الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دفاع شيطاني

فاتن نور

2022 / 8 / 16
الادب والفن


على منصة الدفاع، ختم محامي المتهم مرافعته:
لذلك أطالب بإنزال أقسى العقوبات بالقاتل. القاتل الفعلي، وهي السكين التي طُعنت بها الضحية. أطالب حرقها بأعلى حرارة ممكنة لصهر مواد النصل كليّاً. كما أطالب بجمع رماد مقبضها الخشبيّ، وحشره في فم المستنقع الآسن ليكون عبرة لبقية المقابض. وإخلاء سبيل موكلي لثبوت براءته بالأدلة القاطعة والبراهين.
ارتفعت ثرثرات الحضور، وعمّت الفوضى في أرجاء القاعة. لم تسكتهم مطرقة رئيس المحكمة، فنادى بنبرة آمرة يشوبها الغضب..
اخرجوا هذا المحامي من هنا، اخرجوه في الحال فهو مجنون دون شك. حتى أدلته محض هذيانات فارغة.

..افخر بهذا الجنون الذي اتهمت به.. قال المحامي دون تردّد..
لكنكم يا حضرات القضاة وأصحاب الشرف، مجانين مثلي. لكن ليس ذلك الجنون الذي يمكنكم أن تفخروا به.

باطراف أصابعه مسح رئيس المحكمة على ذقنه الفاحم، في اللحظة التي طرقه قول المحامي الذي بدا واثقاً من قدراته الدفاعية. شعر بميل غريب يدفع لاستكشاف بواطنه وسبر أغواره. سرعان ما غلبه الفضول، قرر أن يغض النظر عن تطاوله على هيئة المحكمة. وسأله بهدوء، بعد أن أمر بتركه، وكأن بركان غضبه قد خمد فجأة..
ما قصتك؟
تعال تقدم من المنصة، أريدك أن تخبرني عن مقاصدك ولكن باختصار. عرفتك بارعاً في المحاماة، ذائع الصيت ولك سمعة طيبة، فما الذي أوصلك لهذه الرثاثة؟
أنت تطالب هيئة المحكمة بمقاضاة أداة الجريمة، وإخلاء سبيل مرتكبها حامل الأداة.. هل أنت واعٍ لما تقول؟
تنفس المحامي صعداء كرامته، فقد وهبه رئيس المحكمة إذناً صاغية ولو بعد إذلال.
تقدم من المنصة بخطوات راسخة وقال بجرأته المعتادة..
..نعم! أريد مقاضاة الأدوات في جرائم كهذه، لا عن قناعة طبعاً، ولكن أريد السير على نهجكم أنتم يا أصحاب الشرف، حتى ترون مدى عبثيته. مقاضاة الأدوات هي كل ما تفعلون، هي كل ما نفعل في هذا العالم . هذا مؤسف ومخلّ بميزان العدالة.
انظروا إلى موكلي.. مشيراً إلى قفص الاتهام.. كيف لا ترونه مجرد أداة هزيلة؟
انظروا، تفحصوا سادتي أصحاب الشرف..
إنه شاب في مقتبل العمر، شاب مغرّر به. الحياة مشرعّة أمامه على مصاريعها، للسعي، لاغتنام فرصها الأمثل، لتحقيق أحلامه وطموحاته بسلام. لماذا شقّ على نفسه هكذا، واختار طريق الموت وقضبان السجون والعتمة. لماذا سعى للبطش بمن لا يعرف عن كثب، ربما وصلته بعض عنعنات فارغة. ما الذي جعله يثأر من إنسان مسالم حر، حقق ذاته، ناضل بفكره وأدبه من أجل الحياة بعيداً عن العنف والاقصاء.
كيف لا ترون موكلي هذا مجرد أداة رخيصة للجريمة، أداة ممسوخة بخسة، كيف لا ترون…

أداة بيد من! .. قاطعه رئيس المحكمة بنفاذ صبر.. عليك أن توجز فلا وقت لسماع مثل هذا التنطّع الكلامي.
بيد القاتل الحقيقي.. أجاب المحامي بنبرة متحمسة.. القاتل الظاهر المستتر، القاتل الخنّاس، الذي يوسوس في صدور الناس.. الناس الأدوات.. الناس الضحايا..
افصح عما تريد قوله يا هذا، أمامك دقيقتين لا غير.. قاطعة الرئيس مرة ثانية.. رغم رغبته الملحّة لسماع المزيد.

استرسال المحامي الملغّز، حرّك في دواخله مشاعر إنسانية مضببّة، محيّرة لكنها لذيذة، استحسنها.
شعر أن ثمة قيمة محتملة في خبايا هذا الاسترسال الهرائي. ثمة أحزان ربما منفلتة من مكامن قديمة. لكن المهنيّة تفرض عليه فروضها بأي حال، وعليه أن لا ينسى ذلك. أن ينهي الجلسة بدقيقتين كيلا يوقع نفسه في فخاخ الأهواء والنزوع الشخصية. وهو لا يدري، هل منح هاتين الدقيقتين للمحامي كفرصة أخيرة. أم كفرصة أولى لنفسه، لفضوله الحميد.

أكرر، أمامك دقيقتين. استثمرها ولا تحدثني عن الشيطان مرة أخرى، لو علّقنا كل الجرائم على شماعته، كلنا سنكون ضحايا أبرياء. سيذهب الحقل الجنائي مع الريح. القضاء برمته سيكون محض افتراء فائض عن الحاجة. سنعود القهقرى إلى الغاب بلا ميزان. لكنني لا أحسبك تقصد الشيطان.. هيا هات ما عندك..

تقدم المحامي خطوتين اضافيتين من المنصة، وقال بارتياح بان على ملامحه..
..الشيطان بريء. الشيطان الذي أنتم تقصدون طبعاً، لا قطعاً لم يكن في بالي.

أقول لكم يا أصحاب السيادة والشرف، ثمة بؤر شيطانية من الثديّيات، هي ثدييات غريبة مشاعة بيننا، تروم عالماً من مسوخ. تصطاد العقول اليافعة. تحيلها الى عواء مستديم لا تأتي من ورائه استقامة.
بؤر شيطانية هرمة، عاكفة على تجريد الإنسان من هويته الإنسانية. وسحل روحه قبل عزرائيل. هي بؤر منافسة.
هل سمعتم بآكلي لحوم البشر؟
أنا أتحدث هنا، عن بؤر تتناسل بحمولات ثقافية تقصم الظهور، هي بؤر آكلة لحوم الوعي.
بؤر سادية الرغبة والمزاج، ترى في العنف والقتل ما يشفي الصدور ويصعد بها إلى أعالي اللذة.
بؤر لصوصية اختطفت الأرض والفطرة السليمة، تتخندق بحقائب أحلامها المريضة. وأفكارها الناشزة، متأهبة للانقضاض على كل مختلف. ونبذ كل ما هو جميل.
بؤر عابرة للحدود بأحافير وعيها المأزوم. اكتسبت من الخبرة والمهارة، ما يكفي لإنتاج صنوفاً من المرارة والعقم على كل صعيد تلامسه. وشبكات اغوائية سايكوباثية، برعت في تسخير البشر لعدمية وجودهم. قد تظهر في بعض المحافل على آنها "حكومات"
عدوّها اللدود القراءة، قراءة البحر والغوص فيه حد بلوغ نشوة الرشد، تسلق الحياة بروح المغامرة والمثابرة والحب والفرح.
هذا الواقف في قفص الاتهام أمامكم يا حضرات، ما هو إلاّ أداة مسخرة من أدوات هذه البؤر الشيطانية. أداة رخيصة ستتكرر في كل جيل.
هل اطلعتم على قوائم الضحايا المربوطة في ملف القضية؟
إنه نفس القاتل ونفس أدواته الرخيصة. الطعن من الخلف بغياب سلاح الحجة والمنطق. كلما أهتزت أوتار هذه البؤر نافخة أبواق الخواء، فضحت افتقارها للأثنين.

متى نتوقف عن هذا الغثاء يا حضرات، فلا نكتفي بمقاضاة أدوات ثدييّة ساذجة، جامدة بلا روح. ربما من واجبنا أنسنتها، هذا لو استطعنا، ضخ دماء جديدة في عروقها المتيبسة، تأهيلها لمجرى الحياة. ربما علينا محاصرة المصنّع في عقر حصانته، وردم بؤره الشيطانية.
وتعجبون عندما أطالبكم بمقاضاة هذه السكين، أداة الجريمة التي نحن بصددها تحت هذا السقف القضائي الموقر. وأنتم سادتي أصحاب الشرف، على وشك مقاضاة أداة أخرى أرخص من سكين. أداة ناقصة، مقبضها خارج القفص، خارج هذه القاعة.. خارج مكان الجريمة.. خارج هذا…

رفعت الجلسة.. صرخة قوية أطلقها رئيس المحكمة.. أخرست المحامي في الحال. صرخة متشجنة، اتسعت بها أعين الحضور ذعراً.
خلال ثوان قلائل، ظلت مطرقته المكسورة وحدها تلمع في عتمة القاعة. كانت الطرقة قوية، أقوى مما توقّع، على سطح منصته الصلب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل