الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يحق للمحكمة الاتحادية العليا العدول عن مبادئ أو تفسيرات لنصوص دستورية سبق وإن قررتها سابقاً

منير حمود الشامي
(Munir Alshami)

2022 / 8 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


التفسير هو عملية عقلية للكشف بطريقة منطقية عن المصلحة التي تحميها الإرادة التشريعية، ومدى انطباقها على الحالات الواقعية، أو هو توضيح ما أبهم من ألفاظ التشريع، وتكملة ما اقتضب من نصوصه، وتخريج ما نقص من أحكامه والتوفيق بين أجزائه المتناقضة. والتفسير الدستوري أخطر وأدق الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها قضاة الدستورية، فهو-التفسير الدستوري-يلعب دوراً مؤثراً في رقابة الدستورية، والتحكيم بين السلطات وتحقيق التوازن بينها، وتحقيق مرونة الوثيقة الدستورية، وتأكيد العرف الدستوري، وصياغة وإنشاء قواعد القانون الدستوري. فالأصل أن يُحدد الدستور اختصاصات كل سلطة من السلطات الثلاثة كي تباشرها في حدود الدستور، ويمتنع على كل سلطة-طبقاً لمبدأ الفصل بين السلطات- أن تمارس اختصاصات سلطة أخرى. وقضاء الدستورية قد استقر على أن رقابته على دستورية النصوص القانونية، غايتها أن تردها جميعاً إلى أحكام الدستور تغليباً لها على ما دونها، وتوكيداً لسموها، لتظل لها الكلمة العليا على ما عداها، وسبيلها إلى ذلك أن تفصل في الطعون الموجهة إلى تلك النصوص، ما كان منها شكلياً أو موضوعياً. والنصوص الدستورية ما كان لها أن تفصل أحكامها تفصيلاً دقيقاً يُحيط بكل اجزائها، وإلا كان رصد تفصيلاتها هذه في نصوص الدستور مقتضياً توقعها ابتداءً، ومؤدياً انتهاءً إلى انزلاق هذه النصوص الدستورية إلى أخطاء كان ينبغي تجنبها، وهو ما يناقض ما تتوخاه الدساتير في الأعم من الأحوال من إيجاز يُحيط بالعريض من المسائل التي تنظمها، وإجمال لا يغوص في تفصيلاتها، كي تظل صامدة من خلال مرونة تطبيقها، عبر اجيال عديدة تتنوع اهتماماتها واحتياجاتها، وتتباين مقاييسها فيما تراه ملائماً لبناء مجتمعها، مما أشاع القول بأن الدستور وإن كان نقطة البداية التي ترتكز عليها رقابة الدستورية في عملها، إلا أن اجتهاداتها هي الدستور ذاته، فلا تكون شروحها للدستور إلا محيطة بكل جوانبه، وكأنها وثيقة جديدة مضافة إليه. وبالتالي يمكننا القول مما تقدم ذكره، أن واضعي الدستور صاغوه في لغة عامة تاركين للأجيال القادمة مهمة مؤامة هذه اللغة مع أوضاع تتغير باطراد. وبالتالي فأن كل تفسير لنصوص الدستور ينبغي أن ينطلق من تصور مبدئي مؤداه أن اكثر معانيها ضماناً لرقي الجماعة، هي التي يجب التزامها عند التفسير، والاستجابة للأوضاع المتغيرة، لا عن طريق إجهاد نصوص الدستور وافتعال معان لها لا يتصور ربطها معها، وإنما من خلال النظر إلى مضامين هذه النصوص، وقراءتها بصورة أكثر تقدماً على ضوء نظرة واقعية لا تُحيلها إلى جمود يسلبها حقائق الحياة، بل يمد لها شرايين جديدة تُعينها على الصمود. فالأصل في قضاة الرقابة على الدستورية، هو ميلهم إلى الحق وإيمانهم بأن تطبيق حكم القانون على ضوء نظرة متطورة، وليس تشهياً من جانبهم. فالحكم القضائي الدستوري هو:" النتيجـــة الفاصـــلة فـــي الخصـــومة المعروضـــة امـــام المحكمـــة والـــذي يصـــدر وفقـــاً للمقتضـــيات والاصـــول القانونيـــة المقـــررة ويغـــل يـــدها عـــن نظـــره مـــرة اخـــرى"، بينما يكون العدول القضائي الدستوري كما يُعرفه الفقه الدستوري هو:" احلال إرادي واضح ومؤكد لحكم جديد محل حكم آخر في موضوع الدعوى نفسها وحيثياتها السابقة، وعلى ضوء ضرورة فعلية، لا وهمية، ان اجاز الدستور ذلك". ولا جرم أن لكل جهة قضائية تباشر رقابة الدستورية عثراتها، ولها كذلك تجاربها التي قد يصيبها التوفيق احيانا، أو يكون إهدارها لحقائق العدل في أخص مكوناتها جليا، ومن ذلك ما كانت تؤمن به المحكمة العليا الامريكية من أن حضور محام مع متهم في جناية ليس أمراً جوهرياً لضمان محاكمته بطريقة منصفة، ثم عدولها عن حكمها هذا في قضية Gideon v. Wainwright (1963)، وهنا لابد من التذكير بان أحكام القضاء الامريكي تتمتع بالحجية النسبية، فلا يتقيد بالحكم إلا المحكمة التي أصدرته وفي ذات المنازعة التي صدر بها، حيث تقول المحكمة تجسيداً لهذا المعنى في قضية United States v. Butler (1936)، ما نصه:" يجب إلا يساء فهم مهمة المحكمة في الرقابة على الدستورية، إذ كثيراً ما يقال أن المحكمة تُبطل القوانين المخالفة للدستور، وهو قول غير صحيح، إذ كل ما تفعله المحكمة أنها تضع النص الدستوري إلى جوار النص القانوني المطعون فيه، لتحدد حقيقة ما بينهما من توافق أو تعارض، فإذا فصلت في هذه المشكلة ورتبت عليها نتيجتها في خصوص الدعوى المعروضة أمامها فقد انتهت مهمتها بالنسبة للقانون غير الدستوري"، وبالتالي لا يجود نص دستوري يعطي الحكم الدستوري الحجية المطلقة في الدستور الامريكي، أو يمنع المحكمة العليا من العدول عن قراراتها السابقة، وفقاً للضرورة التي يقتضيها وآثر المفاهيم الديمقراطية السائدة. أما في دستور جمهورية العراق لسنة 2005م، وبنص المادة (94) التي أعطت الحجية المطلقة للحكم الصادر من المحكمة الاتحادية العليا، وبالتالي يُشير النص الدستوري المتقدم ذكره إلى عدم جواز إثارة المسألة التي فصلت فيها المحكمة مرة أخرى، وهو ما يسمى في القضاء الدستوري بمبدأ (عدم جواز العدول عن الحجية المطلقة للحكم بعدم الدستورية)، أي أن قراراتها تكون قطعية غير قابلة للطعن مجدداً، ونهائية لا يمكن تغير مضمون قراراتها في المستقبل. إلا أن الواقع العملي للمحكمة الاتحادية العليا نراها قد عدلت عن أحكام سابقة لها ولمرات كثيرة، ومنها حكمها في القضية رقم16/اتحادية/2007م، في 11/9/2007م، الذي جاء فيه (.. وجدت المحكمة من استقراء الاختصاصات المناطة بالسلطة الاتحادية الواردة في الباب الرابع من الدستور عدم وجود ما يشير الى اناطة صلاحية التعيين والاقالة للأجهزة الامنية بالسلطة الاتحادية واذ أن المادة ( ١١٥ ) من الدستور نصت (بأن كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم)، وبذا فأن التعيين والاقالة للأجهزة الامنية تكون من صلاحيات الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة"، وتم العدول عنه بالقرار رقم ٧٤ /اتحادية/ ٢٠٠٩ في 3/12/2009م، إذ وردها استيضاح من قبل محافظ ذي قار عن مدى صلاحية المحافظ بالإقالة والتنسيب والنقل بين دوائر الوزارات في المحافظة الواحدة لأصحاب المناصب العليا. وكذلك قرارها الخاص بصلاحية مجالس المحافظات بسن التشريعات المحلية رقم 9/اتحادية/2007م في 16/7/2007م، إذ قالت المحكمة:" ومن خلال تدقيق احكام المادة ١١٥ والمواد الاخرى من دستور ٢٠٠٥ تبين ان مجلس المحافظة لا يتمتع بصفة تشريعية لسن القوانين المحلية، ولكن يمارس صلاحياته الادارية والمالية الواسعة استنادا الى المادة 122 من الدستور"، لكنها عدلت عن قرارها هذا، حين أقرت صلاحية مجالس المحافظات لسن القوانين المحلية، بقرارها رقم 13/ اتحادية/2007م، في 31/7/2007م، أي بعد أيام قليلة فقط.
ومن خلال ما تقدم ذكره، نستطيع القول أن المحكمة الاتحادية العليا تستطيع العدول عن تفسيراتها السابقة ووفقاً لنص المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة رقم 1 لسنة 2022م، لكن بشروط أهمها:-
1- أن يكون العدول تعبيراً صادقاً عن الرغبة في أن تُعبر المحكمة الاتحادية عما يطرأ على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في المجتمع العراقي من تغيرات، وأن تظل المحكمة تستجيب بقضائها لهذه التغيرات، على وعي كامل بأهمية تحقيق الاستقرار الاجتماعي والقانوني بمتابعتها للأحكام والتفسيرات القديمة، مالم تنطوي هذه المتابعة على اخلال واضح بالمصالح الاجتماعية الكبرى، أو خلق مشاكل دستورية وقانونية لا داعي لها، أو كانت التجربة العملية للتفسير السابق قد كشفت عن أضرار محققة بالجماعة أو ببعض أفرادها، أو وقوعها في خلل منطقي لا يتصور العمل على استدامته وفرضه على المجتمع.
2- أن يظل هذا العدول في الحالات التي يتم فيها محافظاً على الخط الأساسي الذي تبنته المحكمة الاتحادية العليا منذ نشاءتها، وهو خط حراسة الشرعية الدستورية، وإعلاء كلمة القانون، وصيانة الحقوق والحريات.
3- الموازنة الدقيقة بين الأضرار الناتجة عن هذا العدول، والأضرار الناتجة عن استمرار المحكمة في تفسيراتها السابقة ثبت عدم صلاحيتها، أو تغيرت دواعي واسباب الحكم الصادر فيها.
4- تعديل نص المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة رقم 1 لسنة 2022م، باشتراط اغلبية موصوفة للمحكمة عند عدولها، وإجراءات خاصة تؤدي لمزيد من الاستقرار القانوني والدستوري، وتجعل محكمتنا المؤقرة تفكر كثيراً قبل العدول عن سوابقها، ولا تقدم على ذلك إلا إذا كانت هذه السوابق غير منتجة فعلاً، أو أصبحت غير مناسبة للتطورات التي طرأت على المجتمع في الميادين المختلفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هكذا علقت قناة الجزيرة على قرار إغلاق مكتبها في إسرائيل


.. الجيش الإسرائيلي يسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح




.. -صيادو الرمال-.. مهنة محفوفة بالمخاطر في جمهورية أفريقيا الو


.. ما هي مراحل الاتفاق الذي وافقت عليه حماس؟ • فرانس 24




.. إطلاق صواريخ من جنوب لبنان على «موقع الرادار» الإسرائيلي| #ا