الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفول الثورات لغاسيت والربيع العربي

علاء موفق رشيدي

2022 / 8 / 11
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


يضمن الفيلسوف الإسباني (خوسيه غاسيت ) في كتابه (موضوع زماننا) الصادر مؤخراً عن دار المدى، ترجمة : علي الأشقر، ملحقات إلى الكتاب الأصلي، واحدة منها هي بالعنوان ذاته الذي اخترناه لهذه المقالة، ألا وهو موضوعة : ( أفول الثورات)، التي نختار الحديث عنها للتعرف على أفكار هذا الفيلسوف الإسباني البارز، الذي تحمل آراءه عن الثورات الكثير من الأفكار الهامة للراهن السوري الإجتماعي والسياسي، وكذلك لراهن الربيع العربي برمته.

الثورة ليست تغييراً في نظام الحكم :

فعلى سبيل المثال، لا يوافق ( خوسيه غاسيت ) على أن نطلق لقب " ثورة " على كل حركة جماعية يستعمل فيها التمرد للتغيير، فليست ثورة مثلاً، أن يتمرد قسم من المجتمع على الحكام، ويحل محلهم بالعنف حكاماً آخرين، فهو يرى أن هذا التعريف فضفاض، ويقوم على معان غامضة جداً، بينما يحتاج التاريخ بحسب رأيه إلى أدوات أكثر صرامة وتصورات أكثر دقة ليحدد وجهته في غابة الأحداث الرئيسية.


يرى (خوسيه غاسيت ) أن الثورة ليست المتراس، بل هي حالة روحية. وهذه الحالة الروحية لا تحدث في أي وقت، فهي كالثمار لها أوانها، حسب تعبيره، ومن ثم يربط هذا الفليسوف بين الثورة والإستعداد الذهني والوجداني، فيكتب : ( إن الثورات كلها في الواقع، إن كانت ثورات حقاً، تقتضي استعدادً نوعياً لا لبس فيه، في الأرواح وفي الرؤوس )

العقل بدلاً عن الخرافة والتقاليد :

يعتقد (خوسيه غاسيت ) أن الفلسفات والمعتقدات القديمة تمارس جاذبيةً وقمعاً على المجتمعات المعاصرة، فيكتب : ( إنه لأمر طريف دراسة السيكولوجيا التي يسيطر فيها القديم على الشعوب التي ظلت بسبب أو آخر، في حالة من الضعف التاريخي، ظلت إلى الأبد متوقفة في هذه الحالة من الطفولة )

إن الثورة الحقة برأي (خوسيه غاسيت ) هي تلك التي تعمل على مستوى الوعي والإدراك، ويشدد على أنها حالة انتقال من عقل أسطوري يؤمن بالحكايات التي أخبرها عنها الآخرون أو الأجيال السابقة، تلك التي تبرر أحداث الطبيعة وقوانين وعلوم الحياة بالحكايات العائدة إلى الأساطير وأقاويل الأجداد.

يقارن (خوسيه غاسيت ) بين ردود الأفعال العقلية التقليدية، وبين الطريقة الفردية في ردود الأفعال العقلية : ( لا أجرؤ أن أسميه تفكيراً، تلك الطريقة التقليدية في ردود الفعل العقلية التي تكمن في تذكر قائمة من المعتقدات المتلقاة من الأجداد، وفي مقابل ذلك، فإن الطريقة الفردية تولي ظهرها لكل ما هو مُتلقى، وترفضه تحديداً لأنه متلقى، وتتطلع بدلاً من ذلك إلى تفكير جديد قمته في محتواه ذاته. وهذا التفكير الذي لا يأتي من الجماعة العريقة في القدم، ولا هو تفكير الآباء، وهذا التصور - الفكر من غير أصل ولا شجرة نسب، ولا هو ذو شهرة مجيدة، يجب عليه أن يكون ابن هذه الأعمال معتمداً على فعاليته المقنعة، وعلى كمال عقليته بشكل خالص، وبكملة واحدة : عليه أن يكون عقلاً )

الفردية مقابل الجمعية :


وهنا يدافع (خوسيه غاسيت ) عن الفردية في مقابل الجمعية : ( فالبدائي لا يشعر يقيناً بالفردية، يدرك شخصه الفردي كشيء معزكول فقط ومقتلع، والفردية وكل ما هو قائم في الفردية يحدث فيه رعباً، وهي مرادفة في نظره للضعف والنقص. أما الثابت والمطمئن فهو موجود في الجماعة التي يكون وجودها سابقاً لكل فرد، وإن هذا الفرد يجدها جاهزة حينما يستيقظ على الحياة)

فبينما تقبل النفس البدائية عند ولادتها، العالم الذي وجدته متكوناً، فإن ولادة الفردية تتضمن مباشرة رفض هذا العالم. لكن المرء، عند رفضه التقليد، يجد نفسه مضطراً إلى إعادة بناء الكون بنفسه وبعقله.
ويضيف مؤلف الكتاب عن المقارنة بين التقليدية والفردية : ( إن النفس التقليدية تعمل محكومة بمبدأ واحد وتمتلك مركز جاذبية وحيداً : إنه التقليد. ومنذ تلك اللحظة تعمل في نفس كل إنسان قوتان متعارضتان : قوة التلقيد والعقل. وشيئاً فشيئاً يأخذ العقل بإكتساب أرض على حساب التقليد، وقد اقتضى هذا الأمر أن تحولت الحياة الروحية إلى صراع داخلي، ومن الوحدة تفككت إلى نزعتين عدوتين لبعضهما )

وهكذا، يتابع المؤلف (خوسيه غاسيت ) دفاعه عن الفردية ويعتبر أن الإنسان حالما يأخذ بإكتشاف فرديته، يبدأ بشعور النفور من الجماعية ويميل إلى معاضة التقاليد، حتى يكتب : ( إن الفردية ومعاداة التقليد هما قوة نفسية واحدة. النواة الفردية هذه التي تنشأ داخل النفس التقليدية كيرقة حشرة في قلب الثمرة، وتتكون ببطء في مرجلة جديدة، هي مبدأ أو واجب آمر في مواجهة التقليد)

تكيف القدرات العقلية البشرية :

يتحدث (خوسيه غاسيت ) عن القدرات العقلية البشرية في التكيف مع معطيات العلم والمعارف، والتي يعتبرها غير محدودة وقابلة للتطوير بإستمرار : ( إن الروح البشرية إذا وضعت في هذه المهمة، تستيطع أن تطور القدرة العقلية على شكل عجيب. وفي مثل هذه الحالة عرف الفكر أمجد عصوره، فتهمل الأسطورة اللاعقلانية، ويأخذ التصور العلمي للكون بإقامة صروحه النظرية مكانها. ويحس برعشة الأفكار النوعية، ويوصل بالإبداع وإدارة هذه الأفكار إلى براعة فائقة )

إذاً إن في كل دورة تاريخية كبرى تحين لحظة تنطلق فيها آلية ثورية بصورة لا محيد عنها. وهي حين يكتشف فيها العقل، عبر تطوره الطبيعي، بأنه قادراً على أن يبني نظرياً صروحه الخاصة، وبوسائله المتعددة، حسبما يرى (خوسيه غاسيت ) مؤلف الكتاب.

( أنا إنسان، ولا شيء إنسانياً غريب عني ) :

نقرأ في الكتاب عن الشخصية الإغريقية ( إسبيون ) الذي كان مخلصاً للأفكار الطوباوية التي أرسلتها إليه اليونان، وكما يبدو أن جملة ( أنا إنسان Humanus sum ) التي ستصبح بعدئذ : ( أنا إنسان، ولا شيء إنسانياً غريب عني ) رنت أول مرة في بيته. هذه الجملة هي شعار الكوسموبوليتية الكونية، أبدعها اليونان، وقام على استعادتها الفلاسفة الفرنسيون فولتير وديدرو وروسو. وهذه الجملة هي شعار كل روح ثورية )

الجوانب السلبية في الثورة :

إذا كانت رؤية (خوسيه غاسيت ) للثورات هي تمرد العقل على الأسطورة والتقاليد، وإذا كان يرى بالفردية المعيار الأساس للحكم على فاعلية الثورات والتغيير الذي تحدثه بالحضارة والتاريخ، فإن هذا المفكر البارز ينبه إلى الجوانب السلبية التي قد تلحق بالثورات، وهي جوانب لابد من ذكرها هنا، لأنها تحمل الكثير مما ينطبق على واقع الربيع العربي.

الخشية الأولى التي يظهرها (خوسيه غاسيت ) تجاه الثورات هي الإعتقاد السائد بأن الثورات ترتبط دوماً بالفكر الردايكالي – أي بالفكر الراغب بالتغيير الجذري والذي يصل في بعض الأحيان إلى حدود التطرف : ( إن الناس متفقون على الإعتراف بأن الثورات ليست في الجوهر شيئاً غير راديكالية سياسية، لكن، ربما، لا يلحظ الناس كلهم المعنى الحقيقي لهذه الصيغة. فالراديكالية السياسية ليست موقفاً أصلياً، وإنما هي نتيجة. والمرء لا يكون راديكالياً في السياسة إلا لأنه كان راديكالياُ في الفكر أولاً )

النقطة الثانية التي ينبه عنها المفكر (خوسيه غاسيت ) هي اعتقاد الجركات الثورية بقدرتها على تحقيق الطوباوية. إن خطورة هذا الإعتقاد الذي يرافق الثورات يؤدي إلى نتائج سلبية على الصعيد الإجتماعي والسياسي، مما سيؤدي حسب نبؤة (غاسيت ) إلى ظهور ما أطلق عليه " الثورة المضادة "، فلنتقبس من عباراته لتتضح أمامنا رؤية (غاسيت ) عن الثورات المضادة التي تنشأ كرد فعل على طوباوية حالمة تعد وتؤمن بها الثورات : ( في الواقع، كل ثورة تميل إلى الوهم الباطل بتحقيق طوباوية كاملة إلى هذا الحد أو ذاك. والمحاولة، لا محالة، مخفقة. والإخفاق يثير الظاهرة التوأم والنقيض من كل ثورة : ألا وهي الثورة المضادة )

ولكنه يضيف عن مصير الثورة المضادة في هذه الحالة : ( قد يكون من الهام أن نبين كيف أن هذه الثورة المضادة لا تقل طوباوية عن أختها نقيضها. وإن الحماس للعقل المحض لا يشعر بنفسه أنه مهزوم وإنما يعود إلى ساحة الصراع. فالروح الثورية لم تعقبها قط في التاريخ روح رجعية، وإنما، روح خائبة )

الأفكار والمؤسسات في خدمة الحياة :

ينبأ (غاسيت ) بنهاية العصر الثوري في تلك اللحظة التاريخية التي تتوقف فيها الثورة عن إنتاج الأفكار والتيارات وتركن إلى الإعتقاد بأسبقية الحياة على الأفكار الثورية، فيكتب موضحاً ذلك : ( وينتهي العصر الثوري ببساطة دون جمل ولا حركات، تبتلعه من جديد حساسية جديدة. فيتلو سياسة الأفكار سياسة الأشياء والبشر. وينتهي المطاف بإكتشاف أن الحياة ليست من أجل الفكرة، وإنما الفكرة والمؤسسة والنظام هي من أجل الحياة )

أخيراً، يبين (خوسيه غاسيت ) ان القصد من بحثه ( أفول الثورات ) إظهار أن أسس الظاهرة الثورية يجب البحث عنها في علاقة معينة بالعقل أو الفكر.


( خوسيه غاسيت )، واحد من المفكرين الإسبان الفاعلين أي الذي تحصل على شهادة دكتوراة في الفلسفة من جامعة مدريد، وعمل مدرساً في جامعات لايبزيغ وبرلين وماربورغ. في العام 1923 أسس مجلة ( الغرب )، وكانت أهم المنشورات الدورية وأبعدها صيتاً وشهرة، وغادرنا في الخمسينات من القرن الماضي تاركاً إرثاً معرفياً ما يزال ينقل ويترجم إلى اليوم تباعاً للغة العربية.


علاء رشيدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل