الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لن نفترق

شريف حتاتة

2022 / 8 / 30
الارهاب, الحرب والسلام


------------------------------

صباح اليوم السادس من شهر نوفمبر سنة 1963 صعدت السلالم الضيقة المظلمة خلف الشرطي الذي فتح لي باب الحجز في قسم شرطة قصر النيل. فى هذه الغرفة المدفونة تحت الأرض، المليئة بالهواء الفاسد، المزدحمة بأجساد عشرات من المجرمين العتاة، والقوادين، وتجار المخدرات والشحاذين، والنشالين، والسكاري. في هذه الغرفة التي لم يكن فيها سوى وعاء من الماء للشرب، ووعاء آخر للتبول، والإخراج امتلأ بفضلات الرجال ، قضيت ثلاثة أيام بلياليها تمهيداً للإفراج عنى.
كان هذا بمثابة التوديع الذي رتبته لي السلطات ، بعد أربعة عشر عاماً خلف قضبان السجن.
سرت على قدمي حاملاً کيس ملابسی، مجتازاً الشوراع المشمسة لحي جاردن سيتى بللت خضرتها نقاط الندى اللامعة، عاجزاً عن إستيعاب حقيقة أنني أسير طليقاً في مدينتي القاهرة تحت السماء الزرقاء المفتوحة، وسط أفواج من الأطفال بتجهون إلى مدارسهم في الصباح، كأنني خلال سنين السجن فقدت قدرتي على الاحساس.
بعد الإفراج عنى بشهور ، أنعمت علىّ السلطات بوظيفة في وزارة الصحة في أدنى الدرجات لأجد نفسي جالساً في غرفة إلى جوار مراحيض الوزارة . كانت تشبه الزنزانة التي خرجت منها.على نافذتها قضبان، وفي أنفي رائحة المراحيض لم تغادرها كأن حياتي لم تتغير، كأنه لم يفرج عنى.
في الغرفة خمسة مكاتب، وخمسة أشخاص ... مثل السجن تماماً. أربعة وأنا خامسهم . خلف كل مكتب يجلس شخص يقلب في الأوراق، إن كانت أمامه أوراق، أو يحملق في الفراغ مـتـفـادياً النظر إلى غيره . مكتبي أنا أصغر المكاتب، وأكثرها قدماً، تشقق فيه الخشب العاري ، فتنغرس في أصابعي الشظايا.
الوجوه الجالسة في الغرفة، أو الداخلة إليها فيها خضوع شاحبة ، ماعدا وجهها هي . لا أعرف كيف جاءت إلى هذا المكان. يطل من خلف مكتبها هالة من الَشعر الأبيض اللامع، وعينان سودوان واسعتان تشعان بالبريق، بطفولة متأججة وسط الملامح. كانت تنتمي إلى عالم آخر غير هذا العالم الساكن الكئيب. كذلك أنا. جلت إليه من عالم الزنازين، والأحلام الواسعة. همسوا إلىّ بأنها تزوجت مرتين، وطلقت مرتين، ولديها طفلة ، وأنها إمرأة تكتب عن المحرمات. وهمسوا إليها بأنني متمرد، ومتآمر، وخطير.
نظرت إليها، فنظرت إلى. تحدثت إليها، وتحدثت إلىّ. خرجنا من باب الغرفة، وسرنا إلى جوار النيل. صعدنا فوق جبل المقطم أعلى المدينة بعيداً عن الهمسات، والفساد، والمراحيض. سافرنا إلى البحر، وسبحنا فيه . تعانقنا تحت الشمس. داوت جروحي الغائرة في اللحم. جعلتني أنطق بعد أن تعلمت الصمت . جعلتني أكتب ما لم أكتبه، وأدرك ما لم أكن أدركه. طفلتها الصغيرة اسمها " مُني " ، فأصبحت لها أنا الأب. تزوجنا. انجبنا ولدا اسمه " عاطف " . أنجبنا أخاً للأخت.
سبعة وثلاثون سنة من الزواج، سبعة وثلاثون سنة من الحوار، والحب، من العمل والجهد، سبعة وثلاثون سنة من المعارك خضناها جنباً إلى جنب. لم تعرف هي الراحة في أي وقت. لا تطيق الظلم، ولا تسكت عنه. من أجل الصدق تفقد عملها، وتدخل السجن، وتواجه الحملات ضد سمعتها. من أجل الكتابة تفنى حياتها. تجلس الساعات الطويلة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر لتخرج من بين أصابعها الطويلة المتوترة روايات، وقصصاً، ودراسات، ومقالات وبحوثاً وأحياناً مسرحيات أو شعراً. خمسة وثلاثون كتاباً هى حصيلتها. وما لم ينشر بعد وتراكم في دواليبها ربما يفوق ما نشرته حتى اليوم. متأججة، متدفقة بالأحاسيس والفكر. كالنبع الذي لا ينضب، ولا يمكن إيقافه.
ومع كل هذا هي أم، وأي أم، صديقة وأي صديق. معاً صنعنا أسرتنا. أبنة كاتبة لها قلمها، وابن مخرج سینمائی وكاتب ، مصر على الفن، مصر على الصدق مثل المرأة التي ولدته.
لكن منذ أسبوعين أو أكثر أو أقل ، رفع رجل محامي قضية حسبة ضد " نوال السعداوي " يطلب فيها التفريق بينها وبيني ، لأنها وفقاً لتصريحات المفتي خرجت فيما تقوله عن تعاليم الإسلام. ففي مصر الآن قوى سياسية تتستر بالإسلام لتفرض إرداتها، وتدعم نفوذها. قوى سياسية تريد أن تسكت كل صوت يعارضها.تنشر فكرها السلفي وتعزز مواقعها. تتغلغل في أجهزة الدولة ومؤسساتها، إلى مجلسي الشعب والشورى، إلى وسائل الإعلام، والنشر، إلى أجهزة التشريع، والقضاء، والشرع، وإلى القطاع المدني عن طريق النقابات المهنية، والجمعيات الأهلية المختلفة .
إنها تزحف إلى السلطة ، خطوة بعد خطوة ببطء بعد أن تعلمت الدرس، بعد أن أدركت أن الشعب المصرى يكره العنف، لجأت إلى إرهاب الفكر، ومحاصرته. إلى محاولة القضاء على كل رأى حر. فالأصولية ليس سوى الوجه الآخر لعولمة السوق، وثقافة الإستهلاك، والجنس. الأصولية تشغلنا في معارك جانبية. تنحرف بنا عن معارك فلسطين، والعراق، ولبنان، وسوريا ، ضد الخصوم الذين يسعون إلى حصارنا. عن مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد مستقبلنا.
تسيء إلى تاريخنا الوطنى ، تستميت لقتل أحلامنا ، وتمهد للهجمات التي تتوالى علينا من إعلام الغرب، ودوائر الحكم الأوربية، والأمريكية .
ليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها " نوال السعداوي " لحملات من هذا الصنف. فهي لم تكف عن خوض المعارك ضد القوى الدولية والمحلية التي تقهرنا، وتعمل ضد مصالح شعوبنا. وفي الفترة الأخيرة تزايد نشاط القوى السلفية في مصر مستغلة الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الشعب، والردة الثقافية التي مهدت لها سياسات الأنظمة المتعاقبة في مصر، وساندتها القوى المهيمنة في الغرب. فتوالت الإجراءات ضد العناصر المتقدمة في الثقافة، وقامت السلطات بمصادرة عديد من الكتب ومنها أربعة كتب " لنوال السعداوي " تمت مصادرتها في معرض القاهرة للكتاب في أواخر يناير سنة ٢٠٠١ رغم أنه سبق نشر هذه الكتب في مصر. ومن بين هذه الكتب سيرتها الذاتية " أوراقي .. حياتي " التي نشرت في إحدى دورالنشر الحكومية (مؤسسة دار الهلال) وقامت دار الآداب فى لبنان بنشرها فيما بعد مرة أخرى .
إن رفع قضية للحسبة ضد " نوال السعداوي " للتفريق بينها وبيني ، تأتي بعد مرور سنين على قضية المفكر " نصر حامد أبو زيد " الذي أجبر هو وزوجته على مغادرة البلاد، هى مؤشر على المخاطر التي تواجه كل صوت حر في مصر، والسيف المسلط على رقاب المثقفين والمفكرين ، تحتفظ به الحكومة بين أيدى النائب العام بعد أن كان مستباحاً لأي فرد يريد أن يلجأ إليه، ضد منْ لا يُرضى عن آرائه. فإذا قرر النائب العام تحويل هذه القضية إلى المحكمة، وإذا نجحت السلفية في تنفيذ ما تديره ، لن يسلم أحد بعد اليوم من هجماتها. كما سيكون مثل هذا الإجـراء وصمة مشينة ستلحق بالنظام السياسي القضائى في مصر.
أما فيما يتعلق بنا أنا، و" نوال السعداوي "، فرغم المخاطر التي نواجهها، لن ينجح أحـد في إرهابنا. سنبقى في مصر، ولن نغادرها. إنها بلدنا، ولدنا، وترعرعنا فيها. نهلنا من تاريخها ومن إبداعها . أعطت لنا قليلاً من السعادة، كثيرأ من الحزن. لكننا أخترنا هذا الطريق ورضينا عنه. سنحافظ على علاقتنا وعلى أسرتنا. لن نترك للفساد الذي استشري في مجتمعنا فرصة للنفاذ إلينا.
" لن نفترق أبدا" هذا ما قررناه معا " نوال السعداوي" و" أنا " ، ولا توجد قوة تستطيع أن تغير قرارنا .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
----------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أنتم من بقي
ماجدة منصور ( 2022 / 8 / 30 - 07:12 )
من الرموز المحترمة..في مصر0
مصر هي قدركم
و أنتم قدر مصر
و بكم ستحيا أجيالا قادمة كثيرة0
لكم الإحترام

اخر الافلام

.. تونس وإيطاليا توقعان 3 اتفاقيات للدعم المالي والتعليم والبحث


.. #إندونيسيا تطلق أعلى مستوى من الإنذار بسبب ثوران بركان -روان




.. الجزيرة ترصد آثار الدمار التي خلفها الاحتلال بعد انسحابه من


.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش صفقة التبادل والرد الإسرائيلي عل




.. شبكات تنشط في أوروبا كالأخطبوط تروّج للرواية الروسية