الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التتارُ الجدد

عبد الله خطوري

2022 / 8 / 25
الادب والفن


لا جديدَ في آلأفق..كل شيء صامت، كل شيء ملتبس في عوالمنا آلجديدة، كأننا أمام ترقب مريب لشيء ما مبهم غامض سيحدث.."الديمومة المتجمدة"..هكذا عبَّرَ الناقد(ألبير يس)في مؤلفه:(تاريخ الرواية الجديدة) واصفا الانتظار الرتيب في رواية"صحراء التتار"للايطالي:"دينو بوزاتي"(1906 - 1972)التي نشرت للمرة الأولى عام 1940...
نحن بمعية ضباط وجنود في محميتهم وقلعتهم العتيدة على الحدود يترقبون هجوم عدو محتمل قادم من بعيد.إنهم في أَمَاكنهم واقفون يتربصون تقتاتهم لحظات غبش تتعاقب بتثاؤب رتيب.أعينهم واجفة ترنو الى أفق قريب سحيق حيث يمكن أن يعن هجومٌ مَا مباغت في أي إغفاءة عين، غير أن العدو المرتقب لا يظهر.. تبا..اُوووف..أولائك المهدِدون الغزاة الطامعون ذَوُو الأشداق المفتوحة لا يظهرون..وحده خواء الفلاة وفراغها يقتحم محاجر البآبئ، والريح آلصرصرُ الجدباء تهب من كل حدب وصوب تُزَمْجِرُ.تطمس العواصفُ المتعاقبة والتيارات المتشابكة شغافَ القلوب الواجفة، بطوق عَدَمي تطوقها، لا خلاصَ من المعاينة من التدقيق في الملاحظة، ليظل سكان الحصن _الحريصون على سلامة مَنْ فيه_سُجناءَ قلعتهم الحصينة بأسوارها الشاهقة السميكة المسننة، سجناء آنتظارٍ قميئ لا يُشهر حربا لا يعلن سلما..القلعة كينونة باردة متوجسة لا يهاجم وجلها أحدٌ، لا يفسد خلوتها آلواجفة أحد، وحده سراب خواء الامتداد اللامتناهي يحاصرُ مُقَلَهم ليزيد الأمرَ التباسا..كل شيء هادئ في الميدان آلشرقي، كل شيء ساكن في آلميدان الغربي،وفي جميع الميادين صمت مطبق يكاد المريب يقول في ميازيبه خذوني..لا زحفَ اليوم لا كَرّ غدًا لا عراك لا مباغتة لا توغل لا مخاتلة لا مناورة لا خشخشة لا حركة لا تشابك لا صياح لا صراخ لا وجيبَ قلوب تسرع بالنبضان..لا شيء من كل ذلك لا شيء البتة..لقد وقع الجميع، إذن، ضحية إحساس خوف وَهْمٍ جماعي مِن قَدر ماحق محقق واقع لا محالة آسمه: مجهول لا يأتي..وها هي الأيام والليالي والشهور والسنون تمضي، والتاريخُ يَطوي التاريخَ، يقفو الزمنَ الزمنُ، يتسارع آلأمَدُ، وأطلال الجنود هناك في دهاليز بُرْجهم المُحَصَّن يرنون من نوافذ أغْلقتْ فتحاتُها، لا ريحَ يلج الردهاتِ لا رُواءَ، لا أشعة شمس تنساب، لا نسيمَ يتسلل، لا ثقة في هواء أو نَدًى أو رَذاذ أو عيادة أو عزاء، ليس ثمة أمل في أمل أو رجاء..يقبع القابعون في مَعاقلهم بحرص آحتراس يترقبون عدوا مفترضا لا يبدو للعَيان (بالمناسبة، كثيرة هي الأنظمة المتخلفة التي تبني مشروعية تواجدها على وجود أو إيجاد هذا العدو، وإن لم يوجد، فعليها أن توجده لتستمر في سلطتها..أنا يقظ أنتظر عدوا، إذن أنا موجود...)..بالنسبة لشعراء فرسان من قبيل طرفة والصعاليك والخوارج، فإن أغلبيتهم لم يرتاحوا لهذه الترنيمة التي تشتغل تحت الضغط، فعملوا على خرقها عن طريق مبادرتهم مواجهة مخاوفهم مباشرة وجه لوجه..فالموت فان إذا ما ناله الأجلُ..على حد تعبير(عمران بن حطان الخارجي)..ولا يتطلب الأمر عندهم الا مواظبة على الصبر والإجهاز على التردد المُخل بمروءة الفارس:"فصبرا في مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع"..يُصرح شاعر من طينة(قطري بن الفجاءة)..و"إذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدِّ، فَمِنَ العَـارِ أَنْ تَمُوتَ جَبَانَـا"يؤكد المتنبي...
الحياة التي تفاوض الأقدارَ، تغدو عند المترددين المنتظرين وقعا ثقيلا، ضياعا، كابوسا بِيكِيثِيًا كافكاويا..إن الانتظار عند هذيْن الأديبيْن ومَنْ لف لفهما مشكلة وجودية فردية قد تعبر عن حالة إنسانية جماعية؛لكن في صحراء تَتارٍ بوزاتي لا يأتون؛ الترقبُ يتكثف يتكدس يُمسي إشكالا جماعيا مشكلته خيبة توقعات هلاوس بُنِيَتْ على آفتراضات خاطئة تَتأهب بحساسية غير متوازنة لعدو محتمل قادم من بعيد من وراء حدود البراري والبحار كما جرت العادة في تجاربَ تاريخية كثيرة خلتْ..لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين..للي عضو الحنش يخاف من الحبل..(من هنا نفهم سبب وجود مدافع ثقيلة على أسوار المدن البحرية التاريخية)...والحال، أن التهديد المُحدق ظل صدى لأزمنة معاناة عاشت ويلاتها الكثير من الحضارات العتيقة دون أن ينال من عنفوانها وكبريائها القليل أو الكثير؛ وتستمر لحظات الحضارات المستحدثة(الكيان الأمريكي مثلا)تتوقع مجيء ضربات نائية بعيدة:غزو فضائي/نيازك/أوبئة/كوارث طبيعية/اندلاع معارك العوالم...)، يستعد الأنام يخزنون المؤونة والأدوية تحت الأرض يعدون العدة محفَّزين بغريزة البقاء والخوف من مجاهيل لا تعد لا تحصى دون أن يحدث شيء..يتبخر زمن الانتظار مخيبا آمال جمهور المنتظرين وتوقعاتهم؛ وهذه الخيبة يتفاقم الشعور بحدتها المتوارثة لأنها تتجدد كل يوم..كل لحظة.. لننتبهْ يا سادة..إننا نعيش هذا الإحساسَ بوعي أو دونه في مجمل حيواتنا فردية كانت أو جماعية(لكل منا فَناؤه الخاص قبل الفناء الجماعي للحياة الإنسانية)..وكلما أسرعت مقطورات الأعمار في خَببها اللاهث، ازداد الإحساس تفاقما بهول الِانحدار الجارف الذي سيودي بنا بقلاعنا وبحصوننا التليدة لا محالة في يوم في سَنة في نيف من الأقدار في لحظة في ومضة عين في آلتفاتة في غفلة في شرود..بتواطؤ بمؤامرة محبوكة مفضوحة..سنؤدي جميعنا ثمنها غاليا...
هاهم التتار قادمون يا سادة، بنُسخ جديدة هذه المرة، وهنا المأساة، العدو يُبدل جلده، يغير آستراتيجيته والتجارب السابقة في الحيطة والحذر والمقاومة والمواجهة والمكابدة لا لن تجدي نفعا، الغزاة_هذه المرة_لا يهجمون من بعيد، لا يقدمون من سحيق الأمكنة أو من فلوات آلأزمنة، لقد كانوا دوما معنا، يسكنون دواخلنا، طفيليات هي نبتت من بين ظهرانينا في غفلة منا أو إدراك منا..في غمرة ترقب التتار الغريب البعيد نبت تتار قريب أنتجته نطف نشاز أهل الدار غُرِسَتْ في زمن غلط، وُلدتْ كما يولد أي هجين مجهول الجينات مطموس البصمات..يُشهر سُمه الزعاف كما آتفق، لا حُرمة لميت أو تاريخ، لا مَنْجَاة لحي من فساده المستشري، لنستعدْ لنحترسْ..هم جزء من كياننا يَرُومون إفساد كينوننتنا..لننتبهْ..المعركة مغايرة هذه المرة ولا أحد في ساحة العراك غيرنا وهؤلاء التتار...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا