الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جماليات الحذف في رواية (فقيه الطين) للروائي العراقي واثق الجلبي

واثق الجلبي

2022 / 8 / 28
الادب والفن


حيدر الاسدي
ناقد واكاديمي (عراقي)


ان ظاهرة الحذف ظاهرة لغوية تشترك فيها سمات القطع او المضمرات ، او المحذوف والمتساقط ، والبنية السردي نجدها تبحث غالبا عن المراوغة واقصاء بعض المفردات او حذفها من فضاءات بنائها ، سواء كانت تلك المفردات محذوفة او تمثل تابو في مجتمع ما او مقموعات وبدواع جمالية لتجنب المباشرة والتصريح او لتغيب المفردة من الجملة السردية لاعمال ذهن المتلقي في التأويل ، ان بيار ماشيري يرى ان (( العمل الأدبي لا يرتبط بالأيديولوجية عن طريق ما يقوله، بل عبر ما لا يقوله )) فالقارئ ممكن ان يستنطق هذا المسكوت عنه في البنية السردية وبعملية اجراء حفريات ابستمولوجية عن هذا المغيب والمحذوف او المقموع بقعل عوامل ضاغطة (سلطات قمعية) او مركزية ديكتاتورية ، او فواعل ضاغطة (ذاتوية) ان عملية الحذف بدلا من الذكر يجب ان يكون بقصدية واضحة بغية احداث المشاركة في تلقي الخطاب ما بين (مصدر الخطاب) و(متلقيه) وهنا تكمن اشتراطات القصدية، ضياء الدين بن الاثير هنا أشار الى قضية مهمة في عملية الحذف وهي ان ((والاصل في المحذوفات جميعا على اختلاف ضروبها ، ان يكون في الكلام ما يدل على المحذوف ، فان لم يكن هناك دليل على المحذوف فانه لغو من الحديث لا يجوز بوجه ولا سبب ، ومن شروط المحذوف بحكم البلاغة ، انه متى اظهر صار الكلام الى شيء غث لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن)) ويكون أحيانا الحذف للاقتصاد اللغوي لان السكوت أحيانا ابلغ ، او هي محاولة لاستدراج المتلقي واشراكه في عملية ملء الفراغات وإيجاد المعنى والتي تحدث برصد جملة الدلالات التي يفرزها النص بالاعتماد على جماليات الحذف، ان عملية الحذف ليس بريئاً ضمن نسق البنية اللسانية ، وانما هو وعي قصدي بمظهر البناء السردي واستثمار طاقة اللغة التعبيرية واثارة لفضول المتلقي بالبحث عن الفراغات وملئها التأويلي ، وهذا ما يمكن رصده بأعمال الروائي العراقي ( واثق الجلبي) الذي كتب العديد من المجاميع القصصية والروايات ، ومن هذه الروايات رواية ( فقيه الطين) التي ستكون لنا معها وقفة نقدية للإشارة والرصد لهذه المحذوفات ودلالتها ، ان واثق الجلبي في رواية (فقيه الطين) امتاز بالقيمة اللغوية العالية المملوءة بالاستدعاءات والتناصات والشفرات، مما ارسى من قيمة جملته السردية وحسن صياغتها الدلالية وتصاعد افعالها الدرامية ، وثيمة البحث عن الخلود من الثيم غير القارة في البنى الحكائية او الادبيات لأنها معنى (كامن) في فهم الاخر وليس في استعراض الحكي ، وانما هو معنى متروك لفهم وتأويل الاخر ، ومن هنا تبدأ جمالية بناء العلاقة السردية ما بين صاحب الخطاب والملتقي، ويقول الراوي في هذه الرواية ((مرة اخرى يختمر الانتحار طفلاً لا تكون نهايته الفطام....لم تتوان اربعونه عن مطاعنة فكره المتلاطم...)) سيادة الفراغات وترك المساحات البيضاء في هذه الرواية فلسفة فكرية وبلاغة جمالية أراد خلالها السارد ان يشرك القارئ معه في ملء هذه المساحات ، ويقول أيضا ((في غرفتها الدافئة امسكت هاتفها الخلوي ، تقرا رسائله التي تغطي مسافاتها الزمنية...تنهدت وهي تضع هاتفها على قبتيها وشهقت فاستطال فكرها اليه فنامت مسترشدة بذراعها وهي تطوق جسدها المرتعش...)) ما بين هذه (الشخصية) ولحظة صمتها او صورتها الفوتوغرافية ثمة اخر يتوضح للقارئ يحضر من دون بنية سردية او وصف روائي ، اخر ذاته طاغية على انا الشخصية الحاضرة بكامل كينونتها وحروفها الورقية ، ويقول أيضا ((جسدها الممتلئ كان بساط ريحه العتيد ...تناولها جرعة مهدئ وارتشفته رجل رومانسيتها الاوحد...كانت اصابعها تتقافز على جسده الابيض بنعومة شبقة وشراسته وصارت تعبث ثملة بمرآه المستقر تحت جسدها المثقل بهما...لم تستطع احزاب العراق اجمعها ان تحقق له الظفر بل كانت تلك الانثى رغبته النقية بالمضي في زمن الاختناق والفوضى...)) وضمن المسكوت عنه في مسرودات هذه الرواية اللقطات الايروتيكية التي يقتطع السارد بعضها بطريقة المونتاج فيحيل ذهن القارئ الى تلك المشاهد (المحذوفة) او التتمات التي لا يمكن ان تقول بالمباشرة السردية ، ويحسن الجلبي اختيار تلك القطوعات المونتاجية بطريقة جمالية يومئ من خلالها الى ما جرى في المشهد وطبيعته المنطقية المستدعاة لمثل هكذا مشاهد على امتداد روايته، ويقول أيضا ((كان مسالما كمعظم الشعب الجائع الى الحرية...)) من المحذوفات احد تمثلات التابو او احد اوجه ثلاثيته (السياسة) وهو ما تحفل به هذه الرواية ، فيخرج الجلبي من المباشرة بمثل هذه المحذوفات المقتطعة ليحيل القارئ ويشركه في كمية السخط على المشاهد التي يدين فيها وينتقد الفساد في الحياة السياسية واثرها على المجتمع والفرد ، ويقول كذلك في روايته في ذات الوظيفة : ((كان الباب الشرقي مزدحما كعادته ...المارة وضجيج الستوتات وصياح اصحاب الكيات والشمس الطازجة والباعة الذين افترشوا الارض بلا تنظيم كالحكومة الفاشلة...)) فالراوي لم يفرش فضاءه السردي بالاستطرادات والايضاحات المبالغ بها ، بل عمد الى ترك مساحات تأويلية تمكن القارئ من الاشتراك في عملية ترميم تلك المساحات الفارغة او ملئها ، ويقول أيضا ((جاءه الليل ضنينا بالنسمات فاستيقظ منهزما ليكتب تجليات الحرف على الورق...احاط حياته بجدار عازل غير راغب بدخول احد الفوضويين في حياته ...ولان المجتمع كان منفتحا على الثرثرة اقفل مساحاته بالغموض...)) هذه مقتبسات سردية تدل على ذات سيكولوجية ساردة تمقت الثرثرة الزائدة ، وتسعى الى خلق مساحات من الغموض او فراغات غير مملوءة بالكلام ، او ثمة ما خلف الجدار ما يقال (غير مسموح به من السارد) فالثرثرة قرينة الفوضى التي تحيل الورق الى مسودات غير نقية ( بيضاء) ، ويقول الراوي كذلك ((افترش حاسبته دافئا بها حانيا عليها مقبلا مقلتيه العسليتين ...لم يحب التفاصيل ولهذا استجمع زمنه على انجاز شيء خالد...)) في ذات الاطار لم يحب هذا السارد (التفاصيل) وما كان منه الا ان يومئ او يحيل الى ما يكن قراءته ما بين الاسطر من المتلقي ، هي بلاغة لغوية تتسق مع بلاغة البناء السردي ومرجعياته الفكرية على مستوى السارد الواقعي وعلى مستوى الشخصيات الروائية ، كما يقول ((تفضح وجه النهر الاخضر وقد طعنت خاصرتاه من ايران وتركيا....صبوته لم تدركها عتاق الخيول...)) فثمة تتمات عدة تقال بعد (عتبة) الازمة ، لا يقولها بل يحيلها لقارئ يفقه جيداً تفاصيل اللعبة ، او يشير لها ضمنياً في اطار المسكوت عنه ، كما يقول ((وطنه ابريق من تجليات عرفانية لا يجده الا في مخيلته المُنهدة الاركان.....)) هذه المخيلة (فراغ) اخر ، غير متجلي في تأثيث فضاءات الرواية وانما هي ضمن المخيلة (الغائبة/ الحاضرة) بكافة تمظهراتها ، بوصفها تتعالق مع قيمة الوطن وحضوره الطاغي ، ما بين قيمة هذا الوطن العليا ، والحلم بهذا الوطن وحضوره الطاغي في المخيلة ، حضوره الرمزي الأكثر من بلاغه حضوره المكتوب او المادي ، ويقول أيضا ((جميل ان تعطل حواسه العظمى لتشتغل من غيرها بصورة تبعث على الارتياح الدائم ...يصفونه بالعصبية...فيضحك ملء الفم والجرح القافز على حياته منذ الصغر...)) ما بين (من يصفه) (بناء على الأفعال) وما بين (ردود افعاله/مشاعره) ثمة صمت رهيب (فاعل) صمت يشبه الفراغات الا انه ابلغ بكثير من الكلام ، وهذا ما يتجلى في المشهد السابق بهذه الرواية ، ويضيف واثق الجلبي في مشهد اخر: ((اصدقاؤه يحذفهم ليستبدلهم بهم وهذه علامة ضجره المستمر....)) الثرثرة والاستطرادات تنتقل عبر التواصل السيكولوجية من الشخصية الواقعية ( للمؤلف) الى الشخصية الورقية داخل فضاء السرد ، فتحذف وتستبدل ( والمكتوب/ مضجر) والاختزال والحذف والاستبدال هو الذي يكسر هذا الضجر ، ان رواية واثق الجلبي فيها تشكلات لغوية تستحق الدراسة والتفكيك بوصفها رواية باذخة الدلالة لغة وفكرة وبناءً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مباشر.. أسئلة لازم تراجعها قبل امتحان اللغة العربية غدًا.. أ


.. جامعة كاليفورنيا في ديفيس تفتتح أول مركز أكاديمي لأبحاث وفنو




.. تفاصيل جديدة في واقعة مشاجرة إمام عاشور بالشيخ زايد..«مراته


.. فوق السلطة 394 - اتّهام جدّي لمعظم الفنانات بالعمل بالدعارة




.. ادعوا لطلاب الثانوية العامة بالتوفيق.. آخر الاستعدادات لامتح