الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- سعادتنا -ما بعد جائحة كورونا

عبد الجبار الغراز
كاتب وباحث من المغرب

(Abdeljebbar Lourhraz)

2022 / 8 / 18
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


ونحن بعد زمن كورونا، زمن البحث عن الذات، والعودة إليها لخلق التوازن النفسي، يحق لنا أن نتساءل عن معنى السعادة، لنرى، من خلال ما راكمناه من تجارب حياتية، وعشناه من متع ولذات، ماذا لنا وماذا علينا. فزمن ما قبل كورونا، ولا شك، مضى وانقضى ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، العودة إليه.
زال الوباء، ولكن تعايشنا معه سيطول، ولا شك، وهذه حقيقة لا ينبغي طمسها أو تغافلها، فبطوله قد تتوطد علاقتنا مع الذات، وتتعمق دلالات ارتباطها مع الآخر القريب والبعيد، أو قد تتفسخ، لا قدر الله، وندخل بسبب ذلك، من حيث لا نريد، في متاهات الذات السحيقة واستيهاماتها، والتي قد لا نخرج منها إلا بأوجاع وأحقاد تتناقلها الأجيال تلو الأجيال.
فما جدوى، إذن، أن نتحدث عن العلاقة المفترضة ما بين وباء كورونا و" سعادتنا " المحتملة، ما دمنا بين احتمالين: أن نكون أو لا نكون؟ وهل يصح الحديث عن ذلك أصلا!؟
كمحاولة للإجابة عن هذين التساؤلين، سنحاول في هذا المقال أن نقارب بعض أوجه هذه العلاقة المفترضة ما بين وباء كورونا والسعادة؛ لكن قبل ذلك، لا بد من إبداء ملاحظة مهمة مرتبطة بتعايشنا مع الوباء، نراها ضرورية وهي كالتالي:
ربط " سعادتنا " المحتملة بهذا الزمن الكوروني، يفترض أن نتعامل مع هذا الأخير كقياس نفسي، لكونه يخضع بنيويا لزمننا النفسي وإيقاعاته البطيئة.. إنه زمن غير كمي كرونولوجي يُحْسَبُ بالدقائق والساعات والأيام والشهور والسنوات، بل هو زمن نوعي وكيفي يقيس درجة مدى استغراقنا في لحظات الانشراح والحبور.. لحظات البهجة والإقبال على الحياة، كما يقيس أيضا لحظات التعاسة والحزن وعدم الإقبال على الحياة. وما دامت طبيعته كذلك، فمن المؤكد أنه زمن سَيُحْسَبُ، للأسف، علينا ولا يُحْسَبُ لنا؛ ذلك أن أنفسنا، هي بطبيعتها، أمارات بالجشع والأنانية المفرطة. لهذا، فوباء كورونا، شئنا ذلك أم أبيناه، هو مُؤَطَّرٌ بهذا الإطار الزمني النفسي الذي يحتويه ويحتوينا معه بنيويا ويُقَوِلِبُهُ وَيُقَوْلِبُنا معه وفق مُنْتَظَماتِهِ هو، وليس وفق إراداتنا نحن.وتفاديا لحجم الخسائر المعنوية قبل المادية، التي سوف نتكبدها، لا سمح الله، وجب عدم ترك العنان لرغباتنا اللامحدودة في أن تسوقنا نحو "خارج لا قيمِيًّ مطلق "، أو نحو "خواء وجودي"، نجد أنفسنا معه مصنفين، لا قدر الله، ضمن الأموات.
ولنعد الآن، بعد هذه الملاحظة الدقيقة، إلى موضوعنا الأساس، ولنقل بسرعة، بأنه إذا كان معنى السعادة، كما هو متداول لدى الخاص والعام، يعني شعور المرء بالرضا عن النفس، وجعل هذه الأخيرة قانعة بما قُسِّمَ لها من أرزاق وحياة، فإننا نكون، هنا أمام شعور بالسعادة متفاوت ومختلف لدى كل البشر، أي أمام تمثلات للسعادة؛ لما لهذه الأخيرة من أضرب وأوجه ومشارب مختلفة. لكن، قبل ذلك، لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما علاقة هذا الحديث عن الحاجات وعن الرغبات بكورونا، وبسعادتنا المحتملة؟
يعلمنا المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، إنه حيثما توجد الرغبات، يوجد اللاشعور كلغة وكبنية منفلتة من سلطة الذات.. كما يعلمنا الفيلسوف الروماني لوكيوس أنايوس سينيكا، أن الإنسان لا يستطيع أن يحقق سعادته إلا إذا كان مدركا للحقيقة، متحررا من رغباته وأحاسيسه بالألم والخوف من الموت. ومعنى ذلك أن للرغبات حركيات حرة تقود الإنسان حيث شاءت هي، وليس حيث أراد هو.
وعليه، فإذا كانت حاجاتنا الأساسية، من طعام وشرب ومسكن وملبس، تمثل بالنسبة لنا ذلك الخصاص الحيوي الطبيعي لنظامنا العضوي؛ وإذا كانت الاستجابة إليها تمثل سدا لخصاصنا وتحقيقا لاستمرارية نظامنا العضوي، فإن عدم إشباعها بالشكل الطبيعي والكافي، يحول تلك الحاجات الطبيعية، لاشعوريا، إلى رغبات مجنونة لا ضوابط تحدها ولا قيم ثقافية تعقلنها ولا أساسيات فلسفية حياتية ترجعها إلى جادة الصواب، وإلى أرض الواقع.
إذن ربطنا نفسانيا وفلسفيا قيمة السعادة بالرغبات والحاجات وباللاشعور، لا يعني بالنسبة لنا إلا شيئا واحدا: التفكير بشكل عقلاني في زمن ما بعد كورونا ومآلاته ومختلف تداعياته علينا وعلى من سيلحقنا من أجيال قادمة. كورونا بدون شك، وباء خطير، والعاقل منا، المتأمل لتداعياته، هو من سينتبه إلى إشاراته القوية الدالة، والموجهة لنا قيميا وأخلاقيا، إلى ضرورة تحويل الميولات الغريزية المركبة فينا بحكم الطبيعة، إلى قيم رمزية عالية.
لكن، هل نستطيع فعل ذلك، إذا لم نعقل تلك الرغبات وننقلها من مستوى اللاوعي إلى مستوى الوعي، ونتخلص من دوافعنا التدميرية اللاشعورية وقلقنا الاضطهادي، الذي يدفعنا إلى الجري واللهث وراء رغبات أخرى متولدة، إذا لم يحصل إشباع نفسي لما نرغب فيه؟
نفهم من هذا إذن، أنه ينبغي أن تتجه رغباتنا بشكل عقلاني صوب إنتاج وبناء واقع متحضر ومزدهر، بدل هذه الاستيهامات المَرَضِيَةِ الانحرافية الآتية من لاشعورنا، والتي تشعرنا دوما بالكآبة والتعاسة والشقاء، فنلجأ، قسرا، إلى التطرف والعنف تحقيقا لما ترسخ في أذهاننا من" يوتوبيات سرمدية " صنعها، ويصنعها الإعلام الزائف في عصرنا المعولم.
فالجهل بأسباب وعلل الرغبات، يجعل الإنسان دائما يعيش الحسرة والبؤس والشقاء، على الرغم من إدراكه لما يوده ويرغبه فيه وما يريده. وهذا هو سر ما يكابده ويعانيه من ويلات وشرور نتيجة طغيان النفس اللوامة في مواجهتها الأبدية للنفس الأمارة بالشجع والطمع، التي لا تترك فسحة لظهور النفس المطمئنة الخاضعة لمشيئة ربها التي قضت، منذ الأزل، بأن يتجنب الإنسان الإسراف في تعاطي الحياة المادية. فلا إفراط ولا تفريط، حتى لا يتعمق لدى هذا الإنسان الإحساس بالقلق، ويفعل فعله اللامرئي القاتل. والله عز وجل نبهنا إلى ذلك في محكم تنزيله، يقول تعالى: " لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ في كَبَدٍ" (سورة البلد الآية 4)
بعد تفسير هذا العرض لكورونا وللسعادة وعلاقتهما بالرغبات والحاجات، نطرح التساؤل التالي: ألا يصدق هذا التوصيف للحاجات غير المشبعة المولدة للرغبات المجنونة على إنساننا المعاصر؟ ألم يتربى هذا الأخير على المزج ما بين الرغبات والحاجات في زمننا المعولم؟ ألم يصبح نظامه الحياتي، بفعل ذلك، خاضعا للنمذجة والتنميط القاتل لإنسانيته؟
طيلة عقود خلت، ومنذ سقوط جدار برلين مرورا بتقعيد العولمة الاقتصادية ومحاولة تذويب الثقافات والخصوصيات المحلية، وانتهاء بتغول السوق في ظل رأسمالية متوحشة، لم تدق شعوب وأوطان العالم طعم السعادة والراحة، بسبب هذه الأمواج العاتية من الزيف والتسطيح التي غمرتنا بها وسائل التواصل الاجتماعي، وبسب تيارات التفاهة التي جرفتنا نحو حاضر مضطرب ومشوش ومستقبل مجهول. تفاهة هدمت كل جميل ومفيد يبني فينا من الداخل الإنسان. فباسم الليبرالية وتحرير الأسواق تخلت الدول الوطنية عن سياداتها وتخوصصت القطاعات الحيوية، وغُيِّبَتْ الطاقات الواعدة بالعطاء والخير في أوطانها، وبُخِّسَتِ في أعمالها العظيمة؛ وسُدَّتْ في وجوهها الكئيبة والحزينة كل أبواب الأمل، وأُقْصِيَتْ من كل مشهد؛ حتى نخرها التهميش..
ومنذئذ لم يعد إنساننا المعاصر بخير.. لأنه لم يَبْنِ سعادته من الداخل رغم توافر الضروريات والكماليات.. لقد أعلن الفلاسفة أمثال فريديك نيتشه، جان بودريار إدغار موران، زيجمونت بومان، ميشال أونفراي وألان دونو، موت الإنسان فيه.. موت قيمه الروحية.. انجرف، حتى القاع، مع سيل الاقتصاد المعولم وانساق مع تداعياته طمعا في رسم غد أفضل.. تخلى عن أساسيات بناء اقتصاد وطني فاعل، حبا في سواد عيون اقتصاد السوق.
ففي ظل الأحادية القطبية اغترب وفي زمن هذا الاغتراب، تفانى في عمله واجتهد، وشقي في حياته وتعب، لكنه وجد في نهاية المطاف نفسه أنه بهذا الشقاء كثيرا عن تلك الذات قد ابتعد ومن إنسانيته قد هرب.. لم يحس بطعم السعادة الحقيقية.. لم يحس بطعم الرضى عن النفس الأمارة بالاجتهاد والإبداع والتفكير والتدبير المعقلن، المساهم، في خلق التغيير الجذري في العقليات.
في زمن كورونا انكشف، إذن، الزيف، وأصبحنا نعرف مع معاناة هذا الإنسان المعاصر أن صديقنا الحقيقي دوما هو عقلنا وعلمنا ومعرفتنا، وأن عدونا الحقيقي هو جهلنا وفقرنا الفكري. أصبحنا نعرف أن الزيف استيهامات تعصف بالكيان وتقتل الروح.. إجراءات ماكرة ومخادعة ساهمت، لعقود طويلة، في بناء عقول استهلاكية لكل القيم السلبية.
في زمن كورونا أصبحنا نعرف أنه ينبغي الاتكال على جنود الصف الأمامي: الطبيب، الممرض، الأستاذ، الجندي المرابط على الحدود، الشرطي، الدركي، رجل السلطة المطبق للقانون، الإعلامي المتنور والقاضي المحقق للعدالة.
بعد هذه الصحوة وهذه اليقظة، يحق لنا، فيما بعد كورونا، أن نسائل مترفينا وأغنيائنا، عن تلك الأموال التي كدسوها وتلك الثروة التي راكموها، في ظل موجة اقتصاد السوق.. من حقنا أن نسائلهم، من أين لهم بها؟ من حقنا أيضا أن نعرف ماذا صنعوه بها؟ هل سخروها لبناء الوطن، أم أن استغراقهم اللاعقلاني في لذات الحس الفانية والمتع الزائفة صرفهم عن فعل ذلك؟ لماذا لم يع بعد مترفونا أنه إذا ما خففوا من آلام مريض فقير تعوزه ظروفه المادية و الاجتماعية في شراء مستلزمات التطبيب و الدواء ، أو ساعدوا شبابا واعدا بالعطاء ، متعطشا للعلم و المعرفة ، و ذلك بتخويلهم إياه منحا دراسية لاستكمال تعليمه الجامعي ، أو بنوا ، بما راكموه من أموال ، مدارس أو مستشفيات أو مسارح أو دور شباب أو نواد نسوية ، مساعدة منهم للدولة في تخفيف بعض أعباء و نوازل مشاريع الإنماء و التطور ، فسوف يكونون ، و لا شك ، راضين عن أنفسهم ، و ما فعلت أياديهم البيضاء من بر و إحسان ، يحسون معه و به بطعم السعادة و طمأنينة النفس و راحة الضمير و البال وبحلاوة الإيمان بنبل قضيتهم تجاه الوطن ؟؟؟
إذا كان كورونا يتطلب منا مناعة جسمية لمقاومته، فإنه، اعتبارا لهذا الذي قلناه، يصح القول بأن جسمنا الثقافي يعاني من نقص مناعة روحية تحميه من شرور الحياة ونوازل الأقدار. إن موت الإنسان فينا يتركنا بلا سند يقوي معنوياتنا ويعزز كل أشكال المقاومة الأخرى.
لا تتحقق السعادة، إذن، إلا في التفكير في بناء وطن الغد، فيما بعد مرحلة وباء كورونا وخروجنا من حجرنا الصحي سالمين معافين. ولهذا، وجب التفكير فيما يلي:
- يعتبر الإنسان وحدة كلية (جسد وروح) غير قابلة للتجزيء والتفكيك؛ ومعنى ذلك أنه يجب تهذيب الرغبات وتحويلها من قنوات اللاشعور إلى قناة الشعور، بشكل يساعدنا على تمثل قيم المجتمع الإيجابية، تمثلا حقيقيا، سواء كانت قيما اجتماعية أو جمالية أو أخلاقية. فَاللَّذاتُ الفكرية تطهير للأعراق من دنس الرغبات المشبوهة كما يقول ابن مسكويه.
- ينبغي، في فترة ما بعد كورونا، إذا أردنا أن نحقق السعادة الحقيقية، أن نترك فسحة، للرؤية العقلانية والتبصر الحكيم والبحث عن منافذ ومخارج للدوافع التدميرية التي تشتغل كطاقات سلبية. بل أكثر من ذلك، يجب أن تُعَلَّمَ تقنياتها وتمريناتها في البيوت وفي المدارس لأطفالنا، اتقاء لشرور الأنفس، وما قد تحمله من أحقاد.
- ينبغي عدم كبت الرغبات حتى لا تنتج بدل الواقع الاستيهامات. لهذا، فمهمتنا كمسؤولين وكمربين، هي جعل تلك الرغبات تسهم في إنتاج الواقع وليس تغييبه أو إنكاره (بالمعنى الفرويدي لهذه الكلمة).
- إشراك الشباب في الإسهام في الثقافة كعنصر لامادي روحي ومعنوي أصبح أمرا ضروريا. ولن يتأتى ذلك إلا بتحرير الجسد من النظرة الميتافيزيقية، التي تعيق معرفته لقدراته وحدود اشتغاله.
- وأخيرا، وجب تخليص الجهد العقلي والعاطفي والنفسي من عقاله، كي ينصب، حول المعرفة المتنورة بقصد بناءها.
ونرجو السلامة للجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن في الرياض.. إلى أين وصل مسار التطبيع بين إسرائيل والس


.. طلاب مؤيدون للفلسطينيين يرفضون إخلاء خيمهم في جامعة كولومبيا




.. واشنطن تحذر من -مذبحة- وشيكة في مدينة الفاشر السودانية


.. مصر: -خليها تعفن-.. حملة لمقاطعة شراء الأسماك في بور سعيد




.. مصر متفائلة وتنتظر الرد على النسخة المعدلة لاقتراح الهدنة في