الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هذه الفتاوى والتابوهات

راتب شعبو

2022 / 8 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


لو أعاق أمر ما وصول الجاني إلى المركز الثقافي في تشوتاكوا في شمال ولاية نيويورك، مكان انعقاد الندوة التي يشارك بها سلمان رشدي، أو لو أن موجة من التردد والجبن شملت قلبه حين عزم على تنفيذ فعلته الشنيعة، لكان العالم تابع انشغاله بما هو منشغل فيه، ساه عن الجريمة المستمرة التي تعيش في ثنايا العالم، وتجري في دمه كالسم.
في دهشة العالم مما أصاب الكاتب البريطاني الهندي على يد الجاني، ما يدعو للتأمل. ربما كان على العالم أن يندهش أكثر لأن ما حدث في 13 آب/أغسطس من هذا العام، على مسرح في نيويورك، تأخر لأكثر من ثلاث وثلاثين سنة عن فتوى القتل. خلال هذه السنوات الطويلة، كان العالم غافلاً، أو شبه غافل، عن السم الذي يواكب زمن العالم ثانية بثانية، ويتحين القتل، حتى إذا حدث القتل أو محاولة القتل (عبر المجرم الذي حاول قتل سلمان رشدي، عن تفاجئه من أن ضحيته نجت من الموت)، استيقظ العالم.
لا يختلف ما حدث لصاحب "آيات شيطانية"، عما حدث لصاحب "أولاد حارتنا" في القاهرة في 1994، دافع الجريمة في الحالتين هو "إدانة" الكاتب بالاعتداء الكتابي على المقدسات. وبالمناسبة، يلفت النظر تشابه طريقة محاولة القتل في الحالتين، بما يدفع للتفكير بأن الأمر لا يتعلق فقط بالسهولة الأمنية لاستخدام السكين، بقدر ما يتعلق أيضاً بإشباع رغبة المجرم الموتور بالتماس المباشر مع ضحيته "المعتدي الثقافي" وطعنه، في ذلك ما يشفي غليل هؤلاء.
من حق أي منا أن يتساءل: كيف يمكن لشخص واحد، مهما علا شأنه، أن يحدد المقدسات نيابة عن الملايين؟ ألا يمكن أن ترى الملايين، ممن يفترض هذا الشخص أنه يمثلهم، أن حياة الانسان مقدسة وتعلو على أي اعتبار، وأن الاعتداء عليها هي اعتداء على المقدسات أيضاً؟ وحتى لو اتفقنا على تحديد مقدساتنا، كيف يمكن لشخص واحد، أو مجموعة أشخاص، أن يحدد شكل الدفاع عن هذه المقدسات نيابة عن الملايين؟ هل يكون الدفاع بتخويف الآخرين أم بتفنيد "إساءاتهم"؟
تأتي إدانة الكتّاب أو "المعتدين الثقافيين" من جانب مُفتين يمتلكون من سبل الرد على ما يرون أنه اعتداء كتابي، أضعاف ما يمتلك هؤلاء الكتاب "المعتدين"، فأصحاب الفتاوى يمتلكون معظم المنابر الشفهية والكتابية، ويمتلكون كل إمكانات النشر والتوزيع ووسائل الإعلام والوصول إلى الجمهور، ولكن لماذا لا يشبعهم سوى القتل؟ لماذا يشعرون بهذا القدر من خطورة القول الذي لا يراعي إيمانهم وقناعاتهم؟ كيف يرضون بأن يكون الخوف وحده هو ما يجعل الناس "يحترمون" مقدساتهم؟
مع ذلك هناك فارق يشد الانتباه، بين حالة رشدي وحالة محفوظ، في الأولى كانت الفتوى علنية توازي المستوى المعنوي والمؤسساتي لمطلقها. لم تكن الفتوى بحق رشدي صادرة، كما هو الحال غالباً، عن منظمات سرية أو دون دولتية، يُكلف بتنفيذها مُنتسبٌ ما و"يتشرف" بهذا التكليف، وينفذه بإخلاص، بل كانت فتوى معلنة موجهة إلى العامة من قبل رجل له اعتبار ديني عام وكبير، وكان أن توفي هذا الرجل بعد أقل من أربعة أشهر من إطلاقه الفتوى (صدرت الفتوى في 14 شباط/فبراير 1989، وتوفي الخميني في 3 حزيران/يونيو من العام نفسه). على هذا، فإن فتوى إعدام رشدي صارت أكثر شبهاً باللعنة التي لا يمكن ردها، فلا يبطل مفعولها بالقضاء على التنظيم الذي أصدر الفتوى مثلاً، وبالتالي شل قدرة التنظيم على تنفيذ الفتوى. كما لا يمكن ردها بأن يقوم من أصدرها بإبطالها، أو بأمر عناصره بالكف عن محاولة تنفيذها. هذا فضلاً عن أن توبة المحكوم بهذه الفتوى لا تنفع في ردها، ذلك أن "سلمان رشدي حتى لو تاب واضحى زاهد عصره، فانه يجب على كل مسلم أن يجنّد روحه وماله وكل همّه لإرساله إلى الدرك الأسفل"، كما جاء في لواحق الفتوى.
هذا ما يميز فتوى الخميني بحق رشدي، وهو ما يعطي الفاصل الزمني الطويل بين الفتوى وتنفيذها قيمة "قَدَرية" تفوق سرعة التنفيذ. كان يمكن للخميني الذي كان يحوز على كامل جهاز الدولة الإيرانية حين أطلق الفتوى، أن يستخدم هذا الجهاز في تنفيذ فتواه، ولكنه لم يفعل. أرادها فتوى عامة، ما أن أطلقت حتى باتت برسم كل فرد مسلم يرى إلى الخميني على أنه الإمام بأل التعريف، ولم يعد من الممكن ردها.
ويبقى السؤال، ماذا نفعل كي نزيل نسغ الجريمة الذي يجري في عروق العالم؟ كي لا يبقى هذا السم قدراً تقدم له البشرية الأضحيات من خيرة أبنائها؟ والحق إن السم لا يقتصر على الفتاوى الدينية، وإن كانت الأكثر انغلاقاً ودموية، بل يشمل كل أشكال الحظر والتحريم الثقافي المغفل المصدر، والتي تشيع في البلدان الديموقراطية وكأنها بديل مهذب عن ثقافة الإرهاب بالفتاوي.
ما جرى مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في برلين يضيء على أحد خيوط شبكة التابوهات التي تكبل العالم وتتسق، وإن على نحو مؤسساتي "مهذب"، مع فتاوى الحظر والمنع واهدار الدم. لا يكفي أن تعترف بالمحرقة (الهولوكوست)، وأن تدينها بوصفها جريمة إبادة رهيبة تفوق الوصف، عليك أن ترفعها إلى مستوى مطلق، فيصبح مجرد التشبيه جريمة، لأنه "يضفي الطابع النسبي على تفرد المحرقة" بحسب المستشار الألماني شولتس، حتى لو جاء التشبيه على لسان مسؤول فلسطيني تعرض ويتعرض شعبه لجريمة مستمرة على مدى عقود طويلة وعلى مرأى من العالم وعلى يد من ينصبون أنفسهم حراساً لهول المحرقة.
الحق أنه في موازاة العالم الذي يدافع عن حرية التعبير، هناك عالم يصنع المزيد من التحريمات والتابوهات بدلاً من فتح الأبواب لنقاش مطمئن في كل شيء، ولإبداء الرأي بكل جوانب الحياة، هكذا يسود مبدأ التحريم على المبدأ "الدارويني" الذي يبقى لكل فكر أو قناعة أو إيمان، ما يستحقه من سبل البقاء، دون تأثيرات "خارجية"، أي من خارج الفكر. الجرأة والتضامن في مواجهة النزوع التحريمي (الديني وغير الديني) الذي يغزو مختلف جوانب المجال العام، توفر على العالم صدمات يمكن تفاديها. لا يمكن الحجر على الفكر، مهما اشتدت وتنوعت وسائل الردع، من شأن هذه فقط أن تزيد عدد الضحايا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة