الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة 51

محمود شقير

2022 / 8 / 22
الادب والفن


يمكن استشفاف بعض ملامح الحالة الراهنة في القدس الشرقية، من مقاهيها التي أغلقت أو التي ما زالت في طريقها نحو الإغلاق. يمكن أيضاً، ونحن نتتبع أحوال المقاهي، الإلماح إلى الثقافة التي تخيم على فضاء المدينة، وتدلل على ما استجد فيها من تطورات سلبية وأوضاع.
لتوضيح ذلك، لا بد من التحدث عن مقاهي القدس قبل هزيمة حزيران (يونيو) 1967، لأن ذلك يلقي الضوء على الوضع الذي آلت إليه هذه المقاهي بعد اثنتين وأربعين سنة من الاحتلال. التحدث عن المقاهي يعيد إلى الذاكرة، أيام ازدهار النشاط السياسي في المدينة، وخصوصاً أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، حيث اعتاد نشطاء الأحزاب الجلوس في المقاهي والترويج للسياسات التي تتبناها أحزابهم. وجرت الاستفادة في الوقت نفسه من المقاهي التي تتسع لعدد كبير من الناس (مقهى «زعترة» داخل باب العامود مثلاً) لعقد الاجتماعات الحاشدة للمرشحين لانتخابات البرلمان الأردني، حينما كانت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية آنذاك.
ولدى تبلور حركة أدبية مرتبطة بظهور مجلة «الأفق الجديد» المقدسية، خلال النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، شهد بعض مقاهي القدس حضوراً لمثقفين وأدباء من أبناء المدينة ومن خارجها، اتخذوا من هذه المقاهي أماكن لجلوسهم ولحواراتهم، سائرين في ذلك على النهج الذي سار عليه كتاب عرب وأجانب، كانت لهم مقاهيهم المختارة في مدن مثل بيروت والقاهرة ومدريد وبراغ. غير أن هذا الحضور لم يلبث أن اضمحل مع إغلاق المجلة ووقوع هزيمة حزيران.
قبل الهزيمة، كانت المقاهي تشكل مع النوادي ودور السينما والمكتبات والفنادق والمطاعم، مظهراً من مظاهر النزوع المدني المرافق لنهوض الطبقة الوسطى، وما يستتبع ذلك من ميل إلى الترفيه عن النفس والتسلية، ومن علاقات اجتماعية منفتحة، وتواصل مع الأصدقاء وقضاء وقت ممتع معهم، حيث يمكن لهؤلاء الأصدقاء - إن لم يذهبوا إلى السينما أو إلى المطعم - قضاء وقت في المقهى للعب الورق، ولتدخين التمباك الذي يوضع على رؤوس النراجيل وفوقه جمرات النار، في أوقات ما بعد العصر وحتى ساعات ما بعد المساء.
وأما في ساعات النهار، فالمقهى لم يكن يخلو من زبائن دائمين من الشيوخ المتقاعدين، الذين لا يطيقون البقاء في البيوت، وما يعنيه ذلك من رتابة وضجر. ولم يكن المقهى يخلو من قرويين قادمين إلى المدينة للصلاة في مسجدها الأقصى، أو للتسوق أو لبيع الخضار والفواكه ومنتجات الماشية من جبن وحليب وألبان. ولم يكن يخلو كذلك من شباب عاطلين من العمل، ومن معلمين وموظفين من أبناء الطبقة الوسطى الخارجين من دوامهم اليومي، أو ممن يقضون بعض أوقات إجازاتهم الصيفية أو غير الصيفية في المقاهي، التي لا تكلفهم سوى القليل من النفقات.
تميزت مقاهي القدس آنذاك، وخصوصاً تلك الواقعة في أسواق البلدة القديمة، بطاولاتها القصيرة الأرجل التي تتساوق في القصر، مع كراسي القش التي تصطف حول الطاولات، وبأجهزة المذياع التي تبث الأغاني ونشرات الأخبار، وبالعاملين فيها من النادلين ذوي الأصوات الممطوطة المنغمة، التي كانت تعطي المقاهي نكهة ذات وقع خاص. والمحظوظون من زبائن المقاهي هم أولئك الذين كانوا يسبقون غيرهم إلى الجلوس في الفسحات المكشوفة المتاخمة للأسواق، حيث تطيب لهم مراقبة الخلق الذين هم في غدوّ ورواح.
وخلال السنوات الست عشرة الماضية، أي منذ بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإقامة الحواجز حول القدس، ومن ثم ببناء جدار الفصل، أخذت مظاهر الاضمحلال تعتري شتى مناحي الحياة في المدينة. وقد تفاقمت هذه المظاهر وازداد خطرها مع إخفاق السلطة الوطنية الفلسطينية ومعها بلدان العروبة والإسلام، في إيلاء اهتمام أكبر بالقدس، وفي التصدي لإضعاف الوجود العربي الفلسطيني فيها، تمهيداً لتهويدها.
يضاف إلى ذلك تهميش الطبقة الوسطى الفلسطينية، وإضعاف تأثيرها السياسي والثقافي، لأسباب عدة، منها انسداد أفق تسوية الصراع العربي/ الفلسطيني - الإسرائيلي، وتشوه البنية الطبقية للمجتمع الفلسطيني، ما أدى إلى تراجع الثقافة الديموقراطية بتجلياتها العقلانية والتنويرية، والنكوص إلى حالة من تردي الوعي، استفادت منها الجماعات الأصولية ونجحت في كسب تعاطف فئات واسعة من الناس، ومن ثم قامت بملء الفراغ الناشئ عن تدهور مكانة القوى القومية واليسارية، هذا التدهور الذي أدى بدوره إلى إضعاف النزوع المدني، كما هو الحال على نحو واضح في مدينة القدس، وإن كانت له مظاهره المتفاوتة، في بقية مدن البلاد.
لذلك، لم يعد ثمة فضاء مدني يتيح للمقاهي فرصة للازدهار المنشود. فالمنتمون إلى الجماعات الأصولية، ما عاد المقهى يجتذبهم لتعارض رسالته الدنيوية مع رسالتهم الدينية. وأبناء الطبقة الوسطى أصبحوا أكثر قلقاً على المستقبل، وما عاد المقهى وارداً في حسابهم كما كان في السابق، خصوصاً مع ضعف التواصل الاجتماعي وسوء الأحوال الاقتصادية وانعدام الأمن في ظل الاحتلال. والقرويون ما عادوا قادرين على دخول القدس بسبب الحصار المفروض عليها. ناهيك عن أن الحياة في المدينة تضمحل كل يوم قبيل حلول المساء.
ومع تنامي الظواهر المؤدية إلى الاضمحلال، تحوّلَ عدد من مقاهي البلدة القديمة إلى محال للأحذية كما هو حال مقهى «زعترة». وتحول مقهى «صيام»، ومقهى «منى» داخل باب العامود إلى محلين للملبوسات، في حين بقي مقهى «صيام» الواقع في أول عقبة السرايا على حاله، بعد أن بليت كراسي القش التي لم يعد أحد معنياً بإنتاجها، ما اضطر صاحب المقهى إلى استخدام كراسي البلاستيك، التي تضفي على مقهاه طابعاً هجيناً مغايراً لطابعه التقليدي الأصيل.
وأما مقهى باب العامود فقد بقي على حاله، وهو أقرب ما يكون إلى الكافتيريا التي تقدم لزبائنها أنواعاً من العصير، إلى جانب المشروبات الغازية والقهوة والشاي، والأمر نفسه ينطبق على مقاهي باب الخليل وحارة النصارى، وعلى مقهى «الباسطي» في طريق الواد، حيث أصبحت هذه كلها أقرب إلى محلات الكافتيريا التي تستقبل السائحات والسياح، وهم قلة قليلة على أية حال.
فيما بقي مقهى «جابر» ومقهى «ناصر» داخل باب الساهرة، محافظين على طابعهما التقليدي، حيث النراجيل والزبائن ذوو الدخل المحدود من أبناء المدينة، الذين يقضون الوقت في لعب الورق أو طاولة الزهر، أو في الاستماع إلى الأغاني وفي التعليق العابر على بعض الأمور.
والمعضلة نفسها تتكرر خارج البلدة القديمة من القدس. فإذا استثنينا مقهى «الروضة» ومقهى «الراجح» اللذين حافظا على طابعهما التقليدي، فإن مقهى «الشعب» القريب من محطة الحافلات، تحول إلى معرض الشعب للأدوات المنزلية، ومقهى «العمال» الواقع في أول المصرارة، اجتزأ صاحبه ثلثي حيزه السابق، وجعل منهما محلاً لأجهزة الهاتف النقال، ومحلاً للمواد التموينية.
وفي حال بقي الأمر على هذا المنوال، فسوف تشهد القدس إغلاق المزيد من مقاهيها أو تحويلها إلى محال للأحذية أو للملبوسات، بعد أن أصبح الإقبال على المقهى التقليدي ذي الأجواء الخاصة غير ذي بال.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي