الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضاحية و المتوكل

علي باقر خيرالله

2022 / 8 / 6
الادب والفن


وَقَعَت في يدي قبل عامٍ تقريباً احدى الصُحُف التي تُصدرها الجالية العراقية في دولة اوربية , كانت تحتوي مواضيعاً جميلة , اغلبها في الفلسفة والأدب والسينما , وفيها بابٌ قد أنقرضَ منذُ زمن , باب هواة المراسلة , وهو بابٌ أنقرض مع ظهور الاتصالات , حيث كان القراء يشاركون في هذه الصفحة ويكتبون نبذة قصيرة عنهم مع ذكر عنوان صندوق البريد ليراسلهم من يهوى ذلك من جميع انحاء العالم , ويتبادل الطرفان الطوابع البريدية او صور من مناطقهم وما الى ذلك .
قرأتُ الصفحة بهدوء بدافع الفضول وليس الاهتمام , كي أعرفَ شخوص المشاركين في الصفحة , ماذا يعملون , وأعمارهم , وعناوينهم , كان الجميعُ اشخاصً عاديين واهتماماتهم عادية فهم مهتمين بتبادل الطوابع والعملات الورقية بدافع الهواية , الا واحداً في الزاوية السفلية اليسرى , كانَ أسمهُ مُتوكل من مواليد 1955 ويسكنُ في براغ عاصمة جمهورية التشيك , خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية من جامعةِ بغداد , مُهتم بالتراث, و ينوي تبادل الحكايات والذكريات الغريبة مع من يراسله .
كنتُ كَمَن وجدَ ضالته , فهو رجلٌ بالتأكيد عاشَ في بغداد السبعينات , بغداد التي أعشقها ,عاصمةُ الغناءِ والأدبِ, انا الذي ولدتُ في زمن بغداد التي يحاصِرُها العالم ويحسبُ عليها طعامها و دوائها , و هو للمصادفةِ يعيشُ مع عشقي المكاني الثاني , براغ ؛ صاحبة المنازلِ المغطاةِ بالقرميدِ الأحمر , مدينةُ البردِ و جمالُ المباني الحضارية .
كنتُ في شارع المتنبي حينها ,وفوراً اشتريتُ ظرفاً أنيقاً , و ورقاً غيرَ مُخطط يميلُ للاصفرار , وملأت صفحتين تقريباً أعرفُ فيهما عن نفسي وأعبرُ عن لهفتي لسماع حكايات تتعلق بذكريات السبعينات في بغداد وذكريات الجامعة من وجهة نظر أنسان رأى الدنيا في الضفة الاخرى من العالم , أرفقتُ رسالتي ببعض الصور لبعض الاماكن الاثرية التي صورتها بهاتفي المحمول , طبعتها عند صاحب المكتبة التي اشتريت منه الظرفَ والورق .
توجهتُ الى مكتبِ بريد الاقصى المقابل للإعدادية المركزية للبنين , ألصق عليه الموظف المُستغرب من شخصٍ بعمري ان يرسلُ رسالةً في هكذا وسيلةٍ يرى وظيفته فيها لا داعي لها في عصر الوظائفِ عن بُعد .
ولأن أغلبَ الموجودينَ في البريدِ العراقي , يتشاركون رؤيتهم لوظائفهم مع هذا الموظف المختص , فقد استغرق وصول رسالتي خمسة عشرَ يوماً الى الشخص المقصود حسبما فهمتُ من ردهِ على رسالتي , لقد كانت رسالةً مليئةً بالحبِ والدهشة , حباً بما أخترتُ ارسالهُ من الصور , ودهشةً لأن يجد شخصٌ مثلي جدوى في مراسلة شخصٍ مثله , فهو يكبرني بأربعين عاماً تقريباً , صارحتهُ بان ما يثير اهتمامي هو ولهي بفترة السبعينات التي عاشها شاباً وطالباً في أرقى الجامعاتِ في المنطقةِ حينها , و اني اتشارك معهُ حبي للتراث بكافة اشكالهِ الادبية و الملموسة ايضاً , وصديقي العجوز ايضاً , وجدَ في اوراقي الاولى له ما أثار اهتمامهُ في معاودةِ المراسلةِ مرةً بعدَ مرة .
ولأن شخصاً مثلي يتشوقُ دائماً لأحاديث من عاشوا في زمنٍ تمنى لو انهُ عاشه , وجدتُ شركةً خاصةً توصلُ رسالتي في غضون اسبوع على ابعدِ تقدير , ورغمَ ان التكلفةَ مضاعفة , الا انني كنتُ كمن يكافئ نفسهُ في نهاية كل اسبوعٍ مليء بالتعب لساعات طويله باستلامِ رسالةٍ من متوكل .
ومن الامور الكثيرة التي لاحظتها بينَ سطورهِ هو ولعه بالفروسية و الاشعار التي تتغنى بالسيفِ والدم , سألته في احدى "مكاتيبي" اليه عن سرِ هذا الولع , واجابني بـ"مكتوبٍ" ادعي انني احفظه عن ظهرِ قلب .
في عام 1978 تحديداً , كنتُ طالباً في السنة الثالثة , كلية الآداب وكنتُ قد بدأتُ قرائي لكتب التراث الادبي, حينها قام مجموعة من الطلاب بمبادرة لوحة المقالات , وهي عبارة عن لوحات خشبية في احد جدران بناية الكلية , تعلق فيها انشطة اتحاد الطلاب و توصيات الاقسام العلمية , بالإضافة الى مقالات ينشرها بعض الطلبة مذيله بأسمائهم .
ساعدني خطي الجيد بالإسهام في هذه النشرة بمشاركات خجولة بدايةً , اقتصرت على نقلي لبعض قصائد ابي فراس الحمداني وابو نؤاس , ومع تطور ثقافة النقد الادبي لدي و زيادة تعمقي وتعلقي بكتب التراث , آثرت على نفسي أن أنشرَ كل أسبوعٍ ورقةً واحدة على الاقل , أشرحُ فيها بيت او بيتين من الشعر العربي مع اضافة بعض التعليقات الخاصة بي وقد كانت هذهِ الاوراق رغم تواضعها تُثير اعجاب اساتذتي وزملائي المهتمين .
كانت اكثرُ اوراقي تتضمن ابيات شعر يغلب عليها طبائع الفروسية والفخر و الهجاء, وكانت اول مشاركة لي هي شرح بيت شعرٍ للمتنبي يقول فيه :
" ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي
أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ "
ومعناه أن نجم الثريا من المستحيل ان يهرم ويفنى وهذه الامور بعيدةٌ عنه كما العيب والنقص بعيدين عن شرفي , ولا أتذكرُ تعليقاتي الخاصة على البيتِ حينها , وقد كنتُ اذيلُ هذه الاوراق باسم متوكل البغدادي , وكان من عادة بعض الطلاب ان يردوا على بعض الاوراق التي نشرها طلاب آخرون , فيعلقون ورقتهم بجانب الورقة المردود عليها , فكنتُ يومياً أتصفح لوحات النشرة لأقرأ الجديد وارى ان كان احد قد رد على ما كتبت .
وبعد يومين من نشري لهذا البيت , وجدتُ ورقة قد عُلقت فوق ورقتي تقريباً , فالورقة الجديدة قد حجبت نصف التي تخصني , خلتُ أن من علقها اراد إغاظتي او لم يلقِ بالاً لما يكون تحت ورقته , ولأن نصف لوحة النشرة فارغة حينها , تأكدت ان من علقها كان هَمهُ الاكبر ان أقرأها .
تأكدتُ من ذلكَ أكثر حينما قرأتُ مُحتوى الورقة فقد كانت ديباجتها تبدأ ببيت شعري نصه:
اخضع وذلّ لمن تحبّ فليس في
شرع الهوى أنفٌ يُشال ويُعقد!
وعلى طريقتي في الشرح , شرح كاتب الورقة البيت الذي هو لا يحتاج الى شرح برأيي ,و احتواء النص على بيت شعرٍ مضاد لجميع ما اخترتهُ وشرحتهُ من اشعار الفروسية والاباء , فقد اختار كاتبها التذلل والخضوع طريقاً لهواه وعشقه , عكسي انا الذي كنتُ دائماً اختار طريق الخشونة والرجولة, ولكن ما اثار شَدهي أكثر هو تذييل الورقة باسم ضاحية البغدادية , وهو أسمٌ لم أسمع بهِ ابداً , فانا طوال ثلاث سنوات في الكلية قد عرفت او سمعتُ على الاقل بجميع اسماء الطالبات في القسم الذي ادرسُ به .
قررتُ حينها الردَّ في نفسِ اليوم , فانزويت الى مكتبة الكلية مُقلباً بسرعة ديوان المتنبي عن بيت شعرٍ اتذكر معناه ولكني لا احفظهُ , وسرعان ما وجدته , وقد استهللتُ فيه ورقتي :
إذا كنتَ تَرْضَى أنْ تَعيشَ بذِلّةٍ
فَلا تَسْتَعِدّنّ الحُسامَ اليَمَانِيَا
فما يَنفَعُ الأُسْدَ الحَياءُ من الطَّوَى
وَلا تُتّقَى حتى تكونَ ضَوَارِيَا
وقد أخذتُ بشرحهِ مستعيناً بشرح عبدالرحمن البرقوقي للبيتين وكان المتنبي يقصد بقولهِ أنهُ ان كنت ترضى ان تعيش الذل و الهوان فلما تحضرُ سيفك اليماني , والسيفُ اليماني هو من اشهر انواع السيوف لدى العرب , اما البيتُ الثاني فهو تساؤل بانه ماذا يفيد الحياء من الصيد الاسد حينما يشتد عليه الجوع , فعندها لن تكون له هيبه , انما هيبته في كونهِ مفترساً ضارياً في الصيد.
اخذتُ الورقة بسرعة بعد ان اكملتها بشرحٍ مقتضب , وعلقتها فوق الورقة المقصودة بنفس الطريقة التي عُلِقَت بها فوقَ ورقتي .
وبعد يومينِ من الدوام , وجدتُ منشوراً , قد عُلق فوق ما كَتبتُ بنفسِ الطريقةِ السابقة , واستمراراً لما مضى , حيث كان في رأس الورقة بيتين من الشعر يقولُ كاتبهما :
قالوا: "عهدناك ذا عزّ فقلت لهم:
لا يعجب الناس من ذلّ المحبينا
لا تـــــــــنكروا ذلّة العشاق إنهم
مستعبدون برقّ الحب راضونا"
و واضحٌ من معنى البيتين أنَّ المقصودَ بأنك يا متوكل حتى لو انكرت الذل على الأسد فلا تنكره على العاشق فان العاشق مستعبد و هو راضٍ بهذا الاستعباد و الذل .
قررتُ حينها أن اسأل عن هذه الـ "ضاحية البغدادية" , فاستفسرت من جميع الزملاء والزميلات عن معرفتهم او سماعهم بهذا الاسم , ولكن لا جدوى , فما لقيتُ سوى الاستغراب من الاسم , و عدم جدية اغلب من ذكرتهم في الغوص في ذاكرتهم بحثاً عن هذا الاسم.
اتذكرُ ان التفكيرَ في الموضوعِ استهلكِ نصفَ ليلي ذلك اليوم , ولم استطع النوم الا ان اكملتُ كتابة ردٍ آخر لعلي بهذا الفعل اتوصلُ الى تلكَ المُشاغبة المقدسةِ للذُل , فكتبتُ بيتين من ديوانِ الشريف الرضي :
نَفَضَ الصّبَابَة خاطرِي وَجوَانحي
وأبــــــــــى المذلَّة منزلي ومقامي
هيـــــهات يخفضني الزّمان وإنما
بيــــــــني وبين الذلّ حدّ حسـامي
أي ان خاطري يرفضُ الصبابة , والصبابة هي حرارة الشوق التي تجعل صاحبها كأنهُ يحترقُ فيضعف جسدهُ ويوهنُ عقله , واني ارفع بنفسي عن المذلة فمقامي اسمى وارفع , وان جارَ علي الزمان واراد تخفيض مقامي , فسيكون حينها اختياري للحسام (السيفُ القاطع) هو اختيار لمحاربة الزمان بالسيفِ والقوة .
انتظرت طويلاً , واستطالَ انتظاري اسبوعاً كاملاً بلا رد , تملكني اليأس , فقد اصبحت هذه النقائض أنيسي وشغليَّ الشاغل , وقد كان لي صديقٌ لم التقهِ منذ زمنٍ حينها , وهو استاذٌ في الادب , حينما رأى الضجر الذي تملكني , سألني عن حالي , فأخبرته بهذه الحكاية التي رويتها لك , وما ان سمع اسم "ضاحية" حتى قال لي بانه اسم مستعار , واخبرني بان هذا الاسم يعود لشاعرة في عصر الجاهلية , كانت تشتهرُ بشعرِ الغزل اما لقب البغدادية فربما هو مجاراة للقبك البغدادي , فاقنعني كلامهُ , و أكملتُ انتظاري .
بعدَ اسبوعٍ وجدتُ الرد وقد كدتُ ان اركضَ حينما لمحتهُ من مسافة , وكان على نفس الوتيرة , ورقة مخططة , كُتِبَ في مطلعها :
فيا حبّذا الأسقامُ في جَنبِ طاعتي
أوامِرَ أشواقي وعصيانِ عُذّالي
و يا ما ألذّ الذلّ في عِزّ وَصْلِكُمْ
وإن عَزّ ما أحلى تقَطُّعَ أوصالي
ومعناهُ ان قائلهُ يحبذ المرض الطويلَ وهو مطيعٌ لمحبوبه على ان يكون صحيح البدنِ عاصياً , ويرى في هذا امتثال لأوامر الاشتياق و عصيان للكارهين وكيداً بهم , و يرى في الذلِ لذةً في وقت الوصال , اما حين يشح الوصال فيكون تقطع الاوصال جميلاً حلواً بالمقارنة به .
صممتُ هذهِ المرة ان اصلَ بأي طريقةٍ لضاحية , مهما شق علي الأمر .
"هل لاحظت فتاة تعلق ورقة في لوحة المقالات ؟ "
سؤال وجهتهُ لجميع موظفين و موظفات الكلية , لم أجد جواباً ابداً فالكل يدلني على طالبة في قسم الاجتماع تكتب مقالات ومختصرات لنظريات الوردي , كنت اعرفها , ولم تكن المقصودة بسؤالي .
وبعد ان تملكني اليأس , توجهت الي "ام فايق" , عاملة الخدمة التي لها مطبخ في بناية الكلية , تعد الشاي للأساتذة و الموظفين , والتي كانت تعتبر الجوكر , فهي بئر اسرار الموظفات , وأم الموظفين وخالتهم , ولأنها تأتي اول الجميع في الصباح الباكر , فقد اخبرتني ام فايق بان هنالك فتاة تأتي في بعض الايام حين لا يكون هنالك احد من الطلاب الا القلة القليلة , تأتي وتقف امام لوحة المقالات لربع ساعة تقريباً , ثم تعلق ورقة تخرجها من حقيبتها وتذهب , اضافة لملاحظة انها لا تضنها طالبة في قسمنا , فهي لم ترها الا في هذه الاوقات لأيام معدودة .
وبالاستعانة بهذه المعلومات , قررتُ أن أنصبَ كمينٍ لضاحية , ستأتي بالتأكيد لتجدَ ردي , وهذهِ المرة قررتُ ان يكونَّ ردي , فجاً , هجَّاءاً , فاحشاً , ورغم ان نشري لمثلِ هذا الموضوع يعدُ مجازفةً بسبب ضوابط النشر في اللوحة , الا اني استأثرت المخاطرة هذهِ المرة , رغم انني حذرٌ بطبعي .
فكتبتُ وشرحتُ ابياتاً لزيد بن عمير يقول فيها :
أعاتبها حتـــــــــــى إذا قلت اقلعت
أبى الله إلّا خزيها فتــــــــــــــــعودُ
فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت
فـــــــــــــــهاتيك تزني دائماً وتقودُ
أي اني اعاتبها حتى اراها تقتنع بما قُلت فأستبشرُ بذلكَ خيراً , فيأبى الله عليها ان تتوب ويريد بها الخزي فتعود الى طبيعتها القديمة , فهي أن طمثت – أتتها الدورة الشهرية – فهي تعمل بالقوادة وما ان تطهر حتى تعود الى الزنا فهي في سجيتها هذين الفعلين .
علقتُ الورقة , ويوماً بعد يوم , كنتُ أحضرُ قبلَّ ساعةٍ من موعدِ الدوامِ الرسمي , حيثُ ان أم فايق عرفت انني انتظر ضاحية , ولمدة اربعة ايام كنتُ اولُ من يشربُ الشايَّ ساخناً من يدها , فهي تجدني واقفاً في الباب فتدعوني للدخول وتحَضرُ الشايَّ باستعجالٍ من اجلي , كنتُ آخذُ استكانَّ الشاي من ام فايق واجلس على مسطبةٍ تقابلُ لوحةَّ المقالات من زاويةٍ ضيقة .
في اليومِ الخامسِ , أطَلّت , سمراءُ , قصيرة , بقيت تحدق في اللوحة لدهشتها من الابيات التي اخترتُها هذهِ المرة , استغللتُ انشغالها بان التفَ داخلَ البناية من الباب الخلفي , لأقطع عليها طريق خروجها, وما ان علقت ردها ؛ استدارت , لتجدني واضعاً يدي في جيبي وتكادُ الابتسامة أن تصلَّ الى آذاني , كانت صدمتها بان تجدني امامها كفيلةً بان تزرع فيها رعشةً تملكت كامل جسدها , حاولت تجاهلي والتقدم للخروج متجاهلةً وجودي , ولكني بادرتها بكلامٍ لطيف زرع فيها الطمأنينة و بقيتُ احاولُ هذا الا ان شعرتُ بانها هدأت.
خَولة , طالبة السنة الثانية في قسم اللغةِ الانجليزية , من مدينةِ الحلة , تسكنُ مع خالٍ لها في اطرافِ بغداد , ولأن المواصلاتِ غيرُ متوفرة بكثرةٍ ذلك الوقت , كانت تضطرُ للخروجِ باكراً كي لا تتأخر, ذائبةٌ غراماً في شيءٍ يسمى الشعر و التراث , في حدودِ شهرٍ تقريباً , كُنا نجلسُ في النادي الطلابي او المكتبة , ضعفَ الوقتِ الذي نستهلكهُ في قاعة المحاضرات , أصبحنا روحاً واحدة , كانت اشياؤنا و كلماتنا و اهتماماتنا تتشابك كأسنان المشطِ في الشَعر .
كانت لخولة نظريُتها الخاصةُ في الحب , اسميتها –انا- نظرية التذلل , فهي تمزجُ مفاهيمَ الانوثة مع مفاهيمِ انسحاق العاشق مشاعراً وشهوة مع قناعتها بانَّ مُتعَةَ الضُعفِ بالأمور الآمنة ومع شخصٍ تثقُ بهِ تتجاوزُ مُتعة السيطرة والقوة , فهي بذلك تكونُ في امان نفسي دائِم , لأنها-كما تقول- تضطرُ مع الجميعِ الى خوض معارك يومية , للحصول على حقوقها , او عدم خسارتها , فلابدَ من شخصٍ تكون الطرفَ المستسلمَ مَعَهُ , شخصٍ حتى لو قطعَ وريدها وشاهدت دمها ينزفُ في حضنهِ امامها , ستكونُ مطمئنة و لن تختار غير الاستسلام , اما انا فكنتُ كرجلٍ من العصورِ الوسطى , منغمسٌ بصفاتِ الفروسيةِ والمروءة , اقدسُ السيف , و انبذُ مظاهرَ الضعفِ والانسحاق , ولأن لخولة نظريتها في كون ان الانوثة ضد للرجولة وليسا شيئين كلٌ منهما يسيرُ بخطٍ مختلفٍ ربما يلتقيان في جوانبٍ و يبتعدانِ في جوانب , فكانت ليست متقبلةً لما انا عليهِ فحسب , بل كانت ترى في ذلكَ هو ما يجب ان يكون عليه الجميع .
ومنَّ المواقفِ الفارقة في علاقتي بخولة , ضاحيتي السمراء , اننا كُنا يوماً نتناقش في امور الشعرِ والشعراء , اخبرتها عن اعجابي تلك الايام بالشاعر حسين مردان , فلم تعرفهُ الا من بعض صفحات الجرائد , ولم تقرأ لهُ شيئاً , رغمَّ انها مطلعةٌ على كلِ نتاج الشعرِ تقريباً , اما انا فأخذتُ أنشدُ عليها مقاطعَ من قصيدةٍ احفظها له جيداً :
أني احب الصيفَ و اللهبَ اللعين
وبخارُ أنفاسٍ , يقطعها الحنين
اني احِبُكِ شهوةً , هل تفهمين
...
وتململت شفة يمزقها الجنون
وتصاعد الشبق الغبي الى العيون
...
والآن هل تسمحين ؟
قومي اطرحي هذا الشعار
فقد انقضى نصف النهار
فتقدمي فهنا فراشٌ من حرير
نحن الحريرَ , على الحرير
...
هيا فما احلى الصراع
هيا لنغرق بالعرق
حتى اذا ارتعش النخاع
فسوف ينطفئ القلق
...
بكلِ عرقٍ منكِ ينبح في عناد
ظمأ الكلابِ الى الفساد
...
وبينما انا غارقٌ في انشادي لها , أمسكت يدي , للمرةِ الاولى , واخذت عيناها وكأنما تلتفانِ الى الجهةِ المعاكسةِ داخلَّ رأسها , لقد كانت تنتشي من قصيدة , من قصيدة!
ما زالت خولة رفيقةُ ايامي الى الآن , وبعد بضعةِ أشهر سنكملُ عامنا الاربعين معاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظات وهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القصة من وحي خيال كاتب السطور , واي تشابه بينها وبين الواقع , هو مجرد صدفة .
2- مصدر : شرح ديوان المتنبي , عبد الرحمن البرقوقي .
3- مصدر : المستطرف في كل فن مستظرف , شهاب الدين بن محمد الابشيهي .
4- مصدر : إتحاف العاشقين بتهذيب روضة المحبين , شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية .
5- مصدر : شرح ديوان الشريف الرضي , محمد محي الدين عبدالحميد.
6- مصدر : شرح ديوان ابن الفارض , عمر الطباع .
7- مصدر : الارجوحة هادئة الحبال , حسين مردان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع