشخاص ، وليست واقعية تقوم على القانون العقاري الفرنسي المؤسس . فالذين كانوا يدفعونها هم فقط ، الأشخاص غير المسلمين ، بعد اعلان ملكية الأرض ( للامة ) ، ومقابل السماح لهم باستغلالها بحرية ، وحسب اعرافهم وتقاليدهم في الإنتاج ... ( اليهود ) ..
في عهد الدولة الاموية الجبرية مغتصبة الحكم ، ستشتد وثيرة المعتنقين للإسلام ، مما سينجم عنه تضاؤل في الموارد المالية ، اصبح يهدد خزينة الدولة . ولتطويق هذا الخطر ، ستضطر الدولة الاموية الجبرية مغتصبة الحكم للقيام بتعديل جبائي ، كانت له أهمية تاريخية بالغة ، إذ سيتم اعتبار أراضي الخراج ، ابتداء من تاريخ التعديل ، أراضي للخراج بشكل نهائي ، مهما كانت العقيدة الدينية لأصحابها .
ان النظام العقاري الذي ادخله الغزو الإسلامي ، قد ساهم في إعادة تطور شروط الإنتاج من ناحيتين : الناحية الأولى ، لكونه حرّم الملكية الخاصة عند اعلان ملكية الأرض ملكية ( للامة ) . والناحية الثانية ، لكون الخراج المجحف لا يسمح للفلاح المنتج بالحفاظ على أي مقدار من الفائض الزراعي ، للاستعانة به في تطوير وسائل الإنتاج .
من هنا كان مثلا ، القايْد المخزني الذي تم تعيينه على بعض المناطق ، يفتقد الى الشرعية القانونية التي تسمح له بالتحول الى اقطاعي .
طبعا ، ان مجرد تحمل الوظيفة المخزنية ، هو في حد ذاته يمنحه العديد من الامتيازات المادية . فلكي يتمكن من نشر هيبة السلطة المخزنية السلطانية التي يمثلها ، كان مفروضا عليه ان يكون هو نفسه مهاباً . ولكي يكون كذلك ، لابد لنمط عيشه ، وسكناه ، واستهلاكه ، ان يتسم بنوع من الجاه والبذخ ، الشيء الذي لن يتأتى بدون امتلاك الأراضي ، واستغلال وامتصاص الفلاحين . والأراضي قد تمنحها له الدولة ، على شكل اقطاعات لا تكفي . بل قد يستخدمها فقط ، كدعم لتوسعه العقاري . وليس غريبا اذن ، إذا ما اصبح القياد المخزنيون اسياد ارض منذ ذلك العهد ، وليس غريبا أيضا ، ان يتحول الفلاحون الى عبيد اقنان حيث العمل بنظام السخرة ، وبنظام الخماسين .
بيد ان نقطة ضعف ذلك النظام الأساسية ، التي كانت تعيق تطوره ، هي افتقاده لشروط الاستقرار والرسوخ . القايْد المخزني كان في العديد من الحالات شخصا اجنبيا عن المنطقة . لقد كانت السلطة المخزنية تختار واحدا من ضباط جيشها ، او من طلبتها الاكفاء ، فتنصبه ممثلا لها في المنطقة الاستراتيجية اقتصاديا وسياسيا ، التي تريد بسط نفوذها عليها . لذلك كان القايْد لمْخازني ، في هذه الحالة ، يستمد كل سلطته ، وكل قوته ، وهيبته من سلطة دار المخزن . وما دامت مؤسسة دار المخزن تملك قانونيا حق الملكية العليا للأرض ، وسياسيا ، قادرة على اقالته وتغييره متى شاءت وكيفما شاءت ، فان أملاك القايْد لمْخازني ، تبقى بالتالي معرضة للتصفية والمصادرة في أي وقت .
2 ) المنطقة الثانية ، منطقة السيبة ، او المناطق الثائرة ضد الدولة السلطانية المخزنية : اذا كان للمناطق المخزنية ضوابطها القانونية السياسية المعيقة ، لتحوّل اسياد الأرض المخزنيين الى إقطاع فعلي ، فإن المناطق " السائبة " ، هي الأخرى كانت لها ضوابطها الخاصة . هذه الضوابط ، هي التحالفات القبلية المتوازنة المستندة الى الاسرة الابوية .
ان اول واهم اكتشاف للبنية الداخلية للقبيلة المغربية البربرية ، يرجع الى عالم الاجتماع الفرنسي Robert Montagne في كتابه حول " المخزن وبرابرة الجنوب " " Les berbères et le makhzen dans le sud du Maroc " . واذا كانت أفكار ونظريات المؤلف المعروضة في الكتاب ، تحركها أغراض استعمارية كولونيالية واضحة ( صدر الكتاب في مطلع العشرينات . أي أيام اشتداد الضغط العسكري الفرنسي لإخضاع المناطق البربرية الثائرة والبادية المغربية ) ، فان تلك الأغراض في حد ذاتها ، لا تمس القيمة العلمية للكتاب . بل بالعكس ، فان هذا الكتاب ، الذي كان ضباط الجيش الفرنسي يعتبرونه انجيلهم الخاص " المغرب في مواجهة الامبرياليات / شارل أندري جوليان " " Le Maroc face aux impérialistes – Charles-André Julien " ، كان قد سلحهم بالمعرفة النظرية ، التي استفادوا منها في تعميق التناقضات ، وشل التحالفات داخل البناء القبلي ، من اجل هزمه عسكريا ، والسيطرة عليه سياسيا .
ان جوهر اكتشاف الكاتب الفرنسي ، يتمحور حول " نظرية اللف " . واللف هو الاطار التحالفي المتوازن ، داخل القبيلة . فالقبيلة المكونة من مجموعة تاقْبيلْتات ، أي من مجموعة من الدويلات الصغرى ، تحرص على ان تنقسم على نفسها تلقائيا ، بشكل يتم فيه توزيع " الدويلات الصغرى " بين معسكرين متعارضين ، لكن متكافئين من حيث القوة .
ان هذا التحالف السياسي التّاقْبيلتي المتوازن على صعيد القبيلة ، يسمح اذن ، في شروط المجتمع القبلي المغلق ، الذي تمثل فيه الاسرة الابوية وحدة انتاجه الأساسية القائمة على الكفاف .. يسمح بالاستمرارية ، والاستقرار، والركود ( يؤكد Robert Montagne بان ذاك الركود دام قرونا كاملة ، ولم يدخل النظام القبلي في صيرورة التفكك والانحلال الاّ في القرن التاسع عشر ) .
فالتحالفات القبلية المتوازنة ، التي كانت تعكس سياسيا ، في لحظة من لحظات التاريخ ، القاعدة الإنتاجية المجسدة في الاسرة الابوية ، ستلعب فيما بعد دور المحافظ على استمرارية تلك الإنتاجية الأساسية . ان هذه التحالفات لم تتعرض للانهيار ، الا حينما انهارت الاسرة الابوية دعامتها المادية ، نتيجة غزو البضاعة الرأسمالية للبادية المغربية ، في منتصف القرن التاسع عشر .
تحت الضغط الاقتصادي الرأسمالي ، سينقسم المجتمع القبلي على نفسه بين الاسر الصغيرة المتساقطة ، واسر الاعيان الكبيرة الصاعدة . هكذا ، سيتمخض عن رئيس مجلس تاقْبيلت المنتخب " أمغار " مستبد ، في مرحلة أولى ، وفي مرحلة ثانية ، زعيم كبير واسع النفوذ ، ثم في مرحلة لاحقة ، سيتحول ذاك الزعيم الى قايْد مْخازني بفعل التزكية السلطانية المخزنية له .. اي قايْد مْخازني طاغي ..
هنا نجد اذن ، صنفا اخرا للقايْد لمْخازني . فإذا كان الصنف الأول يتميز بكونه اجنبيا عن المنطقة ، ولا يستمد نفوذه الا من سلطة وهيبة السلطة المخزنية الرجعية التي عينته ، فبالعكس ، ان الصنف الثاني يستمد نفوذه من ثرواته واصوله الارستقراطية المحلية ، بحيث ان دولة السلطة المخزنية هنا ، لا يتعدى حدود المصادقة والتزكية .
ان الملاحظة التي يجب تسجيلها في هذا السياق ، هي ان الزعيم القبلي الكبير ، ما كان له ليقبل التعاون مع السلطة المخزنية ، لولا حاجته اليها من اجل الحماية العسكرية . ان انخراطه في المؤسسة المخزنية ، يسمح له اذن ، بحل هذا المشكل ، عن طريق وضع الحماية العسكرية للسلطان تحت تصرفه ( تجدر الإشارة بهذا الصدد ، الى ان صيرورة تشكل هذا الصنف من أسياد الأرض المغاربة ، تختلف عن مثيلتها في التجارب الاوربية الكلاسيكية .
في المغرب كان المنطق اقتصاديا . فجمع الثروة يولد الحاجة الى الحماية العسكرية ، التي يتم البحث عنها وايجادها لدا السلطة المخزنية .
بينما العكس هو الحاصل في اوربة . فالمجتمع الاقطاعي ، كان في مُنطلقه ، مقسما الى طبقتين متخصصتين ، واحدة في الإنتاج ( الفلاحون ) ، والأخرى في الحروب ( النبلاء ) . ان احتكار النبلاء لوسائل الحرب ، واتقان ممارستها ، هو الذي سيسمح لهم بالاستحواذ على الأراضي ، وتحويل الفلاحين الى عبيد اقنان . وفي مرحلة متطورة من النظام الاقطاعي ، عندما ظهرت الدولة المركزية ببيروقراطيتها وجيشها النظامي ، ستصبح الوظيفة الحربية للنبلاء ، زائدة ، مما سيجعلهم يحولون نشاطهم الحربي القديم ، الى هواية لصيد الحيوانات ووحوش الغابة ) .
من أصناف الصنف الأول نذكر القايد علي أو حدو . ومن أصناف الصنف الثاني نذكر . التهامي لگلاوي ، والگندافي ، والمتوگي ...
خلاصة القول ، ان اسياد الأرض المغاربة لم يكونوا في نهاية القرن ، قد تجاوزوا في تطورهم العقاري ، مستوى الارستقراطية القبيلة . ان هذا التجاوز لم يتحقق فعليا الا في مرحلة الاستعمار الكلونيالي المباشر ..
6 ) تحول الارستقراطية القبلية الى اقطاع تحت الرعاية الكلونيالية .
ان التطور التاريخي للملكية العقارية ، حتى مجيء الاستعمار ، يسمح اذن بالخلاصة العامة التالية : لقد كانت البادية المغربية في ذلك الوقت ، مقسمة الى منطقتين اقتصاديتين سياسيتين متميزتين نسبيا . فبالنسبة للمنطقة المخزنية السلطانية التي تشمل معظم المناطق المجاورة للمدن الكبرى ، فقد كانت قد ظهرت فيها اذن ارستقراطية قبلية تابعة للسلطة المخزنية المركزية . وخضعت هذه السلطة في تشكلها لطريقين مختلفين . الطريق الفوقي الذي تميز بكون السلطة المركزية استطاعت فرض عملاءها وموظفيها الأجانب عن المنطقة بقوة السيف ، كقياد وباشوات وعمال ، قبل ان يسمح تفكك القبيلة الذاتي بفرز ارستقراطية محلية ، يمكن الاستناد اليها . ففي هذه الحالة كانت السلطة السياسية الفوقية ، هي صانعة قاعدتها العقارية .
اما الطريق الاخر ، فهو الطريق التحتي ، الذي كان يتميز بتبلور ارستقراطية محلية ، نتيجة التفكك الاقتصادي الذي أصاب الاسرة الابوية ( الاخس ) ، والذي انعكس أيضا على البناء السياسي . فالرئيس التّاقْبيلتي ، الذي كان في البداية يتم انتخابه بشكل " ديمقراطي " ، سيصبح فيما بعد أمغاراً مستبداً ، فزعيما قبليا كبيرا . ان هذا التطور السلطوي التصاعدي ، ينتهي بصاحبه حتما الى دار المخزن ، التي يصبح واحدا من افرادها ، باعتبارها الوحيدة التي تمنحه الحماية العسكرية الضرورية . في هذه الحالة ، كانت اذن القاعدة العقارية التحتية ، هي صانعة غطائها السياسي .
بالنسبة للمنطقة " السائبة " منطقة الثوار التي كانت تشمل الجبال البعيدة والمناطق النائية ، فإنها ظلت محتفظة بقاعدتها الإنتاجية الاسروية ، لكون التجارة الرأسمالية الاوربية لم تصلها . وعلى الصعيد السياسي لم تكن القبيلة قد تجاوزت بعد مرحلة الرئيس التّاقبيلتي المنتخب .
هذا التمايز الاقتصادي والسياسي بين المنطقتين ، سيولد موقفين سياسيين مختلفين تجاه المستعمر الاجنبي ، الذي دخل البلاد .
بالنسبة للمنطقة المخزنية : ان القياد لمْخازنية ، وخاصة الكبار الذين راكموا ثروات واسعة ، والذين اصبحوا انداداً لدار المخزن ، لم يزكوا فحسب معاهدة الخيانة / الحماية الاستعمارية التي تسبب فيها السلطان عبدالحفيظ ، بل كانوا في العديد من الحالات ، محاوريه الأوائل الأساسيين . وهذا ينسجم كليا مع مصالحهم ، باعتبار ان الدعم الذي تقدمه لهم الإدارة الكلونيالية ، سيفوق دعم دار المخزن .
بالنسبة للمنطقة ( السائبة ) : كانت المقاومة هنا ، التي قادها الزعماء القبليون المحاربون ، مقاومة شرسة . فالضباط الفرنسيون انفسهم ، يعترفون بان القبائل البربرية ، كانت لا تقبل إلقاء السلاح ، الا اذا اضطرت الى ذلك اضطرارا ، وبعد ان تكون قد استنفدت كل إمكانيات المقاومة ( جرمان عياش " أصول حرب الريف " – منشورات سمير – La Sorbonne ) .
ولما كان ميزان القوة العسكري الاجتماعي مختلا بشكل لا يقاس لصالح الجانب الاستعماري ، فقد تمكنت الإدارة الاستعمارية في الأخير وبمؤامرة آل الفاسي / علال الفاسي / من اخضاع كل القبائل لسلطتها المركزية ، وفرض ، ما اصطلحت على تسميته ب " التهدئة " La pacification في منتصف الثلاثينات .. ( الحركات الاستقلالية ... علال الفاسي ... ) ..
اما سياستها تجاه زعماء القبائل المنهزمين ، فلم تكن ترمي الى التخلص منهم ، بل اختارت الاستفادة منهم عن طريق الاحتواء والتأطير .. هكذا ... فباحتفاظها لهم على مناصبهم القيادية على رأس القبيلة ، وبتجنبها فرض عملاء وموظفين اداريين تابعين لها ، تكون اذن قد سهلت على نفسها مهمة احكام سيطرتها على البادية ، واطلاق صيرورة التحول العقاري لصالح الزعماء القبليين ، وهو التحويل الذي ستستند اليه لتأسيس تحالفها الاستراتيجي مع البادية المغربية . يقول Rémy Leveau " Le fellah marocain défenseur du trône " " ان النخبة القبلية التي قادت الكفاح ضد الغزو الفرنسي ، قد مكنتها سياسة ( التهدئة ) من البقاء في السلطة . ولقد وجد كل الفرقاء في هذا الوضع ما يرضيه . فالفرنسيون قد زكوا الزعيم الذين يعرفون انه يتمتع بنفوذ داخل وسطه الأصلي . والسكان يفضلون طاعة أوامر الزعيم الذي اختاروه بأنفسهم للدفاع عن وجودهم وحريتهم ، بدل صنيعة يفرضها عليهم المنتصر الأجنبي " .
غير ان هذا الزعيم القبلي الذي لم يكن يستمد نفوذه قبل التدخل الفرنسي ، الاّ من كفاءته الشخصية ، ومن احترام السكان له ، سيجد نفسه فجأة ، بعد التدخل ، محاطا بالحماية العسكرية والقانونية ، التي توفرها له الإدارة الكلونيالية بسخاء . لذلك فان منطق الأشياء نفسه ، سيدفع هذا الزعيم القبلي الى تشييد القاعدة العقارية ، تحت التغطية السياسية الكلونيالية ، التي أصبحت تلائم وضعه الجديد . بهذه الطريقة سيتم اذن التحول التدريجي من زعيم حرب قبلي الى ملاّك عقاري كبير يرفل تحت سلطة الإدارة الكلونيالية ..
ان النظام العقاري المغربي ، الذي ظلت تعترض نزوعه الاقطاعي ، العديد من المعيقات ، سوف يعمل التدخل الكلونيالي على تكسيرها عسكريا ، وسياسيا ، وقانونيا .. سوف يمنحه القاعدة العقارية الثابتة والراسخة ، التي طالما افتقدها ، والتي عليها سيتم توحد جناح القيّاد المخزنيين ، مع زعماء الحرب القبليين ، ليشكلوا معا فئة اجتماعية جديدة ، موحدة المصالح ، هي الفئة الاقطاعية بكل ما لكلمة اقطاع من دلالة .
ان الصعود السريع للإقطاع المغربي ، مع ما ترتب عليه من تمركز للملكية العقارية ، أدى حتما وبالنتيجة ، الى فصل المنتجين المباشرين ( الفلاحين ) عن وسائل انتاجهم ، وبالتالي الى تساقطهم . والفلاحون الذين وجدوا انفسهم فجأة بلا ارض ، وبلا وسائل لاستغلالها ، بحيث لم تبق في ملكيتهم سوى قوة عملهم ، سيضطرون اذن ، من اجل ضمان عيشهم ، الى استخدام تلك القوة كعبيد اقنان في ارض الاقطاعيين ( لنلاحظ هنا ان الذين تحدث عنهم Paul Pascon " Le développement de capitalisme sous le protectorat dans le Haouz de Marrakech " ، والذين كانوا يفضلون العمل كعمال زراعيين في ضيعات المعمرين ، على العمل كعبيد أقنان في أراضي الاقطاع ، لم يتعزز لديهم ذلك الميل ، الا حينما اشتد عليهم الضغط الاقطاعي . اما البادية ، فقد كانت الروابط الأيديولوجية العشائرية القبلية ، قادرة على شدهم الى ارض الاقطاعي ) .
ان اصطلاح القن ، ينطبق في النظام الاقطاعي المغربي ، على الخمّاس ، او على احد اشتقاقاته مثل الربّاع ، والخبّاز ، والعزّاب .. الخ . والعلاقة التي يضبطها العقد المتفق عليه بين الاقطاعي والخمّاس ، تسمح للأول بالاستحواذ على اربع اخماس المنتوج ، على شكل ريع عقاري ، بينما يترك الخُمس الباقي ، للثاني ، مقابل عمله . وهذا معناه ان الاقطاعي الذي يملك أراضي شاسعة ، يعمل على تجزئتها على عدد كبير من القطع الأرضية الصغيرة ، فيضع على رأس كل واحدة منها خماسا ، يمده بوسائل الإنتاج الضرورية ( حبوب ، حيوانات الجر .. ) مقابل ان تعود أربعة اخماس المحصول ، لمالك الأرض ووسائل الإنتاج ، والخمس الاخر لمالك قوة العمل .
ان بعض النظريات الاقتصادية التي تريد طمس واقع الاستغلال الذي يتعرض له الخماس ، لا تقدم علاقة الاقطاعي بالخماس ، على انها علاقة اجتماعية بين مالك الأرض ومالك وسائل الإنتاج ، وغير مالك لها . بل بصفتها علاقة عوامل انتاج ، يساهم فيها عاملُ العمل بالخمس ، والعوامل الأخرى بأربعة اخماس .
بيد ان الشروط التاريخية المتميزة ، التي أحاطت ظهور النظام الاقطاعي المغربي ، وهي شروط الهيمنة للرأسمال العالمي دوليا ، والفرنسي محليا ، ستطبع ذلك النظام بطابعها الخاص . لذلك لم يكن الاقطاع المغربي منغلقا على ذاته ، كما كان الشأن بالنسبة للأقطاع الأوربي في مراحله الأولى . بل كان بالعكس ، خاضعا وتابعا للسوق الرأسمالية ( لتبيان درجة الانغلاق القصوى التي يتميز بها الاقطاع الألماني – مثلا – في بداية نشأته ، يسوق Karl Kautsky dans son ouvrage " La question agraire " الحكاية التالية :
مادامت العلاقة التجارية مع العالم الخارجي منعدمة انعداما كليا ، كان الاقطاعيون عندما يريدون تجديد انتاجهم من الخمور للاستهلاك الخاص ، يضطرون من اجل التخلص من الخمور القديمة ، الى فرض شربها قهرا على الاقنان كنوع من أنواع العمل الاكراهي ، حتى اذا أصيبوا بالسُّكر ، واخذوا يتشاجرون فيما بينهم ، يتدخل عندئذ ، بصفته رجل امن ، فيفرض عليهم دفع الغرامات بسبب المخالفات التي ارتكبوها . وبهذه الطريقة الملتوية ، كان يسترجع مقابلا لخموره ) .
ان السوق الرأسمالية قد خلقت للإقطاعي المغربي حاجيات جديدة وكثيرة ، وكماليات متنوعة . لذلك كان يحرص على تحويل جزء هام من فائض الإنتاج الى نقود ، لشراء وسائل بذخه ( يذكر Pierre Gilles dans son ouvrage " République du roi " ، بان التهامی الگلاوي باشا وجلاد مراكش ، كان زبونا مداوما لأرقى المحلات التجارية الباريسية ، وقد سبق له ان اشترى جوهرة فريدة من نوعها ، أراد اهداءها الى الملكة Elizabeth ، بمناسبة تتويجها على عرش بريطانيا العظمى La grande Bretagne ، ولكنها رفضتها ) .لأنها لا تتسلم الهدايا من عند لصوص المال العام ، ومن عند جلاد يمارس صاديته وبسيكوباطيته على الناس من دون واعز ضمير .. ومنذ متى كان للعبد الجلاد ضمير . يقول الشاعر المتنبي : " من علم العبد المخصي مكرمة / أآبائه البيض ، أم اجداده الصّيد --- أم اذنه في يد النخاس دامية / وهو بين الايدي مشدود ومربوط " ..
7 ) تحول الاقطاع الى برجوازية زراعية
عند اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية ، ومع صعود الهيمنة الكلاسيكية لرأس المال البريطاني ، وهي الهيمنة التي ستسمح بتجديد الصبغة الاستعمارية الكلونيالية بصيغة اكثر انسجاما مع طبيعته الجديدة ، بما هو رأس مال للشركات المتعددة الجنسيات .. سيتعزز اذن ، ويشتد نضال المستعمرات للمطالبة بالاستقلال .
في هذه الشروط العالمية المستجدة ، كان يندرج التجذر في الموقف الوطني المغربي الذي تحول من المطالب الإصلاحية تحت الإدارة الكلونيالية ، الى مطلب الاستقلال .
واذا كان الالتفاف الشعبي ، قد اعطى لذلك المطلب زخمه الضروري الذي حوّله الى مهمة راهنة ، قابلة للتحقيق ، فان المسألة التي ستبقى غامضة في ذلك الوقت ، هي الشكل الذي سيتجسد فيه الاستقلال المنتظر .
ان حتمية الاستقلال كانت تطرح في الأفق شكلين ممكنين موضوعيا :
شكل جذري تجاه المصالح الاستعمارية ، وشكل إصلاحي .
اما المعيار الذي كانت تقاس به في ذلك الوقت ، جذرية او إصلاحية الموقف من الاستعمار الكلونيالي ، فهو في نهاية المطاف ، الموقف من الملكية العقارية الاقطاعية المغربية . أي بعبارة أخرى : ما هو الحل الذي سيأتي به الاستقلال للملكية الاقطاعية ؟ ... هل سيكون حلا اصلاحيا ، يبقى في حدود تحديث الاقطاع ، عن طريق إعادة تنظيم الملكية الاقطاعية ، بشكل رأسمالي يقوم على تحويل عمل الخماسين الى عمل مأجور يتولاه عمال زراعيون ، ام بالعكس سيكون حلا راديكاليا يؤدي الى تصفية الملكية الاقطاعية من الأساس ؟ .
هذه هي عقدة المسألة في ذلك الوقت . ان حسم تلك المسألة لصالح الحل الإصلاحي ، لم يتم كما يمكن ان يعتقد في مطلع الستينات بعد طرد المجموعة التقدمية من الحكومة ، والتراجع عن برنامجها ، فهذه ليست سوى احدى حلقات المسلسل .. ثم ما قيمة برنامج سياسي مهما كانت راديكاليته ، إذا لم يكن يستند لسلطة سياسية فعلية ، تمنحه شروط التحقيق ؟؟؟؟ ، بل يبدأ من مفاوضات Aix-les Bains نفسها .
ان هذه المفاوضات لم تكن بالمعنى الحديث للكلمة . بل كانت مجرد ندوة استشارية ، كانت لإدارة الحماية فيها سلطة تعيين أعضاءها للاستماع لآرائهم .. والتشكيلة التي دخل بها الوفد المغربي للمفاوضات ، هي في حد ذاتها جد معبرة عن المصير الذي سيؤول اليه مستقبل المغرب السياسي والاقتصادي . ان تشكيلة لا يمثل فيها الوطنيون سوى اقلية ضئيلة ، مع الأغلبية الساحقة التي كانت تتكون من انصار الباشا التهامي لگلاوي المدعومين بالعديد من الشخصيات " المستقلة " التقليدية ، مضافا اليها كون العناصر الوطنية نفسها كانت اقرب للأفراد المشتتة ، منها للوفد السياسي المنسجم والمتماسك الذي له وضوح كامل بأهدافه ..
هذه التشكيلة اذن ، لا يمكن ان تعطي موضوعيا وذاتيا اكثر مما اعطته . والخطير في الامر ، ان نتائج مفاوضات Aix-les Bains ، لم تقدمها النخبة الوطنية المشاركة في المفاوضات ، على حقيقتها . أي بصفتها مساومة سياسية مع المستعمر وحلفائه في الداخل . بل قدمتها على حلة أيديولوجية ذات طابع انتصاري ، افسدت التعبئة الجماهيرية ، وضببت الأهداف السياسية ( سيشير المهدي بن بركة في كراس " الاختيار الثوري " لذلك الموقف الأيديولوجي في الأصل ، عندما يصفه كأحد الأخطاء السياسية الثلاثة القاتلة ) . حضر عبد الرحيم بوعبيد المفاوضات ، وادانها الفقيه محمد البصري ، وزعيم الريف عبد الكريم الخطابي ، وادانها علال الفاسي من القاهرة .
ان خيانة / هزيمة Aix-les Bains ، قد شكلت من الناحية التاريخية ، القاعدة الأيديولوجية للهزائم السياسية اللاحقة ( حل جيش التحرير ، طرد المجموعة التقدمية من الحكومة ، انفصال نقابة الاتحاد المغربي للشغل UMT عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية UNFP ، تراجيديا اختطاف المهدي بن بركة ، انتفاضة 23 مارس 1965 .... الخ ) .
وهكذا ، مع بداية حلول الستينات ، ودخول القوى التقدمية في المعارضة ، تكون كل الشروط السياسية التي اطلقتها Aix-les Bains ، قد اكتملت ، للشروع في تحديث الإقطاع .. في تحويل الاقطاع الى برجوازية زراعية تابعة .
ان هذه المهمة ستتوفر لها كل الشروط السياسية ، والقانونية ، والاجتماعية ، والمالية اللازمة .
1 ) على الصعيد السياسي والقانوني : سيتم ذلك تحت اشراف وتوجيه الدولة السلطانية ، المخزنولوجية ، التقليدانية ، البطريركية ، الثيوقراطية .. التي عبأت لهذا الغرض ، وزارتها المهنية ( الفلاحة ، التعليم ، التجهيز ، الداخلية ) ، ومكاتبها الملحقة ، ومؤسساتها المالية ( القرض الفلاحي ... ) ، ومخططاتها الاقتصادية ، وقوانين الاستثمارات ، والانخراط في السوق الاوربية المشتركة .
2 ) على الصعيد المالي : ستلجأ الدولة السلطانية المخزنولوجية ، الى مختلف المؤسسات المالية العالمية للحصول على القروض اللازمة من اجل تمويل منشآت وتجهيزات الري الضخمة ، من سدود وقنوات وغيرها .
3 ) على الصعيد الاجتماعي : لقد انطلقت صيرورة تحديث الاقطاع ، في محيط عقاري ملائم ، كانت ابرز مظاهره :
ا – وجود فئة اجتماعية من التجار المغاربة ، كانت قد امتلكت أراضي زراعية ، واستغلالها استغلالا رأسمالياً منذ الفترة الكلونيالية ( كانت هذه الأراضي عند حلول استقلال Aix-les Bains ، تقدر ب 300.000 هكتار ) .
ب – تمكن فئة من الموظفين الكبار ، مدنيين وعسكريين ، المستفيدين من امتيازاتهم البيروقراطية ، من شراء أراضي المعمرين ( يقول في هذا الصدد John Waterbury le sociologue américain dans son ouvrage " La commanderie des croyants " " لقد انطلقت مع بداية الاستقلال ، حركة واسعة من البيع والشراء في أراضي المعمرين . ولقد وجد الجميع ، من نخبة ومعمرين ونظام ، مبتغاه في هذه الحركة . فبالنسبة للمعمر الذي كان يعلم بان رحيله من المغرب سيأتي لا محالة ، انْ آجلا او عاجلا ، وحيث كان يخشى خطر نزع الملكية الذي يهدده .. فقد كان راضيا كل الرضا ، ان يبيع ممتلكاته لبعض ممثلي النخبة ، الذين غالبا ما كانوا يحتلون مواقع هامة في حكومة السلطان ، تسمح له بضمان تحويل راس ماله الى الخارج . وبالنسبة للنظام ، فان تلك العملية اذا ما سارت على تلك الوثيرة ، ستعفيه من مشكلة استرجاع الأراضي واستصلاحها " .
في هذا المحيط الاجتماعي الملائم اذن ، سيتم تحديث الاقطاع ( لنلاحظ بالمناسبة ، ان العديد من الموظفين الكبار ، وخاصة العسكريين منهم ، الذين اشتروا أراضي المعمرين ، هم أبناء بعض الاقطاعيين . لذلك فهم يستخدمون نفوذهم العقاري الرأسمالي ، ونفودهم الثقافي ، للتأثير على آبائهم . كذلك يجب الا ننسى انه بعد الحصول على استقلال Aix-les Bains ، لم يعد الخماسون يقبلون استمرار وضعيتهم السابقة كأقنان . بل اصبحوا يفضلون ان يصبحوا عمالا زراعيين ) .
هكذا اذن ، سينضاف الاقطاعي الحديث الى البيروقراطي الزراعي ، والتاجر الزراعي ، ليشكلوا جميعا ، فئة اجتماعية جديدة ، موحدة المصالح ، هي : البرجوازية الزراعية التابعة .
8 ) تناقضات البرجوازية الزراعية
ان الاستراتيجية التي حاولت مختلف المخططات الاقتصادية خدمتها ، بإيعاز من / و تشجيع الشركات المتعددة الجنسيات ، تكمن في تقوية البرجوازية الزراعية . ولقد كانت مراكز السلطة الرأسمالية العالمية ، تتوخى ، من وراء تلك البرجوازية ، ان تكون بمثابة الاسمنت الذي تلحم السوق المحلي بالسوق الرأسمالية العالمية . وهذا ما حصل فعلا بحكم التسهيلات السخية ، والامكانيات المادية الضخمة ، التي وضعت تحت تصرف المشروع . فليس غريبا ، والحالة هذه ، ان يحتل الرأسمال الزراعي في الوقت الحاضر ، موقع الهيمنة ، بالنسبة لمختلف اشكال الرأسمال المحلي الأخرى .
بيد ان البرجوازية الزراعية ، نظرا لطبيعتها التاريخية والاقتصادية ، سرعان ما ستجد نفسها امام تناقض حاد ، يصعب عليها التخلص منه .
أما الوجهان الاساسيان لهذا التناقض ، فهما التاليان :
1 – فبعد ان استكمل القطاع تحوله ، وبعد مغربة أراضي المعمرين ، يكون الرأسمال الزراعي بذلك ، قد استنفذ احتياطاته العقارية المتوفرة . وهذا يعني ان شروط التراكم الموسع لراس المال قد ضاقت .
2 – ان البرجوازية الزراعية المغربية المتخصصة في انتاج الحوامض والبواكر للسوق الرأسمالية العالمية ، قد قامت مصالها التاريخية ، على امتيازين اثنين : الأول طبيعي ( الريع المناخي ) ، الذي مكنها موضوعيا ، من التخصص في تلك المزروعات . والثاني تجاري ، يرجع للتسهيلات الجمركية التي سمحت بها بلدان السوق الاوربية المشتركة ، نتيجة انخراط المغرب في تلك السوق .
غير ان هاذين الامتيازين ، هما الآن سائران نحو التقلص .
-- بالنسبة للأولى : لقد أدى تطور التكنولوجيا الى تطويع المناخ في بلدان المركز الرأسمالي ، بواسطة بعض الاستعمالات الطاقوية ، الشيء الذي سمح بإمكانية زراعة مزروعات ، كانت قبل هذا الوقت ، يتم استيرادها من البلدان ذات المناخ الطبيعي الملائم ( هذه الزراعة تعرف بزراعة البيئة المكيفة ) .
-- بالنسبة للثاني : ان تدويل السوق الرأسمالية العالمية ، يؤدي بالضرورة الى توسيع السوق الاوربية المشتركة . وان انضمام اسبانيا لها ، يجعل المجموعة الاوربية ، في استغناء عن المزروعات المغربية .
كيف حاولت البرجوازية الزراعية المغربية حل ذلك التناقض ، الذي اصبح يهدد مصالحها ؟
فيما يخص الوجه الأول من التناقض ، المتعلق باستنفاذ الاحتياطي العقاري ، فهذا ممكن التغلب عليه . اذا يكفي تحويل التراكم الموسع ، الى تراكم مكثف ، عن طريق تطوير قوى الإنتاج ( مع ما يستتبعه بطبيعة الحال ، من تعميق التبعية الناجم عن استيراد التكنولوجيا المتطورة ، ووسائل التمويل ) .
لكن هذا الحل ممكن فقط ، في شروط إمكانية تحقيق راس المال الزراعي في السوق الاوربية المشتركة ، وهو ما لم يعد ممكنا بحكم ضرب احتكار الريع المناخي ، وتدويل السوق الرأسمالية العالمية ..
واذن ، فان اتجاه تطور البرجوازية الزراعية المغربية ، ليس هو التراكم المكثف لراس المال الزراعي ، بضخ المزيد من الرساميل الى البادية ، ولكن ، هو العكس ، نقل جزء من ذلك الرأسمال خارج البادية ، للبحث له عن مجالات توظيف أخرى ، مربحة اكثر . ونظرا للطبيعة البنيوية الاجتماعية للبرجوازية الزراعية ، بما هي برجوازية تابعة ، فان مجالات توظيفها ، سوف لن تتجاوز النشاط العقاري في المدن ، والتجارة ، والخدمات ، والصناعة المعدة للتصدير .
واذا ما افترضنا في احسن الأحوال ، ان الهيمنة الجديدة ستكون من نصيب الرأسمال الصناعي المعد للتصدير ، وهو اقصى ما يمكن ان تصل اليه فئة اجتماعية مرتبطة عضويا بالرأسمالي العالمي ، فان ذلك لن يحل أي شيء بالنسبة لمسألة التنمية التي ستبقى معطوبة ..
فالتبعية ، هي دائما تبعية ، سواء كانت مبنية على الزراعة التصديرية ، او على الصناعة التصديرية . وهذه الحقيقة يمكن البرهنة عليها ، ليس فحسب ، من الناحية النظرية ، ولكن تأكيدها أيضا من الناحية التاريخية ... ( صناعة النسيج المغربية التي اختنقت ) .....
9 ) البديل الجذري وحده يكفل الأسس المادية للثورة التحديثية بالمغرب .
ان الخلاصة التي يقود اليها هذا التحليل ، هي ان تاريخ تخلف المجتمع المغربي ، هو تاريخ التبعية للمركز الرأسمالي الامبريالي العالمي . وان هذه التبعية التي تنفخ فيها طبيعة الدولة الثيوقراطية ، البطريركية ، والكمبرادورية ، وهي الدولة المخزنولوجية الغارقة في الثقافة المخزنية ، وفي التقاليد المرعية ، وفي الطقوس البالية المفروضة والمرفوضة . وان هذه التبعية قد تقمصت اشكالا متنوعة ، حسب كل مرحلة من مراحل التاريخ المعطوب ، ابتداءً من الغزو التجاري في القرن التاسع عشر ، مرورا بتكوين اقطاع مغربي متخلف تابع ، فبرجوازية زراعية طفيلية تابعة ومتخلفة ، وانتهاء ببرجوازية صناعية طفيلية تابعة محتملة ومتخلفة .. هذه التبعية كانت تستند دائما ، عبر مراحيل التاريخ الطويلة ، الى بنية عقارية متخلفة تخلف الدولة السلطانية ، وتابعة تبعية الدولة نفسها . بل ان تخلف تلك البنية ، كان في الأصل ، هو سبب انتصار علاقة التبعية منذ اللحظة الأولى ، الى اللحظة الحالية المتسمة بالتبعية ، وبغرق المغرب في الاستدانة التي وصلت مليارات الدولارات ، ولا تزال الدولة السلطانية المخزنية تقترض دون معرفة الوجهة التي اتخذتها تلك القروض ، مع العلم ان الرعايا تعرف من سيطر عليها بطرق انتهت بتهريب أموال الشعب المفقر ، وثروته لتكديسها في الابناك الأجنبية ، وصرفها في شراء الفيلات ، والقصور خارج المغرب ، والاشياء الثمينة النفيسة كالساعات المرصعة بالماس ، وشراء اليخْتات ، والطائرات النفافتة الخاصة للأبناء ، مع فتح حسابات للأبناء بمليارات الدولارات ، وكلها أموال الشعب المفقر المهدد بالجوع ، والعطش ، وبالأوبئة الفتاكة المختلفة ...
وعليه فان القطيعة الراديكالية مع التبعية ، بمختلف اشكالها وتلاوينها ، التي هي شرط كل تحرر وطني حقيقي ، وكل تقدم اجتماعي فعلي ، غير ممكنة بدون حل المسألة الزراعية ، حلا ثوريا راديكاليا .
ان الثورة التحديثية التي كانت مطروحة على المغرب ، منذ منتصف القرن التاسع عشر ، إبان الاحتكاك مع اوربة الرأسمالية ، والتي أخفقت بسبب تخلف الدولة السلطانية المخزنولوجية ، البطريركية ، والكمبرادورية .. وبسبب انعدام النضج المجتمعي في ذلك الوقت الذي يرجع سببه الى طبيعة النظام السياسي المخزنولوجي السلطاني .. لا زالت في جوهرها مطروحة أيضا في الوقت الحاضر . وان الذي تغير ، مع تغير شروط العصر التاريخي ، هو فقط شكلها .. أي انها لم تعد تنتمي للنموذج الغربي الكلاسيكي من الطراز البروسي الألماني ، او الميجي الياباني ... لكن للنموذج المقتبس من ثورات الشعوب والأمم عبر التاريخ ، مع إمكانية ابداع تجربة مغربية اصيلة ومتميزة ضمن ذاك الاطار العام .
ان هذه التجربة التحديثية ، التي تشمل الاقتصاد ، والسياسة ، والثقافة ، والدولة ، والمجتمع ، تمثل فيها المسألة الزراعية ، مفتاحها الأساسي ، وحلقتها المركزية ..
فماذا يعني إذن ، تحديث الهيكلة العقارية في البادية ، تحديثا عقلانيا راديكاليا ؟ .
يعني ان التغيير ينبغي ان يمس في العمق ، المجالين الاساسين التاليين :
1 – الملكية العقارية الرأسمالية الكبرى الخاصة .
2 – الملكية التقليدية بمختلف رواسبها المتخلفة ..
نستخلص من كل ما سبق ، ان الذي يعيق التقدم الاقتصادي الاجتماعي ، من جهة طبيعة الدولة السلطانية المخزنولوجية البطريركية الطقوسية والمتخلفة ، ومن جهة واقع الملكية العقارية بشقيها معا : الملكية الرأسمالية الكبيرة المتخلفة التابعة ، والملكية التقليدية المتخلفة بمختلف اشكالها ..
لذلك فان الشرط الأول للتقدم هو توحيد الملكية العقارية ، وإعادة تنظيمها وفق نظام عقاري عقلاني .
ما هو هذا النظام الجديد ؟ هل هو انتزاع كل الأراضي من الملاكين الكبار ، وإعادة توزيعها على صغار الفلاحين ؟
اذا كانت مسألة انتزاع الملكية من الملاكين الكبار ، ضرورة ملحة ، فان إعادة التوزيع على الفلاحين غير عقلانية ، بسبب ندرة الأراضي الصالحة للزراعة في المغرب ، وبسبب ضعف المردود الناجم عن ذلك .
ان الأراضي القابلة للإصلاح قد استنفذت منذ نهاية الاستعمار الكلونيالي ، وليس هنا مجال لتوسيعها في الشروط القادمة . والأراضي الممكن زراعتها ، فعلا ، سنويا لا يتجاوز حدها الأقصى اليوم حوالي بين ستة وسبعة مليون هكتار .. دون ان ننسى اكبر آفة يعاني منها المغرب التي هي الجفاف المهدد للرعايا بالعطش ، وبالجوع .
في تحليل احصائي قام به " نجيب بودربالة " في مطلع السبعينات ( " المسألة الزراعية – ج – 1 " ) La question agraire خرج بالخلاصة التالية ، هي انه اذا اعتبرنا الحد الأدنى للمساحة الاقتصادية ، هو في المتوسط 13 هكتار ( 5 في الأراضي السقوية ، وما بين 10 و 20 في الأراضي البورية الجافة ) ، واذا افترضنا انه تم انتزاع الملكية من جميع الملاكين الكبار ، وتحت إعادة توزيعها وفق 13 هكتار لكل عائلة قروية .. فلكي تتمكن جميع العائلات من الاستفادة من التوزيع ، يلزمنا ما مجموعه 20 مليون هكتار ، والحال اننا لا نتوفر الا على ستة ملايين هكتار . بمعنى هذا ان الثلث فقط هو الذي سيستفيد ، بينما الثلثان الباقيان لن يكون من نصيبهما أي شيء .
ان ندرة الأراضي والجفاف ، وانعدام الوسائل الضرورية لخدمة الأرض ، تجعل من المستحيل تصور إمكانية حل مشكل البطالة والدخل ، بالنسبة للفلاحين ، اعتمادا على الإمكانيات الذاتية للبادية وحدها . اذ لا بد من ربط الإنتاج الزراعي بالإنتاج الصناعي ، والحال ان هذا الأخير يخضع للتبعية والتحكم الامبريالي للدول الصناعية ، وهو بدوره اكثر من متخلف .
وفي نظرنا يبقى النظام العقاري العقلاني ، الذي ينسجم مع هذا الوضع ، هو : تأميم الملكية العقارية ، وجعل الدولة الديمقراطية الحقيقية تتحكم في الإنتاج ، مُتيحةً بذلك تشغيل جزء من الفلاحين في تعاونيات الدولة ، ونقل الجزء الفائض الى المدن كعمال في الصناعة التي يجب انشاءها .
فالإجراء الأساسي يوجب التحلل من التبعية للخارج الامبريالي ، ويوجب بناء الدولة الديمقراطية التي تربط المسؤولية بالمحاسبة ..
ومن دون فك التبعية والوصاية الأجنبية ، ومن دون بناء الدولة الديمقراطية الحقيقية ، سيكون وضعنا مثل اليوم ، المزيد من الفقر والتفقير ، ومهددين بالجوع وبالعطش وبالأوبئة في كل وقت وحين ، لكن المزيد من الثراء الفاحش للسلطان ، ولأسرته ، وعائلته ، وأصدقائه ، وكل المحيطين والمقربين منه .
انه مغرب المفارقات .. .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلة الجزيرة ترصد مخرجات اجتماع مجلس الحرب الإسرائيلي


.. غالانت: إسرائيل تتعامل مع عدد من البدائل كي يتمكن سكان الشما




.. صوتوا ضده واتهموه بالتجسس.. مشرعون أميركيون يحتفظون بحسابات


.. حصانة الرؤساء السابقين أمام المحكمة العليا الأميركية وترقب ك




.. انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض