الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بخطى طليقة.. أزمة التكيف.

عصمت منصور

2022 / 8 / 15
أوراق كتبت في وعن السجن


(محاولة لكتابة سيرة اجتماعية ثقافية لتجربة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي)
عصمت منصور*
إنها أشبه ببداية تَكوُّن الأشياء، بعفويّتها وغموضها وقابليتها للتشكُّل على أي نحو، وخضوعِها لقانون واحد فقط: التجربة والخطأ.
هكذا كانت خطى أوائل الأسرى الفلسطينيين مع تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال. بعد أن جُرّدوا من السلاح الذي كان يصنع هويتهم، ووجدوا أنفسهم بين عشيّة وضحاها، ينتقلون من ميدان القتال الواسع، والحافل بروح المغامرة والعيش على حد الحياة الرفيع الذي يفصلها عن الخلود.
إنهم لم يلقوه جانبا، بل انتُزع منهم. ومعه، وربما بسببه، انتُزعت حريتهم.
وهذا ربما يعطي تفسيرا آخرَ للأسر وهو: أنك تصبح أسيرا عندما تصبح من دون سلاح؟؟
إذن، عليك دوما، وربما يصبح معنى حياتك بين الجدران، في أن تواصل عملية البحث الدائمة عن (سلاح)!
ولعل أقوى أسلحة الإنسان تلك التي يحملها في داخله، لأنها هي وحدها التي تؤهله لأن يحمل بقية الأسلحة الأخرى، أو تُحوّل كل شيء إلى.... سلاح.
على الرغم من أن الساحات وُجدت كي تكون واسعة وممتدة، مفتوحة ورحبة، يلجأ إليها من يهوى العزلة، كما أنها تتسع لمن يبحث عن حشد يذوب فيه ولا يعود يُرى، او ضالّة لتائهٍ يبحث عن رفيق صدفة.
إلا ان ساحات السجون كانت التجسيدَ البشعَ لفكرةٍ شاذّة تقوم على مبدأ: قلب معنى الاشياء ووظيفتها.
ساحات السجن ضُيِّقت، وسُيِّجت بالأسلاك الشائكة، وغُلِّفت بالإسمنت والفولاذ، وتحولت الى قوالبَ مغلقةٍ منعزلةٍ عن العالم، ومفصولةٍ عن الزمن، مثل كبسولةٍ تسبح في الفراغ.
بلا سلاح، وبلا تواصل مع العالم، وفي سديمٍ زمنيٍّ بتقويم خاص، خطا الأسرى الفلسطينيون خطواتهم الاولى نحو تشكيل عالمهم الجديد، وما كادوا يخطون أول خطوة، حتى انبثق أمامهم مفترقُ طرقٍ خطر: هل نُشكّل عالمَنا الجديد على نحوٍ يشبهنا أم نتشكل نحن على نحو يشبهه؟!
الطرق كانت واضحةً عند منعطف المفترق المحايد، وعبور إحداها كان سيعني حسما للسؤال، وبشكل ما هوية المكان وقاطنيه: أيهما أقدر على التأثير في الآخر: الحديد الصلب والإسمنت الخشن، أم الروح الإنسانية والإرادة؟
الإرادة بذرةٌ هشّةٌ في أرض قاحلة، ولادتها عسيرةٌ ومخاضها طويل، والأخطرُ من ذلك أنها خفيّة، لا تُرى، ولا يمكن التعرف عليها إلا بعد تجلّيها، وانبثاقها من داخلك، وهي لأنها كذلك فأنها تبقى متأخرة الاكتشاف، سابقة للفعل.
هذه البذرة الشفافة المنطوية داخل النفس، تولد مرّة واحدة، ومتى ما ولدت ورأت النور، لن يعود شيء قادرا على التصدي لها وهزيمتها.
***
الساحات تتقاطع في الاسم وتتناقض في الجوهر والشكل.
ما بين ساحة القتال المفتوحة المغمورة بالعنفوان وشعور السيادة، وساحة السجن الضيّقة المثقلة بالأسلاك الشائكة وانعدام الحرية، كان على الروح الواحدة ان تلائم نفسها، وان تجد لها نقطة ارتكاز صلبة تعيد للأسير شعوره بذاته ودوره وكيف يتحرر من ربقة القيد.
هذه النقطة بالضرورة ستكون من داخلك.
لا شيءَ ينبُت من خارجك عندما تكون مجرّدا من الأسلحة وفي قبضة السجن.
داخلُك هو عالمُك الوحيد الذي لا يمكن تصفيده بالأغلال (دون إذعانك)، وهو الذي إذا ما اكتشفته وأعدت صياغة قوانينه، تحوّل الى قوة، وحوّلك إلى ندّ، وحوَّل الساحة الثقيلة المقفلة على جسدك إلى ميدان رحب.
سيروا اثنين اثنين.
هكذا كانت أولى الأوامر في الساحة المقفلة والمحجوبة خلف أسوارٍ عالية.
انت ممنوع من الحديث إلا مع زميلك الذي تلامس كتفُك كتفَه.
بهذه الأوامر تحولت الساحة من متنفس، إلى ماكينة ألم، تكبحُ الرغباتِ البدائيةَ وتثير الفضول وتُغذّي الخيال.
كل من شذَّ عن القاعدة وتمرّد، تحول الى عبرة.
كانوا يقصدون تعذيب من يشذّ عن التعليمات علانية، وعلى مسمع زملائه الذين يخالطهم ولا يخالطهم في ذات الوقت. وأن يعود الى السرب الزوجي غير قادر على الحركة وبجسد مليء بالرضوض.
الأيدي العارية كانت بطريقة لا إرادية، وخلال عامين تتحسس مكان السلاح الفارغ حول خصرها.
كانت سطوة السلاح الأملس الأسمر ورهبته، وأغنية "بيع أمك واشتر بارودة" قد حوّلت "الفدائيين" الذين يعيشون في الأغوار وجبال نابلس ورام الله والخليل، الى عبادة أشبه بالوثنية، لدرجة اختلط فيها السلاح بحامله وتحولا الى شعاع وهالة، فكان لمروره من مكان ما أثر مُعْدٍ ولا يزول .
السلاح كان أخطرَ وأندرَ من حامله، كان الأمل والأداة التي يمكن من خلالها مسحُ الإهانةِ واستعادةُ الكرامة المهدورة..... والارض.
لا يمكن لمقاتل بدون سلاح في ساحة مغلقة أن يترك روحه التي حملته في هذا الدرب الشاق، دون أن يبحث عن سلاحٍ تحول الى طرف من أطرافه لشدة التصاقه به واعتماده عليه وتغنّيه به.
كان يتحسس كتفه ومحيط خصره بين الفنية والاخرى، ليبحث عن الأداة التي لم تقده إلى هذا المكان فقط، بل ومكّنته من تلمُّس الندى الرطب على جبينه الذي انتصب مجددا مثل زهرة برية، وأن يشعر من جديد أن رأسه فوق كتفه، وليست في مكان ما تحت الاقدام.
كانوا مقاتلين، بروح استعادت ذاتها وانبلجت مثل فجر، وكل ما كان ينقصهم فقط: ميدان للقتال و... سلاح.
***
السجن لا يكون سجنا حين يُشيَّد، وتُبنى جدرانه، ويُزنّر بالفولاذ، بل عندما يُحتجز فيه البشر.. ويتم نزع سلاحهم منهم، ويبدأ الصراع المرير الذي لا يعرف المهادنة أو المساومات ولا يتوقف للحظة بين أضلع المثلث المتوازية وغير المتكافئة: السجن والسجان والسجين.
عندها تتوالد القصص ويظهر إلى الوجود معنىً آخر للحياة والانتصار والحرية التي تنكفئ إلى عالمها الأول في قلب ووجدان وشعور الإنسان، ولا تعود مرهونة بأي عامل خارجي أو صورة مادية.
يحتاج البشر الى أكثر من التواجد في مكان واحد، وتحت سقف واحد حتى يتحولوا الى جماعة، إنهم يحتاجون الى شعور وتفسير ومعنى مشترك لذاتهم ومحيطهم.
هذا الشعور لا يولد بلغة الكلام، أو التفاهم المسبق، بل يتفتح مثل شرنقة من خلال النضال، أو الحركة التي تتحول في لحظة حدوثها من وسيلة الى أداة وهدف.
في الإضراب الأول الذي خاضه الأسرى مطلع السبعينات، لم يدركوا حالما يمتنعون عن إدخال اطعام في أفواههم، إنما كانوا بذلك يخرجون منها حكما مبرما ولا رجعة فيه بموت حقبة، وولادة معنى جديد لوجودهم.
عندما قرر الأسرى الاوائل الامتناع عن الطعام حدثت الطفرة، والانتقال..
* أسير محرر وروائي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد: المجاعة تخيّم على غزة رغم عودة مخابز للعمل.. وانتظار ل


.. مع مادورو أكثر | المحكمة الدولية لحقوق الإنسان تطالب برفع ال




.. أزمات عديدة يعيشها -الداخل الإسرائيلي- قد تُجبر نتنياهو على


.. وسط الحرب.. حفل زفاف جماعي بخيام النازحين في غزة




.. مظاهرة وسط تونس تدعو لإجلاء المهاجرين من دول جنوب الصحراء