الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قالت لي اورفان/ رواية بنكهة زرادشتية

عبد الرؤوف الشريفي
كاتب.

(Abdul Rauf Al-shuraifi)

2022 / 8 / 18
الادب والفن


انا رجل اخر. يشبهني. لا اعرفه. يسير في وحشة البياض وحيدا، وبيده كتاب. يبصر معبدا في وسطه تتلهب طاسة من نار . فيدنو على صوت فتاة تناديه ( تعال الي انا اورفان)، ثم تقوم اليه من على النار. تفتح ذراعيها، ويتقدم هو ليضمها. لكني اهب من حلمي هذا على صياح الجند، (الزنج يقتحمون). فالتحق بفرقة البلالية والسعدية لندفع الاعداء عن بوابة الابلة. نشد عليهم. ونصبر ساعة على حر السيوف حتى ينكشف الفجر عن هزيمة نكراء لاعداء الله من الزنج كاسحي السبخ. وتنكسر شوكتهم مؤقتا ريثما يصل جيش الخليفة الموفق بعد ٣١ هجمة وبعد ١٣ يوما من الحصار.
وهذه الليلة الثالثة المتتالية التي تقع ذات الرؤيا ويوقظني فيه صياح الجند.

وفي اللقاء الاول, قالت لي اورفان : ليس في الانسان قلبا واحدا. ان هو الا نثار النور والظلمة، تتعاندان او تتواليان في دورة لا تنتهي. وقد تتصلان معا في تركيبة غريبة. فيعيش المرء في منطقة وسطى.
وفي الحقيقة انني كنت ارى بعض ما كانت تقول. فخشيت على ديني من دينها. لكنها روضت افكاري. وقالت تعال نتفق. وبودي لو اقول لها تعالي اقبلك.

بعدها كان قلبي يجر روحي اليها فنختلي معا في بقعة مسورة بالعشق. تفتح الى نهر اليهودي الذي اقطعه الخليفة الرشيد الى طبيب يهودي حاذق من البصرة اسمه ماسر تكريما لعلاجه أحدى جواريه الحسناء بعد القنوط من شفائها. كنانسمع الامواج تقبل الضفاف. ثم تمضي الى منبع الامواج وسط النهر. كما النفس مصدر كل الاعمال واليها تعود اثارها. ومن حولنا تدور أربع شجيرات ثمراتها كواكبا معلقة، من الليمون, والسدر الهادئ, والتين الاخضر الفاتح, والزيتون المجنون العكش. فنعيش مزاج متبدل من الخيالات, فالروح ان لازمت الجسد ثملت. وان غادرته اكتملت واستغنت.
وقتذاك, قالت لي بيبي طاهر حين راتني عاشقا لاورفان : (مبارك قلبك معبد العالم . يأوي المحبين. يتهجد بألف لسان وبقلب واحد. قلبك طاووس يتبختر, وأنت تتعمد بالماء وبالنار. على صدرك عمودان متصالبان بالنور. وفوقك نجمة تشع بالحب برؤوس ستة، وهلال يطل على كل العوالم. قلبك من حب).
عاشت بيبي طاهر تطعم الناس كرز الحب الالهي, فيما المعابد تطعم الناس خرافات مقدسة. فالحب اولى بالمحرومين منه من لصوص ومجرمين قبل الأتقياء. وحين سئلت, ألك قلب نبي, ولي, أم ملاك؟ اجابت: قلب عاشقة. وقد اورثها ذلك صفتين بهيتين. الاولى من الاولياء بان تتييس يدها عند اي طعام ذي شبهة, والثانية من الانبياء.بان تشفي المرضى بأية عشبة قربها. تقرا عليها بإيمان كاف. وهي مغمضة العينين. ثم تعطيها للمعلول يغليها ويتجرع ماءها فيشفى. والعاقر فتحبل. لقد تأثرت كثيرا بها. لكني لم اشهدها تحيي ميتا كما يقال بان تتلوا عليه سورة الفاتحة سبعون مرة بقلب غائب عن العالم.

كانت أورفان تستقبلني بحلوى كأنها سمسما بالسكر, وضحكتها بتلات زهور حين تقدم شراب گل . ثم شيئا من نبيذ التمر على مذهب اهل العراق, يحاذيه صحن البزورات المملحة. وتمضي تبهجني بأحاديثها عن احوال سيدها وكان عظيم الخلق، أكولاً ثقيل الجسم ، فكان يتمثل ببيت ابن هقانة والي البصرة قبل احداث الزنج: فلو أن في جزعي راحةً ... لأصبحت أجزع من يجزع وكان يخرج من الحمام مثل الورد من اثر الحناء عليه من قرنه الى قدميه . ويقول انها تزيد ماء الوجه, وتطيب النكهة, وتذهب برائحة السهك. ثم يصب عطر الغالية على ثيابه ولحيته. ويمضي الى صاحبه الوالي الولع بالطيور حتى انه اشترى طيرا تأتي بالهدي من أقاصي بلاد الروم ومن مصر إلى البصرة بتسعمائة دينار والبيضة بعشرين دينارا .
حين اقارب اورفان كان العالم يفوح مسكا. تميل الورود من حولنا سكرى, ومن فوقنا تنهل دنانير الضوء من عريشة الكروم. فالعالم انعكاس لما يدور في انفسنا. فأجس ثمارها، انزلق على تلالها , وعيون الماء. والأخاديد, واقبل العنبتين, فألفيها قد نضجت, وتدفقت شرايين الشهوة فيها. وفي كل مرة, اصادفها كالحورية الانسية التي لم تمس. فنذوب كالنبيذ في عناقيد الكرم قطرة قطرة, ونسيل كالزبد. هي تسقط نجمة. وانا اسقط نجمتين. ويتناثر رذاذ النور على رأسينا. ثم تنهمر النجوم من عيون العريشة. ولكنها في بدء العناق اخطرتني الى غبرة ترتفع في السماء, اهذا وقت السماء يا اورفان! ومع انها ترق كالندى إلا انها حذرة عما حولها. ربما لمخالطتها اهل لونها من الزنج الذين كانوا يكسحون السبخ عن الارض قبل ان يمضوا الى ثورة يموتون فيها جميعا. وهذا ما يفسد حلاوة الوصال. كنت غارقا في الزبد. فتغافلت, ثم تناهى الى مسامعي عجيج بعيد. ولم اكترث. وقبل ان تتفتح مسامات الروح جميعها في انتفاضة الجسدين, كانت المساجد تكبر, وأصوات الناس وهم يمضون على عجل قرب الجدول المحيط بالبستان. حين همدت الشرايين, وانتهت الجولة, قالت, وهي تنفض ما علق على ثوبها من قش وعيدان.
- لابد انه رجل عظيم, اتظنه الوالي؟
- السماء لا تغبر الا لموت... الخليفة.

وقبل ان ترحل الى شوشتر اخذتني حين رأتني شغوفا بالرسوم الدارسة والعهود البائدة, الى جنوب ابو الخصيب. وعلى ضفة نهر جيكور, وقفت كأنها في حرم قدسي, وأشارت الى الخرائب العنيدة لعاصمة قومها من الزنج ( للمختارة): انظر ، طالع بقلبك الاثار. اهي خرائب؟ أتسمع صوت الحجر. ينادي. هنا رفعت الرماح بالرؤوس. وأتم السيف دورة الكراهية. هنا غطت الجثث وجه الحقيقة. وتقاطرت أعضاء اجساد الثوار إلى الموفق العباسي ليتبعها الرؤوس أخيرا. الحجر الاصم يشير هنا اثر الحرية الاول. من لم ينتصروا صوتهم لم يمت. فهنا ارتفعت الحشائش والحيوانات المتخفية واشجار كلها اشجار التفاح والرمان والزيتون احتفاءا بالأرواح ثاروا للإنسان. لكني رأيت بعيني كيف ينحر الحب قربانا لمجد فان وعبودية مؤكدة للسلطة. تلمس في المكان, تنفس انفاس التاريخ, فالتاريخ المدون اعمى. لا يذكر ضحاياه ولا ينعاهم. بل يظهر التعقل بقراءة الاسباب والنتائج مثل حكيم. يحاول ان يكون ذكيا وباردا اكثر من طباعه. ان التاريخ ليس احصائيات وأرقام صامتة. انه الساعات الاخيرة للضحايا, في استدارة العين، في الحسرة قبل ان يهبط السيف وارتجافة الاصابع ممددة لا تمسك التراب او العشب. مفتوحة للسماء دافئة ثم صفراء باردة.
فهل رأيت المجد الفاني يسقط في الحصون والخنادق. وتتقد نيران الحرية.
هل رأيت؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب