الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نقدية-متعجلة-في قصيدة الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي -شوق هاجع..خلف الشغاف-

محمد المحسن
كاتب

2022 / 8 / 9
الادب والفن


إن الفكرة لدى كاتب الشعر لا توجه لغة الخارج،فالشاعر نفسه شبيه بلغة جديدة تبني نفسها، وتبتكر لِنفسها وسائل تعبيرية وتتنوع حسب معناها الخاص.هنا ما نسمّيه شعراً ليس سوى فرع من الادب الذي تتأكد فيه الاستقلالية في أبهى صورها.فالكثير من المتذوقين للشعر الحديث لا يعتبرون القصيدة شعراً ما لم يكن بها أنين وحكمة أو استغاثة،لذلك واحد من أصعب الأمور في كتابة الشعر هو أن يعرف المرء ما هو موضوعه ؟!.
إن جلّ الناس يعرفون ولا يكتبون الشعر لأنهم واعون جداً للفكرة..وبعبارة أخرى أكثر تحديداً وسيولة،إن القصيدة هي التي تخبر الشاعر بم يفكر وليس العكس !.
من هنا يمكن مقاربة قصيدة الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي-المعنونة ب"شوق..هاجع خلف الشغاف ..فالقصيدة تأسر وتجذب المتلقي من السطر الاولى حتى أخر سطر فيها..
قرأتها بشغف متلقي وحاولتُ أن أصل الى الغاية والهدف لهذه اللوحة الشعرية الرائعة،فتبيّن لي أن الشاعر كان مصراً على عدم الوقوع في البسيط،بل كان موفقاً بموهبته اللغوية الرصينة فصاغها بلغة راقية وموفّقة.
يختار الشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي-من اللغة وإيحاءاتها،ويولِّد منها ما قدر على التوليد،لا ليأتي بمعانٍ يجهلها الناس تمامًا،ولكن ليصور صفوةَ معارفهم من زوايا متفردةٍ تدهشهم وتعيش إحساسات جماليةً لا تنتهي، وحجارة هذا البناء الموضوعيِّ الألفاظ، إلا أن الألفاظ في الشعر تومئ إلى ما وراء المعاني، فتُضيف إليها أبعادًا جديدة،وبذاك تتجدد وتحيا، وبغير ذلك تذبل وتموت؛ إذ نجد ألفاظه تقدِّم صورة إنسانية وفنية بغرَض إماطة اللِّثام عن هذه الألفاظ..
ويسعى شاعرنا القدير (وهذا الرأي يخصني ) في بعض قصائده إلى لغةٍ شفافة تعتمد على الوضوح والواقعيَّة؛فهي لغة تكاد تكون خاصة بالشاعر،لغة تنطلق من الواقع ومن وعي الشاعر بأدواته الفنيَّة،فالنظر في التجربة الشعوريَّة وفَهم الحالة الذهنية لقصيدةٍ ما يتطلَّب القدرة على الانغماس في العالم النفسي للشاعر واستحضار حالته النفسية من خلال كتابته لهذه القصيدة،وفَهمُ الحالة الذهنية تَعني القدرة على استعادة الجوِّ الشعوري ومُعايَشتِه من جديد، ولا يتم ذلك إلا إذا استطاع الناقد أن يُمعِن النظر في الظروف والوقائع التي أدَّت إلى ولادة القصيدة، وبدون ذلك قد تُنزع القصيدة عن سياقها النفسيِّ وتَبقى تراكمًا لغويًّا وشكلاً دون معنى، وتفقد الحسَّ الشعري؛ ففي قصيدته "شوق هاجع..خلف الشغاف"
يقول الشاعر بلغة واضحة مؤثرة
شوق هاجع..خلف الشغاف
سأبوح لك
وأخبرك
أيها الغائب
بأنك حلم جميل
زينته
ولها بالغياب
ورسمت في صرحي
شبح
وخيالات تهاب
هذا دليلي
لغربتك شوق
وبوح
لا عتاب
(طاهر مشي)

لطالما آمنت باختلاف قلمه وتميز حرفه..وشرفني أن أطلق عليه لقب ربان الحروف وسلطان القوافي وأنا تلميذه في مدرسة الشعر الكبيرة ...
بالرغم من أنني قدمت قراءاتٍ سابقة متواضعة جداً لبعض نصوصه..إلا أنني اليوم أقف أمام نص مختلف نوعاً ما ربما من حيث الإحساس والصورة بشكل خاص..
وكما في كل نصوص د-طاهر مشي- نلمح الوحدة العضوية في القصيدة فنتلقاها عملاً فكرياً وشعورياً متكاملاً،وليست محض أفكار مبعثرة ...
وللشاعر طقوسه المتميزة في انتقاء المفردة ليرسم من خلالها أعذب المعاني وأجملها،
فنرى طاقة شعرية قادرة علي إزاحة مستويات التعبير إلي عمق دلالي ومع ذلك تعمل عناصره علي تشكيل مشهد شعري متعدد الجوانب،مُهتما برسم صور حية ونابضة للذات التي تبقي في مواجهة مُستمرة مع الفعل الإنساني الأجمل وهو الحب،وعند هذا المستوى تحديدا،تصنع الشعرية موجات متتالية من الدفق الشعوري،مرتبطة بحضور الأخر دوما تخلق منه هامات ومساحات مضيئة عبر تشكيلها الشعري فيظل النص منذ عتبة العنوان يكشف طوال الوقت هذه الأعماق الدلالية ويقدم صورة شعرية بلغة مُتحررة رغم إيقاعها البطيء،وصوتها التقليدي،ففعل الشعر حين يكون عالما بمفردات الحضور الإنساني تتألق وتلامس برهافة مشاعرنا..تخط عليها عالمها الثرى بكون من العلامات والعلاقات التي تتحدد فيه مواقع الكلام في صورة تخيلية بين الإرسال والاستقبال..
إقتباس :
حلم جميل
زينته
ولها بالغياب
ورسمت في صرحي
شبح
وخيالات تهاب
مع حضور الصورة بكل تجلياتها صور شعرية متلاحقة ومتلازمة من خلال انطلاق الشاعر في القصيدة وثراء مفرداته وعالمه،تبقي بنية الكلمة من القوة في ترتيبها وحركاتها وسكناتها داخل الجملة الشعرية وفى إجمال وجودها الفعلي فى النص فيكون الاستماع إلي مقطع موسيقي خلال هذه الضوضاء شيء لافت ومريح،خالقا صور في الذاكرة التي تجسد المشهد، تظل في تتابعها حاملة حصار من الأشواق والحنين إلي هذا الأصيل فينا،هكذا يحاول النص ، فعلى الرغم من تقليدية البناء يأتي هذا النص،تعبيرا عن الموقف النفسي والجدة والانتماء للحظة الشعرية الثرية،وهو يعمد فيها للكتابة بروح الرومانسية المُحلقة علي عمود الشعر شكلا ومضمونا لتأتي القصيدة وكأنها لوحات مُتعددة الألوان بمفردات متنوعة وعالما خاصا،بلغة مُثقلة قوية وألفاظ جزلة،يكتحل فيها الشوق..بالغربة..والإغتراب..
على سبيل الخاتمة :
لقد استطاع الشاعر أن يحدد رؤيته وألحقها بالعالم الحسي الفعال علي نحو جعل لها حركة دائرية،بنظرة أكثر شمولية لتأخذ المعادل الموضوعي لها علي مستوي القصيدة .
إن القول بأن تجربة الشاعر تجربة عاطفية ينبغي ألا يوقعنا في الوهم بأن الحب مجرد تماما من أشواق أخري،وحصارات أخري مع الأخر والذات،وهذا يوضح مدلول أخر لمستوي رؤية الشاعر لعلاقة الحب بالزمن.يعمق الشاعر فيها مستوى رؤيته ليصبح أكثر وضوحا وعمقا تتجسد بكامل زواياه داخل النص.
والشاعر د-طاهر مشي -يمارس لذة الانجذاب إلي الخوف في هذا السياق علي أن التدرج في التعبير من بنية إلى أخرى رغم وضوح المعاني والدلالة وضع القارئ أمام تحول في الموقف النفسي،لكنه تحول تدريجي ومنطقي،يساعدنا على الفهم مع إيحاء الكلمات والعبارات لتطوير المعني الشعري بتوسيع دائرة احتمالات المعاني وبث الوعي بما يمكن أن تشتمل عليه القيمة التعبيرية الخبيئة..
فطوبى للشعر بقلوب تعطي الأدب لوحات من جمال متفرد..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا