الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كوب شاي ورقي في قطار بصرة- بغداد

عبد الرؤوف الشريفي
كاتب.

(Abdul Rauf Al-shuraifi)

2022 / 8 / 17
السياحة والرحلات


الليل سكة متعرجة. والمحطات حفنة مصابيح حزينة. وبينهما القطار علبة سردين مسافرة. جعجعة وانين واغتراب. القطار تذكرة مختومة لمقعد او سرير, قيامة حرة وصغرى, غربة مع ( انكفاء) المصابيح, وجوه تمارس وظيفة الحياة دون داع ، تتبرم بالموت وهي ميتة. ثم تغادر دون ذكرى مع حسرة ضرورية او مخادعة.
أنا شقيق القطار. لكن جسدي ليس حديد. انا المسافر بين المعقل والمحطة العالمية, لا اجد محطتي. اجلس القرفصاء في العربة الاخيرة وهي تدب صوب محطة الطوبة والنخيلة. وامامنا 25 محطة اخرى حتى نصل بغداد. هن مجرد غرفة او بناية من طابق واحد في ليل السفر عدا محطة السماوة العالمية. ومبضع الساعة يضخم الوقت والظلام والهموم الجاثمة.
في المقعد البارد اتنفس وحدتي, انصت الى موسيقى الظلام عبر زجاج النافذة السميك. ابصر الاضوية مزروعة في جدار الظلام البعيد, تتنفس وتذوي كعيون الذئاب تثقب سخام الليل. لم أرها يوما لكن خوفي رآها. العربة المضاءة تواصل الجعجعة .تهدهدنا كالمهد الفظ في احضان الظلام. فانا اعشق الجانب الاخر من العالم حيث الموت الغامض، والظلام الجهنمي, وموجات المطر الفاحشة القسوة, وعواصف مرعبة مثل ليلة اغتيال جوليوس سيزار.
هنا يمكنك استدعاء الماضي كصلصال تشكله من جديد والحكايات الممكنة وقوة الخيال. لكن الليل باق يتجدد بالحزن والحكايات الابدية حتى تنتهي فجرا في بغداد.
اجتزنا الكزيزة, توغلنا في ضفاف الظلام. واتخذ الركاب مقاعدهم في القطار الصاعد من القلب وانشغلوا بشيء من المبالاة والفضول والتأمل غير المنتج. كان الليل في الخارج غريبا مثلي ومثلهم لا يخفي الاضواء الخائفة المنزوية خلف الزجاج . فكرت كيف يعيش الناس في هذه البيوت الغريبة. أهناك زوجات غير سعيدات، اثاث بسيط، طموح فاشل دوما ورجال كادحون بلا ثمر. ربما كنت اصف نفسي او بعضي. وحين ضجرت بما يكفي مضيت الى عربة المطعم لأشرب شايا. وانا اتأسف اني اقلعت منذ عشر سنوات عن التدخين. فمن كان بمزاج شاعر وثائر ومبتهج في احزانه كيف لا يدخن.
اجتزت بضع عربات منشغلة بذاتها حيث تتفحص المارة بلامبالاة. في المسافة الضيقة الرجراجة بين عربتين, تذكرت كيف نمت هناك مرة على الكرتونات, وجنبي جنديان, ومع الطقطقة الشديدة والعتمة والريح الداخلة، اتم الجنديان الرغبة الدنسة بسرعة مناسبة. ثم غاب احدهما في زحام العربات. وبقي الاخر هامدا. وطالما تبسمت وانا اقول أي جندي حالم او كلب بن كلب اختلق الحكاية التي تقول من العربة الاولى الفاخرة المخصصة للعرسان الجدد يذهب الزوج المنتشي بالخمرة الى عربة المطعم المجاورة ليبتاع علبة السكائر. وحين يعود يجد ان السرير ما زال يهتز, وعليه جندي بعضلات نافرة يفتك سيفه العربي باللحم الابيض المتوسط الخدر! من يدري, ربما هذه الواقعة قد وقعت.

سيرة من حديد
اشم تاريخ القطار منذ انطلق عند افتتاح خط البصرة-بغداد في 15 كانون الثاني عام 1920 ومازال (يكعر) بصفارته التي توقظ عيون الليل. وتنافس الديكة. وتم تشييد أول محطة للسكك الحديد في منطقة المعقل على ضفاف شط العرب.
ففي أيلول 1916 تشكلت أول إدارة للسكك الحديد في العراق بإدارة الجيش البريطاني بخطين يسايران دجلة والفرات في الحرب ضد العثمانيين. ولكن خط البصرة - العمارة وخط الكوت- بغداد رفعت عنهما القضبان الحديدية للاستفادة في تمديد خط البصرة –بغداد . ثم انتقلت إلى إدارة مدنية بريطانية.
ومرة رأيت صورة لاحد طوابع سكك الحديد التي صدرت في الأول من أيلول عام 1928 وكان ثمنه آنة واحدة لقاء ايصال الرسائل البريدية من المواطنين والشركات في المحطات الى أقرب دائرة بريد أو الى البريد المركزي ، ولاحقا في 1932 أصبح ثمنه عشرة فلوس بعد إصدار العملة العراقية. ولكن الطوابع ما لبثت ان الغيت بداية الأربعينيات.
وقد اعتبر يوم 16 نيسان 1936 عيدا للسكك الحديد في العراق اذ انتقلت فيه ملكية السكة الحديد الى الحكومة العراقية بموجب اتفاقية مع الانكليز على ان تشغل المناصب العامة من قبل رعايا بريطانيين ولمدة عشرين عاما. وظلت الاسس المتبعة في قطارات العراق انكليزية بالكامل في جميع المرافق. بما فيها اسلوب تسيير القطارات والمواعيد والاهتمام بالدقة فيها وملاحظة النظافة والمطاعم واسلوب تدقيق البطاقات من قبل ( التي تي ) واسلوب رزم الحقائب. وقد انتهى مفعول هذه الاتفاقية في 2 تموز سنة 1952
وفي تلك السنة, انجزت شركة (Holway Brothers) الانكليزية بشكل نهائي بناية المحطة العالمية للسكك الحديد في بغداد على غرار محطة لندن بتصميم انكليزي وهي توأم لمحطتين بنيتا ايضا بعد الحرب العالمية الثانية احدهما في الهند والاخرى في لندن وتتشابه المحطات الثلاث في كل شيء. ويضم برجا المحطة ساعتين احدهما تحمل ارقاما هندية عربية والثانية تحمل ارقاما انكليزية وتشابه دقات ساعاتي المحطة العالمية في بغداد، ساعة بغ بن الشهيرة في لندن .
بعد الثورة افتتح الزعيم قاسم مشروع انشاء سكة حديد بغداد –البصرة العريض وينتهي عند ساحل الخليج العربي في ميناء ام قصر وقد جهز الخط بأحدث القاطرات والمقطورات المريحة. كما قسم الاراضي القريبة من المحطة العالمية الى قطع سكنية واسكن موظفي السكك فيها.
وخلال الثمانينيات شهد قطاع سكك الحديد في العراق تطوراً كبيرا فاستبدلت القاطرات القديمة بقاطرات فرنسية حديثة قبل أن ينهار تدريجياً من جراء الحروب وبعد 2003, وبسبب عمليات النهب والتخريب, لم يعد صالحاً للاستخدام من قاطرات الشركة سوى 158 من أصل 410 قاطرة. ولم يعد القطار ينساب في الفيافي العميقة الظلام. تستدير عرباته. وتلتف كذنب أفعى. تنثر صدى الجعجعة في البيد البعيد. غير إن الأعمار لم يتوقف. واليوم, فان القطار يغير هويته. وينهض ببذلة صينية تمت صناعته في شركة رولنغ ستوك ( CSR ) الصينية للقطارات السريعة ليبدا حكاية اخرى.

طارق الليل
اقتربنا من محطة السماوة العالمية حيث الليل في فيافي روحي مستفحل الظلام عميق الحكايا, مخيف. فيمكنك ان تبصر الصغار القافزين بصناديق يعرضون بضاعة مزجا من الحب والسكاير والعلكة او لفات فلافل بسيطة.
حين تتيه الجهات في نفق الليل، يطل التيتي (قاطع التذاكر ) بعين كريمة.وخلفه شرطيان لا تعنيهما الا اوضاع النائمات وقد سقطت عنهن العباءة او الحجاب. والرجال يطفون كالفراشات في مستنقع الكوابيس. قلت في نفسي لقد رأيت التيتي من قبل حين كنت في العاشرة وقد خبأتني امي تحت عباءتها كي لا تدفع ثمن تذكرة. لكنه اكتشفني فقالت له امي انه ابني يعرف يقرا ويكتب فيقرا اسم ابيه في المقبرة! لا شيء تترك الذكريات سوى الالم المنتج.
رايته مرات يقرع عمود الالمونيوم في مقدمة العربة بأصغر قطعة معدنية، وت الذبذبات زغرودة عرس في مأتم، والليل يخفي جراح الركاب. فيوقظ انفاس الليل. يقلق الجنود بنصف قيافة تتقرفص في الممرات بالأسى والمشاكسة. حيث يكون الذهاب الى الموت سهلا ومجانيا في محارقِ ثلاث.
كان يأتي، يطالبهم بالتذاكر. يطالعها ثم يلقمها فم الة قطع التذاكر. فأن كان اسم الراكب (محمد) اجابه (حمامات السجن حنت). هي مرثية عن شاب هرب من سجن نقرة السلمان, لان باب السجن يتركه الحراس مفتوحا, فاقرب منطقة مأهولة تبعد 200 كم من كثبان نذلة مخاتلة, وصخور غير رحيمة, وأمواج من رمال ظامئة لا تنتهي, تجوبها الذئاب والضباع. وبعد ايام ثلاثة عثرت الشرطة على ثيابه في الصحراء وبعضا منه. وفي 21 تموز 1968 أغلق مجلس قيادة الثورة المنحل سجن نقرة السلمان ( وذلك انسجاما مع مبادئ الثورة وأهدافها في القضاء على عوامل التفرقة وعدم العدالة والإرهاب المناقضة لحقوق الإنسان). لكن السجن فرّخ سجونا اقسى لثلاثين عاما قادمة.

عربة الكائنات الغريبة
ان مهمتها واضحة محددة. فهي في سفر يومي قصير بين المحطات لأجل رزق يومي بسيط مع الفجر، او لزيارة سجين لا يستحق، او لمعاملة، او ثار قديم لا يهفت، او لزيارة العتبات المقدسة. ان ذلك يجعل منها كائنات لا تؤمن بالمسافات ولا تبدي تعاطفا فلا تحب التعرف والتعارف. لا تثق بأحد ولا تتورط مع اي احد . فالسفر القصير يسلبها ملامح المسافر المعتادة.
ذلك ما رايته حين وصلت عربة المطعم. وعلى ضوء المصابيح المتقطع بان الجالسون كائنات واجمة, غافية, تشرب الشاي على ارائك صلبة بأوضاع متعبة تتبادل أي كلام مع بعضها.
مضيت الى نهاية العربة بين صفين من المصاطب الصلبة متقابلة لم يمتلئ ربعها. بينها طاولة وتتسع لثمان واربعون جالسا.
كان الشاب البائع خلف الواجهة الخشبية الفخمة, يهمس بالموبايل. واذنيه غارقة في اللذة. وامامه كارتونات مصفوفة من النساتل الرخيصة, واطباق الأكلات الباردة بثمن مضاعف، الشاي وحده كان ساخنا في حافظة معدنية .ومع هذا فهو متنبه الى رزقه يأخذ الثمن ويعيد الفكة بتمامها.
طلبت شايا في كوب ورقي. ورايت جنبه شرطيان من حماية القطار والتيتي. اخذت الكوب الورقي. جلست انظر الجميع . كائنات ضجرة, تغرق في افكارها ذاتها مثل رحى تطحن مائة مرة وما من دقيق. تتبادل كلمات قليلة, لا تحبذ التحية والتعارف المقتضب, كان امرا غريبا ان يتفق الجميع على الاغتراب , كنت ارغب بالتعرف الى الجالس قبالي ولا اظنه يرغب كذلك. فكل شئ لا يجلب السعادة مع طقطقة العربة على السكة المظلمة وفي سفرها القصير عليها ان تقضي ساعات الليل متيقظة كي لا تفوتها المحطة المقصودة. لذا لا تثق بأحد ولا تتورط مع اي احد. ولا ترغب بالازمات. تتقرفص على الاريكة الخشبية الباردة. او تغفوا بأوضاع متعبة قليلا . فالسفر القصير يسلبها ملامح المسافر. ولكي لا تحجز الطاولات لفترة طويلة لان ثمة ركاب جدد يأتون لتناول الاطعمة مع الشاي او العصائر. لذا تراها تشرب الشاي لأكثر من مرة. وهي تعايش الصفنة ذاتها وتسافر مع الليل خلف الزجاج.
انهيت كوب الشاي الورقي الذي يذكرني طعمه بشاي الفواتح. ورجعت الى مقعدي وقد ازددت تلوثا بالغربة. وانا اود ان اعود الى الكائنات الصافنة لأشرب كوب شاي ورقي اخر.
ربما تمت العدوى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بمشاركة بلينكن..محادثات عربية -غربية حول غزة في الرياض


.. لبنان - إسرائيل: تصعيد بلا حدود؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أوروبا: لماذا ينزل ماكرون إلى الحلبة من جديد؟ • فرانس 24 / F


.. شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف




.. البحر الأحمر يشتعل مجدداً.. فهل يضرب الحوثيون قاعدة أميركا ف