الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واقعية ( الداشر).. والخيال الآسر.. قراءة في رواية الأديب خطيب بدلة.

أحمد جدعان الشايب

2022 / 8 / 19
الادب والفن


واقعية الداشر.. والخيال الآسر

في رواية ( الداشر) للأديب خطيب بدلة


بعد أن فرغت من قراءة رواية ( الداشر) للكاتب خطيب بدلة، الجديدة فوجئت بلذة لم أتوقعها، فعدت إليها لأتصفح بعض الدفاتر المهمة. فهو قسّمها إلى فصول ودوّن بدلاً من عنوان ( فصل) كلمة ( دفتر) التي كان البطل في الرواية أو الشخصية الروائية والمحورية ( أبو سلوم) أخذ يستعيد ذكرياته بالتتالي حسب ورودها تاريخيا في حياته وتطورات شخصيته وعلاقاته الأسرية والاجتماعية والوظيفية والمالية، ومع أهم رموز السلطة المتنفذة في محافظة إدلب في سوريا التي استطاع الوصول إليهم. يدونها في دفاتر منعزلة، تعرّف على معظمهم، بل هم تعرفوا عليه، ماعدا المحافظ، ولا أدري لماذا نسيه الكاتب، أو استبعده مع أنه أقل أهمية من أمين فرع الحزب أو من رئيس فرع أمن الدولة، لكنه يمثل رمزا لرأس السلطة العليا في دمشق.
وما نعرفه عن الأديب خطيب بدلة، أنه يكتب القصة القصيرة منذ عقود، ولم يكتب رواية خلال السنوات الفائتة، لكنه كان يكتب للتلفزيون وأعمال التلفزيون هي بشكل من الأشكال أقرب إلى الروايات منها إلى القصة.
في كل حال هي تجربة جديدة له، وهي تجربة موفقة وجيدة حسب ما رأيت. ففي الأدب كما تعلمنا، أن القصة القصيرة فن سردي نثري، زمنها لحظي، أو ساعي، أو يومي، ولا تحتمل القصة القصيرة أفكارا كبرى وفلسفات ونظريات عالمية وكونية، أما الرواية فهذا مجالها، رغم عدم إلزام الكاتب بهذا، لكنه إن أراد تضمين روايته بفلسفات كونية وبأفكار دينية وأيديولوجية، أيضا يمكن له ذلك، وقد تكون الرواية عند ذلك أشدّ تعبيراً عن حياة المجتمع وعلاقته مع الأفكار وما هو مطروح من نظريات كونية وفلسفات عالمية.
ي رواية ( الداشر) مجموعة دفاتر، وكل دفتر هو بمثابة قصة قصيرة، أو مشهد تلفزيوني شيق، ولكنه لا ينفصم عن سلسلة أحداث ودفاتر الراوي المرتبطة بوثاق ذاكرة ( أبو سلوم) الراوي كشخصية أساسية ومحورية في الرواية.
الجميل في أدب خطيب بدلة، وحدة الأسلوب في جميع كتبه، بحيث لو وقعت إحداها بيد قارئ كان قد قرا مرة له كتابا قبله، سيعرف سريعا أن هذا العمل الأدبي كاتبه خطيب بدلة، وهذا يدل على ثبات شخصية الكاتب واستمرار نهجه وخطه الأدبي المختلف، ولكن شرط التنويع في المواضيع وعدم تكرارها في أكثر من كتاب.
هنا ، نحاول تصديق واقعية شخصية ( أبو سلوم) لأنها في الواقع تمثل جيلا أو أكثر من جيل عايش هذه الحالة المتقلقلة، المهزوزة، الضعيفة، المنافقة باضطرار للوصول إلى جزء من حق الإنسان في حياة كريمة، فليس أمامه بدائل مشروعة، نعم، قد تكون الشخصيات واقعية بأسماء أخرى، لكنها لا تضيف شيئا جديدا على واقعية الأحداث، حتى لو كانت كلها من خيال الكاتب، فهي حدثت كثيرا ولازالت تحدث حتى اليوم مع الشباب السوريين مع الأسف الشديد رغم التطورات المذهلة حتى في الأخلاق الإنسانية والعلاقات الاجتماعية وعلاقات الأجيال بالدولة ومؤسساتها عبر نصف قرن من الهوان، فقد لجأ ( أبو سلوم) إلى التحايل والابتزاز، والكذب أحيانا، ومثله مئات آلاف الشباب السوريين، هذه الشخصية خلقها خيال الكاتب لترمز لأحداث خاضها وجُلُّها حدثت معه، فهي نوع من توثيق التاريخ الاجتماعي السياسي، لكنها لم تخلق عالما روائيا بديلا لهذا الواقع التعيس، عالما من الأمل والحلم والتغيير كما بقية خلق الله في حيواتهم المتنوعة في كثير من بلدان العالم.
شأن الأدب الروائي، عرض حالة شخصيات كما هي، ولكن نستشف من خلالها الأنسب كبديل لعذاباتها وقهرها، إيجاد حياة موازية بالتمني، هنا خلت الرواية من هذا الأفق، فالقراء ليسوا في سوية واحدة من ظروف الحياة التي مروا بها، فقد نجد آلافا منهم قد يحسدون ( أبو سلوم) على حياته التي عاشها طولا وعرضا لم تخلُ من الفرص التي كان يستثمرها لتحصيل مبالغ ورواتب بطريقة غير مشروعة،
وجمع منها آلاف الليرات التي كانت تخبئها أم سلوم لغدرات الزمن، هذا غير علاقاته مع أهم رموز السلطة في البلد وتحقيق غالب طلباته ورغباته عندهم، ولم نجده في أغلب حالاته منحوسا أبدا كما أراد الكاتب أن يقدمه لنا.
قدم الكاتب صورة حية عن معاملات الضباط للمجندين في الجيش السوري، ونوع الألفاظ المتداولة باستمرار ما يجعل المتأمل لهذا الواقع لقوات مجاورة لقوات العدو الإسرائيلي المحتلة منذ عقود لأخصب بقعة في الأرض السورية، فإن ما يجري من إذلال وتصغير وتحقير وانتهاك لأية مبادئ أو قيم أخلاقية، فالاستسهال واللامبالاة والتسيّب، عبر خطة مرسومة بدراسة واهتمام من قبل القيادة العليا في البلاد، لكسر الإرادة وتحطيم النفوس للشباب وسحق تطلعاتهم لمستقبل كريم، وللدفاع عن الوطن، وتحرير الأرض المحتلة، وجعلهم يكرهون وطنهم ويهملون واجباتهم ويلتفتون فقط لتخليص أنفسهم من هذا الجحيم، من هذا الجو الخانق المحمل بالذل والوضاعة والتحقير، وفي هذا الفعل المدروس بخطة حاقدة، يضرب عصفورين بحجر.
الأول: نسيان وإهمال احتلال العدو الإسرائيلي لفلسطين والجولان.
الثاني: عم التفكير نهائيا بمقاومة السلطة في دمشق وتغييرها بطريقة من الطرق.
في الصفحة 32 :
قائد الفصيل يخاطب العساكر بهذه الألفاظ.
_ ولاه جحاش.. هل يوجد بينكم كُرُّ يعرف يسوق سيارة؟
ثم يوجه كلامه لأحد معاونيه:
خذ هذا الكُرّ غدا واعمل له شهادة سواقة وسلّمه سيارة جيب واز.
ومع ذلك نجد ( أبو سلوم ) سعيدا ، ولم يتأفف أحد من أسلوب الضابط الرخيص. يقول للكاتب:
_ لجنة الفحص منحوني الشهادة دون أن يهتم أعضاؤها لكوني أجيد السواقة أم لا..
سألوني هل تجيد السواقة.. قلت لهم نعم.. فأخذوا كلامي على الثقة لأن المعلم يريد تأمين سائق بأية وسيلة.
مثل هذه الفقرة الواقعية وكثير من العرب في بلدان أخرى لا يعرفون هذا الخراب الأخلاقي والاجتماعي في الجيش السوري، بل الكثير منهم لايزال يعلّق عليه آمالا قومية عريضة. ولكن من يطّلع على الرواية ويقرأ هذه الفقرة بعد عقود سيجدها تاريخا لمجتمع يتحمل المعاناة بكثير من الصبر على المذلة والوضاعة من قبل الضباط جميعهم بلا استثناء، فقد اعتادوا على السب والشتم حتى للأهل وخاصة النساء في أي حوار حتى لو كان للتسلية أو جديا، وينتهي الأمر بالجندي وقد ألف هذا السقوط الأخلاقي، وتقبّل المذلّة والإهانة والتحقير فيتحول إلى خائف ومحطم ومنطوي، لأن هذا صار نهجا ومن لا يتعامل بهذا الأسلوب يضعون حول اسمه وفي ملفه العسكري إشارات ودوائر.
في الصفحة 34:
نقرأ عبارة على لسان الشخصية الأساس في الرواية ( أبو سلوم) الراوي ( ورفعت صوتها على حين غرة).أحسست أن أحدا غير كاتب الرواية قد أخذ قلما وكتب هذه العبارة دون علم الكاتب، لأنها عبارة نمطية نسيها الناس منذ عقود، تختصرها كلمة واحدة فقط ( وفجأة) فأيّهما تدل على سرعة التصرف ورفع الصوت أكثر؟. وهي لا تختلف كثيرا عن عبارة ( لم ينبس ببنت شفة) التي بمجرد وجودها في النص، أتخلى عنه وأتركه نهائيا.
مثل هذه العبارات الميتة النمطية، لم تعد ذات قيمة أدبية في السرد الحديث، خاصة إذا أتت على لسان شخصية لم تتعد الصف الرابع الابتدائي، وكل ما نقرأه من دفاتره، نقرأ حديثا ريفيا بسيطا بلا تكلف، فهذه العبارة لا تناسب موضوع الرواية، ولا أسلوب وطريقة العرض، كأنها نشاز واضح.
وفي هذه الصفحة أيضا، نجد أم سلوم الأمية تقول ( كيف تشتغل سائق سيارة وأنت لا تبصر) حوار عادي مناسب لولا كلمة تبصر، فلا تستخدم هذه الكلمة في الحكي الريفي ، يمكن أن نسمعها تقول، (وأنت نصف أعمى)، لأنه في الحقيقة يبصر من جهة المشاهدة، ويبصر بالعقل بالبصيرة ، فكيف لا يبصر؟، أو يمكنها أن تقول (ونظرك ضعيف)، أو ( ما بتشوف دربك).
وأيضا عبارة أم سلوم ( ألا تخاف على أرواح الناس) ماذا لو قالت ( ما بتخاف )
أليست واضحة ومفهومة في سؤال شخصية أمية، صحيح أنها لهجة محلية، لكنها معروفة ومتداولة في جميع الوطن العربي عدا المغرب يستبدلونها بحرف الجر (ك) ( ما كتخاف) لكنها معروفة .
في الصفحة 35:
نقرأ سردا في دفتر ( أبو سلوم): ( ولم تكتف بالرفض، بل شرعت توبخني قائلة إنني إنسان لا أستحي والدليل أنني سآخذ من مدخرات العائلة لأدفع للسافل أبو هداد الذي يزور نتائج الفحص الطبي ولا يخاف الله).
هذه الفقرة سرد لتوضيح موقف الزوجة من زوجها ومن أبو هداد. فهل أحس القارئ بجمال الموقف، ولذة معايشته له؟ بالتأكيد لا.
ليس مطلوبا من الكاتب الروائي أن يتحدث بالنيابة عن الشخصيات. الأجمل أن يبتعد قليلا ويطلق لهم حرية قول ما يمليه الموقف بينهم، خاصة في مثل طريقة وأسلوب خطيب بدلة، الذي يستخدم الكثير جدا من العبارات الشعبية، والحوارات الساخرة على ألسنة شخصيات بسيطة من قاع المجتمع.
في الصفحة 40 :
يصور لنا الكاتب موقفا كوميديا فيه من السخرية الجميلة ما يفيض عن الحد، ما يجعلك كقارئ، تنفلت بضحك مفاجئ، شرط أن تكون متنبها لحظتها لوصف الكاتب لذلك الموظف حين يتكلم مع المراجعين، فيقضم نصف الجملة، وعلى الناس أن يفهموا بسرعة مرغمين ما يرمي إليه.
أليس في هذا المشهد دلالات تلمّح لإهمال المراجعين؟، إضافة إلى أنه نوع من البطر المكشوف دون حياء من الموظف، لكثرة حاجات الناس لإنهاء معاملاتهم بيسر وسهولة، ولكثرة ما يدخل جيبه من نقود يوميا، من المراجعين المرغمين على الدفع. بينما نرى الموظف ذاتَه، حين يتحدث مع من يخصّه أو يرد على هاتف، يتحول حديثه إلى هدوء وترو وألفاظه سليمة وحروفه مكتملة، وجمله مفهومة تماما.
رسم الكاتب صورتين للموظف تدعوان للعجب، كما تدعوان للغضب، ما يجعل القارئ يتضامن مع المراجعين، ويحتقر الموظف وأمثاله من سفالة مؤسسات الدولة الفاسدة. إنه توثيق حقيقي لتاريخ حقبة سوداء في حياة السوريين عبر نصف قرن.
في الصفحة 44:
يقول أبو تيسير ، شخصية ثانوية في الرواية:
_ لا تحتاج إلى محامين ولا إلى كُتّاب عرض حال، أنا أحلها
سألته أخته باهتمام:
_ أنت جاد أخي؟.. كيف تحلها؟
_ قال لها: هذا عملي أنا .. وليس عملك.
أتساءل ، ما الذي يمنع أن يكون الحوار هنا بسيطا بمستوى الشخصيات أيضا؟
كأن يكون مثلا ( ما تحتاج محامين ولا عرض حال.. أنا بحلّها)
سألته أخته باهتمام:( من جد أخي.. كيف تحلها؟ )
قال لها: ( هذا شغلي .. ما هو شغلك)
في الصفحة 55 :
على لسان ( أبو سلوم) نقرأ ما يلي:
( لا يذهبنّ ذهنك إلى أن الحادث كبدني خسائر مادية)
فهل يكون وقع كلمة (يذهبنّ).. وكلمة ( كبّدني) لدى القارئ، وخاصة من عرف طبيعة الشخصية ومستواها التعليمي إضافة إلى معرفته بطبيعة التعابير (الخطيببدلاوية) ، هل هي أهم وأفضل، وأنسب من القول ( لا يروح ذهنك أن الحادث خسرني كثير) وهي عبارة فصحى كلها إذا عرفنا ضمنا أن الألف والتنوين في نهاية كلمة ( كثيراً) لا ضرورة لها في الحوار الشعبي البسيط.
في الصفحة 59:
يكتشف القارئ مفارقة مهمة في شخصية ( أبو سلوم) وهي من سمات الشخصيات التي تتعرض نفسياتهم للضغوط الاجتماعية والمادية والوظيفية، ثم لم تكن أي شخصية في العالم في حالة نفسية مستوية بخط واحد باستمرار، قد يوجد ولكن
نادرا، خاصة أنه يعيش في سوريا، وفي هذه الحقبة من الزمن اللئيم.
نجده حين ينهي حوارا مع زوجته، يطلق مثل هذه العبارة ( ولأجل إغاظتها أكثر.. اقتربت منها وهمست لها .. أنا دخيل تبعك كم هو لذيذ) ما يوحي لنا أنه يداعبها ويتغزل بها بمرح وسعادة، بينما هو في كثير من المواقف نجده متضايقا منها، ويصفها بالحقيرة ، كأنها عدوة له، يقول مثلا: ( نجّرت لها خازوقا كبيرا).
قد يسعد القارئ حين يعرف حقيقة وواقع البلد والشخصيات التي كانت تتحكّم بمفاصله من خلال الرواية، يمرّ معنا بعض الشخصيات التافهة، تفكر وتسعى لأن تكون يوما ما ذات شأن في قيادة البلاد، مثل عضو الفرع الذي تشكل حديثا، ( ابراهيم الثلتوني) الذي كنت أفضل أن يكون اسمه بالسين وليس بالثاء، ( السلتوني).
وشخصية المعلم ( نزار الهبنجي) الذي كان مديرا للمدرسة، ومعلمها الوحيد، وعامل الخدمة والتنظيف أيضا. ثم حين يتم إحداث بلدية في القرية ، يتسلم رئيسا لها، ويبدأ بالتفكير والسعي للوصول إلى مجلس الشعب، ويصل بسهولة بالرشوة.
حتى كلب القرية ( قطّاش) ينبح دائما بسبب وبدون سبب، لمجرد مرور شخص في الطريق، فلا فرق بينه وبين ضباط الجيش، والأمن، والشرطة، ينبحون بالشتائم بلا سبب.
لكن (قطاش) يختفي جزء كبير من صوته، ويهمد ويقول: ( مالي وللناس)، بعد أن استهلك طاقاته مثل الكثير من الضباط الذين تربوا على النباح سبا وشتما وألفاظا بذيئة، وحين يتقدم بهم العمر ولا يصلون إلى المناصب التي كانوا يفكرون بها، حين يتقاعدون من الوظيفة، يلجؤون إلى الزوايا المهملة باستسلام .
كان بالإمكان تطوير شخصية الكلب ( قطاش ) وتقريب الشبه والمقارنة بينه وبين ضباط الجيش، شتم ومسبات ، ونباح بلا أي سبب.
في الصفحة 153: يقول ( أبو سلوم) للكاتب :
لم أكترث أخي أبو مرداس لما حصل....................................................
هذا كله لا يساوي عندي فردة صباطي اليمين لأنها سببت لي فيما مضى من الأيام،
عقدة نفسية، فهي تنبعج بين الحين والآخر من تحت، وتدخل إليها مياه المطر.. فيصدر عنها أثناء المشي صوت ( فش فش فش) وكل مرة آخذها إلى دكان الاسكافي (أبو منهل) وأقول له تدبر أمرها بمعرفتك يا معلم.
كنت ألبس الفردة الخارجة تواً من تحت يدي (أبو منهل) وأمشي بها مرفوع الجبين كمن حرر بضعة سنتيمترات مربعة من أراضي الجولان.
إذا اعتمدنا النقد التأويلي هنا، نجد الكاتب يربط بين الصباط المهترئ كليا وبين تحرير الأرض المحتلة، فهل يحرر الأرض أو جزءا يسيرا منها إلا أصحاب النفوس العزيزة، مرفوعي الهامات والجباه، من خلال حياة أجيال تحصّل رزقها ومعاشها من خيرات الوطن وجل حقوقها وأكثر ، لكي يكون الوطن كقطعة من أحشاء الإنسان بالمحبة والقيمة؟.
ليس غريبا أن نسمع صفة تتكرر هنا وهناك دوما، أطلقها السوريون واللبنانيون الأحرار على الجيسش السوري المتعفن الفاسد من رأسه حتى العسكري الحاجب، يطلقون عليه ( جيش أبو شحاطة) الذي لا يجد ما يأكله ويلبسه، فكيف له أن يحرر أرضاً؟.
في الصفحة 187 :
يواجهنا مشهد واقعي ينطوي على دلالات ومعاني عديدة، يقول ( أبو سلوم):
عندما لعبت شريكا له أول مرة.. كنت أنتقي كلماتي بعناية.. أقول له .. أتسمح لي بملاحظة يا سيادة العميد.. لعبتك الأخيرة غلط.. لو ألقيت ديناري أليس أحسن من البستوني.
كان الضباط الآخرون يبتسمون.. لأن هذه اللغة غريبة جدا عن لعب الشدة.. وصار أحد الضباط .. العقيد (أبو فراس) يسخر من طريقتي اللبقة في الكلام.. فيقول ( لأبو عزام) مقلّداً إياي.. أتسمح لي أطرنب لك آس الكبة بهذه الأربعاوية الحقيرة ياسيادة العميد (أبو عزام).. وبعد أن يطرنب يقول.. واخجلتاه منك يا سيدي العميد.. طرنبت لك غصب عني.. وينفلتون بالضحك وبضمنهم العميد.
تشجعت بعد ذلك .. وصرت أوبّخ ( أبو عزام).. يرمي ورقة البستوني فأحملها وأقربها من عينيه وأقول له.. هذا لعب بهوي .. تخبيص.
وأثناء إحدى الألعاب انفلتت مني عبارة ( هذه جحشنة) الضباط ضحكوا وهو قال بشيء من الضغينة.
معك حق يا ( أبو سلوم).. من يعاشر الجحاش أمثالك لازم يجحش.
هنا يدعونا الكاتب للانتباه إلى ثقافة المسؤولين، فهم بعد الانتهاء من العمل اليومي في الوظيفة في سوريا لا يفكر واحدهم بأي عمل يطور من اختصاصه ، أو يطلع على أمثاله في دول العالم المتطور، فقط يبحثون عن شخص رابع ليلعب معهم بورق الشدة، فيهدرون الوقت بلا فائدة تعود على المؤسسة والمجتمع، أو فائدة يقدمها في تربية أولاده، أو في متابعة وتطوير مؤسسة الدولة التي يرأسها، أو في قراءة المجلات المتخصصة والدوريات الثقافية أو مطالعة الكتب الفكرية والاجتماعية وغيرها، بل نجدهم يتصرفون بعكس هذا تماما، يحتقرون الكتب ومن يقرأها أو يقتنيها، ويحتقرون المثقف والمختلف عنهم .
حياتهم تنم عن تعاسة المجتمع بوجود سلطة فاسدة ولا مبالية.
في الصفحة 191 :
نقرأ مشهدا مدروسا باهتمام، وموظفا توظيفا متقنا، فهو يحدث مع الإنسان الفقير والمحروم، والمكافح، المكابد لتأمين مستوى من الحياة المناسبة في ظروف لا تساعد على تحقيق جزء من أمنياته. وحين تتاح له فرصة، وتتحقق له لحظة فرح وسعادة، يتغيّر سريعاً، وتنطلق نفسه المحاطة باليأس، فينسى ظلم زوجته وتهكمها وسخرياتها من فشله ونحسه، وينسى ما يلقاه من تعثر في دوائر الدولة والوظيفة، ويشعر سريعا بحاجة لإتمام تفاصيل فرحته لكي لا تهرب منه، فيتوجها بالنشوة.
يقول: تعلقت برقبتي وهي في قمة الاشتعال.. ولن أطيل عليك .. أتممنا العملية باستمتاع قلما يحصل بيننا.
في الصفحة 202 :
يقول ( أبو سلوم ) لأولاده:
الثورة تحتاج إلى ركض وصياح، وأنا عندي دوالي ووجع في الركب.. وصوتي صار متل صوت الكلب (قطاش ) آخر أيامه.
أنا يا أولاد أعرف الكلب ( قطاش) منذ كان جروا صغيرا.. يرابط على الطريق .. وأي إنسان يمر به يلحقه بسرعة البرق وهو يعوي.. وعواؤه صار يشبه صوت مطرب يغني في شريط كاسيت وُضِع في المسجلة فعلِق.
معرفتي بالكاتب أنه مهتم كثيرا جدا بالغناء وخاصة بعمالقة الطرب الأصيل، ورواد الأغنية العربية بنوعيها القصيدة، والمحكيّة، وله كتاب قيّم عن تجربة فيروز والرحابنة. وهو يمتلك حسا فنيا وذائقة جيدة، ويميّز بين المطرب الأصيل وبين المدّعين للغناء والطرب، ومع ذلك لم يوظف المثال الذي قدمه ( أبو سلوم) عن تلف صوت الكلب ( قطاش)، يقول: صار صوته مؤخرا مثل صوت مطرب. كان الأصح أن يقول صوت مغني، وهنا يمكنه أن يضرب العديد من الأمثلة الموجودة على ساحة الغناء أيامنا هذه، فشوهوا الغناء والطرب والمقامات والشعر، وشوهوا الذائقة العامة للناس.
ونجده أيضا استخدم كلمة عواء مرتين لصوت الكلب، ولم يذكر النباح لأن العواء صفة لصوت الذئب. ونجد في الفقرة أيضاً كلمة جاءت حشوا في قوله، (مذ كان جروا صغيرا) فكلمة جرو توضح أنه كان صغيرا.
ومع كل ما ذكرته في قراءتي المتسرّعة قليلاً، حول بعض الهنات البسيطة في الرواية، فإني حقاً وصدقاً ، وبلا مجاملات مجانية، فقد ضعفت كثيراً جداً وأنا أقرأ نهاية الرواية.
وبقدر ما كنت أبتسم ، وأضحك، وأحياناً أقهقه، وأحياناً أخرى يغلبني الغم والضغينة والاحتقار الشديد، من خلال دفاتر ( أبو سلوم) وعلاقاته مع فروع الأمن وفرع الحزب، وضباط الشرطة، وخاصة قائد الشرطة في مدينة إدلب.
بقدر ما بكيت وما استطعت إيقاف صوت بكائي ، ودمعي لم يتوقف حتى أنهيت الرواية وأغلقت الموبايل، وقررت من تلك اللحظة أن أدوّن رأيي بما قرأته، وأحسست به من مشاعر متضاربة.
وهذا ما يتوجب على أي روائي أو قاص، أن يحاول الوصول إليه مع القراء.
فأنا بعد هذا العمر وبعد قراءة مئات الروايات والكتب الأدبية والقصص، استطاع الكاتب خطيب بدلة بمهارة مشهودة أن يضحكني حتى الإشباع، ثم يبكيني لدقائق، أحسست فيها بانهدام ركن من حياتي لموت صديقنا ( أبو سلوم) عند توقف حكاياته، وأحداث دفاتره الصادقة.
........................................................

وإلى لقاء مع قراءات جديدة لنصوص أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا