الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في حاجة الأنيس

علي باقر خيرالله

2022 / 8 / 9
الادب والفن


في حين أننا نتنعم بسهولة التواصل مع جميع المقربين منا , فنسمع صوتهم , ونكتب اليهم , متى شئنا وشاءوا, الا ان داء هذا العصر هو الاكتئاب , وفي حين انه "تقترن الزيادة في الاكتئاب بالزيادة في الشعور بالوحدة النفسية"(1) , فهذا الاقتران من غرائب عصرنا الحديث , ففي الوقت الذي أصبحَّ تواصلنا لا يكُلفنا جُهداً سوى لمسات خفيفة على قطعة من الزجاج, ازداد شعورنا بالوحدة , لماذا ؟
في الحقيقة لا املكُ جواباً علمياً , فانا لستُ جديراً بذلك , ولأن الشعراء هم خيرة من عبروا عن المشاعر التي تخالد صدر الانسان فيحق لي هنا استذكارُ ابياتٍ لابن الاحنف (2) :
كَـفـى حَـزَنـاً أَنّـي أَرى مَـن أُحِبُّهُ
قَـريـبـاً وَلا أَشـكو إِلَيهِ فيَعَلَمُ
فَـإِن بُـحـتُ نـالَتني عُيونٌ كَثيرَةٌ
وَأَضـعُـفُ عَـن كِـتـمـانِهِ حينَ أَكتُمُ
هنا يرى ابنُ الاحنفِ من يحب قريباً منهُ , ورغم أنهُ يعاني من شيءٍ ما , فهو لا يشكو له , وحينما يكتم ما يريد قوله فانه يزدادُ ضعفاً .
وما اكثرُنا شبهاً بهِ , فاليوم كلُ من نريد الاستئناس بالحديث معهم قريبين , حتى لو كانَ هذا القربُ ليس قرباً مكانياً , ولكن وسائل الاتصال السريعة قد ألغت الحاجة للتواجدِ المكاني , لكننا في الغالبِ , مكبوتين , منعزلين , ضائعين بين احتياجاتنا المادية .
والحديث والمؤانسة ليسا حاجة لبسطاء الناس او من لا يستطيع الترفيه عن نفسه كما يخيل للكثيرين منا , بل هو ربما من الاحتياجات القليلة التي يشتد النزوع اليها حتى حين تتوفر كل البدائل التي يستمتع الانسان بها , فنجد سليمان بن عبدالملك وهو من اقوى خلفاء بني امية يقول لبعض من اصحابه : " لقد ركبنا الفارة , وتبطنا الحسناء , ولبسنا اللين , واكلنا الطيب حتى أجمناه , وما انا اليوم الى شيء احوج مني الى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع , ويطرب اليه القلب ." (3)
فبعد ان ركِبَ أحسنَ الخيول وانشطها , و رافق الحسناوات من النساء , ولبسَ انعمَ الثياب , وأكل اطيب الطعام حتى مل طعمه , كانت حاجته الملحة لإنسان يشاركه الحديث بلا تحفظ , يسمعهُ من الكلام ما تطيب له الأذن , ويطرب له القلب .
وقولٌ من شخصيةٍ بهذا السلطانِ والجاه والمال , وهو قد ملكَّ ما ملك من ترف العيش , يدعونا للانتباه لهذه الحاجة أكثر , و يلفتُ نظرنا الى افكارٍ مغلوطةٍ عن ما نضنهُ احتياجاتنا النفسية , وينذرنا بخطر اللهث وراء امورٍ صعبةٍ تجلب التعبَ والشقاء علينا ونضنها راحة في حين ان الامر لا يعدو كونه حاجة الى رفقة حسنة .
ومن الناسِ من كانَ بحاجة الحديث و الأنيس حتى في أصعبِ ظروفه الصحية , فحينَ زارَ البعض الشاعر ابن الرومي وهو على فراشِ المرض انشدهم قائلاً :
ولقد سَئِمْتُ مَآرِبي
فكأنَّ أطيبَها خَبِيثُ
إلاَ الحديثَ؛ فإنهُ
مِثْلُ اسْمِهِ أبداً حَدِيثُ
حيث يخبرهم بأن ربما كل نواياه , حتى الطيبة منها , كانت ورائها اشياءٌ فيها دوافع خبيثة كالأنانية مثلاً , ولكن استثناءه الوحيد من ذلك هو حاجته للحديث –الكلام- , ويستعملُ مقاربةً لفظية بانهُ دوماً كان الكلامُ كأسمة حديثاً – اي جديداً - , اي انهُ شيءٌ لا يمل ولا يشبعُ منه الانسان مهما كثر وتكرر.
هكذا كانت حاجة الناسِ دوماً الى الرفقة والحديثِ الطيب , رغم اختلافِ منازلهم , شعراءَ و خلفاءَ , اصحاءَ و مرضى , فقد كانوا دوماً باختلافِ وضعهم وظروفهم يجدون حاجتهم لهذا الشيء هو الملتجئ الدائم الذين يستلذون به , وحتى من عُرِفَ عنهم القساوة او الفضاضة نجدهم لا يستغنون ولا يخفون هذهِ الحاجة , بل ربما انهم يقدمونها على اشياء تبدو لنا لا بديل عنها ,فيروى ان عمرو ابن العاص قد تحدث بان هنالك ثلاث اشياءٍ فقط لا يملهم , " جليسي ما فهم عني , وثوبي ما سترني , ودابتي ما حملت رجلي ."(4)
فقدمَ حاجتهُ لجليسٍ يَفهمهُ و يَفهمُ منه عن حاجتهِ للثوبِ الساتر , والدابة التي تحملهُ و ترفعُ عنه شقاء تعبهِ في المشي , اذاً فمنزلة الجليس الذي يؤنسُ وحدتنا و فراغَ ايامِنا هي حاجةٌ يجبُ ان نسعى لتلبيتها قبل كلِ شيءٍ , فهي البقية الباقية لنا بعد أن نمل ملذات الحياة المادية , وهي الاحتياجُ المعنوي الذي يؤنسنا حين تحرمنا الحياة من ملذاتها الاخرى.
ــــــــــ
الهوامش
ــــــــــ
(1) الوحدة النفسية وعلاقتها بالاكتئاب... , يوسف موسى فرحان , مجلة العلوم التربوية والنفسية , مج9 , ع3 , جامعة البحرين .
(2) مختارات البارودي.
(3) البيان والتبيين , الجاحظ .
(4) عيون الاخبار , ابن قتيبة الدينوري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع