الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذلك المشاكس الجميل!

فتحي فوراني

2022 / 8 / 28
الادب والفن


أحمد حسين..ذلك المشاكس الجميل!

كأنها أمس..
على رِسلك أيها القطار السريع..لماذا تأبى إلا أن تمتطي صهوة البرق..وتخطف من نحبهم في رمشة عين؟
يا ألله! ستون عامًا!؟
كأنها أمس..
نعود ستين عامًا إلى وراء..فنرى المشهد التالي:
الزمان: الزمن الناصري..زمن المدّ القومي..ناصرة وناصرًا.
المكان: المدرسة الثانوية البلدية في مدينة البشارة..والبشائر!
كوكبة الأقلام الواعدة تربطها عُرى فكرية وثيقة..وعيش وملح.. وحلم واحد بدنيا جديدة..بغد يأبى إلا أن ينزع نحو الأشرف والأروع!
كوكبة من البراعم الصغيرة اليانعة..يقتلها الطموح لأن تشرئب وتطل برأسها من أحشاء الأرض..فتشق الثنايا العذراء..وتشمخ لتنطلق وتعانق الشمس الخضراء..إنها تندفع بعزم وثبات لكي تجد لها موطئ قدم على المشهد الأدبي والثقافي.
أحمد حسين وجورج قنازع وتوفيق فياض وعلي حسين قدح وسليم (عماد) شقور وعثمان عبد الرحيم سعدي وفواز حسن عبد المجيد وفوزي جريس عبد الله وفتحي فوراني..وآخرون أعزاء غابوا في غابات الذاكرة الخؤون.
وتبرز هذه الكوكبة في طليعة الموكب..وتحمل الراية..لتحتل المواقع المتقدمة في المسيرة الثقافية والتعليمية.
هذه الكوكبة كانت تتسم بالتحدي والطباع المشاكسة والتمرد على الرتابة والمألوف والعادي.
بروح الشباب الطموحة..أرادوا أن يقلبوا الدنيا رأسًا على عقب.. أرادوا أن يقرعوا الأبواب ويقتحموا دنيا أخرى مشرعة على الجهات الأربع.
**
أحمد حسين كان أكثرنا تمردًا..وأكثرنا عشقًا للمشاكسة..وأكثرنا شغفًا لخوض البحار الهائجة.
ومنذ البدايات المدرسية تظهر عبقرية أحمد في التمرد والمشاغبة والمشاكسة..وتبرز روحه الصِدامية..
وكانت البدايات ما نشره في مجلة "الطالب" التي أصدرناها في المدرسة الثانوية البلدية، وكنت أحررها مع صديقي الراحل الباقي الشاعر فوزي جريس عبد الله، فكانت قصيدة أحمد الأولى "أنا.. وأنت..وقلبي"، ثم مقال نقدي عنوانه " رد على نقد" يردّ فيه ردًّا حادًّا وساخرًا على مقال كتبه الطالب علي وهبه من الجش..
وبخط مواز لمجلة "الطالب" فقد نشر إبداعاته الأولى في مجلة "الفجر" التي رأس تحريرها الرائع راشد حسين. وسرعان ما ازدادت وتيرة النشر..ففرضت إبداعاته حضورها على ثلاث جبهات في عالم الأدب: القصة القصيرة والشعر والنقد.
ففي مجلة "الفجر" الأدبية التي حررها راشد حسين..نلتقي أول ما نلتقي..قصة قصيرة عنوانها "الإله"..وهي أول قصة نقرأها له وهو ما زال طالبًا في الصف الثاني عشر. ثم كانت القصة الثانية "المعجزة" ثم "إنسانة"، ثم قصيدة ثم أخرى..ثم تتدفق ينابيع الشعر. وطاب له المقام في مجلة "الفجر"، ومن هناك..راح يسدد الضربة تلو الضربة نحو العناوين المختلفة. ففي وقت مبكر..أزال القناع عن القناع..وسلط الضوء على الازدواجية في شخصياته القصصية. وما لبث عطاؤه الإبداعي أن تدفق غزيرًا ليغزو المنابر الأدبية التقدمية في هذا الوطن..ويزينها بإبداعات مميزة.
**
أحمد مشاكس متمرد عنيد لا يخشى في ما يراه حقًّا..لومة لائم. كان نطّاحًا في الدفاع عن قناعاته..ولم يأبه، في التعبير عن رأيه، في تأثير ذلك على علاقاته الاجتماعية بالآخرين وحتى بالمقرّبين من الأصدقاء. ولهذا قال أحد الأصدقاء على سبيل الدعابة: إن أحمد مبدع في خسارة الأصدقاء..فقد تخندق في صومعته الأدبية على تلة من تلال مصمص..وراح يطلق رصاص الكلمات..على الأصنام وغيرهم من الكتاب والمبدعين وغيرهم من حملة الأقلام..كان يقول كلمته ويمشي..ولم يكترث لما يقوله الآخرون..ولسان حاله يقول.."أقول كلمتي..ومن بعدي الطوفان". وذلك..على عكس أخيه راشد الذي أبدع في تحويل الأعداء إلى أصدقاء. وكانت هنالك "حروب صغيرة" ترتدي نقاشًا أدبيًّا كان ميدانه الخيمة الثقافية وسادنها المثقف الموسوعي طه محمد علي في الناصرة..ولا مجال لذكرها في هذا السياق..فقد كنت شاهدًا على العصر..وعلي أجوائه الجريرية الفرزدقية.
*
قبل أكثر من عشرين عامًا وفي لقاء في بيتنا في شارع المتنبي على سفح الكرمل..سألت أحمد: لماذا توقفت عن كتابة القصة القصيرة؟ ففهمت منه أن مجموعة قصصية قد ضلّت طريقها فاختفت أو اختطفت..
عزّ عليه ذلك كثيرًا..فأراد الانتقام..وأقسم ثلاثًا أنه سيطلّق الكتابة..ولن يكتب حرفًا في قصة بعد اليوم!
غير أن هذا القسم سرعان ما تبخر وذرته الرياح..وعادت المياه إلى مجراها الطبيعي.
**
لقد كنا كوكبة مشاكسة..تفاوتت درجات المشاكسة من واحد إلى آخر، غير أن أحمد كان أكثرنا مشاكسة..وأبرزنا صدامًا..وسجلت صداماته النقدية درجة عالية ..وصلت أحيانا إلى ثماني درجات
في "سلم ريختر النقدي"..
**
وعن أعراس التكريم التي تقام في المنابر الثقافية المختلفة..لأحمد رأيه..
ففي هذه الأيام العبثية..حيث تكثر "أعراس" التكريم..ترسل إلى أحمد الرسائل...تقترح المنابر الثقافية عليه ..أن تقيم له حفل تكريم..فيرد بحدته المعروفة..وبلهجة هجومية استنكارية: من أنا حتى تكرموني؟ ومن أنتم أيها المكرِّمون!؟؟
ويكاد يعلنها حربًا شعواء على هؤلاء المكرِّمين!
لقد رفض المشاركة في أعراس التكريم ولسان حاله: لا أريد أن أشارك في أعراس الدجل التكريمي. إن منابر "الأعراس" التكريمية.. ليست لي.
هذا رأي أحمد..ونحن نرى غير ما يرى..ونرى في موقفه هذا شيئًا من المبالغة!
**
وقد أحببنا مشاكساته الجميلة..وتجادلنا واتفقنا واختلفنا ثم كانت المصالحة بين العشيرتين..وفي النهاية أردناها "صافي يا لبن"..فكان اللبن صافيًا..ويا دار ما دخلك شر!
**
يوم رحيله التقيت صديقًا مثقفًا "واسع الطلاع"..وأبلغته برحيل أحمد حسين..فقال مستهجنًا: لقد سمعت عنه..غير أنني لا أعرفه.. لم يصلني شيء من إنتاجه ولم أقرأ له شيئًا.
الحقيقة..لست أدري من أتهم!
وأنا أوجه إصبع الاتهام والتقصير إلى عناوين عدة.
**
أخيرًأ..
أعيد وأؤكد ما قلته يوم رحيله في بيت العزاء..
أعتقد أن هنالك واجبًا ثقافيّا وطنيّا تربويًّا على مديري المدارس العربية ومعلمي اللغة العربية والمربّين..الواجب أن يخصصوا ساعة للحديث عن أحمد حسين وسيرته وإبداعه الأدبي والثقافي..وأن يفتحوا الشرفات أمام الأجيال الصاعدة..لقراءة إبداعاته القصصية والشعرية والنقدية.
لقد تخرجت من معطفه الأجيال التي علمها عشق اللغة العربية..ولا تنسى هذه الأجيال فضله عليها.
واجبنا أن نبقيه حيًّا في ذاكرة الأجيال الصاعدة نحو الغد الأشرف.
واجبنا أن نعلق وسامًا على صدر المشهد الثقافي..ونقول لأحمد: نم قرير العين يا حبيبنا أحمد..لقد شاكست..وزوبعت..فأبدعت!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صراحة مطلقة في أجوبة أحمد الخفاجي عن المغنيات والممثلات العر


.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24




.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع


.. عوام في بحر الكلام - د. أحمد رامي حفيد الشاعر أحمد راي يتحدث




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يوضح محطة أم كلثوم وأح