الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على هامش الصيف

علي فضيل العربي

2022 / 8 / 21
الادب والفن


مقال :
للصيف مذاقه الخاص في حياة الناس عامة ، والمثقّفين و المتعلّمين و الموظّفين خاصة . فهو فصل العطل المدرسيّة و الجامعيّة ، فيه ينعتق طلاّب المدارس و الجامعات و معلّميهم من أعباء الدروس و الواجبات اليوميّة .
و هو الفصل المفضّل للسفر و الترحال و الاستجمام تحت ظلال الغابات و المحميّات الطبيعيّة الخضراء ، و على شواطيء البحار و البحيرات و المحيطات و ضفاف الأنهار الجاريّة ، فرارا من لسعات الحرارة القائظة ، و طلبا للراحة في كنف الجوّ المعتدل ، اللطيف ، و محاولة الانعتاق من عالم الخمول الكابح للنشاط المنتج ، و نقمة الروتين المعطّل للمواهب و الإبداع ، إلى مربع كلّه نشاط و تجديد و إبداع .
لماذا نعتبر فصل الصيف أهمّ فصل في مسيرة حياتنا ؟ لماذا ينتظر الناس حلوله بشوق عارم ، و يسعون إلى الاستمتاع بأوقاته ، خلال الليل و النهار ؟
لأنّه فصل يحبّذه أغلب الموظفين الحكوميّين و الخواص لإبرام عطلهم السنويّة ، سعيا إلى الراحة من روتين العمل .
هو فصل اعتاد فيه الناس على الفراغ و التحرّر النفسي من موجبات الوظيفة و ضغوطها ، و على السفر و التخييم في سفوح الغابات و ظهورها ، و على شواطيء البحر ، حيث الرمال الذهبيّة التي تغري الأطفال ، و تستهوي الكبار ، و تعيد لهم بعض نبضات شبابهم . و في فصل الصيف اعتاد الناس ، أيضا ، على إقامة الأفراح و حضور المهرجانات في جوّه الصافي ، و تحت شلالات أنوار البدر المنير . و في فصل الصيف ، كذلك ، تغزو الطرقات و الساحات عادات شبابيّة ، صيفيّة ، فيها الكثير من لهو الشباب المندفعين و مراهقتهم و رعونتهم و طيشهم و خصوماتهم ، و القليل من الجدّ و الحكمة و التعقّل و التريّث و النضج . و هو فصل الحصاد و الجني ،. عند جماعة الفلاّحين الصغار، و الملاّك الكبار ، بعد حول من العمل و الجدّ و الجهد .
لكنّ ما يهمّ المثقّف و المتعلّم ، المبدع و الناقد و يؤرّقهم جميعا ، هو السؤال التالي : ما محلّ القراءة و المطالعة عندنا في هذا الفصل ؟ أين تذهب تلك الأوقات الفارغة كلّها ، الناجمة عن العطل السنويّة ، و بالخصوص الفئة الطلابيّة بمختلف مستوياتها و الفئة المتعلّمة و المثقّفة بشتى مشاربها و تنوّع ايديولوجيتها و غاياتها و ألسنها ؟
كنت ذات صيف ، و قد رافقني ابني الذي نيّف سنّه على العشرين ، في قاعة الانتظار بالمطار الدولي بعاصمة الجزائر ، و كانت الساعة قد جاوزت العاشرة مساء . و قد تأخر وصول رحلة الطيران المنتظرة - من عادة رحلات الطيران في بلادنا العربيّة التأخّر - جلت بنظري يمنة و يسرة . و لفت انتباهي رجل أجنبيّ ، ربّما نيّف على الخمسين ، و بجانبه امرأة من لونه و جنسه ، و ملامحهما تدلّ على أوربيّتهما ، كانت تلك المرأة أصغر منه سنّا و أنضر ، لم أتبيّن أهي زوجته أم خليلته أم مجرّد رفيقة سفر . و كان كلّ منهما منهمكا و غارقا بين دفتي كتابه الجيبي . كانت عيونهما منغرزة بين سطور الكتابين ، لا يشغلهما عنهما شاغل . ثم أعدت إجالة النظر بين زوايا القاعة ، لعليّ أجد قارئا آخر أو قارئة أخرى ، من رواد القاعة أو موظفيها ، فلم أجد غيرهما حاملا بين يديه كتاب أو مجلّة ، أو حتّى جريدة . قلت لابني : ما الذي يلفت انتباهك في القاعة ؟ ثم ، أردفت : هناك ظاهرة لفتت نظري بين رواد هذه القاعة .
أجال ابني البصر بين زوايا قاعة الانتظار الغاصة بالجالسين و الواقفين ، بالمنتظرين لموعد رحلاتهم القادمة ، أو المنتظرين ، مثلنا ، لقدوم رحلة من هم في انتظارهم . و بعد برهة من الزمن ، ابتسم ، و كأنّ ابتسامته كفارة عن عجزه عن اكتشاف الظاهرة ، ثم قال لي : لا شيء ملفت لنظري .
قلت له : لاحظ جيدّا و ركز بصرك . فلمّا عجز إماطة اللثام عمّا كنت راغبا فيه ، قلت له : انظر ، هناك على اليمين ، رجل و امرأة أوربيّان يطالعان منذ أن دخلنا القاعة ، و لا أحد غيرهما يفعل ما يفعلان . قال لي : صدقت ، يا أبي ، و حتّى نحن في عداد من لا كتاب له ، يملأ به فراغه القاتل ، و يكبح لسانه عن القيل و القال ، و يختصر شعوره بحجم الزمن ، و يسرّع أيّامه و ساعاته فيحوّلهما إلى دقائق و ثوان .
و تملّكني التساؤل و و آلمني وقعه على قلبي . لماذا – و نحن أمّة اقرأ – لا نقرأ كثيرا أو قليلا ؟ لماذا نُصنّف – دائما – في ذيل الأمم القارئة ؟ أين ننفق أوقات فراغنا ؟ أين نهدر أصيافنا ؟ لماذا هم يقرأون في كل مكان حلّوا به و لا نحن لا نقرأ ، و لو في مكان واحد ؟ لماذا هذا النفور من الكتاب إلى درجة العداء له ؟
وإذا دخلت مكتبا أو دائرة حكوميّة ، تعجّبت ، ألفيت وراء ظهر المسؤول مجموعة من المجلّدات ، مرتّبة بانتظام على رفوف مكتبة فاخرة ، انشرح لمنظرها صدرك ، لكن سرعان ما تنكشف لك حقيقة وجودها ، إذ لا يختلف وجودها عن كونها مجلّدات تؤدّي دور أدوات زينة في صالونات الأثريّاء في المجتمع المخمليّ .
للقراءة فلسفتها الخاصة ، تغرس في عقل الطفل منذ أن يصبح تلميذا في الصفوف الابتدائية الأولى ، و تنمو كما تنمو الفسيلة ، لتتحوّل إلى عادة نفسيّة راسخة في الذهن ، و رغبة و هوى و حبّ و حاجة يوميّة و ملكة . و من أجل بناء مجتمع قاريء بجدّ و وعيّ ، لا بدّ من الاعتناء بالقراءة في مرحلتي الطفولة و المراهقة و الفتوّة . ليصبح الكتاب ، مع مرور الزمن ، و تطوّر العمر ، و نموّ العقل و الجسد ، خير جليس للقاريء ، و أوفى صديق له ، و جزءا من يوميات القاريء . القراءة مشروع فكري دائم و منبر تربويّ متواتر ، قبل أن يكون مشروعا ظرفيّا ، مرتبطا بالمواسم الثقافيّة و معارض الكتب المحليّة و الدوليّة .
قال الجاحظ : " دخل الرشيد على المأمون ، و هو ينظر في كتاب ، فقال : ما هذا ؟ فقال : كتاب يشحذ الفكرة ، و يحسن العشرة . فقال : الحمد لله الذي رزقني من يرى بعين قلبه أكثر مما يرى بغين جسمه "
و وصف الجاحظ الكتاب فقال : " الكتاب وعاء ملئء علما ، و ظرف حُشي ظرفا ، و بستان يحمل في ردن ، و روضة تقلب في حجر ، ينطق عن الموتى ، و يترجم كلام الأحياء "
و وصفه أيضا بقوله :
" ... فالكتابَ نِعمَ الظَّهرِ والعُمدة ، ونِعمَ الكَنزِ والعدةُ ، ونِعمَ الذُخرِ والعقدةُ ، ونعمَ النُزهةِ والعِشرة ، ونعم الشغلِ والحِرفة ، ونِعمَ الأنيسِ ساعة الوِحدةِ ، ونِعمَ المعرفةِ ببلادِ الغُربةِ ، ونِعمَ القرينِ والدَّخيل ، ونِعم الوزير والنَّزيل ، وهو الجليسُ الذي لا يُطريكَ ، والصَّديقُ الذي لا يُغريكَ ، والرَّفيقُ الذي لا يَملّكَ ، و المُستَميحُ الذي لا يستزيدك ، والجار الذي لا يَستبطِئك ، والصاحِبُ الذي لا يريدُ استخراج ما عِندَك ... "
و السؤال الذي يشغل كل عاقل ، أريب هو : لماذا لا تقرأ أمّة اقرأ ؟ لعلّ ذلك راجع إلى خلل في النظام التعليمي و التربوي ؟ و تضعضع في الوضع الاجتماعي و الاقتصادي ، الذي تعيشه أمّة اقرأ ؟ كما لا يمكن إغفال السبب التاريخي . فقد مرّت على أمّة اقرأ اوقات عصيبة ، و تعرّضت لغزو استدماري فظيع . و مارس الغزاة سياسة التجهيل لقطع أواصر الصلة بماضيها التليد ، و تاريخها المجيد . لقد أصابت أساليب التجهيل المجتمع العربي في مقتل . حرمته من تعلّم لغته اليوميّة ، و لغة تراثه ، و حارب الغزاة ملّة الأمّة بشتى السبل الجهنّميّة ، و نشروا الخرافات و الطرقيّة ، و شجّعوا البدع ، و بذلوا جهودهم من أجل تجسيد مبدأ الفرقة ، و إثارة الفتن المذهبيّة .
و كلّما ازدادت نسبة المقروئيّة في المجتمع ، اتّسع العقل ، و تعمّق الفكر ، و اتّضح معنى الحريّة الحقّة أكثر ، و أدرك المواطن ، حدود حقوقه و واجباته تجاه الآخرين ، و تقلّصت أخطار الأزمات الاجتماعيّة و النفسيّة و الأخلاقيّة . و تبوأ العقل مكانة القيّادة ، و تطهّر من الأهواء و النزوات ، و انتقل المواطن من درك الجموح في فلاة السفاهة و التيه إلى منزلة الوعي و الحكمة .
يصدمني واقعنا المعيش ، حين أرى المواطن يقتني كل شيء ، أكان من الضروريات أو الكماليّات ، و يستنكف عن اقتناء كتاب ، و لو كان هذا الأخير أزهد ثمنا من قطعة مثلّجات ، أو قطعة شيكولاطة أجنبيّة المورد . ما لهذا المواطن يعجز عن حمل كتاب – و لو كان كتاب جيب - و تصفحه في عربة قطار أو في طائرة أو في حافلة أو عربة ميترو أو تراموي أو في ساحة عموميّة أو حديقة غنّاء أو في مقهى أو في طابور ، و ما أكثرها في مجتمعنا . بينما نراه حاملا على كاهله كل غثّ أو سمين . هذا المواطن ، و أمثاله ، شغله بطنه عن عقله ، و شغلته شهواته الجسديّة عن لذّاته الفكريّة ، فأمسى الكتاب في منظوره فرض كفاية لا فرض عين . و نسيّ ، أو تناسى ، بأنّه مأمور بالقراءة من خالقه سبحانه و تعالى . و العزوف عن القراءة ، مخالفة أخرويّة قبل أن تكون دنيويّة . و هو أيضا - أي العزوف عن القراءة – تمرّد على عالم النور ، و انغماس في عالم الظلام الدامس .
و في الصيف فرص ثمينة لممارسة القراءة ، حيث يمتدّ حيّز النهار ، و يغلب النور الظلام . تتحوّل القراءة إلى عادة يوميّة معشوقة . يرسخ أداؤها في نفسيّة القاريء ، إلى أن تتطوّر فتبلغ منزلة الملكة . ينتقل الكتاب من كونه مادة لملء أوقات الفراغ ، إلى كنوز يسعى باحثا عن أوقات الفراغ . و إلى صديق ، ملازم للقاريء في حلّه و ترحاله ، في فراغه و شغله ، في مقامه و ترحاله .
كان أجدادنا في العصر العباسي الذهبي ، يقدّسون الكتاب ، و كان يعطون مؤلّفه أو ناسخه أو مترجمه مقابله ما وزنه ذهبا . و كانت مكتبة دار الحكمة ببغداد ، عاصمة الخلافة من أكبر مكتبات العالم آنذاك . و كانت حواضر دمشق و القاهرة و القيروان و تلمسان و بجاية و فاس و مراكش لا تخلو من المكتبات العامرة بأنفس الكتب و المصنّفات العلميّة و الأدبيّة و المعاجم . أمّا مدن الأندلس ؛ كغرناطة و قرطبة و إشبيليّة و مرسية ، فقد فاقت كتبها و مدارسها ما كانت تحويه الحواضر العلميّة و الأدبيّة الأوربية ، كأثينا و روما . و كانت مكتباتها ، لا مثيل لها ، زاخرة بالمؤلّفات العلميّة و الأدبيّة و الفلسفيّة ، و كانت مقصدا لطلاّب العلم و المعرفة من أنحاء أوربا كلّها . و لولا إشراقات شمس الشرق في العصرين العباسي و الأندلسي ، لبقيت أوربا رسيفة في جهلها سنوات طوال ، و لولا الفيلسوف و المفكّر و الحكيم ابن رشد ما تقدّمت أوربا ، و ما كان عصر التنوير و النهضة ليبدأ في بداية القرن الرابع عشر .
و أعود ، و أكرّر ، أنّ ضعف نسبة المقروئيّة في العالم العربي ، عائد إلى عور واضح ، و خلل فاضح في النظامين التربوي و التعليمي . و هي حقيقة مرّة و مؤلمة ، لا يمكن حجبها عن المبصرين ببصائرهم . و لهذا لا بدّ أن يبدأ الإصلاح و التغيير نحو الأفضل من قاعة الدرس في مراحله كلّها ، انطلاقا من المرحلة الابتدائيّة إلى مدرّجات الكليّات و المعاهد و الجامعات و المؤسّسات الثقافيّة العامة و الخاصة .
لا بد للشباب أن يستغلّوا أوقات فراغهم ، و يعودوا إلى الكتاب الورقي ، و إلى عالم المعرفة الجادة ، و يعوّدوا أنفسهم على القراءة المستمرّة و المفيدة ، لتطوير قدراتهم العقليّة ، و يفتحوا عوالم شتى من المعارف و الأفكار النيّرة ، و يتحرّروا ، و لو قليلا ، من سطوة الفيسبوك و لغط التيك توك ، و من الفتور و الكسل و الذهول .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث