الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصر الشعوب .. وزيارة إلى أمير قديم .

أحمد فاروق عباس

2022 / 8 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


فى صباح يوم جميل كنا على موعد مع زيارة أمير قديم ..
هو الأمير يوسف كمال وقصره في مدينة نجع حمادى ، ونسميه في المدينة " قصر البرنس " ..
هو قصر - أو مجموعة قصور - تطل على النيل مباشرة ، وكان فى الزمن القديم وراءه وأمامه أراضى وضياع وممتلكات " البرنس " ، وهى على امتداد لانهائي ، أو على مدد الشوف كما يقولون ..
كان البرنس يوسف كمال ابن عم الملك فاروق ، وله قصره الكبير في القاهرة ، وقصوره وممتلكاته فى نجع حمادى ، وكان هو الحاكم بأمره فى الإقليم المحيط كله ، فالكلمة كلمته والأمر أمره وحده ، وحوله عشرات الألوف يعملون في أراضيه ، أو يعيشون على بعض الفدادين القليلة أو القراريط ..
وقتها لم يكن بالمدينة - قبل ١٩٥٢ - مستشفى واحدة ، وبها بالكاد طبيب أو طبيبان !
ولم يكن بها سوى مدرسة واحدة ابتدائية ، أنشأت فى الأربعينات ، ومن كان يريد أن يتعلم فليذهب إلى المعهد الدينى في أسيوط الذى أنشأ عام ١٩٣٩ ، أو إلى الأزهر بالقاهرة - كما فعل جدى في العشرينات - قبل ذلك ..

.. لم يكن بالمدينة سوى الأمير ، وحوله عامة الشعب وأغلبهم بائسين ، ولم يكن بالمدينة حركة صناعية سوى مصنع السكر الذى أنشأ فى القرن ١٩ ؛ واشتراه رجل أعمال بلجيكى من الحكومة - هنرى نوس - وكان أغلب مهندسيه وعماله أجانب ، أو مصريين من القاهرة والإسكندرية ..

كان العصر عصر هو عصر الإقطاع ، وقد امتلك البرنس يوسف كمال حوالى ٣٦ ألف فدان فى نجع حمادي ومحيطها ، والرقم لجمال عبد الناصر فى خطاب له عام ١٩٥٩ متحدثاً عن قوة الإقطاع فى مصر قبل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ..

وكانت معيشة الناس فى الصعيد والوجه البحرى عامة في منتهى القسوة ، فالطعام من البتاو - وهو خبز يصنع من الشعير أو الذرة - والجبنة القديمة والبصل والعسل الأسود ، والطبقة الثرية في تلك البقاع ربما عرفت العدس فى بعض أيام الأسبوع ، وربما عرفت اللحمة في أحد أيام الشهر ، وربما فى أحد أيام السنة !!

وحتى الديموقراطية - إذا جاز أن نسمى ما حدث قبل ١٩٥٢ ديموقراطية كما يحلو للبعض الآن أن يتكلم - فقد كان كانت تتم بين أبناء الطبقة الحاكمة ، وأغلبهم متمصرين من الأتراك والشركس وغيرهم ، كعدلى يكن وإسماعيل صدقى وعبد الخالق ثروت وغيرهم ، كان الحكم يتداول بين أبناء طبقتهم العالية ، ولم يكن لجموع الفلاحين - وهم النسبة الأعظم من سكان مصر - علاقة بهم أو بديموقراطيتهم !!

وباستثناء بعض شوارع وضواحى القاهرة والإسكندرية ، حيث كان يعيش هؤلاء عيشتهم الباذخة ، وحيث الحياة كأس طويلة جميلة ، والعيشة هنية ناعمة ، ووقت الفراغ إما في النادى أو فى العزبة أو فى سباق الخيل .. كان باقى مصر يشرب كأس الفقر والجهل والمرض حتى الثمالة !!

... إنتهى ذلك العصر .
وبدأ عصر جديد .. عصر الشعوب .
فلم يعد هناك اقطاع ، حيث رجل واحد يمتلك ٣٦ ألف فدان ، وأغلب من حوله لا يجد قيراط أو قيراطين يستر بهم جسمه ، ويطعم بهم أولاده ، ولا رجل واحد يسكن القصور ، وحوله بيوت الطين والخوص التى لا تقى من برد الشتاء ، ولا من شمس الصيف !!
وأصبحت المدينة الآن تغص بالمستشفيات الحكومية والخاصة ، وقوافل الأطباء من أبناء البلد تملأ شوارع المدينة ..
والمدارس أصبحت منتشرة حتى فى القرى ، والجامعات - جامعتين - على مسافة ساعة زمن ..
وأصبح أبناء الفلاحين أطباء ومهندسين وضباط وصحفيين ومدرسين ، والحركة الصناعية تملأ المدينة ، ففى حين لم يكن هناك سوى مصنع السكر القديم ، أنشئ مصنع ضخم للألومنيوم ، أقيمت حوله مدينة حديثة ، بالإضافة إلي مدينة صناعية جديدة على أطراف الصحراء ، وبها مصانع متنوعة ..

وبدلاً من البتاو والجبنة القديمة والبصل والعسل الأسود عرف الناس اصناف أعلى من أطيب الطعام ..

كان عصر الإقطاع ، والسادة والنبلاء هم من يحكمون ، وكانت الشعوب تخدم هؤلاء ، ولا تنتظر سوى فتات احسانهم ..
تغير العصر ، وارتفع صوت الناس العاديين ، إلى درجة أن أطلق على عصرنا عصر الجماهير الغفيرة ..
ذهب حكم الملوك والأمراء والاقطاعيين والنبلاء .. وجاء عصر الشعوب ..

ومن هنا كانت الأهمية الكبرى ليوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ..

وربما كان المعني الأهم والابقي لثورة ٢٣ يوليو أنها لأول مرة من ألاف السنين جعلت حكم مصر في يد المصريين، وذلك بعد قرون حكمت فيها مصر من خارجها ، تولي حكم مصر فيها الإغريق والرومان والفرس ، ثم عندما دخلت مصر في الاسلام - وبغض النظر عن أي شئ - كانت مصر دائما جزء من شئ أخر ، وحكمت مرة من دمشق ومرة من بغداد ومرة من إسطنبول ، ثم من باريس أو من لندن ، وحتي في الفترات التي حكمت فيها مصر من داخلها حكمها غرباء كالمماليك أو الألباني التركي محمد علي وابناؤه ..
نسي المصريون في تلك الاحقاب الطويلة أمور الحكم والسياسة والعسكرية ، وكان أغلبهم فلاحون في الأرض أو أصحاب مهن عادية متفرقة ، وكان ٢٣ يوليو ١٩٥٢ هو نهاية هذا الفصل الطويل والمرير من تاريخ مصر ، ولما كان المصريون مستجدين في أمور الحكم والسياسة والدبلوماسية والعسكرية حدثت أخطاء البدايات ، التي - للغرابة - لا يتسامح معها بعض المصريين ، ويتسامحون مع جرائم الإنجليز خلال فترة حكم بلادهم ( ١٨٨٢ - ١٩٥٢ ) ، ويتسامح أخرون مع جرائم فترة حكم الأتراك العثمانيين الطويلة لمصر ، ويلتمسون لهم أعذار الدنيا والآخرة !!
لثورة يوليو اياديها البيضاء الكثيرة ، ويكفي أنها - بالإضافة إلى أنها وضعت مصر في يد أبنائها وليس في يد الغرباء - أنها نقلت مصر إلي العصر الحديث ، عصر التصنيع ، وعصر التعليم المجاني لأبناء الفلاحين والعمال الذين عاشوا قرونا في ظلام الجهل ، وعصر رفعت فيه مصر رأسها أمام الدنيا كلها ، وتقاربت فيه مع الدول الأخرى الخارجة مثلها من ظلمات عصر الاستعمار وجاهلية القرون الوسطى ، وصنعت عدم الانحياز ، وتحدت امبراطوريات كبري كبريطانيا وفرنسا ، ووقفت أمام دول عظمي كأمريكا ، وحاربت صنيعة الغرب واداته في منطقتنا إسرائيل وانهزمت وانتصرت ..
وبرغم الأخطاء التي حدثت طوال هذه المسيرة فهي أخطاء البدايات ، بالإضافة إلى ترصد العدو وغدره ..
لذا سيبقى ٢٣ يوليو أحد أهم الايام الخالدة في تاريخ مصر ، وسيبقى كذلك طالما بقي المصريون ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل